اتفاق وقف إطلاق النار: ستون يومًا تحدِّد وجه لبنان ووجهة حزب الله

سيحدد وجهةَ الحزب المسارُ الذي سيسلكه في اتفاق وقف إطلاق النار لاسيما قبوله بوضع سلاحه تحت الرقابة الدولية في منطقة الليطاني وفق القرار 1701، وسيحدد وجه لبنان قدرة الفرقاء اللبنانيين ومنهم حزب الله، على التفاهم في اليوم التالي للحرب تحت سقف اتفاق الطائف.
تعرضت حاضنة حزب الله للاستهداف بالتدمير والقتل لإضعاف الحزب(الفرنسية).

مقدمة

وضعت الحرب الإسرائيلية على لبنان أوزارها وهي ليست وليدة لحظة الحرب، فقد أعدت خطتها المؤسستان، العسكرية والأمنية، في تل أبيب منذ سنوات، وجرى صقل تفاصيلها وتحديثها بانتظام حتى أصبحت نموذجًا لعمليات عسكرية غير مسبوقة في الشرق الأوسط. واتسم تنفيذها باستخدام القوة الجوية والنارية المفرطة، وتوظيف أحدث ابتكارات الذكاء الاصطناعي في القتل والتدمير المبرمجين، وابتداع عمليات استخباراتية تجاوزت في احترافيتها صناعة الأفلام الهوليوودية، وتجلى المشهد السيريالي لتلك العمليات في تفجير أجهزة "البيجرز" واللاسلكي (سبتمبر/أيلول 2024) ومطاردة قادة الحزب واغتيالهم. وجاءت نتيجتها خرابًا ودمارًا هائلًا إلى جانب فاتورة ثقيلة في الضحايا البشرية والتكلفة السياسية والمادية والاقتصادية والنفسية والمعنوية.

اتفاق وقف إطلاق النار

توقفت الحرب باتفاق رعته الولايات المتحدة، استندت بنوده إلى القرار الدولي رقم 1701 الذي أقره مجلس الأمن بعد حرب يوليو/تموز 2006، ولم ينفذ منه إلا بند واحد وهو وقف الأعمال القتالية بين الجانبين، في حين أُهملت كل بنوده الأخرى. وقد أمعنت إسرائيل في انتهاكه، وتجاوزه "حزب الله" بالمقابل لتعزيز وجوده المسلح عند الحدود اللبنانية "الإسرائيلية"، استعدادًا للحظة التحرير أو لصد أي "عدوان" محتمل على لبنان، دأبت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على التلويح والتهديد بتنفيذه.

جاء الاتفاق الجديد تحت عنوان تطبيق القرار 1701 بحذافيره، لكن جرى تضمينه إضافات غيَّرت في الشكل والمضمون، وضعها الأميركي بالتنسيق مع الإسرائيلي؛ ما جعله فعليًّا اتفاقًا جديدًا مختلفًا عن سابقه. من أبرز هذه الإضافات توسيع لجنة المراقبة والإشراف على تطبيق الاتفاق لتصبح خماسية، يرأسها جنرال أميركي ويعاونه مساعد فرنسي إلى جانب عضوية لبنان وإسرائيل وقوات حفظ السلام الدولية "اليونيفيل"؛ مما يعني وجود حوكمة دولية على التنفيذ(1). هذا التعديل قد ينطوي على شكل من أشكال الوصاية الأميركية، لاسيما أن دور اللجنة سيتعدى جنوب الليطاني ليشمل المعابر الحدودية لمنع وصول السلاح إلى القوى المسلحة غير الشرعية، في إشارة ضمنية إلى سلاح حزب الله.

وخلافًا للقرار 1701 الذي ينص على الانسحاب الفوري لإسرائيل من الأراضي المحتلة، منح الاتفاق الجديد الإسرائيليين مهلة 60 يومًا؛ ما جعل انسحابهم مشروطًا بتنفيذ الاتفاق من جانب "حزب الله"، ما يعني أن استرجاع الأرض بات مرهونًا بالتزام الحزب ببنود الاتفاق(2).

هذا الاتفاق أملته تطورات الميدان وحاجات المتقاتلين ورعاتهم:

- رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، رأى فيه فرصة لإسكات المستوطنين في الشمال الذين غادروا منازلهم لسنة ونيف، ولتهدئة الجبهة الداخلية المكشوفة أمام الصواريخ والمسيرات رغم شبكات الدفاع الجوي المتطورة. كما أراد فصل جبهة الإسناد اللبنانية عن قطاع غزة وتفكيك محور الممانعة وكسر "وحدة الساحات"، كي يتفرغ إلى سحق "المقاومة" في غزة التي لم تخمد رغم "الجرائم المروعة" التي ارتكبت في حق أهلها، وكي يمنح جيشه فرصة التقاط أنفاسه بعد معاناة مشاة البر في الميدانين، اللبناني والغزي. إضافة إلى ذلك سعى نتنياهو إلى تحويل القضية الفلسطينية إلى مشكلة داخلية إسرائيلية وليست قضية احتلال تعني العالم، خاصة العالمين، العربي والإسلامي. 

- الإدارة الديمقراطية الأميركية التي لعبت دور الوسيط في الاتفاق، سعت إلى تحقيق مكسب دبلوماسي قبيل مغادرة الرئيس، جوزيف بايدن، السلطة، بينما يريد خلفها، دونالد ترامب، وقف الحروب قبل عودته رئيسًا إلى البيت الأبيض. وفي هذا الصدد، قال نائب رئيس مركز الأمن الأميركي، فريد فلايتز، إنه "لا يرى أي سبب يمنع إدارة ترامب الجديدة من قبول (الاتفاق)، على افتراض أنه مقبول لدى إسرائيل"(3).

- الحكومة اللبنانية رأت في الاتفاق فرصة لوقف الحرب التي استنزفت لبنان على كل الأصعدة، وفرصة لإطلاق عجلة إعادة بناء الدولة وإحياء مؤسساتها الدستورية التي أصابها الشلل وسط تراكم مشكلات متعددة الأوجه.

- أما "حزب الله" الذي فقد أمينه العام الاستثنائي، حسن نصر الله، إلى جانب معظم قياداته العليا والوسطى بسبب الاغتيالات والاختراقات الأمنية والاستهداف المباشر، واجه انهيارًا في منظومة التحكم والقيادة، بينما تلقت بيئته الحاضنة "العقاب الشديد" في ديارها وحياتها ولقمة عيشها وأرواحها واقتصادها. أمام هذه الضغوط، وجد الحزب نفسه أمام خيارين: الاستمرار في القتال مهما كان الثمن، أو قبول الاتفاق والتخلي عن سلاحه في جنوب نهر الليطاني والعودة إلى الداخل حفاظًا على ما تبقى من أوراق قوته، وحماية حاضنته. وقد اختار الحزب الخيار الثاني، وعلى ما يبدو أن حليفته الأولى، إيران، شجعته على قبول التسوية لخشيتها وإدراكها خطورة تورطها في المواجهات المفتوحة في "الساحات المقاومة"؛ إذ قد لا تتحمل تداعياتها العسكرية والسياسية.

خرقت إسرائيل الاتفاق منذ اللحظة الأولى لسريانه؛ إذ رفضت السماح بعودة النازحين من قرى الحافة الجنوبية إلى بيوتهم، وأطلقت النار نحو بعضها ترهيبًا لأهاليها، كما واصلت إطلاق مسيراتها والطائرات فوق الأجواء اللبنانية وصولًا إلى العاصمة، بيروت، وأطلقت نيران مدفعيتها على مواقع بحجة الاشتباه بوجود سلاح أو مسلحين. يبدو أن إسرائيل أرادت بذلك تثبيت "حقها" بالتدخل متى شاءت في الأراضي اللبنانية، بعدما أصرَّ المفاوض اللبناني على عدم تضمين هذا الحق في نص القرار، ليبقى مدرجًا في ورقة تفاهم أميركية-إسرائيلية خاصة بين الطرفين.

وتبدو إسرائيل كأنها تسعى إلى دفع الجيش اللبناني، المولج بالأمن إلى مواجهة مع "بيئة" الحزب وحاضنته، وجعله قوة ردع لهذه البيئة وتحميله مسؤولية أمن مستوطنيها في شمال "إسرائيل". وفي انتظار بدء عمل اللجنة الدولية المكلفة بمراقبة الخروقات والانتهاكات، لا تزال الهدنة هشة وقابلة للاختراق في أي لحظة.

ستون يومًا تحدد المسار 

ستون يومًا، المهلة المنصوص عليها لإتمام الانسحاب الإسرائيلي وتثبيت وقف النار، ستحدد وجه لبنان لعقود مقبلة، بما في ذلك اسم رئيسه المقبل والمسار السياسي الجديد لـ"حزب الله"، ولا شك أن هذه الفترة ستكون أكثر تعقيدًا من أن تحسم أمرها بنود الاتفاق، مهما بلغ تفصيله.

الطرف الأساسي المعني بمرحلة ما بعد الاتفاق هو "حزب الله"، وسيحدد سلوكه السياسي ونهجه في التعامل مع تحديات هذه المرحلة، مسار إعادة بناء الدولة ومؤسساتها الدستورية، وأين سيكون موقعه ودوره في سياقهما، لاسيما أن قوة الحزب السياسية وثقله الإقليمي الكبير الذي كان يتمتع به، والسياسات التي اعتمدها قبل الحرب، لا تزال رغم الحرب شديدة التأثير والفعالية حتى اللحظة.

لا شك أن الحرب شكلت انتكاسة كبرى لحزب الله؛ فقد خسر قائده الذي ترك بصماته الواضحة في كل المسار السياسي الداخلي اللبناني وحتى الإقليمي في العقود الثلاثة الماضية، كما خسر جيلًا من قياداته وأفواجًا من ناشطيه ومقاتليه وجسمه التنظيمي والعسكري والإداري ومنابعه المالية، كما فقد أيضًا جزءًا كبيرًا من ترسانته العسكرية ومخزون صواريخه التي راكمها طوال سنوات طويلة. لكن ذلك لم يحل دون أن يُظهر أنصاره في الميدان صمودًا استثنائيًّا ومهارة عالية في القتال وقدرة على القيادة والتواصل رغم النكسات الكبيرة التي أصابته. وستكون مناسبة تشييع قادته محطة بارزة لتأكيد زخمه الشعبي والتفاف بيئته حوله، رغم ما أصابها من خسائر. وسيحرص الحزب على تقديم نفسه "منتصرًا" في مواجهة كانت تهدف بحسب توصيفه، إلى اقتلاعه من جذوره وتصفيته. فهو يدرك أن الإقرار بالهزيمة يعني أن كل أعدائه وخصومه وحتى بعض حلفائه قد ينقضُّون عليه مرة واحدة(4).

التحدي الأكبر منذ التأسيس

"حزب الله" الخارج من أشرس حرب يخوضها، يجد نفسه أمام أكبر تحدٍّ في تاريخه منذ التأسيس، فهو مضطر إلى الاستجابة إلى بعض الوقائع التي يفرضها الاتفاق عليه، من أهمها سحب سلاحه من جنوب نهر الليطاني. وإذا كان قد نجح بعد حرب يوليو/تموز 2006 في إفراغ القرار 1701 من مضمونه، وأبقى على وجوده العسكري جنوب الليطاني، فإن المختلف هذه المرة أن تنفيذ القرار الدولي انتقل عمليًّا من عهدة "اليونيفيل" التي لا تتمتع بالقوة والصلاحية لتنفيذه، إلى عهدة الولايات المتحدة مباشرة، من خلال رئاستها للجنة المراقبة الخماسية، وهي عازمة على تنفيذه.

وإذا كان الحزب قادرًا على "التضييق" على عمل "اليونيفيل"، باعتراض بعض أهالي القرى من حاضنته طريق دوريات اليونيفيل كلما رأوا أنها تجاوزت حدود دورها، فإنه لن يستطيع فعل ذلك مع ضابط أميركي. أضف إلى ذلك، الضوء الأخضر الذي حصلت عليه إسرائيل للتحرك متى ارتأت أن تنفيذ الاتفاق لا يسير على النحو المرسوم له. هذا الواقع يجعل مسار التنفيذ خلال الأيام الستين المقبلة عسيرًا وشائكًا وسط توقعات بمناورات وألغام قد تعترضه(5).

وإذا كان سلاح "حزب الله" شمال نهر الليطاني لم يُلحظ في مندرجات القرار الجديد، فإن مقدمته تشير بوضوح إلى "التنفيذ الكامل للقرارات السابقة لمجلس الأمن، بما في ذلك نزع سلاح جميع المجموعات المسلحة في لبنان، وتبقى القوى المخولة بحمل السلاح في لبنان فقط الأجهزة الرسمية اللبنانية، مثل القوات المسلحة، وقوى الأمن الداخلي، ومديرية الأمن العام، والمديرية العامة للأمن الوطني، والجمارك اللبنانية، والشرطة البلدية"(6). وتاليًا، فإن سلاح الحزب في الداخل يصبح فاقدًا للشرعية في منطوق التفاهم الجديد. ومع أن التفاهم لم يحدد سبل إزالة هذا السلاح، فإن إدراجه في النص، من شأنه أن يعطي شرعية لتعزيز الرقابة الدولية على المعابر البرية والجوية والبحرية لمنع إعادة التسليح، وأن يعرِّض الحزب لمساءلة في الداخل تستهدف إخراج السلاح من الحياة السياسية اللبنانية. ومن شأنه أيضًا إسقاط المعادلة الثلاثية "شعب، وجيش، ومقاومة"، التي تسلح بها الحزب وحلفاؤه، عبر إدراجها في البيانات الوزارية للحكومات اللبنانية المتعاقبة، تحت ذريعة ضرورة بقاء سلاح المقاومة، طالما أن الاحتلال الإسرائيلي لا يزال في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وقرية الغجر ونقاط حدودية أخرى متنازع عليها. لاسيما أن الحزب بالفعل يتعرض راهنًا إلى حملة مساءلة داخلية من بعض القوى، حول "اتخاذه منفردًا" قرار السلم والحرب وفتحه حرب إسناد لغزة من دون أخذ رأي الفرقاء الآخرين في البلد، وتاليًا سيحاول خصومه المحليون تحميله تبعات نتائج هذه الحرب.

الحزب بلا مقاومة حزب بلا قضية

في أي حال، إن الحزب الذي وُلد من رحم مقاومة الاحتلال الإسرائيلي للبنان عام 1982، وصار السلاح علة وجوده السياسي والعقائدي، واكتسب مشروعيته الوطنية بعد تحرير أول أرض عربية بالكفاح المسلح عام 2000، قد يجد نفسه مجردًا من قضيته ومن سلاحه إذا ما تم استبعاده من معادلة الصراع مع إسرائيل. لذا فإن هذه المسألة، "مسألة المقاومة"، ستشكل محور وجوهر نقاشاته الداخلية في الفترة المقبلة، وسيرى في استفحال الخطر الإسرائيلي وتوسع دائرة عدوان إسرائيل وإظهار تطلعاتها التوسعية في لبنان والمنطقة، سببًا لتعزيز تمسكه بفكرة المقاومة وإن تطلب ذلك تغيير النهج والأسلوب والسلاح وأنماط المواجهة.

النهاية التي آلت إليها الحرب، وتصدع النموذج الإيراني في المنطقة وتخلف طهران عن مساعدة حلفائها، إذ كان ردها باردًا وغير متناسب مع حجم ما أصاب حلفاءها، لتفضيلها مصالحها الوطنية على أي اعتبارات أخرى، إلى جانب تهاوي سردية الحزب نفسه المتعلقة بتصوره عن نفسه وقوته وخسارة قادته وأسلحته الثقيلة، كل هذه الأسباب من المرجح أن تجرده من دوره الإقليمي الكبير وتحيله حزبًا سياسيًّا محليًّا عرضة لانتقادات تفوق تلك التي يتعرض لها غيره من الأحزاب.

بات حزب الله أمام مرحلة جديدة تستوجب إجراء الكثير من المراجعات وتقويم أدائه، وستشكل الانتخابات الرئاسية التي دعا رئيس مجلس النواب، نبيه بري، لإجرائها، يوم 9 يناير/كانون الثاني 2025، محطة اختبار مهمة للحزب بعد الحرب.

وإذا كان الأمين العام للحزب، نعيم قاسم، قد أكد الالتزام بانتخاب رئيس للجمهورية وفق الأطر الدستورية، بمعنى أنه لن يعطِّل النصاب ولن يفرض مرشحه، يبدو أن هذا الاستحقاق الانتخابي، سيكون بالنسبة إلى رعاة الاتفاق جزءًا لا يتجزأ من مكوناته، في سياق مشروع إعادة إنتاج هياكل الدولة ومؤسساتها، التي ستكون تحت المراقبة والمتابعة الأميركية والفرنسية المباشرة في المدى المنظور. وعليه، فإن اسم الرئيس المقبل لن يكون بالضرورة متوافقًا مع رغبات الحزب ومشيئته.

أما الاستحقاق الثاني المهم، فهو تشكيل الحكومة، وما إذا كان الحزب وحلفاؤه سيصرون على التمسك بشرط الثلث الضامن كما كان يحصل في السنوات الأخيرة، وعلى ديباجة البيان الوزاري وضرورة الإشارة إلى "المقاومة". كما سيبقى السؤال مفتوحًا حول شكل الحكومة ما إذا كانت ستكون سياسية أم تكنوقراط تغيب القوى السياسية عنها.

الأهم من ذلك كله هي العلاقة مع الجيش اللبناني، المكلف بحسب الاتفاق بالانتشار جنوب الليطاني، ونزع سلاح الحزب والإشراف على أمن الأهالي في البيئة الجنوبية الموالية للحزب، وضبط المعابر الحدودية الشرعية وإغلاق غير الشرعية منها لمنع تدفق السلاح.

ومن شأن الطبيعة التي ستتخذها هذه العلاقة المحورية مع الجيش، أن تحدد مدى التزام الحزب بمندرجات الاتفاق ومسار السلم الأهلي في لبنان. وإذا كانت الولايات المتحدة تراهن على جعل الجيش ندًّا للحزب في اللعبة الداخلية، وتسعى إسرائيل إلى زجه في مواجهة مع الحزب وبيئته عبر التشديد على الإجراءات الرقابية، فإن الأمين العام للحزب شدَّد في خطابه الأخير على متانة العلاقة مع الجيش وقائده، الذي شارك نواب الحزب في التمديد لولايته. في المقابل، تدرك قيادة الجيش حساسية أي مواجهة مع بيئة الحزب، لأن ذلك قد يجر البلاد إلى فتنة ويدفع بالمؤسسة العسكرية إلى الانقسام. لذا، فهي تشدد على أهمية التعاون بين الطرفين. والأهم في هذا الإطار، أن يحدد الحزب رؤيته من الإستراتيجية الدفاعية وأن يتوافق عليها مع الفرقاء الآخرين، بما يريح بيئته وجميع اللبنانيين.

سيراهن الحزب مستقبلًا على قوته الشعبية وتمثيله الكبير في المجلس النيابي والمجالس المحلية والإدارات والنقابات والجمعيات، وعلى نسج تحالفات مع قوى أساسية في البلد لتوفير الحماية لبيئته ومكانته السياسية، والبقاء لاعبًا قويًّا في المعادلة الداخلية اللبنانية. كما سيعمل على تسويق فكرة المقاومة سياسيًّا على الأقل في المرحلة الأولى، في انتظار بلورة ظروف جديدة. وسيجعل من بقاء الاحتلال الإسرائيلي لأجزاء من الأراضي اللبنانية والمطامع الاسرائيلية في المياه والموارد الغازية، قضية لإبقاء شعار المقاومة مرفوعًا ومطلبًا سياسيًّا. 

إلى ذلك، سيكون ملف إعادة الإعمار الأكثر دقة وضغطًا على الحزب. وقد يكون هو العلة الحاكمة بالانفتاح على الأطياف السياسية وإجراء التسويات، لأن الإعمار يتطلب شروطًا دولية وإقليمية مختلفة عمَّا جرى في عام 2006، حين امتلك "الحزب" سلطة على أموال المساعدات وأدار ملف الإعمار منفردًا. هذه المرة، ستكون للمجتمع الدولي شروطه القاسية، ماليًّا وسياسيًّا وأمنيًّا لإعادة الإعمار(7).

الدور الإقليمي والعلاقة بإيران

ويبقى الأهم ترسيم الحزب لحدود دوره المحلي اللبناني وحدود دوره الإقليمي وعلاقته الخاصة بإيران، ففي الفترة السابقة كان يمثل رأس جسر النفوذ الإيراني في المنطقة. لذا، فإن مستقبل الحزب مرهون أيضًا بعلاقة طردية مع مستقبل النظام الإيراني وحلفائه وأذرعه وسياساته المقبلة.  فهذه "الميليشيات" لا تزال تمثل حاجة إستراتيجية لطهران، في ظل عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، لاسيما إذا ما تطلعت إيران نحو عقد صفقة سياسية ترتب أوضاعها الأمنية وتخفف من وطأة العقوبات التي تثقل كاهل اقتصادها. كما أن وحدة الساحات أصبحت في الحرب الأخيرة عبئًا ثقيلًا على طهران وهددتها بالتورط في حرب كبرى أسهمت هي بتسعيرها لكنها لا تريدها. وإذا ما أرادت تكرار هذا السيناريو، يكفي أن تقلص دعمها المادي للحزب كي يتحول إلى واحد من الفرقاء اللبنانيين المتساوين في عناصر القوة بدلًا من كونه "المهيمن" على صنع القرار في البلد(8).

يرى البعض، في تراجع قوة "حزب الله" وتحوله إلى قوة محلية معتدلة، فرصة لإعادة بناء مؤسسات الدولة اللبنانية، عبر تعزيز مؤسساتها وانتخاب رئيس جديد وتشكيل حكومة، إضافة إلى نشر الجيش اللبناني والمؤسسات الأمنية اللبنانية ليس فقط في الجنوب، بل في كل المناطق الأخرى والمرافق الحيوية والمعابر الحدودية. لكن أي محاولة للاستقواء على بيئة الحزب وهزيمته سياسيًّا، سواء من قوى لبنانية أو أجنبية مدفوعة بحسابات ذاتية أو رهانات خارجية، من شأنه أن يجر البلاد إلى مخاطر كبيرة، لاسيما أن هذه البيئة تعاني وتشعر بالتهديد، ودفعت كلفة باهظة دفاعًا عن قضية تعتبرها محقة، هي قضية فلسطين، في وقت "تخلى" فيه الآخرون عن واجباتهم إزاءها.

خاتمة

المسار الذي سيسلكه "الحزب" وقبوله بوضع سلاحه تحت الرقابة الدولية، ولاسيما الأميركية عبر لجنة مراقبة تطبيق القرار 1701، وتعايشه مع هذه الرقابة، وطريقته في ممارسة السياسة، وكذلك الأسلوب الذي سيتبعه خصومه في الداخل والخارج معه، كل ذلك سيكون له تأثير في رسم معالم الطريق إلى المستقبل في لبنان. فإما أن يكون التفاهم بين هذه المكونات تحت سقف اتفاق الطائف، وهو الوثيقة الوحيدة والمتاحة لجمع اللبنانيين الآن؛ ما يمنح فرصة كبيرة لإنقاذ البلد المثقل بالهموم والمتاعب والمشكلات المتراكمة، أو أن يعود الخلاف وتُزرع بذور فتن صراعات جديدة تعيد لبنان إلى طريق الجمر، لاسيما في ظل عدم حسم الصراع الإقليمي بعد، سواء بصيغة رابح وخاسر، أو بصيغة عقد صفقة شاملة.

نبذة عن الكاتب

مراجع
  1. ريتا الجمال، لبنان، ماذا تغيَّر في القرار 1701 بين عامي 2006 و2024؟، "العربي الجديد"، 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 (تاريخ الدخول: 1 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://shorturl.at/NOKDD
  2. المصدر نفسه.
  3. هل تقف الحرب في لبنان قبل دخول ترامب البيت الأبيض؟ قناة الحرة، برنامج عاصمة القرار، 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 (تاريخ الدخول: 1 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://shorturl.at/uNj7G
  4. أسعد أبو خليل "مستقبل لبنان ومستقبل حزب الله"، "الأخبار" اللبنانية، 19 أكتوبر/تشرين الأول 2024 (تاريخ الدخول: 1 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://al-akhbar.com/Politics/385593
  5. عبادة اللدن، "اليوم التالي للحزب: تعايش السلاح مع الرقابة الأميركية"، موقع "أساس ميديا"، 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 (تاريخ الدخول: 1 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://www.asasmedia.com/80677
  6. "المدن" تنشر نص الاتفاق بين إسرائيل ولبنان،، "المدن"، 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 (تاريخ الدخول: 1 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://shorturl.at/2houE
  7. عبادة اللدن، المصدر السابق.
  8. د. منى سليمان: "أبعاد مستقبل حزب الله اللبناني بعد محاولة استهداف نتنياهو"، "السياسة الدولية"، 23 أكتوبر/تشرين الأول 2024 (تاريخ الدخول: 1 ديسمبر/كانون الأول 2024)، https://shorturl.at/oSxRi