سوريا بعد سقوط الأسد: تحديات الداخل والخارج

أسهمت عوامل عدة في سقوط نظام الرئيس الأسد بسرعة لم تكن متوقعة، منها: تغير الظروف الجيوسياسية في الإقليم لصالح المعارضة، وضعف الجيش السوري وانهياره السريع، وتمكن المعارضة السورية في إدلب من إعادة تعزيز قوتها و"سمعتها" بما يكفي لعدم وقوف الخارج ضدها أو وقف هجومها.
8 ديسمبر 2024
سقوط الرئيس الأسد كان مطلبًا شعبيًّا ما سهَّل من مهمة المعارضة السورية وعزز من اندفاعة هجومها (الفرنسية).

مقدمة

سقط نظام الرئيس الأسد ، صباح يوم الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، بعد عملية عسكرية قامت بها المعارضة السورية المسلحة، بدأت في 28 نوفمبر/تشرين الثاني، وتدحرجت بشكل متسارع، بدأت بسقوط سهل لحلب ثم حماة وكانت خاتمتها في حمص ودمشق.

سقط حكم آل الأسد في غضون عشرة أيام تقريبًا، بعد حكم يقترب من 54 عامًا، حكم منها بشار الأسد 24 عامًا تقريبًا. وانتصرت المعارضة السورية، بعد مضي ما يزيد على 13 عامًا من "ثورات الربيع العربي"، وقد انطلقت فيها المظاهرات العفوية السلمية المطالبة بالتغيير في مارس/آذار 2011، وقمعها النظام بعنف شديد بعد أن كاد يسقط، وتحولت المواجهة إلى حرب عسكرية بين النظام والمعارضة، تقدم فيها الأسد بدعم وتأييد مباشر من روسيا وإيران، قبل أن يعود ويسقط، مع تغير الواقع الجيوسياسي في المنطقة والعالم، بالتوازي مع استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية، وفي أعقاب عملية "طوفان الأقصى" والحرب الإسرائيلية على غزة.

تحديات الداخل

إن سقوط دمشق ليس نهاية المطاف للمعارضة، ولا يزال أمام دمشق الجديدة أشواط للوصول إلى الاستقرار السياسي. إلا أن هذه العملية استطاعت طمأنة الداخل والخارج حتى اللحظة، لأنها لم تشهد مواجهات عسكرية كبيرة نسبيًّا، ولم تحصل فيها عمليات انتقام أو اعتداء، واستمرت دورة الحياة منتظمة في المناطق بعد سقوطها، ويبدو أن دمشق في نفس الاتجاه بعد إعلان المعارضة إسقاط الرئيس بشار الأسد، خاصة أن أحمد الشرع الملقب بالجولاني، دعا مقاتليه إلى عدم الاقتراب من المؤسسات العامة، وأكد أنها ستبقى تحت إشراف رئيس الوزراء السابق حتى "تسليمها رسميًّا". كما رحب بها معظم السوريين إذا ما استثنيت منطقة الساحل السوري حيث مسقط رأس آل الأسد، التي لا تزال تتسم بحذر نسبي.

وهذا لا يمنع أن هناك مخاوف من المستقبل، لاسيما أن سوريا ما زالت مقسمة عمليًّا، فهناك حكومتان لدى فصائل المعارضة المسلحة نفسها، "حكومة الإنقاذ" و"الحكومة المؤقتة"، وما زالت منطقة الساحل محكومة بمخاوفها، كما أن مناطق شمال شرق سوريا تحكمها قوات سوريا الديمقراطية "قسد" بل وسَّعت من مساحة نفوذها بسيطرتها على مناطق النفوذ هناك حتى وصلت للحدود العراقية. فالمعارضة المسلحة تجاوزت كل الاعتبارات السياسية واجتمعت عسكريًّا تحت قيادة "الشرع" بغرفة عمليات رئيسية، وشنَّت هجومها تحت اسم "ردع العدوان". وهذا لم يمنع أن يشارك "الجيش الوطني" في العملية تحت اسم "فجر الحرية"، كما ظهرت قبيل الوصول إلى دمشق غرف عمليات أخرى في درعا وتضم قوى متعددة.

ستظهر عموم القوى السياسية المشكِّلة تاريخيًّا للاجتماع السياسي السوري في الساحة السياسية بعد سقوط نظام الأسد الذي دفعها إلى الانزواء أو الاختفاء سياسيًّا. وتضم سوريا اتجاهات وأيديولوجيات متعددة، وخليطًا من الديانات والمذاهب والعرقيات، وهذه بمعظمها بقدر ما هي ممتنة لنهاية النظام القديم ولا تريد استمرار حكمه أو ما يشبهه، فهي أيضًا تتوقع نموذج حكم أكثر انفتاحًا ولا يشبه نموذج إدلب. تبدو المعارضة المسلحة مدركة لهذا الواقع، وتحاول طمأنة الجميع بدءًا من اللحظة الأولى لانطلاق عمليتها، إلا أن "الخلفية الإسلامية" لمعظم المعارضة المسلحة، والجذور التاريخية "الجهادية" لبعضها لاسيما هيئة تحرير الشام، ستبقى تثير الشكوك بانتظار اتضاح المرحلة الانتقالية أو بعض خطواتها على الأقل.

إن ما تواجهه سوريا هو الاستمرار في إدارة البلاد وتجنيب وقوعها في الفوضى، وإدارة الحوار السوري بين أطرافها لتحديد طريقة وخطوات مرحلة الانتقال السياسي، بدءًا بالدستور وانتهاء بإعادة بناء المؤسسات السياسية والاقتصادية وسواهما، فضلًا عن إعادة تعريف علاقات سوريا مع الخارج ومحيطها الإقليمي فضلًا عن الدول العربية.

تحديات الخارج

فشلت الثورة في سوريا، عام 2011، في بلوغ هدفها بإسقاط نظام الرئيس الأسد، وبالكاد حافظت على بقائها بعد تراجع وتآكل لمساحة سيطرتها، لأن المجتمع الدولي بقيادة واشنطن سخَّر كل مقدراته لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية ودولته، في حين أن أهم الدول العربية كانت تنظر بريبة إلى عموم الثورات العربية وثورة سوريا منها، بسبب خلفيتها الإسلامية الغالبة أو بسبب طبيعتها التغييرية، فغيَّرت موقفها من عموم الثورات في وقت مبكر. واستطاع حلفاء النظام، إيران وروسيا، أن يعيدا إحياء النظام السوري بدعمهما المطلق له تحت عنوان محاربة "الإرهابيين والتكفيريين"، فتمدد نفوذ إيران في المنطقة بشكل سريع ومتعاظم، وكرست روسيا من وجودها العسكري في حميميم، القاعدة الجوية في اللاذقية، وفي قاعدة طرطوس البحرية. أما إسرائيل فكان الاعتراض الأكبر لها على تغيير حكم الأسد، بسبب خشيتها من القوى الإسلامية الغالبة على "الثورة" في سوريا أو على المعارضة السورية المسلحة، خاصة أن تغير الحكم في مصر حينها جاء بإسلاميين إلى السلطة في مصر، أي حكم الرئيس المصري الراحل، محمد مرسي.

يبدو أن المعارضة المسلحة بالمقابل اليوم، استطاعت الاستفادة من النافذة الجيوسياسية التي فُتحت أمامها، فتركيا حسمت موقفها من عدم جدوى إعادة التواصل مع الرئيس الأسد بعد أن رفض التفاوض معها وبوجه خاص لحل مشكلة اللاجئين، في وقت كان قد أصبح التمدد الإيراني عبئًا على المنطقة عمومًا، خاصة من إسرائيل لأن وجود الجماعات المؤيدة لإيران على حدود "إسرائيل" مع سوريا ولبنان كان مبعث قلق لها، فتخلت عن اعتراضها على تغيير حكم الرئيس الأسد لأنها تريد من سوريا أن تكون عازلة لإيران عن المشرق بعد عقدها لوقف "إطلاق نار" مع لبنان، على أمل أن تقطع خط إمداد حزب الله الممتد من طهران مرورًا بالعراق وسوريا وصولًا إلى لبنان. وأضف إلى ذلك أن حزب الله، وكان يشكِّل القوة البرية للدفاع عن النظام، تلقى ضربات في الحرب الأخيرة أضعفته في لبنان، في حين تركزت أولوية روسيا على الحرب الأوكرانية وخففت من وجودها العسكري في سوريا. أما واشنطن فهي معنية بإضعاف النفوذ الإيراني في عموم المنطقة، لهذا دعا ترامب إلى عدم تدخل أميركا في هذه المواجهة.

إن هذا التغير الجيوسياسي الذي سمح للمعارضة المسلحة بالانتصار في حربها على النظام، ليس بالضرورة أن يساعدها على تحقيق الاستقرار في سوريا. فإسرائيل عبَّرت عن خشيتها من وصول "قوى إسلامية" إلى الحكم، وتريد من استقرار سوريا أن لا يكون مهددًا لها ولا أن يكون حاملًا لأي قوة أو سلاح يهددها. أما العراق فهو يخشى من وصول "هيئة تحرير الشام" إلى الحكم على وجه الخصوص إذ كان يصفها بـ"التكفيرية"، كما يخشى لبنان من عدم انتظام الوضع في سوريا ومن ارتداداته على الوضع اللبناني الهش، سواء فيما يتعلق بالأمن أو عودة تدفق اللاجئين إليه. والجدير بالذكر أن حزب الله اللبناني وميليشيات عراقية مدعومة من إيران شاركت في الحرب السورية إلى جانب الرئيس الأسد.

أما الدول العربية فقد كانت بعيدة عن الوضع السوري مؤخرًا، فهي لم تكن جزءًا من مسار أستانة، الذي ضم روسيا وتركيا، ولم تبذل جهدًا لتكون منه. ومع توقف مسار جنيف الدولي القائم على القرار 2245، الذي يدعو إلى حل دولي بمرحلة انتقالية ودستور جديد وما إلى ذلك، اقتصرت الدول العربية إما على تطبيع بعض علاقاتها بالرئيس الأسد أو وضع مسافة ما معه، وبسقوط نظامه اليوم ستعود إلى مراعاة مصالحها المختلفة في دمشق، لكنها لن تضع مخاوفها جانبًا بسهولة من المسار الجديد ولا من الفاعلين الأساسيين فيه، فهي بحاجة لمعرفته واختباره قبل تحديد موقفها منه.

خاتمة

أسهمت عوامل عدة في سقوط نظام الرئيس الأسد بسرعة لم تكن متوقعة، منها: تغير الظروف الجيوسياسية في الإقليم لصالح المعارضة، وضعف الجيش السوري وانهياره السريع، وتمكن المعارضة السورية في إدلب من إعادة تعزيز قوتها وسمعتها بما يكفي لعدم وقوف الخارج ضدها أو وقف هجومها. وجاء انتصارها السريع دون مواجهات مكلفة نسبيًّا، لأن سقوط نظام الرئيس الأسد لطالما كان مطلبًا شعبيًّا؛ ما سهَّل من مهمة المعارضة السورية وعزز من اندفاعة هجومها إلى العاصمة، دمشق.

إلا أن مسار العودة إلى الاستقرار يكتنفه الكثير من الغموض، فلا تزال سوريا موزعة على قوى محلية عدة بينها خلافات سياسية معقدة وبعضها مسلح أو له عمق شعبي، فضلًا عن استمرار وجود قوات أجنبية على أرضها: الأميركيون في شمال شرق سوريا، والقواعد الروسية في منطقة الساحل.

 

 

نبذة عن الكاتب