مقدمة
تمكنت قوات المعارضة السورية، في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، من اقتحام سجن صيدنايا سيء الصيت، والذي سمَّته منظمة العفو الدولية المسلخ البشري، في تقرير أعدته في 7 شباط/فبراير 2017، وتحرير كافة المعتقلين منه وذلك بعد دخولها العاصمة السورية، دمشق، وهروب الرئيس السوري، بشار الأسد. وقد نقلت وسائل الإعلام، والتواصل الاجتماعي صورًا مروعة من السجن ذكرتنا بمقولة الفيلسوفة الألمانية اليهودية، حنا آرنت (Hannah Arendt) "تفاهة الشر"(the banality of evil).
لو قُدِّر للفيلسوف الفرنسي الشهير، ميشال فوكو (Michel Foucault) ، معاينة سجون النظام السوري البائد، وهندستها وما تحويه من زنازين تحت الأرض لراجع ما كتبه عن السجون وعن "البانوبتيكون" (Panopticon)(1)، وهو تصميم لسجن وضعه، في 1791، أحد أشهر فلاسفة عصر الأنوار الفيلسوف البريطاني جيرمي بينثام (Jeremy Bentham).
كل هذا يجعل المرء يتساءل: ما الذي دفع أناسًا إلى اقتراف تلك الجرائم، هل هم مجرد "أناس عاديين" ينفذون الأوامر، أم مجرمين تحركهم نوازع أيديولوجية وطائفية؟
سجن صيدنايا وهندسته
يقع السجن قرب دير صيدنايا على بعد 30 كيلومترًا شمال العاصمة دمشق، افتُتح سنة 1987 لاحتجاز آلاف السجناء من المدنيين أو المعارضين للحكومة أو السجناء السياسيين. ويُشار إليه بأنه أكثر السجون سريةً وقسوةً، وهو رمزٌ للتعذيب والاعتداء الجنسي والإعدامات الجماعية. يتميز سجن صيدنايا بتصميم فريد يجعله أحد أشد السجون العسكرية تحصينًا. يتكون كل مبنى من 3 طوابق لكل منها جناحان، ويحتوي الجناح الواحد على 20 مهجعًا جماعيًّا بقياس 8 أمتار طولًا و6 أمتار عرضًا، تتراص في صف واحد بعيدة عن النوافذ، لكن تشترك كل 4 منها في نقطة تهوية واحدة. نقطة المسدس هي منطقة تلاقي المباني الثلاثة، وهي النقطة الأكثر تحصينًا في السجن، توجد فيها الغرف الأرضية والسجون الانفرادية. وفيها كذلك حراسات على مدار الساعة لمراقبة المساجين ومنعهم من مشاهدة أي ملمح من ملامح بناء السجن أو وجوه السجَّانين. إن تصميم سجن صيدنايا يذكرنا بسجن بنثام المومأ إليه، وهو نوع من أبنية السجون عبارة عن "زنازين ذات شبابيك واسعة على شكل حلقة دائرية يتوسطها برج مراقبة". تكون هذه الزنازين متاحة لمراقبة الحارس القابع في البرج ولكن لا يمكن للسجين معرفة فيما إذا كان الحارس يراقبهم في ذات اللحظة. إن هذه النظرة المحدقة الخارجية، من البرج، للسجين الغارق في الضوء تجعله يبدو موضوعًا خاضعًا للرقابة أي إنه يتم تشيئة الإنسان واختزاله إلى غرض مراقَب.
يقوم السجناء باستبطان هذه النظرة المحدقة الخارجية، من طرف الحارس في البرج، إلى نظرة محدقة داخلية، ويتحولون من مجرد مراقَبين إلى مراقِبين لأنفسهم. وهكذا حتى لو لم يكن الحارس في البرج وزالت العين المحدقة الخارجية فإن هذه العين المحدقة الداخلية ستظل تراقبهم، وسترافقهم حتى لو خرجوا من سجن "البانوبتيكون".
إن الهندسة، وفقًا لميشال فوكو، ليست علمًا رياضيًّا خالصًا ولا فنًّا مجردًا، ولكنها هي هذه المعارف والإبداعات الموظفة في خدمة مفاهيم الانضباط(2). ويقول فوكو: إن الدولة الحديثة، العاقلة المستنيرة، قد شكَّلت مجتمعها على هيئة "بانوبتيكون" ضخم. هذه الدولة العاقلة المستنيرة، فما بالك بدولة عائلة الأسد!
لقد أوضح فوكو جوهر العقاب الحديث من خلال وصف تصميم بنثام، ففي نظره فإن "البانوبتيكية" (نسبة إلى "البانوبتيكون"، وهي مصطلح آخر جديد) كناية عن جميع أشكال السلطة الحديثة في أكثر صورها خبثًا: في نهاية المطاف، سوف يستوعب السجناء في "البانوبتيكون" مراقبة الحارس المستمرة ويصبحون حراسًا على أرواحهم.
إن نظام سجون الأسد فريد في نوعه تجاوز "البانوبتيكية" بشكل لا يخطر على بال ويفوق الخيال. وبما أن سجن صيدنايا يشكل أبشع نموذج لهذا النظام، فيمكن أن ننسج على منوال فوكو ونسميه "الصيدناتكية"؛ لأن السجان لا يملك سلطة مراقبة السجناء، والحصول على الإتاوات من ذويهم فحسب، إنما كذلك صلاحية مطلقة لتعذيبهم أبشع أنواع العذاب وقتلهم دون رقيب أو حسيب.
صيدنايا: "تفاهة الشر" أم "امتثال اجتماعي"؟
إن الجرائم التي اقترفها نظام الأسد في حق الشعب السوري في سجن صيدنايا وفي غيره من السجون روعت العالم كما روعته من قبل قيام أمة أوروبية "حديثة" و"متحضرة"، ألمانيا، بتنفيذ إبادة جماعية منهجية للملايين شكَّلت موضوعًا خصبًا لدراسات من تخصصات شتى. ومن الأمثلة المثيرة للعواطف التي تحيط بالتفسيرات المتضاربة في هذا المجال ما حدث في تسعينات القرن العشرين مع نشر كتابين رفيعي المستوى، وهما: كتاب كريستوفر براونينج، "كتيبة الشرطة الاحتياطية 101 والحل النهائي في بولندا" (Christopher Browning, Ordinary Men: Reserve Police Battalion 101 and the Final Solution in Poland)، الذي صدر في 1992، وكتاب "جلادو هتلر الراغبون في التنفيذ: الألمان العاديون والمحرقة" (Daniel Jonah Goldhagen, “Hitler's Willing Executioners: Ordinary Germans and the Holocaust)، الصادر في 1996. وقد كُتب هذا الكتاب الأخير في جزء كبير منه رد فعل على براونينج. تصارع كلا الباحثين مع القضية التي تناولتها الفيلسوفة حنا أرندت في عبارتها التي لا تُنسى "تفاهة الشر": ما الذي جعل "أشخاصًا مثلنا" من المواطنين الملتزمين بالقانون، ورواد الكنيسة الأتقياء، وأفراد الأسرة المخلصين، يتغاضون أو يتعاونون بنشاط في القتل الجماعي لأشخاص لم يُلحقوا بهم أي أذى؟
تستند دراسة براونينج على مجموعة من السجلات، وهي عبارة عن استجوابات قضائية في ستينات القرن العشرين لـ125 عضوًا من كتيبة الشرطة الاحتياطية 101، وهي سرية من جنود الاحتياط الألمان الذين نفذوا أوامر بإطلاق النار وقتل حوالي ثمانية وثلاثين ألف يهودي بولندي في عشرات المواقع المختلفة بين عامي 1942 و1943. كان أبطال براونينج "عاديين" بالفعل: رجال في منتصف العمر من ذوي المكانة المتواضعة من مدينة هامبورج الألمانية، وكان معظمهم يشغلون وظائف من ذوي الياقات الزرقاء في الحياة المدنية. وكان ربعهم فقط ينتمون إلى الحزب النازي عند قيامهم بأول عملية لهم، في 13 يوليو/تموز 1942، في وقت مبكر من صباح ذلك اليوم أبلغهم قائدهم بالمهمة غير السارة التي كانت تنتظرهم: كان عليهم إطلاق النار على حوالي 1500 يهودي. وأخبرهم وهو مستاء بشكل واضح أن أيًّا من الرجال الأكبر سنًّا من بينهم يمكنه الانسحاب من المهمة إذا شعر بعدم قدرته على تنفيذها. من أصل كتيبة قوامها حوالي خمسمئة فرد، رفض عشرات فقط في البداية المشاركة؛ وخلال اليوم، طلب حوالي 10 إلى 20% آخرين إعفاءهم من المهمة التي وجدوها مرهقة عاطفيًّا. وساد النمط نفسه مع تنفيذ الوحدة المزيد من المجازر حتى نوفمبر/تشرين الثاني من 1943: لم تطلب سوى أقلية صغيرة فحسب إعفاءها من المشاركة، على الرغم من أنه لا يوجد دليل على أن أيًّا من المجندين كان سيواجه أي عواقب سلبية لاختياره عدم المشاركة، باستثناء شعوره بالخجل من التهرب من "واجبه".
حدد "براونينج" في النهاية العامل الحاسم في ديناميكيات الكتيبة؛ فقد اختار 80 إلى 90 بالمئة من الرجال الذين نفذوا عملية القتل، على الرغم من نفورهم من المهمة وامتلاكهم خيار الرفض، القيام بذلك بدافع احترامهم للسلطة وخوفهم من أن يتم رفضهم من قبل إخوانهم إذا رفضوا تحمل نصيبهم من الواجب غير السار. لم يرغبوا بشكل خاص في إطلاق النار على الضحايا، ولكنهم لم يرغبوا بشكل خاص في أن يتجنبهم الرفاق والرؤساء الذين كانوا يشكلون في هذه المرحلة عالمهم بأكمله. وبالتالي، فإن استنتاجات براونينج لا تتعلق بـ"تفاهة الشر" بقدر ما تتعلق بالآثار المروعة للامتثال الجماعي.
أثار قرار "براونينج" بعدم إبراز الدوافع المعادية للسامية حفيظة عالم سياسي شاب من جامعة هارفارد، وهو دانيال جوناه جولدهاجن، الذي نشر مراجعة لاذعة لكتاب "Ordinary Men ... " في الصحافة الشعبية، واشتكى من أن "براونينج" يأخذ تصريحات أعضاء الكتيبة على ظاهرها، وبالتالي "يقلل من معاداة الألمان الفريدة والعميقة الجذور للسامية إلى أكثر من مجرد مظهر واحد من مظاهر ظاهرة نفسية اجتماعية مشتركة"، وكتب أن هؤلاء لم يكونوا "رجالًا عاديين" بشكل عام، بل "أعضاء عاديين في ثقافة سياسية غير عادية". وبعد أربع سنوات نشر "جولدهاجن"، الذي يرى معاداة السامية القاتلة بحماسة على أنها مكوِّن أساسي في الثقافة الألمانية منذ قرون، كتابه المومأ إليه.
إن أطروحة كتاب "جولدهاجن" صريحة وواضحة: "كانت معتقدات الألمان المعادية للسامية تجاه اليهود هي العامل الرئيسي في جرائمهم ضدهم. والاستنتاج الذي توصل إليه هذا الكتاب هو أن معاداة السامية حرَّكت عدة آلاف من "الألمان العاديين" وكانت ستحرك ملايين آخرين لو كانوا في وضع مناسب لذبح اليهود". يحدد الكتاب مصدر هذا الدافع المشترك على نطاق واسع للإبادة الجماعية فيما يصفه المؤلف بأنه تقليد ألماني لم ينقطع منذ العصور الوسطى يعتقد أن التأثير اليهودي كان سامًّا وأنه يجب إزالة اليهود من المجتمع الألماني. ويجادل بأن الباحثين يخطئون الهدف عندما يتساءلون بشدة عن سبب وجود كثير من أعضاء ثقافة يفترض أنها عقلانية ومستنيرة قادرين على فعل ما فعلوه. ويؤكد أن الألمان لم يكونوا "طبيعيين"، ولم يكونوا "أناسًا مثلنا"؛ فقد تسممت ثقافتهم بمعاداة السامية.
يتوصل "جولدهاجن" إلى استنتاج معاكس، وهو أن السواد الأعظم من أفراد الكتيبة 101 التابعة للشرطة الذين شاركوا في القتل لم يكن دافعهم ضغط الأقران أو الطاعة أو النزعة المهنية، بل الرغبة النشطة في ذبح اليهود(3).
بناء على ما سبق وجوابًا عن سؤال هذا التعليق، هل تنطبق عبارة "تفاهة الشر" لحنا آرنت، في وصفها لأفعال المجرم النازي، كارل أدولف إيخمان (Karl Adolf Eichman)، على جلادي "المسلخ البشري"، صيدنايا بعد أن عمل نظام الأسد الشمولي على مسخ الإنسان السوري كما فعل النظام النازي الألماني، الذي درسته الفيلسوفة آرنت، بالإنسان الألماني، وحوله من فاعل إلى كادح، وجعله محصورًا بما يحتاجه لقوته دونما ما يجب أن يفعله باعتباره حرًّا؛ لذلك أطلقت آرنت عبارة "تفاهة الشر"، وصفًا لما قام به إيخمان من إبادة بصورة لا تتضمن شرًّا متجذرًا في ذاته بل لتفاهته؛ لأن السلطة التوليتارية (الشمولية) تجعل مرتكبي الجريمة بإيعازها لا يشعرون بفظاعتها ومأساويتها، وإنما بأنها أمر عادي، وما القائم بهذه الجرائم إلا أداة لها لا يعي مسؤوليته تجاه الإنسانية بل تنفيذه قرارات إدارية وبطاعة عمياء لا غير(4) أم أن ما اقترفه مجرمو صيدنايا في حق الشعب السوري من جرائم مروعة كان، بدافع احترامهم للسلطة وخوفهم من أن يرفضهم إخوانهم إذا رفضوا تحمل نصيبهم من الواجب، كما ذهب إلى ذلك براونينج. ولم يرغبوا بشكل خاص في اقتراف ما اقترفوه، ولكنهم لم يرغبوا بشكل خاص في أن يتجنبهم الرفاق والرؤساء الذين كانوا يشكلون في هذه المرحلة عالمهم بأكمله؟
يبدو أن جلادي صيدنايا لم تكن لهم حرية الاختيار، التي كانت لمجرمي النازية، وفقًا لبراونينج، لكن يمكن أن نزيد على ما سماه براونينج "الامتثال الجماعي"، "الامتثال الطائفي"؛ فالأقلية التي كانت تحكم سوريا كانت تحركها نوازع طائفية تجاه الأغلبية؛ لأنها كانت تراها تشكل خطرًا وجوديًّا عليها. أم أنهم كانوا يفعلون ذلك بدافع الرغبة النشطة في تعذيب وقتل السجناء، كما كان يفعل النازيون، وفقًا لاستنتاج جولدهاجن؟
إن ما اقترفه مجرمو نظام الأسد طوال نصف قرن من الجرائم يحتاج إلى دراسة معمقة لمعرفة دوافعهم الحقيقية، اعتمادًا على شهاداتهم وشهادات الضحايا والوثائق المتاحة، حتى يتسنى الوصول إلى نتائج موثوقة. فبراونينج وجولدهاجن فحصا الأدلة نفسها، وسألا الأسئلة نفسها، لكنهما توصلا إلى استنتاجات مختلفة تمامًا. فالمؤرخون البارزون الذين درسوا الإبادة النازية يتفقون، كما تقول المؤرخة سارة مازا (Sara Maza)، على أن الطريق إلى الإبادة الجماعية التي ارتكبها النازيون كان طريقًا ملتويًا ينطوي على العديد من الحالات الطارئة، وليس خطًّا مستقيمًا من كراهية اليهود إلى الإبادة.
(1) شكل معماري لسجن، نشر رسوماته جيرمي بنثام يتألف من هيكل دائري ذي سقف زجاجي يشبه الخزان مع زنازين على طول الجدار الخارجي متجهة نحو مَبْنَى مستدير تعلوه قبَّة؛ وكان بإمكان الحراس المتمركزين في المبنى إبقاء جميع النزلاء في الزنازين المحيطة تحت المراقبة المستمرة. على الرغم من أن فكرة بنثام المبتكرة لم يتم تبنيها بالكامل في خطط المؤسسات العقابية التي تم بناؤها في ذلك الوقت، إلا أن خطته الشعاعية كانت مؤثرة على الفور، وكان لتصميمه تأثير واضح على البناء في وقت لاحق. على سبيل المثال، يتضمن مركز ستيتفيل الإصلاحي، وهو سجن بالقرب من سجن جولييت بولاية إلينوي في الولايات المتحدة، السمات الأساسية لـ"البانوبتيكون".
“Panopticon penal architecture”, Britannicam. https://www.britannica.com/technology/panopticon
(2) ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة ولادة السجن، ترجمة علي مقلد، مراجعة وتقديم مطاع صفدي، بيروت، مركز الإنماء العربي، 1990، ص 36 (مقدمة المُراجع).
للاستزادة من هذا الموضوع، انظر الصفحة 138 وما بعدها من كتاب،
(3) Sarah Maza, Thinking about History, The University of Chicago Press, Chicago and London. 2017.
(4) لتراجع الترجمة العربية لكتاب حنا آرنت بعنوان، "إيخمان في القدس، تقرير حول تفاهة الشر" ص 17-19.