مقدمة
ثمة حدثان رئيسان شهدتهما الساحة السورية في النصف الأول من أبريل/نيسان 2018: أولهما مَرَّ دون قدر كبير من الضجيج الإعلامي، والثاني بدا في الساعات السابقة على وقوعه كأنه يهدد باندلاع صراع غير مسبوق منذ عقود بين روسيا والكتلة الغربية. تمثَّل الحدث الأول في قيام طائرات إسرائيلية، مساء 9 أبريل/نيسان 2018، بقصف مطار تي فور (T-4) السوري، شرقي حمص. أما الثاني، فتمثل في الضربة التي وجهها تحالف ثلاثي من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، فجر يوم 14 أبريل/نيسان 2018، لعدة أهداف سورية، يُعتقد أنها ذات صلة مباشرة بتطوير وتخزين أسلحة كيماوية.
بعد ورود تقارير بقيام قوات النظام السوري باستخدام السلاح الكيماوي ضد المدنيين وجماعات المعارضة المسلحة، المحاصرين في مدينة دوما، شرقي غوطة دمشق، في 7 أبريل/نيسان 2018، باتت الضربة المشتركة للنظام السوري أمرًا مفروغًا منه. أما حادثة القصف الإسرائيلي لمطار تي فور العسكري فلم تكن متوقعة وقد تجاهلتها حتى وسائل إعلام نظام دمشق، كما رفضت الدوائر الرسمية الإسرائيلية تبنيها أو إنكارها. ولم تتأكد المسؤولية الإسرائيلية عن قصف تي فور حتى أُعلنت في بيان لوزارة الدفاع الروسية.
كيف تطورت وقائع الأزمة السورية لتصل إلى هذه الاستباحة لأجواء وسيادة سوريا خلال أسبوع واحد فقط؟ ما الذي يضيفه الحادثان إلى مستوى التعقيد البالغ الذي وصلته الأزمة السورية؟ وإلى أي حد يسهم الخلاف الدولي حول سوريا في دفع علاقات روسيا بالغرب إلى ما وصفه الأمين العام للأمم المتحدة بعودة الحرب الباردة؟
النظام السوري والسلاح الكيماوي
تقول المعارضة السورية، كما شهادات العديد من السكان المدنيين وعناصر الحماية المدنية، الذين أسهموا في إنقاذ الضحايا: إن النظام استخدم سلاحًا كيماويًّا بصورة عشوائية ضد المحاصرين في مدينة دوما، يوم 7 أبريل/نيسان 2018، وكانت المدينة لم تزل في قبضة جيش الإسلام، أحد فصائل المعارضة المسلحة. لكن النظام السوري أنكر اتهامات استخدامه السلاح الكيماوي في المدينة، كما كان أنكر من قبل اللجوء للسلاح الكيماوي منذ 2013. قُتل في الهجوم على دوما ما يقارب الأربعين من سكان المدينة، وأصيب العشرات باختناقات متفاوتة. خلال يومين من وقوع الهجوم، توصل جيش الإسلام إلى اتفاق مع الروس لإخلاء المدينة من المسلحين وعائلاتهم ومن يرغب من السكان، وما إن بدأت عملية الإخلاء حتى دخلت عناصر عسكرية روسية إلى دوما. وسرعان ما أعلن الروس أنهم لم يجدوا دليلًا على وقوع هجوم كيماوي، مصطفِّين بذلك، وكما في مناسبات سابقة، إلى جانب النظام.
خلال الأسبوع التالي، أكد الفرنسيون، على لسان رئيسهم، وأكثر من مصدر مسؤول أميركي، على وجود أدلة تؤكد استخدام النظام للسلاح الكيماوي في دوما، وأن هذا السلاح كان من غاز الكلور، وغاز آخر لم يتم تحديده بعد.
السؤال الذي أثارته الحادثة هو: لماذا يضطر النظام للجوء لاستخدام السلاح الكيماوي ضد آخر مواقع المعارضة المسلحة في محيط دمشق، ومعركة الغوطة الشرقية توشك على الانتهاء؟ الحقيقة أن ليس ثمة إجابة يقينية على هذا السؤال.
الإجابة الأولى تتعلق بالعدد الكبير من عناصر جيش الإسلام في دوما، الذين يتمتع أغلبهم بخبرة عسكرية طويلة وتسليح جيد. ويبدو أن النظام لم يكن يرغب في خوض معركة اجتياح بري، يتوقع أن يتكبد فيها خسائر كبيرة. أما استخدام السلاح الكيماوي فكان سيُوقع الذعر في صفوف الأهالي والمسلحين، ويجبر الآخرين على توقيع اتفاق إجلاء سريع عن المدينة.
وكانت شائعات قد انتشرت منذ زمن حول احتفاظ جيش الإسلام بمئات من العناصر العلوية الموالية للنظام رهائن في المدينة (التقدير الذي تأكد بعد ذلك أنه مضخَّم ولا ينطبق على الواقع). وكان الرئيس السوري قابل أهالي العلويين المفقودين، منذ بدء معركة الغوطة الشرقية، متعهدًا بالبحث عنهم وتحريرهم. ويبدو أن النظام أراد إظهار شيء من الجدية لقاعدته العلوية، وتوكيد عزمه على استخدام كل وسيلة ممكنة لإيقاع الهزيمة بمسلحي دوما وتحرير من بحوزتهم من الرهائن.
تقول الإجابة الأخرى، والتي تحمل مصداقية أكبر: إن النظام أراد زرع الرعب في صفوف عناصر جيش الإسلام وأوساط من تبقى من سكان دوما، ودفع أكبر عدد ممكن من الطرفين إلى مغادرة المدينة وإخلائها. فغوطة دمشق، ذات الأغلبية السنية الساحقة، كانت تُعتبر المعقل الرئيس للثورة السورية منذ انطلاقها في مارس/آذار 2011. بل إن أول ظهور للسلاح في صفوف المعارضين سُجِّل في الغوطة. الغوطة الشرقية، على وجه الخصوص، لصيقة بالعاصمة دمشق، وتشرف على بعض من أهم مؤسسات الحكم السوري. ولا شك في أن النظام تبنى سياسة تطهير طائفي في كافة معاركه من معاقل المعارضة السنية. وقد أصبحت هذه السياسة أكثر وضوحًا بعد صدور مرسوم إعادة تسجيل الممتلكات، الذي يتيح للنظام السيطرة على ممتلكات اللاجئين الذين يخشون العودة إلى مناطق سكناهم وإعادة تسجيل منازلهم وأراضيهم.
مهما كان الأمر، فقد أثارت التقارير حول استخدام النظام السلاح الكيماوي ردود فعل غربية حادة، لاسيما من الرئيس الأميركي، دونالد ترامب. بدأ النظام استخدام السلاح الكيماوي منذ 2013، عندما كان يوشك على خسارة حربه ضد الثوار المسلحين، وفي الغوطة على وجه التحديد. وبالرغم من أن الرئيس باراك أوباما كان قد أعلن أن استخدام السلاح الكيماوي خط أحمر، فقد انتهى الأمر حينها إلى اتفاق، توسطت فيه روسيا، يقضي بتخلص نظام الأسد كلية من مخزونه من السلاح الكيماوي. ولكن ثمة تقارير تؤكد أن النظام، الذي احتفظ ببنية تحتية تؤهله لإعادة إنتاج السلاح الكيماوي، عاد لاستخدام هذا النوع من السلاح منذ 2015، وفي أكثر من خمسين واقعة، وثَّقتها المعارضة السورية.
في أبريل/نيسان 2017، وجَّهت الولايات المتحدة ضربة محدودة لمطار الشعيرات العسكري، ردًّا على حادثة استخدام سلاح كيماوي في خان شيخون في الرابع من الشهر نفسه. ويشير قصف الشعيرات إلى أن الرئيس ترامب، بضغوط من عدد من مساعديه، قرر عدم التسامح مع استخدام النظام السوري السلاح الكيماوي، بغضِّ النظر عن السياسة الأميركية تجاه الأزمة السورية. فعودة النظام إلى استخدام الكيماوي، بعد سنة واحدة فقط على هجوم خان شيخون والضربة التي وُجِّهت لمطار الشعيرات، أوحت بأن النظام لا يكترث بالتهديدات الأميركية، وأن الضربة الأميركية السابقة لم تكن كافية لردعه عن اللجوء لهذا السلاح. ولذا، فمنذ أصدر الرئيس ترامب تهديداته للنظام وحلفائه الروس، بعد يوم واحد فقط من واقعة دوما، لم يعد ثمة شك في أن الأميركيين سيوجهون ضربة جديدة للنظام. ما لم يكن واضحًا هو حجم تلك الضربة، ومدتها، وطبيعة الهدف الذي تسعى إدارة ترامب لتحقيقه منها.
هجوم إسرائيلي مفاجئ
مساء 9 أبريل/نيسان 2018، تعرض مطار تي فور العسكري، شرقي حمص، الذي يضم بعضًا من أحدث طائرات سلاح الجو السوري، ويُعتقد أنه بات مركزًا لتجمع الخبراء العسكريين الإيرانيين والميليشيات الشيعية المساندة لنظام دمشق، لهجمات نفذتها طائرتان على الأقل. كان ثمة شك في البداية في أن قصف تي فور لم يكن سوى العقاب الأميركي المنتظر للنظام. ولكن سرعان ما صدر بيان من واشنطن، يؤكد على أن القوات الأميركية لم تنفذ الهجوم. مصادر لبنانية مسؤولة ذكرت أن طائرات إسرائيلية اخترقت المجال الجوي اللبناني قبل قليل من الهجوم. بعد ذلك صدر بيان وزارة الدفاع الروسية الذي أكد على مسؤولية الإسرائيليين عنه. النظام السوري، من جهته، تجاهل الإشارة إلى الهجوم أو توجيه الاتهام للإسرائيليين، بينما رفض مسؤولون إسرائيليون التعليق على الحادثة.
حسب الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، ياكوف كاديمي، قامت إسرائيل بتنفيذ ما لا يقل عن 100 هجمة جوية على أهداف في سوريا. والمعروف على نطاق واسع أن الإسرائيليين توصلوا إلى ما يشبه الاتفاق الضمني مع الروس، منذ بدء التدخل الروسي المباشر في الأزمة السورية في خريف 2015، على أن لإسرائيل حق الدفاع عن أمنها في سوريا، خصوصًا ما يتعلق بالتهديدات التي تشكِّلها إمدادات السلاح لحزب الله عبر الأراضي السورية. ولذا، فإن الهجمات الجوية الإسرائيلية على أهداف ذات صلة بإمدادات السلاح لحزب الله أو محاولة عناصره التمركز بالقرب من الحدود السورية مع فلسطين المحتلة، لم تتوقف، لا قبل انطلاق الثورة السورية ولا بعدها، ولا قبل التدخل الروسي المباشر ولا بعده. بيد أن هذه المرة تبدو مختلفة قليلًا.
إسرائيل، بالطبع، لم تهاجم تي فور لمعاقبة سوريا على استخدام السلاح الكيماوي، وكان الإسرائيليون قد أوضحوا من البداية أن لا شأن لهم بما يقوم به نظام الأسد ضد شعبه. الحقيقة، أن الطائرات الإسرائيلية هاجمت مركزًا عسكريًّا إيرانيًّا، وأوقعت بالفعل خسائر في أرواح عسكريين إيرانيين، إلى جانب تدمير منشآت أخرى في المطار. هذا ما أكده زعيم حزب الله، حسن نصر الله، وحليف إيران الأوثق، في 13 أبريل/نيسان 2018، عندما علَّق على قصف تي فور بقوله: إن "إسرائيل ارتكبت خطأ تاريخيًّا عندما وضعت نفسها في صراع مباشر مع إيران".
كان مسؤولون إسرائيليون، بمن في ذلك رئيس الحكومة، نتنياهو، ووزير الدفاع، ليبرمان، أكدوا في أكثر من مناسبة على أن الدولة العبرية لن تسمح لإيران بتأسيس وجود عسكري دائم في سوريا. في 29 مارس/آذار 2018، أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، خلال خطاب له في أوهايو، أنه سيقوم بسحب كافة العناصر العسكرية الأميركية من سوريا. جاء إعلان ترامب مفاجئًا حتى لأركان إدارته في وزارتي الدفاع والخارجية. ويبدو أن الرئيس أقنعه مساعدوه في الأيام القليلة التالية بالتمهل قبل اتخاذ قرار الانسحاب الكلي. ولكن، وبالرغم من نشوب أزمة استخدام السلاح الكيماوي، يبدو أن ترامب لم يزل مصممًا على الخروج من سوريا، ربما خلال أشهر وليس أسابيع، كما أوحى خطاب أوهايو.
هناك عدد يتراوح بين 2000 و3000 من العسكريين الأميركيين، أخذوا في الانتشار في الشرق السوري منذ بداية المعركة ضد تنظيم الدولة في العراق وسوريا في نهاية 2014. تقوم هذه القوة بمهمات تدريب للقوات الكردية التي يعتمد عليها الأميركيون في الحرب ضد التنظيم، وتدير مطارات صغيرة ومراكز إمداد لوجيستي، كما تقدم إرشادًا أرضيًّا للطائرات الأميركية المشاركة في التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة. الوجود الأميركي الوحيد غرب الفرات هو ذلك المرتبط بحماية القوات الكردية في منطقة منبج، والذي يعتبر مصدر خلاف مستمر مع تركيا. ويُنظر إلى الوجود العسكري الأميركي في سوريا على أنه يحقق هدفين رئيسين: الأول: المعركة ضد تنظيم الدولة، ومنعه من استعادة المواقع التي خسرها في الشرق السوري. والثاني: الوقوف أمام محاولة إيران تأمين خط إمداد يمتد من غربي إيران إلى المتوسط، عبر شمال العراق وشرق سوريا. وبالنظر إلى أن الأميركيين لم يعتبروا سوريا منطقة حيوية لاستراتيجيتهم في الشرق الأوسط، فمن المستبعد أن يكون لوجودهم شرق سوريا أية علاقة مباشرة بمناكفة جيوسياسية لروسيا.
إنْ نفَّذ ترامب وعيده بالانسحاب من سوريا كلية، فلن يخسر الأكراد مصدر حمايتهم الرئيس وحسب، بل سيصبح طريق إيران إلى المتوسط أكثر تمهيدًا. من جهة أخرى، وبالنظر إلى أن المعركة على شمال العراق لم تُحسم نهائيًّا بعد، فلا تزال هناك صعوبات أمام تحقيق إيران هدفها. هذا، على أية حال، لم يمنع الإيرانيين من محاولة تأسيس وجود عسكري ثابت ودائم في سوريا، بخلاف السياسة التي اتبعوها في السنوات الأولى من الثورة السورية، بالرغم من إدراكهم أن مثل هذه الخطوة تشكِّل استفزازًا كبيرًا للإسرائيليين. ويبدو أن هذا التغيير في مقاربة الوضع السوري يرتبط بمخاوف متزايدة في طهران من موقف إدارة ترامب من الاتفاق النووي، واحتمال قيام الأميركيين أو الإسرائيليين بمهاجمة إيران.
يرى الإسرائيليون أن التمركز العسكري الإيراني الدائم في سوريا يشكِّل، بحد ذاته، تهديدًا استراتيجيًّا لأمن الدولة العبرية، وليس فقط باعتباره ظهيرًا لحزب الله. كما يقرأ الإسرائيليون الوجود الإيراني في سوريا في موازاة التقارير التي تفيد بارتفاع تسليح حزب الله إلى مستوى غير مسبوق، وزيادة إمدادات السلاح لحماس في غزة. وهذا ما يدفع الإسرائيليين إلى معارضة قرار ترامب بالانسحاب من سوريا، ويجعلهم أكثر استعدادًا للتعامل مع الوجود الإيراني هناك.
الروس، من جهتهم، لا يرحبون بوجود إيراني عسكري دائم في سوريا. ولكن ثمة شكوك حول قدرتهم على منعه، طالما أن نظام الأسد لم يتخذ موقفًا معارضًا لمثل هذا الوجود. روسيا، بالطبع، لا تريد أن ترى الإسرائيليين يعملون على إحداث المزيد من التعقيد والتوتر في سوريا، وهذا ما دفع بوتين للحديث مع نتنياهو بعد ضربة تي فور. ولكن الروس، في النهاية، لن يستطيعوا منع مواجهة مباشرة بين إسرائيل وإيران في حال قرر ترامب انسحابًا أميركيًّا كليًّا من شرق سوريا، ما لم تتراجع إيران عن محاولتها تأسيس وجود عسكري دائم في البلد الممزق بين نفوذ ومصالح العديد من قوى الإقليم والعالم.
عقاب ثلاثي محدود لنظام بشار
عقد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، خلال الأسبوع التالي لوقوع الهجوم الكيماوي على دوما، سلسلة من الاجتماعات مع أركان إدارته ومجلس أمنه القومي لبحث الخطوة التي سيعتمدها لمعاقبة نظام الأسد. كما أجرى اتصالات بحلفاء الولايات المتحدة في حلف الناتو، في مؤشر على عزمه إعطاء خطوته طابع تحالف دولي وليس أميركيًّا وحسب. ولكن رد الفعل الروسي على تهديدات الرئيس الأميركي لنظام الأسد كان حادًّا، مؤكدًا على أن أية ضربة أميركية لسورية ستُعتبر عدوانًا غير قانوني على دولة مستقلة وذات سيادة، وستُواجَه بإجراءات روسية مضادة. أدى فشل مجلس الأمن الدولي، في 10 أبريل/نيسان 2018، في تمرير مشروع قرار أميركي لتشكيل لجنة تحقيق مستقلة حول استخدام النظام السوري للسلاح الكيماوي، وفي تمرير مشروع قرار روسي لتشكيل لجنة محدودة الصلاحيات، إلى تعزيز مناخ الأزمة بين أميركا وحلفائها، من جهة، وروسيا، من جهة أخرى.
في 11 أبريل/نيسان 2018، أعلن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، عزم بلاده المشاركة في أي إجراء عقابي لنظام الأسد. وفي اليوم التالي، حصلت رئيسة الحكومة البريطانية، تيريزا ماي، على دعم حكومتها للقيام بعمل مشترك مع الأميركيين والفرنسيين لتوجيه ضربة عقابية للنظام السوري. تركيا، الدولة الأخرى المعنية بالشأن السوري، والتي أثيرت تساؤلات حول حقيقة موقفها، بصفتها عضوًا في الناتو، التزمت الحذر وتراوحت تصريحات مسؤوليها بين التنديد بنظام الأسد وعدم الرغبة في رؤية سوريا تتحول إلى ساحة صراع بين الدول الكبرى.
يمكن أن يُفهم موقف فرنسا السريع بتأييد فكرة توجيه ضربة للنظام السوري في ضوء سعي الرئيس ماكرون لإعادة ترميم دور فرنسا الدولي، باعتبارها قوة أوروبية رئيسة يمكن الاعتداد بها. أما بريطانيا، التي تلقت دعمًا قويًّا من أميركا وفرنسا في أزمة علاقاتها بروسيا التي ولَّدتها حادثة تسميم العميل الروسي السابق، سيرغي سكريبال، فوجدت من الصعوبة التخلف عن الموقف الأميركي والفرنسي. تركيا، من جهة ثالثة، حاولت من خلال اتصالات رئيسها بالرئيسين، الأميركي والروسي، اقتناص الفرصة ومحاولة إقناع روسيا بالتخلي عن الأسد في مقابل تراجع أميركا عن توجيه ضربتها للنظام، ولكن المحاولة التركية لم تحقق نتائج ملموسة.
في الرابعة من فجر 14 أبريل/نيسان 2018، بتوقيت الشرق الأوسط، بدأت الهجمة الأميركية-الفرنسية-البريطانية على منشآت رسمية سورية، واستمرت لسبعين دقيقة. خلال الهجمة، وُجِّه لثلاثة مواقع سورية ذات صلة بأبحاث السلاح الكيماوي وتخزينه، ومواقع قيادة وتحكم لصيقة بها، ما يزيد عن 100 صاروخ، من طائرات ومنصات إطلاق بحرية، أغلبها أميركية. وبخلاف ما ذكرته مصادر النظام السوري وروسيا، لم تستطع المضادات السورية اعتراض أي من الصواريخ، التي أحدثت دمارًا كبيرًا في المواقع التي استهدفتها، دون وقوع خسائر في الأرواح.
لم تتحقق التوقعات بتوجيه ضربة واسعة النطاق للنظام السوري، تستمر لعدة أيام، كما أوحت تصريحات الرئيس ترامب، بما في ذلك خطابه للشعب الأميركي قبل دقائق من بدء القصف. كما لم تتحقق التوقعات بتصد روسي للضربة ضد الحليف السوري، بالرغم من مشاركة طائرات من الدول الثلاث في قصف الأهداف السورية، وليس فقط صواريخ أطلقت من خارج مجال سوريا. وبالرغم من الدمار الذي أحدثته، كانت الضربة محدودة بكل المقاييس، واقتصرت على أهداف ذات صلة مباشرة بالسلاح الكيماوي. فقد تجنبت الدول الثلاث المشاركة في العملية ضرب أية أهداف روسية، وتراجعت روسيا، من جهتها، عن تنفيذ تهديداتها بالتصدي للهجمة على النظام السوري. فكيف انتهت الأمور إلى هذا الحد؟
طبقًا لوول ستريت جورنال، 13 أبريل/نيسان 2018، والأوبزرفر، 15 أبريل/نيسان 2018، دفع الرئيس الأميركي، مؤيَّدًا من سكرتير مجلس أمنه القومي الجديد، جون بولتون، ومندوبته في الأمم المتحدة، نيكي هيلي، نحو توجيه ضربة كبيرة، تطول العديد من الأهداف وتستمر لعدة أيام. ولكن وزير الدفاع، ماتيس، وكبار ضباط الجيش، انحازوا لفكرة الضربة المحدودة، التي تقتصر على مواقع السلاح الكيماوي، وتنتهي خلال وقت قصير.
أراد ترامب، على الأرجح، من العملية السورية تحقيق عدة أهداف:
- الأول: التوكيد على دور وموقع الولايات المتحدة في الساحة الدولية، وكونها القوة الوحيدة القادرة على حراسة القواعد والقوانين الدولية.
- الثاني: صناعة مناخ حرب وأزمة خارجية، تساعد على تعزيز موقعه الرئاسي وتغطي على مسلسل التحقيقات الجارية حول مخالفاته ومساعديه أثناء الحملة الانتخابية.
- والثالث: توجيه إهانة مباشرة لروسيا، تضع نهاية للاتهامات بوقوع تواطؤ منه أو من بعض ممن حوله مع روسيا.
المؤكد، أن ترامب لم يقصد بالضربة للنظام السوري تغييرًا في المقاربة الأميركية للأزمة السورية. وهذا ما أشارت إليه المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة في كلمتها خلال الجلسة الطارئة لمجلس الأمن، التي دعت لعقدها روسيا بعد ساعات من وقوع الهجوم الثلاثي على الأهداف السورية. وهذا، ربما ما فهمه مسؤولو وزارة الدفاع الأميركية. فما دام الرئيس لا يعتزم إحداث تغيير استراتيجي في مقاربة الأزمة السورية، فلماذا تغامر الولايات المتحدة بعمل عسكري واسع النطاق وطويل المدى، قد يؤدي إلى إصابات روسية، ويجعل تسويغ العملية الأميركية أكثر صعوبة، والعلاقات المتأزمة مع روسيا أكثر تعقيدًا؟!
تلقت العملية تأييدًا، بدرجات متفاوتة، من كل دول الخليج العربية، باستثناء عُمان، وأغلب الدول الأوروبية. إضافة إلى ذلك صدر بيان تأييد واضح من تركيا، عبَّر عن التزام أنقرة بتحالفها مع الغرب، بالرغم من التكهنات بخلاف ذلك، وعن تصلب تركي متجدد تجاه نظام الأسد. إحجام روسيا عن الدفاع عن السيادة السورية، رافقه تنديد روسي بالعملية وبالدول الثلاث التي نفذتها، والدعوة لعقد جلسة لمجلس الأمن. نددت إيران، كما كان متوقعًا، وكذلك فعل العراق، بينما التزم أغلب الدول العربية، خارج منطقة الخليج، الصمت، حرصًا، ربما، على عدم الظهور بمظهر المنحاز لأحد طرفي الأزمة.
منعطف جديد في الأزمة السورية
كشف التأزم الذي رافق العملية التي نفذتها الدول الغربية الثلاث ضد نظام الأسد عن المبالغات التي تحيط بالحديث حول اندلاع حرب باردة جديدة بين روسيا والغرب. ليس ثمة شك في أن هناك مشكلة روسية تواجه الغرب، ولكن روسيا ليست الاتحاد السوفيتي، ولا تمتلك المقدرات الكافية لخوض جولة أخرى من الحرب الباردة. العقوبات الأميركية ضد روسيا تتوالى، لهذا السبب أو ذاك، ولا شك أنها تسهم في تقييد قدرة البنوك والشركات الروسية الكبرى على التعامل بالدولار، وتدفع من ثَمَّ إلى هبوط حثيث في قيمة العملة الروسية. وهذا ليس إلا وجهًا واحدًا لعزلة روسيا وعجزها عن خوض مواجهة متكافئة مع الولايات المتحدة والكتلة الغربية. وفي سوريا، على وجه الخصوص، حرص بوتين من البداية على أن يتجنب الانجرار إلى استنزاف طويل. ولا شك أن القيادة الروسية أدركت أن مواجهة مع الغرب في سوريا ستؤدي إلى استنزاف باهظ التكلفة لمقدراتها.
الولايات المتحدة، من جهتها، قدَّرت أن الضربة ضد النظام، بالرغم من محدوديتها، كانت كافية لتحقيق هدف العقاب والردع، وتوجيه الرسالة الضرورية للروس. والأرجح أن الأميركيين جادون في توكيدهم على أن عودة النظام لاستخدام السلاح الكيماوي سيتبعها مباشرة ضربات عقابية إضافية.
على المستوى السوري، ولَّدت محدودية العملية قدرًا ملموسًا من خيبة الأمل لدى قوى المعارضة، التي كانت تأمل في أن تؤدي الضربة للنظام إلى إضعاف حقيقي لقواه وتغييرٍ ما في ميزان القوى. هذه الآمال، بالطبع، لم تكن في محلها؛ فلا إدارة أوباما، ولا إدارة ترامب، أعربت يومًا عن تبني سياسة جادة للإطاحة بنظام الأسد، وليس ثمة مؤشر على أن السياسة الأميركية تجاه سوريا في طريقها للانقلاب السريع.
الإسرائيليون، هم أيضًا، أعربوا عن خيبة أملهم من حجم الضربة التي نفذتها الدول الثلاث، ليس لأنهم أرادوا الإطاحة بنظام الأسد، بل لأنهم تصوروا أن العملية ستكون من الاتساع بحيث تطول أهدافًا إيرانية ومواقع لحزب الله. وهنا، ربما، يكمن التطور الذي يستدعي مراقبة حثيثة في مسار الأزمة السورية، التي لا تكاد خارطة قواها تتضح حتى تصبح أكثر تعقيدًا. فبغضِّ النظر عن المقاربة الأميركية للأزمة السورية، يبدو أن الإسرائيليين عازمون على منع إيران من تأسيس موطئ قدم عسكري ثابت لها في سوريا. والسؤال هنا ليس ما إن كان الإسرائيليون سينجحون أو لا في تحقيق هذا الهدف، بل في تزايد المؤشرات على تحول سوريا إلى ساحة للمواجهة بين إسرائيل وإيران، إضافة إلى أنها أصبحت منذ زمن ساحة مواجهة بين عديد من الأطراف الأخرى.