وقف النار في لبنان: الردع الهش والمخاطر المحتملة

اضطرت إسرائيل وحزب الله إلى القبول باتفاق وقف إطلاق النار لأن المواجهة المسلحة أظهرت قصور قوتهما عن بلوغ الأهداف التي كانا يسعيان إليها، ففضَّلا الحفاظ على التوازن القائم وإن كان قلقًا، ويحمل مخاطر قد تفجر الأوضاع من جديد.
انفراجة وقف اطلاق النار في لبنان محاطة بمخاطر عديدة (رويترز)

ما كان يمكن التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان، أو بالأحرى بين إسرائيل وحزب الله، الذي بدأ العمل به صباح 27 نوفمبر/تشرين الثاني، بدون إدراك رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، بأن ليس ثمة جدوى تُذكر من المزيد من الحرب على الجبهة اللبنانية. ما استطاعت إسرائيل تحقيقه من الهجوم على لبنان قد تحقق فعلًا خلال شهرين من الاستهداف متعدد الأوجه؛ ولأجل إحراز تقدم أكبر على الأرض، كان على إسرائيل أن تدفع ثمنًا باهظًا. أما على صعيد القصف الجوي، فلم يعد هناك أي عدد ملموس من الأهداف التي يمكن أن تضيف مكاسب ملموسة إلى الحملة العسكرية على مقدرات حزب الله أو كوادره.

حزب الله، الذي تلقى ضربات هائلة في بداية الحملة الإسرائيلية، وصل إلى إدراك مشابه بأن إطالة زمن الحرب لن تُحدث أي قفزة نوعية في إنجازاته على الأرض، أو في استخدامه للصواريخ والطائرات المسيرة لإيقاع إصابات في المواقع الإسرائيلية والاقتصادية في شمال ووسط إسرائيل. ولكن هناك أسبابًا أخرى تقف خلف قبول الحزب بالتفاوض تحت النار (الأمر الذي كان يرفضه في بداية الحرب)، أو الموافقة على اتفاق تميل نصوصه لمصلحة الإسرائيليين. أهم هذه الأسباب بلا شك يعود بصورة أساسية إلى الموقف الإيراني، وإلى عدم الاكتراث السوري بمصير الحزب.

بدأ تنفيذ الاتفاق بالفعل يوم 27 نوفمبر/تشرين الثاني، ولا يُتوقع له في الأسابيع القليلة القادمة أن يواجه عثرات كبرى. ولكن، ولأن المرحلة الانتقالية، التي تفصل بين سريان الاتفاق وقيام الطرفين بتنفيذ ما يفرضه الاتفاق على كل منهما من التزامات، هي طويلة بالفعل، وأن الاتفاق كُتب بدرجة من الغموض، فإن مستقبل وقف إطلاق النار الدائم يظل في الميزان.

لماذا أصبح الاتفاق ممكنًا؟

افتتحت إسرائيل هجومها على لبنان بعملية استخباراتية، في 17 سبتمبر/أيلول، أدت إلى تفجير آلاف من أجهزة الاستدعاء المحمولة التي يستخدمها عناصر وكوادر حزب الله أثناء تحركهم خارج مواقعهم. خلال الأيام التالية من سبتمبر/أيلول، وقبل أن يطلق الجيش الإسرائيلي الهجوم الأرضي على طول الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، نجحت الاستخبارات الإسرائيلية في تفجير آلاف أخرى من أجهزة ووكي-توكي، واغتيال أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، واغتيال رئيس مجلس الحزب التنفيذي، هاشم صفي الدين، الذي كان يُعَدُّ ثاني أهم قيادات الحزب بعد نصر الله، وتنفيذ عمليات اغتيال في لبنان وسوريا لقادة عسكريين وسياسيين بارزين آخرين في الحزب.

كانت الحكومة الإسرائيلية أعلنت أن الهدف الرسمي للعملية العسكرية في لبنان هو تأمين قرى وبلدات شمال إسرائيل، التي تعرضت منذ أواخر 2023 لقصف متواصل من حزب الله وأصبحت غير قابلة للسكن أو الحياة. ولكن، وسواء في تصريحات نتنياهو أو تصريحات وزراء آخرين في حكومته، لم يُخْفِ المسؤولون الإسرائيليون أن الحرب على لبنان تستهدف القضاء على مقدرات حزب الله العسكرية، وعلى نفوذه السياسي، والعمل من ثم على تغيير المناخ الأمني-الإستراتيجي المحيط بالدولة العبرية.

ولكن، ما إن بدأت العمليات على الأرض باتجاه قرى وبلدات الشريط الحدودي اللبناني حتى أخذت القوات الإسرائيلية في مواجهة صعوبات ملموسة. كان الحزب قد أعاد التماسك إلى بنيته القيادية بسرعة فائقة بعد حملة الاغتيالات المؤلمة لقياداته السياسية والعسكرية، وأظهرت وحداته في مناطق الاشتباك مقاومة صلبة؛ مما أدى إلى وقوع خسائر ملموسة في جنود ومعدات الوحدات الإسرائيلية المتقدمة. وهذا ما أدى إلى تعثر التقدم الإسرائيلي في الجنوب، وتغيير خطط الاجتياح واسع النطاق باتجاه نهر الليطاني إلى محاولات اختراق في محاور محدودة، تقوم بها القوات الخاصة على وجه الخصوص، مدعومة بقصف مدفعي هائل وغارات جوية غير تمييزية. أما خارج الجنوب اللبناني، سيما في ضاحية بيروت الجنوبية ومنطقة البقاع وصور، فاعتمدت إسرائيل على القصف الجوي، متجنبة محاولات الإنزال الكبيرة.

مع منتصف نوفمبر/تشرين الثاني 2024، تراكمت الشكوك المحيطة بالعملية العسكرية الإسرائيلية في لبنان. أولًا: لمحدودية الإنجازات التي حققتها بعد النجاحات الاستخباراتية المدوية في سبتمبر/أيلول؛ ولأن محاولة تحقيق المزيد من التقدم تعني المزيد من الخسائر الإسرائيلية. ثانيًا: أصبح من الواضح أن الهجمات الإسرائيلية البرية والجوية ضد ما ظنه الإسرائيليون مواقع مقدرات الحزب العسكرية، التي وصلت إلى أقصى ما يمكن الوصول إليه، لم تترك تأثيرًا يُذكر على حجم ونوعية عمليات القصف بالصواريخ والمسيرات التي تعهدها الحزب يوميًّا على شمال ووسط إسرائيل. وثالثًا: لأن الأميركيين، كما يبدو، أنذروا نتنياهو بأنهم لن يستطيعوا استخدام حق النقض (الفيتو) ضد مشروع يدعو لوقف النار في لبنان كان يُخطَّط لتقديمه إلى مجلس الأمن. لبنان، في النهاية، يُنظر إليه من قبل الولايات المتحدة والغرب الأطلسي عمومًا بصورة مختلفة عن قطاع غزة؛ ويعتبر أصلًا منطقة نفوذ غربي، يجب أن يعود التوازن إلى معادلته السياسية الداخلية وليس تدميره.

دفعت هذه الأسباب مجتمعة القيادة الإسرائيلية إلى الموافقة على إطلاق جولة جديدة من التفاوض للتوصل إلى اتفاق لوقف النار على الجبهة اللبنانية. والمرجح، أن جولة المبعوث الأميركي الخاص بلبنان الأخيرة لم تكن لتبدأ بدون طلب إسرائيلي.

حزب الله، من جهته، وصل إلى محطة شبيهة، وإن كان لأسباب تختلف عن تلك التي دفعت الإسرائيليين لقبول فكرة وقف إطلاق النار. فقد أوقعت الحرب بالحزب خسائر فادحة في البنية القيادية، وخسائر يصعب تقديرها الآن في قواته المقاتلة. ويعتقد أن الحزب قد خسر في معارك الجنوب، وبفعل القصف الجوي الإسرائيلي، ما يصل إلى أربعة آلاف من المقاتلين. كما أن الهجمات الإسرائيلية أصابت بالتأكيد مواقع تخزين وتصنيع عسكرية، سواء في الضاحية والبقاع، أو في مناطق مختلفة في سوريا، إلى جانب الدمار الواسع الذي أُوقِع ببنية الحزب التحتية، الاقتصادية-المالية، والاجتماعية-الخدماتية. والأبعد أثرًا أن الهجمات الإسرائيلية أوقعت تدميرًا واسع النطاق في لبنان ككل، سيما في مناطق حاضنة الحزب الشعبية، في الجنوب والضاحية والبقاع، بحيث قُدِّر عدد المساكن التي دُمِّرت جزئيًّا أو كليًّا في مختلف أنحاء لبنان بما لا يقل عن مئة ألف مسكن.

ولا يقل أهمية أن الجيش الإسرائيلي، وعلى الرغم من المقاومة الهائلة التي واجهها، نجح فعلًا في إحراز تقدم وإن محدودًا في محاور الاختراق الأرضي في الجنوب. ولأن الجيش الإسرائيلي سارع إلى تغيير تكتيكاته، فقد تراجعت خسائره بصورة ملحوظة في معظم محاور الاشتباك خلال الشهر الثاني من العملية الأرضية.

على مستوى تبادل القصف الجوي، ظلت الخسائر التي تُوقعها صواريخ ومسيرات الحزب في إسرائيل محدودة، ولم تضف الكثير إلى تهجير سكان بلدات ومستعمرات شمالي إسرائيل. لزيادة كلفة الحرب على الجانب الإسرائيلي، أصبح على الحزب اللجوء إلى مستوى نوعي آخر من الصواريخ والمسيرات، وتوسيع نطاق المجال الإسرائيلي المستهدف. ولكن مثل هذا التطور كان سيفضي إلى تطور مواز في نطاق الهجمات الإسرائيلية على لبنان، ومن ثم إلى تدمير البنية التحتية للدولة اللبنانية، وإيقاع خسائر هائلة بالبلاد. هذا، إضافة إلى الضغوط التي تعرض لها الحزب من إيران، التي لم يكن خافيًا أنها تبنَّت سياسة عدم التصعيد.

إيران: خفض التصعيد والخسائر

لم يقتصر التفاوض على اتفاق وقف إطلاق النار على لبنان (حزب الله) وإسرائيل، بل كانت إيران طرفًا أصيلًا في الاتصالات التي أنتجت الاتفاق. ويعتقد أن الولايات المتحدة، التي لعبت دور الوسيط، تبادلت الرسائل مع طهران بصورة غير مباشرة طوال المسار التفاوضي. علاقة حزب الله بإيران ليست بالأمر الخافي على أحد، ويعرف الأميركيون أن الحزب لم يكن يقبل بالاتفاق حول نهاية الحرب في جبهتها اللبنانية بدون موافقة إيرانية.

أصبحت إيران، بدون إرادة منها أو رغبة لديها، طرفًا في الحرب منذ اندلاعها في أكتوبر/تشرين أول 2023، أساسًا بفعل الاتهامات التي وجهتها إسرائيل لإيران بدعمها للمقاومة الفلسطينية، ودعم حزب الله في سياسة مساندة قطاع غزة، إضافة إلى رغبة نتنياهو في استغلال حالة الحرب في الشرق الأوسط لتقويض البرنامج النووي الإيراني. ولكن الإيرانيين حاولوا من البداية النأي بالنفس، وتجنب تحويل أراضيهم إلى بؤرة صراع متسع، يصعب التحكم في مداه وفي أطرافه. ردت إيران على اغتيال رئيس مكتب حماس، إسماعيل هنية، بعملية قصف مركب من صواريخ وطائرات مسيرة، فردَّت إسرائيل ردًّا محدودًا، فشنَّت إيران ضربة مركبة أوسع تشتمل على صواريخ فرط صوتية، فوجَّهت إسرائيل ضربة جديدة أوقع أثرًا لمواقع إيرانية متعددة، بما في ذلك أحد مواقع البرنامج النووي، فتوعدت إيران بالرد لكن يبدو أنها أجَّلته أو قررت التراجع كلية عن تهديداتها السابقة بالرد.

آخذة في الاعتبار التوكيد الأميركي المتكرر بالدفاع عن إسرائيل، والتهديدات الإسرائيلية لسوريا والعراق، وما تسرب من طلب أميركي لإيران بالخروج من سوريا، وجدت طهران أن استمرار الحرب في لبنان يفتح الباب لكافة أنواع المخاطر على وضعها الإقليمي، بل وعلى الأرض الإيرانية ذاتها. لعل إيران قدرت أيضًا أن العملية العسكرية الإسرائيلية في لبنان قد أوقعت خسائر ملموسة بحزب الله وحاضنته الشعبية، وأن استمرار الحرب، بغضِّ النظر عن التكاليف التي تتحملها إسرائيل، قد يؤدي إلى إضعاف الحزب سياسيًّا، بل وربما تحييده كلية في الساحة السياسية اللبنانية وتقرير مستقبل لبنان.

ولم يغب عن الإيرانيين موقف عدم الاكتراث الذي التزمه حليفهم الأسد في دمشق، وما يشاع عن تسريبات استخباراتية تقوم بها أجهزة نظام الأسد تتعلق بمواقع خاصة بحزب الله وبإيران وبالميليشيات الشيعية التي جلبتها إيران في سوريا. وكان ملاحظًا في لبنان، وحتى قبل بدء العملية العسكرية الإسرائيلية، اندفاع بعض أبرز الأصوات المعروفة بارتباطها مع نظام الأسد إلى توجيه الانتقادات لحزب الله وإيران، وللطريقة التي أديرت بها المواجهة مع إسرائيل. خلال الأسابيع القليلة السابقة على اتفاق وقف النار في لبنان، قام ثلاثة من كبار المسؤولين الإيرانيين، بمن في ذلك قائد أركان الجيش الإيراني، بزيارة دمشق، في محاولات حثيثة، كما يبدو، لتفعيل الموقف السوري وتأمين الدعم الضروري لحزب الله. ولكن من غير الواضح ما إن كانت الضغوط الإيرانية قد أدت إلى أي تغيير ملموس في الموقف السوري.

الأهم في تحديد طبيعة الموقف الإيراني وتأييد طهران لاتفاق وقف النار في لبنان كان بالتأكيد فوز ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية، والإعلان عن المرشحين لشغل مواقع الأمن القومي والسياسة الخارجية في إدارته، الذي يشير إلى أن عددًا منهم من الخصوم المكرسين لإيران. لم تقم طهران بمد خطوط الاتصال مع الدوائر المحيطة بترامب، وحسب، ولكنها أعلنت رسميًّا، في تراجع ملموس عن موقفها السابق، استعدادها للتفاوض على اتفاق نووي جديد، بديلًا عن الاتفاق الذي وُقِّع مع إدارة أوباما وألغاه ترامب في رئاسته الأولى.

ما يحاول الإيرانيون إظهاره، بكلمة أخرى، أنهم غير راغبين في التصعيد أو اتساع نطاق الحرب، وأنهم يدفعون باتجاه نهاية الحرب واحتواء حالة عدم الاستقرار في الجوار الإقليمي، في اتفاق مع المقاربة التي يزعم ترامب أنها ستؤسس لسياسته في الشرق الأوسط، وأنهم فوق ذلك على استعداد حتى للتفاوض مرة أخرى حول برنامجهم النووي.

الاتفاق ومخاطره           

لم ينشر أي من الأطراف، ولا حتى الوسيط الأميركي، نصًّا رسميًّا للاتفاق. ولكن الأرجح أن النص الذي نشرته وسائل الإعلام الإسرائيلية، وتم تداوله بصورة غير رسمية في أوساط لبنانية، هو نص صحيح أو وثيق الصلة بالنص الرسمي. يخلو هذا النص، الذي يشار إليه باعتباره اتفاق وقف إطلاق النار في الجبهة اللبنانية، من جملة شروط أخرى تم التفاهم عليها، وربما وُضعت في صيغة نص مكتوب، بين الأميركيين واللبنانيين، من جهة، وبين الأميركيين والإسرائيليين، من جهة أخرى.

يتعلق جانب من هذه الشروط بموافقة المفاوض اللبناني على انتخاب رئيس للجمهورية خلال ما لا يزيد عن ثلاثة شهور من سريان اتفاق وقف النار، بغض النظر عن كون الرئيس المنتخب سيكون مرشح حزب الله وحلفائه، أو غير ذلك. بمعنى، أن على حزب الله وحلفائه التوقف عن إفشال جلسة مجلس النواب اللبناني الخاصة بانتخاب رئيس الجمهورية؛ الأمر الذي كان الحزب قد لجأ إليه خلال العامين الماضيين كلما تبين أن مرشحه للرئاسة فشل في إحراز الأغلبية النيابية. الأمر الآخر، تعلق بموافقة المفاوض اللبناني على التجديد لقائد الجيش وقادة الأجهزة الأمنية اللبنانية. ما حدث، بالطبع، أن التجديد لقائد الجيش ومسؤولي الأجهزة قد تم بالفعل؛ وأن السيد نبيه بري، رئيس مجلس النواب اللبناني وحليف حزب الله الأبرز ومن قاد مفاوضات وقف النار، قد أعلن بالفعل عن الدعوة لجلسة لانتخاب رئيس للجمهورية مباشرة بعد نهاية عطلة أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية.

أما التفاهم بين الولايات المتحدة وإسرائيل فالأرجح أنه تضمَّن ضمانات من الجانب الأميركي بالسماح لإسرائيل بالاستمرار في التصدي لأي تهديد من لبنان يفشل الجيش اللبناني في معالجته، وتعهدًا أميركيًّا بالتعاون الاستخباراتي مع إسرائيل لحمايتها من أي تهديد مستقبلي من الجانب اللبناني أو من سوريا. لم يُسلَّم الجانب اللبناني نسخة من هذا الاتفاق، بل ولم تقر الإدارة الأميركية بوجوده أصلًا، على الرغم من أن دوائر إعلامية إسرائيلية وأميركية أكدت أن الإسرائيليين ما كانوا ليوقِّعوا اتفاق وقف النار مع لبنان بدونه، سيما أن الإسرائيليين أرادوا إدراج هذا التعهد في اتفاق وقف النار ولكنهم فوجئوا بالرفض القاطع من المفاوض اللبناني.

بغير ذلك، وُضع اتفاق وقف النار في صيغة جملة من الإجراءات، في 13 بندًا، تكفل تنفيذ قرار مجلس الأمن 1701 الذي كان قد وضع نهاية لحرب 2006، ولم يجر تنفيذه بصورة كاملة من الطرفين. تتعلق هذه الإجراءات بانسحاب قوات حزب الله من المنطقة جنوبي الليطاني، بما في ذلك مقدرات الحزب العسكرية، وتوسيع اللجنة المكلفة بالإشراف على تنفيذ الاتفاق لتضم أميركا وفرنسا، على أن يرأس اللجنة جنرال أميركي مقيم في بيروت. لا يحتوي الاتفاق أية إشارة إلى الحرب في قطاع غزة؛ مما يعني أن الجانب اللبناني، وحزب الله على وجه الخصوص، تخلى كلية عن الربط بين جبهتي لبنان وغزة، الربط الذي كان أصلًا مبرر اندلاع الاشتباك المحدود بين حزب الله وإسرائيل في أكتوبر/تشرين الأول 2023، ومن ثم الهجوم الإسرائيلي واسع النطاق على لبنان منذ سبتمبر/أيلول 2024.

ولكن الاتفاق تضمن ثلاثة بنود وُضعت في صيغة غامضة وعمومية، بحيث تعني جنوب الليطاني وكافة الأرض اللبنانية، تلقي على كاهل الدولة اللبنانية المسؤولية عن حمل وتصنيع ونقل وشراء السلاح في كل لبنان، وتفكيك البنى التحتية والمنشآت العسكرية غير الرسمية. ما تعنيه هذه البنود، بصيغة أخرى، أن على الدولة اللبنانية أن تقوم بتجريد الحزب من مقدراته العسكرية والتسليحية، سواء كانت هذه المقدرات ظاهرة للعيان، أو أن معلومات وردتها حولها من أي من أطراف لجنة مراقبة تنفيذ الاتفاق. فإن كان هذا هو التفسير الصحيح لهذه البنود، فلابد أنها تفتح المجال لصدامات محتملة بين حزب الله والجيش وقوى الأمن اللبنانية، ليس في الجنوب وحسب، بل وفي مناطق تمركز الحزب الأخرى.

ولكن هذا ليس الخطر الوحيد الذي يكتنف تنفيذ الاتفاق. كلا الطرفين الرئيسين، حزب الله وحكومة نتنياهو، يريان أن الاتفاق هو مجرد اتفاق إجرائي لوقف النار وتنفيذ القرار 1701، وليس معاهدة لإنهاء حالة الحرب بين لبنان وإسرائيل. ولأن الاتفاق نص على فترة انتقالية من ستين يومًا قبل أن يستقر وقف النار، وتنسحب القوات الإسرائيلية بشكل تدريجي إلى جنوب الخط الأزرق وتعمل الولايات المتحدة على تسهيل التفاوض غير المباشر بين إسرائيل ولبنان للتوصل إلى حدود برية معترف بها، فستظل احتمالات انفجار الوضع قائمة.

يرى حزب الله أن ما يعنيه من الاتفاق هو إخفاء المظاهر المسلحة في الجنوب، وحسب؛ ولأن أغلب مقاتلي الحزب في الجنوب هم من أبناء الجنوب، فليس هناك ما يمنعهم من الإقامة في بلداتهم وقراهم، طالما أن سلاحهم ومعداتهم ليست مكشوفة، لكن الاتفاق تضمن هذه المرة إضافة لجنة مراقبة تطبيق الاتفاق وهي لم تكن موجودة في اتفاق 2006، فلذلك قد لا يواجه الحزب صعوبة في التوفيق بين إخفاء المظاهر والحفاظ عل السلاح. أما الجانب الإسرائيلي فيرى أن من حقه الاستمرار في استهداف مواطن التهديد، وما يسميه خروقات الاتفاق. خلال الأيام الأربعة التالية على توقيع الاتفاق، نفذ الجيش الإسرائيلي بالفعل عدة هجمات، ادعى أنها استهدفت عناصر من الحزب أو مواقع بطاريات صواريخ تابعة له. وقد نجم عن هذه الهجمات مقتل أربعة لبنانيين، على الأقل، وأسر وجرح ما لا يقل عن عشرة آخرين. رد الحزب بعد تلك الخروقات فتوعدت الحكومة الإسرائيلية بمزيد من التصعيد لكن الدول الراعية للاتفاق دعت إلى التهدئة وتفويض اللجنة المكلفة بإنفاذ بنود الاتفاق بالشروع في العمل.

توازن ردع قلق وهش

أطلق توقيع اتفاق النار جدلًا متعدد الأصوات في إسرائيل وفي لبنان وفي مجمل المجال الإقليمي حول ما إن كان وقف النار في الجبهة اللبنانية يمثل انتصارًا لحزب الله أو للدولة العبرية. والحقيقة، أن هذا سؤال هامشي لا يأخذ في الاعتبار أن الحرب على لبنان هي جزء فقط من حالة حرب متعددة الجبهات؛ وبالنظر إلى أن الاتفاق لا يمثل نهاية قاطعة للحرب في جبهتها اللبنانية، يبدو سؤالًا مبكرًا إلى حدٍّ كبير.

تنظر حكومة نتنياهو إلى أنها حققت عبر الاتفاق فصلًا قاطعًا للبنان عن غزة؛ الأمر الذي كان الحزب يرفضه طوال أكثر من عام من الحرب؛ بل وإن الدمار والخسائر التي أُوقعت بالحزب ستجعله يفكر مليًّا قبل أن ينضم إلى مواجهة إسرائيلية-إيرانية، إن تطور التدافع بين إسرائيل وإيران إلى الحرب المفتوحة. ولم يفصل الاتفاق لبنان عن غزة وحسب، بل وفصل لبنان عن سوريا كذلك، بحيث إنه لا يضع حدًّا لاستمرار إسرائيل في استهداف مواطن التهديد في سوريا، بغض النظر عن حالة الجبهة اللبنانية. كما يقدر نتنياهو أنه إن كانت حرب 2006 قد فرضت مناخًا من السلم بين لبنان وإسرائيل طوال عقدين من الزمن، ودفعت الحزب إلى تجنب استفزاز إسرائيل بأي صورة من الصور، فإن حرب الشهرين الأخيرة، ستفرض سلمًا جديدًا سيستمر لأكثر من عقدين قادمين؛ ليس فقط لأن الحرب أوقعت خسائر باهظة بالحزب وقاعدته الشعبية، ولكن أيضًا لأن لا الرأي العام اللبناني في عمومه، ولا حتى الرأي العام الشيعي اللبناني، سيسمح للحزب بجر البلاد إلى حرب واسعة مرة أخرى.

أما حزب الله، فينظر إلى أن صموده فقط، وليس أي قوة أخرى؛ ما أجبر الإسرائيليين على توقيع اتفاق وقف النار؛ وأن الحرب في طريقها إلى النهاية فعلًا، بغض النظر عن الاختراقات الإسرائيلية المحدودة هنا وهناك. يرى الحزب أيضًا أن نتنياهو فشل في تحقيق هدفه الرئيس والحقيقي من الحرب وهو تدمير حزب الله وفرض الاستسلام عليه. يرى الحزب كذلك أنه على الرغم من الخسائر الباهظة التي لحقت به، فإن مقدراته العسكرية لم تزل بخير، وإن محافظته على مستوى المواجهة والاشتباك حتى آخر أيام الحرب دليل واضح على أن ما يدعيه الإسرائيليون من إنجازات ليس أكثر من أوهام. ويعتقد الحزب أنه لا توجد قوة في العالم تستطيع منعه من إعادة تأهيل بنيته التحتية وتطوير السلاح والمقدرات العسكرية الأخرى، تمامًا كما أن أحدًا لم يمنعه من ذلك بعد 2006.

خلف ذلك الجدل وتباين التقديرات، ثمة عدد من المتغيرات السياسية وثيقة الصلة باندلاع الحرب الشاملة في الجبهة اللبنانية، وبنهاية هذه الحرب. أظهرت الحرب، مثلًا، أن مشروع محور المقاومة لم يكن يستند إلى أسس إستراتيجية صلبة، وأن قدرًا من المبالغة أحاط بصورة هذا المحور من البداية. نهج المساندة الذي اتبعه حزب الله لقطاع غزة ظل محكومًا بسقف منخفض طوال عام الحرب الأول على غزة؛ وعندما فُرضت الحرب الشاملة على الحزب، لم يتحرك حلفاؤه في إيران والعراق واليمن وسوريا بأي درجة ملموسة لمساندة مقاومته وحاضنته الشعبية. وعلى الرغم من فشل إسرائيل في تدمير حزب الله وإخراجه كلية من الساحة السياسية اللبنانية، فقد يصاب الحزب بالضعف سياسيًّا، سواء داخل لبنان، أو في الجوار الإقليمي؛ حيث لعب الحزب دورًا نشطًا في توكيد وحماية النفوذ الإيراني.

وما ينطبق على الحزب، ينسحب على إيران بصورة ما، ليس فقط لأن إيران لم تستطع الظهور ندًّا مكافئًا لإسرائيل، ولكن أيضًا لأن حلفاءها الإقليميين أظهروا فعالية منخفضة، نسبيًّا، في التصدي للاعتداءات الإسرائيلية. وحدها المقاومة الفلسطينية لم تزل ثابتة في مواقعها؛ ولكن تحالف المقاومة الفلسطينية مع إيران كان دائمًا تحالفًا جزئيًّا ومؤقتًا، ولم تكن المقاومة أبدًا أداة إيرانية، ولا هي أعربت عن التأييد للمشروع التوسعي الإيراني. ربما ستسعى إيران في المرحلة المقبلة إلى حشد أكبر للفصائل المسلحة الحليفة لها في المنطقة العربية، وإلى تبني سياسة أكثر تصلبًا في سوريا بعد الانتكاسات التي منيت بها قوات نظام الأسد في الشمال السوري، لتعيد التوكيد على موقعها الإقليمي وعلى فاعلية حلفائها.

في الجهة الأخرى، أبرزت الحرب وما انتهت إليه من اتفاق لوقف النار، حدود القوة الإسرائيلية، وأن الآمال المبكرة التي علَّقها نتنياهو واليمين الإسرائيلي على الحرب لم تؤيدها الوقائع. أعلنت الحكومة الإسرائيلية أن هدف الحرب على لبنان هو تأمين الشمال الإسرائيلي وعودة النازحين الإسرائيليين إلى مدنهم وقراهم في الشمال. ولكن الحقيقة، أن هدف الحرب كان تدمير حزب الله وتهميشه، إن لم يكن إلغاءه تمامًا، من المعادلة السياسية اللبنانية، ومن ثم تغيير المناخ الأمني المحيط بدولة إسرائيل برمته. ما حدث، أن نتنياهو اضطر إلى قبول اتفاق وقف النار بدون أن يحقق أيًّا من هذه الأهداف؛ حتى عودة النازحين الإسرائيليين إلى شمال فلسطين المحتلة لم تزل مشروطة باستقرار وقف النار وديمومته.