الحكم الجديد في دمشق: تحديات الهوية ومرحلة الانتقال السياسي

يعتمد الحكم الجديد في سوريا على كوادر النظام السابق في تسيير الشؤون الخدمية والإدارية مع تغييرات طفيفة، ويعتمد أيضا على إجراء تسويات مستقبلية مع شبكات "اقتصاد الظل"، ويُعوّل على تدفّق المساعدات ورفع العقوبات الدولية وتحرير الأموال المحجوزة، إضافة إلى آماله باستقطاب استثمارات خليجية وإقليمية تنعش الاقتصاد.
7 يناير 2025
حمل خطاب الشرع شعارات وطنية، وتوجه نحو مختلف طوائف المجتمع السوري برسائل طمأنة واعتبارهم شركاء (الفرنسية).

مقدمة

تشهد دمشق لأوّل مرّة حكمًا جديدًا بعد سقوط حكم آل الأسد الذين استولوا على السلطة أكثر من نصف قرن، بعدما نجحت المعارضة السورية المسلّحة في الإطاحة بهم في عملية عسكرية خاطفة ومتدحرجة استمرّت 12 يومًا فقط(1)، مستغلّة الظروف الإقليمية والدولية المعادية لإيران وحلفائها في المنطقة عقب الحرب الإسرائيلية على غزة. لتنتصر المعارضة بعد مضي قرابة 14 عامًا على انطلاق الثورة السورية، المنبثقة من "ثورات الربيع العربي".

جمعت هيئة تحرير الشام مجموعة من فصائل المعارضة السورية المسلحة ضمن غرفة عمليات موحدة حملت اسم "ردع العدوان"، وشنت هجوما من إدلب في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 على مدينة حلب، أكثر معاقل النظام السابق تحصينًا، وقد جاء هذا الهجوم ليكسر أطول تهدئة في الصراع، وهي التهدئة التي استمرّت أكثر من 4 أعوام برعاية من ضامني مسار أستانا، تركيا وروسيا وإيران.

سيطرت المعارضة على حلب بسرعة قياسية، لتطوّر هجومها نحو حماة التي أعاد النظام تجميع قواته فيها، لكن سرعان ما انهارت تلك القوات وتلاشى وجودها من عموم البلاد، ليهرب بشار الأسد نحو موسكو بتاريخ 8 ديسمبر/كانون الأول، ويدخل قائد هيئة تحرير الشام، أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) العاصمة دمشق ويفتتح مرحلة حكم جديدة في سوريا، يتصدّر مشهدها مؤقتًا على أقل تقدير(2).

تبحث هذه الورقة في هوية الحكم الجديد والنموذج الذي يسعى إليه، والتحديات التي ستواجه سوريا في المرحلة الانتقالية، وكيف ستكون تداعيات واتجاهات المستقبل السوري في ظل الظروف المحلية والدولية الراهنة.

أولًا: هوية الحكم الجديد

حمل خطاب قائد هيئة تحرير الشام، أحمد الشرع، إلى السوريين شعارات وطنية غير فصائلية، وتوجه نحو مختلف طوائف المجتمع السوري ولاسيما الدروز والعلويين والمسيحيين والشيعة، برسائل طمأنة بحفظ حقوقهم واعتبارهم شركاء في سوريا المستقبل(3). ولم يستدعِ الشعارات والرموز الإسلامية التي كان يرفعها عندما حكم إدلب وغابت الشعارات "الجهادية" أثناء المعركة ولدى انتزاع السلطة، لكنه اعتمد في التعيينات بالمراكز العليا على شخصيات يثق بها، وتحمل هوية إسلامية بطبيعة الحال(4).  

لم يُحدث الشرع أي تغيير في شكل الدولة وماهيتها، فأبقى على وسمها بالجمهورية العربية السورية، ولم يمس دستور البلاد القائم، ولم يحل مجلس الشعب، تاركًا ذلك للمؤتمر الوطني العام الذي يُخطط لعقده مطلع العام الجاري (2025)، والموكل إليه مهمة رسم خريطة طريق للمرحلة الانتقالية والتأسيسية. ولا يبدو أنّه يُخطط لدعم أي تغييرات كبيرة في شكل الحكم السابق، الذي ارتكز عليه في عملية تصريف الأعمال وإرسال الطمأنات إلى المجتمع الدولي والإقليمي الساعي للحفاظ على استقرار سوريا وأمنها، وكونها دولة موحدة؛ إذ يسعى الشرع لمواجهة أي مطالب بإنشاء هياكل حكم لا مركزي، ولا سيما أن هناك مساحات كبيرة من البلاد لا تزال تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، وهي جزء من مشروع الإدارة الذاتية لحزب الاتحاد الديمقراطي الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني الذي يُطالب بتطبيق اللامركزية السياسية في سوريا.

وعلى الصعيد الاقتصادي، توجه الحكم الجديد مباشرة إلى تبني تغيير في شكل الاقتصاد السوري، ليكون قائمًا على السوق الحر، مع استمراره في بعض سياسات السوق الاجتماعي التي تفرضها حالة الاقتصاد المنهك؛ بسبب "فساد الحكم" السابق والحرب، وهو مسار اضطر بشار الأسد إلى الدخول فيه شكليًّا مطلع عام 2005 وجمّده بعد عام 2011 ليستأنفه عام 2024؛ إذ أعاد هيكلة بعض الشركات والمؤسسات التابعة للقطاع العام وجمّعها في مؤسسات كبرى تمهيدًا لمتطلبات السوق الحر ومنها الخصخصة. ويتوجه الشرع بجدية على ما يبدو لتنفيذ هذه الإجراءات باعتبارها جاذبة للاستثمارات ومصدرًا لتأمين الأموال الساخنة وتحقيق خفض للنفقات العامة(5).

كما حلّ الحكم الجديد المؤسسة العسكرية وجميع الأجهزة الأمنية، إضافة إلى جهاز الشرطة في جميع المحافظات، من دون أن يُحدد مصير المنتسبين إليها، باستثناء إجراء التسويات التي تُوقف ملاحقتهم، وفي المقابل أنيطت بوزارة الدفاع وجهاز الاستخبارات ووزارة الداخلية في حكومة الإنقاذ، مهمة تشكيل هياكل جديدة للجيش والأمن والشرطة، أما إحلال الأمن في البلاد في هذه الفترة، فتقوم به القوى العسكرية والأمنية التابعة لحكومة الإنقاذ والهيئة وشركائها، التي كانت لا تكاد تغطي إدلب، وانتشرت حاليًّا في 10 محافظات، مع فتح باب التطوع للكوادر الشرطية.

يُحاول الشرع أن يُظهر الحكم الجديد بصورة مدنية غير عسكرية؛ وقد غيّر بعد دخوله دمشق زيه العسكري إلى مدني رسمي، ومنع المظاهر العسكرية داخل المدن، من إقامة مقرات، وانتشار المسلحين في الشوارع. واستخدم الأدوات المدنية لا العسكرية في تنفيذ السياسات الخدمية والإدارية؛ فاستدعى "حكومة الإنقاذ" من إدلب، لتتولى مهام حكومة النظام السابق، وعيّن محافظين ومشرفين ومديرين على المؤسسات الحكومية من الجهات المدنية التي كان يعتمد عليها في حكم إدلب، لكن مع الإبقاء على الأدوات الأمنية والعسكرية لفرض السيطرة ومنع انتشار الفوضى -وليس لترتيب الانتقال السياسي الذي يرتب له الشرع نفسه- مقسِّمًا المدن إلى قطاعات أمنية، يُشرف على كل منها مسؤول ملف أمني سابق في هيئة تحرير الشام، دون أن يكون لهم دور أو تدخل في السياسات الخدمية والإدارية الموكلة للحكومة الجديدة(6).

ثمّة حرص لدى الشرع على إظهار الحكم الجديد الراهن على أنه جزء من مرحلة انتقالية فحسب، ولكن قد تكون طويلة، معوِّلًا على إنجاز تفاهمات دولية تمنع عرقلة الانتقال السياسي للحكم. ويبدو ذلك بالنسبة له أكثر جدوى من التوصّل إلى توافق مع أطياف المعارضة. ومن الواضح أنّ الشرع لا يريد أن يُخضع الحكم الجديد للمحاصّة الطائفية أو السياسية أو الفصائلية؛ وقد اعترض على مشاركة المعارضة السورية بكياناتها القائمة في المؤتمر الوطني المرتقب في دمشق، داعيًا أفرادها إلى المشاركة فيه بصفتهم الشخصية والسياسية لا التمثيلية(7). ولم يمنح قادة الفصائل أي وعود أو امتيازات بوصفهم قادة محاربين، في بنية الحكم الجديد(8). في المقابل، يريد الحكم الجديد مركزية القرار وتسيير أعمال المرحلة الانتقالية بأدوات يُشرف عليها مباشرة دون مشاركة من أي جهة أخرى، سواء من المعارضة السياسية في الخارج أو شركائه في المعركة؛ حيث يُظهر "اضطراره" إلى سياسة التفرّد في مجمل القرارات، بدعوى أنّ المرحلة الراهنة تحتاج إلى انسجام قيادة الإدارة الجديدة في البلاد. وهناك حرص أيضا على عدم إظهار الحكم الجديد نموذجا ثوريا انتزع السلطة بالقوة، ليتجنّب إثارة تحفظات بعض الدول العربية، ولا سيما التي اندلعت فيها ثورات الربيع العربي؛ لأن سردية انتصار الثورة في سوريا تُشكّل فرصة لاستحضار آمال التغيير، لكن بالقوّة هذه المرّة(9).

قد يكون نموذج الحكم الجديد في دمشق قد استعار فعليا أدوات إدارة الانقلاب العسكري رغم أنه لم يكن كذلك ولا يريد أن يكون كذلك في إدارته الجديدة، فهو يريد الاستفادة القصوى من هذه الأدوات لتثبيت الحكم إلى حين تحقق الانتقال الإداري والحكومي؛ حيث نقل الملفات من حكومة النظام إلى حكومة تصريف الأعمال، وأبقى على المؤسسات ووضع مندوبين مشرفين داخلها(10)؛ ليتمكن من التغلغل فيها بما يُحقق له انتقالًا سلسًا للسلطة، وهي سياسة سبق أن جرّبها خلال فترة تحالفاته مع الفصائل والمعارضة في إدلب.

فعليًّا لم يمتلك الحكم الجديد بعدُ نموذجًا قانونيًّا قابلًا للقياس؛ فهو ما زال أقرب إلى استيلاء تنظيم مسلّح على السلطة له أذرع للحكم والإدارة، مستعيرًا من نماذج الإدارة ما يناسب وضعه للتحول إلى كيان منظم يُشكّل الحكم ويُسيّر عملية الانتقال السياسي والمؤسساتي، ويسعى للإبقاء على الدولة محمولة بروافع حكم الهيئة، بعيدًا عن المحاصّة، وباستفراد واضح يهدف للاستقرار بعيدًا عن التقسيم والنزاع الخارجي والداخلي، وبالاعتماد على بيئة أمنية تراعي الشروط الغربية وتُرحّل المشاكل الداخلية.

ثانيًا: تحديات تواجه الحكم الجديد

لم يُبدِ الشرع القلق من وجود أي أخطار تُهدّد الحكم الجديد، في محاولة لإظهار الارتياح إزاء المرحلة القائمة، رغم أنّ هناك جملة من التحديات التي تواجهه، ويسعى بالفعل لتذليلها، مثل الحصول على الاعتراف الدولي بالسلطة الجديدة وإزالة هيئة تحرير الشام من تصنيفها وقيادتها على "قوائم الإرهاب"، إضافة إلى مشكلة عدم الاستقرار الأمني، واستيعاب الحالة الفصائلية والأقليات، ومواجهة أخطار "الإرهاب" والتنظيمات الانفصالية والجهادية، فضلًا عن قضية التعامل مع المعارضة الخارجية، وتحقيق الانتقال السلس في إدارة الشؤون الخدمية والإدارية، وأخيرًا رفع العقوبات عن سوريا، وتعديل القرارات الدولية التي قد تقف عائقًا أمامه في المرحلة الانتقالية.

يستحوذ الاعتراف الدولي ورفع الهيئة وقائدها من قوائم الإرهاب على الحصة الكبرى من التحديات التي تواجه الحكم الجديد في دمشق؛ إذ تم وضع شروط دولية واضحة ومتباينة، فالولايات المتحدة وضعت معايير لدعمه(11)، وهي: حماية الأقليات، وتأمين الأسلحة الكيميائية وتدميرها، ومكافحة الإرهاب، وضمان تدفق المساعدات إلى كافة المحتاجين، وعدم إقامة حكم ديني خاصة على غرار النموذج الإيراني. وفي محاولة للاستجابة دعا الشرع منظمة الأسلحة الكيميائية إلى القدوم إلى سوريا وإزالة بقية المخزون الذي كان يحتفظ به النظام، ولم يُبادر بأي أعمال عسكرية ضد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تُعد شريكًا ميدانيًّا للقوات الأميركية في سوريا، بل أظهر الاستعداد للحوار معها، أي أنه بعث برسالة بأن الحكم الجديد لن يُعطّل مهمة "مكافحة الإرهاب"، مع التعهّد بأن تقوم السلطة الجديدة بمواجهة تنظيم الدولة (داعش). ويبدو أنّ تعيين وترفيع عدد من قادة هيئة تحرير الشام وبينهم أجانب ضمن وزارة الدفاع، يهدف لحشد جهوده العسكرية والأمنية لأجل ذلك، خصوصًا أنه اختبر سابقًا التعامل مع التنظيمات الجهادية بما فيها داعش.

بدورها طالبت الدول العربية التي اجتمعت في العقبة وأبرزها الأردن والإمارات ومصر والعراق ولبنان والسعودية(12)، بمكافحة الإرهاب والتطرّف بما يمنع عودة ظهور "الجماعات الإرهابية"، وأن لا تُشكّل سوريا تهديدًا لأي دولة أو مأوى للإرهاب، إضافة إلى ضرورة أن تكون المرحلة الحالية قائمة على حوار وطني وشامل وفق القرار 2254 (2015). بمعنى أنّ لدى هذه الدول مخاوف من مبدأ تصدير "الثورة المسلّحة" إلى المحيط واعتبار الحكم الجديد في دمشق أحد النماذج الناجحة للتغيير(13).

ورغم حرص الشرع على مراعاة المخاوف العربية، فإنه عيّن قادة الصف الأول في أجهزة الخارجية والاستخبارات والدفاع من الشخصيات المصنفة "إرهابية"، لأنها مقربة منه ويثق بها. في المقابل أبدى إمكانية العمل بموجب القرار 2254 بعد تطويره بما ينسجم مع الواقع السوري الجديد؛ لأن النظام السابق الذي كان يستهدفه القرار لم يعد موجودًا، وقرر إقامة مؤتمر للحوار الوطني تنتج عنه خريطة طريق للمرحلة الانتقالية تراعي تلك المخاوف، ويُحاول رعايته بعيدًا عن التدخلات الخارجية، لكن دون استعداء أي طرف دولي، فضلًا عن تقديم وعود بحل هيئة تحرير الشام بمجرد انعقاد المؤتمر، وإيجاد حل للمقاتلين الأجانب وحصر السلاح في سلطة الدولة فقط، وعدم السماح لأي مجموعة بتشكيل تهديد لأي دولة خارج سوريا(14).

في الواقع يُعوّل الشرع على دعم تركيا وقطر في طمأنة مخاوف بقية الدول لتحقيق الاستقرار في سوريا؛ فقد  افتتحت الدولتان سفارتيهما لتنخرطا بثقل كبير في دمشق، واعترفتا بالحكم الجديد دون وضع شروط باستثناء التأكيد على أهمية إيجاد بيئة آمنة تُسهّل الانتقال السياسي وعودة اللاجئين واستقرار البلاد، مثل دعم الحوار الوطني والحرص على مشاركة كافة أطياف المعارضة في الحكومة الانتقالية، وضمان خروج المقاتلين الأجانب من سوريا ولا سيما حزب العمال الكردستاني، وإيجاد حل للقضية الكردية على أساس وحدة سوريا وسلامة أراضيها.

من جانب آخر، يسعى الشرع لتبني سياسة صفر مشاكل مع المجتمع الدولي بما في ذلك روسيا وإيران، بغرض تسهيل الاعتراف بالحكم الجديد؛ ولذلك لم يضغط على موسكو لإغلاق قاعدتيها الرئيسيتين في طرطوس واللاذقية، وأبقى خطواته مع إيران قائمة على التصعيد مقابل التصعيد، وخاطب معظم الدول العربية كل على حدة لطمأنتها، وأولى السعودية اهتمامًّا خاصًّا ولا سيما في الاستثمارات القادمة في سوريا، مع حاجته إلى دعم خليجي وإقليمي من أجل حث الدول الغربية على رفع العقوبات عن سوريا والانخراط في دعم استقرارها وإعادة إعمارها.

لكن، يبدو أنّ الشرع ينظر إلى أنّ استقرار سوريا يتطلب توافقات داخلية والإمساك بالأمن إضافة إلى الإمساك بزمام "هيئة تحرير الشام" التي قد يعمل على حلها، وكذلك بالتنظيمات "الجهادية" التي ينوي سحب سلاحها وإيجاد حل لها، فضلا عن ملاحقة فلول النظام السابق وشل قدراتها. وهذا يعني أنّ المرحلة الانتقالية قد تطول 4 سنوات وأنّ أولوية الشرع ستكون خلال الفترة القادمة أمنية بامتياز.

بعيدًا عن التحديات السياسية والأخطار الأمنية هناك مشكلة تواجه الشرع على مستوى الموارد البشرية وإدارة الشؤون الخدمية في البلاد، فضلًا عن الانهيار الاقتصادي؛ حيث تسلّم دولة متآكلة لا تستطيع تغطية نفقات الموظفين ولا تأمين الاحتياجات الرئيسية للمواطنين من طاقة وغذاء. ويعتمد الحكم الجديد حاليًّا على كوادر النظام السابق في تسيير الشؤون الخدمية والإدارية مع تغييرات طفيفة في القيادات باستبدالها بأخرى من حكومة الإنقاذ، ويعتمد أيضا على إجراء تسويات مستقبلية مع شبكات "اقتصاد الظل" التي استخدمها النظام السابق، ويُعوّل على تدفّق المساعدات الدولية ورفع العقوبات الدولية وتحرير الأموال المحجوزة، إضافة إلى آماله باستقطاب استثمارات خليجية وإقليمية تنعش الاقتصاد وتدير عجلته.

ثالثًا: اتجاهات المستقبل

ترتسم اتجاهات مستقبل الحكم الجديد في سوريا بناء على الظروف الدولية ثم المحلية بدرجة أقل؛ إذ يسعى الشرع لتثبيت سلطته عبر انتقال سلس وخلال فترة ممتدة قدّرها بأربع سنوات، وهو أفضل سيناريو بالنسبة له، يستطيع خلالها إنهاء الأخطار الداخلية واحتواء أو تجاوز التحديات الخارجية وتحصيل اعتراف دولي، يُدخل سوريا في مرحلة الحكم الانتقالي التي تُشارك فيها الأطراف الداخلية السياسية والعسكرية، شاملة جميع المكونات والإدارة الذاتية الكردية، إضافة إلى المعارضة الخارجية. وتنفذ خلال هذه الفترة خريطة الطريق التي سيرسمها المؤتمر الوطني العام بما في ذلك صياغة إصلاح دستوري شامل يُحدد شكل الدولة ونظام الحكم الذي يُتوقّع أن يبقى على حاله دون تغييرات جذرية، وإعداد قوانين للانتخابات والأحزاب وإجراء انتخابات عامة محلية ونيابية ورئاسية مع انتهاء الفترة.

من الممكن أن يحتفظ الحكم الجديد بالسلطة بقوة الأمر الواقع، إذا لم يحصل على توافق دولي للاعتراف به، مكتفيًا بالدول التي تعترف به وتُقدّم الدعم له؛ وحينها سيواجه غالبًا عرقلة للانتقال السياسي السلس المخطط له؛ بسبب عدم قدرته على تنفيذ الشروط والمعايير الدولية المطلوبة لظروف محلية وداخلية أو نتيجة عدم انتظار بعض الأطراف مدة أربع سنوات لتحقيق الانتقال، والتعامل مع ذلك باعتباره مناورة سياسة لكسب الوقت والتفلّت من تنفيذ التعهدات المطلوبة. ويُتوقّع أن يقود هذا السيناريو الذي لا يُفضّله الشرع إلى دفعه لتشكيل نموذج من الحكم الديني قد يشبه في بعضه "نموذج إيران"، بمعنى استحضار فكرة "قائد الثورة" و"مجلس حماية الثورة" وحكومة سياسية تُدير الشؤون الخدمية والإدارية.

لا يعني وصول الشرع إلى السلطة والانفتاح الدولي على الحكم الجديد، أنه سيحقق بالضرورة انتقالًا سلسًا لسلطة معترف بها أو أنه سيحتفظ بها بالقوة الأمنية والعسكرية، فيُمكن أن ينبثق خلال الفترة الانتقالية حكم آخر منافس نتيجة عوامل محليّة ودولية؛ مما يدفع إلى تصوّر سيناريوهات سيئة، قد تشبه نموذج ليبيا أو تكون تشظّيًا للسلطة في سوريا إلى عدّة حكومات أو إدارات. وثمّة احتمال أيضا بأن يستبعد الشرع عن المشهد عبر حادث طارئ وقد يُدخل ذلك البلاد في حالة فوضى أيضا.

خلاصة

لا شكّ في أنّ ترتيبات اليوم التالي بعد حربي غزة ولبنان، والحرب الأوكرانية، أسهمت في إسقاط النظام السوري ووصول المعارضة السورية المسلّحة إلى الحكم، بالقوّة العسكرية، وهو ما أنهى مشروع إيران بالتمدد إلى البحر المتوسّط، وقوّض استراتيجية روسيا بالاحتفاظ بوجود دائم في المياه الدافئة. هذا التغير في الحكم نقل الملف السوري من حالة إدارة الصراع التي استمرت 14 عامًا إلى حالة إدارة الحل الذي يسعى الشرع لجعله انتقاليًّا سلسًا طويلًا، متفهمًا للتخوفات الدولية بشأن الاستقرار، وسط تحديات كبيرة تواجهه أمنيًّا وسياسيًّا محليًّا ودوليًّا. ويطمح الشرع لبناء دولة جديدة على أنقاض الدولة المتهالكة التي تركها حكم آل الأسد، معتمدًا نموذج اللون الواحد في البناء للوصول إلى نموذج يقبل مشاركة الألوان الأخرى، وفق ما بدر منه حتى اللحظة.

لكن التحديات القائمة ستفرض على الحكم الجديد في دمشق أن يتعامل مع المطالب الدولية بعيدًا عن الاستفراد، واعتبارها فرصة أكثر من كونها تحديًا، خاصة أن إشراك المكونات السورية المختلفة يُعد مطلبًا محليًّا أيضًا يُمكن أن يُعزز من شرعية الحكم الجديد ويمنع تشظّي الحكم والسلطة، ويُحقّق الاستقرار الاجتماعي والسياسي والأمني، ولو حصل ذلك فإنه قد يولّد سلطة رمزية لقائد هذه المرحلة أحمد الشرع، ويحفظ له صورته وتحوّله من "قائد ثوري" إلى "قائد وطني"، استطاع صنع نموذج جديد من الحكم في سوريا لا يشبه النظام السابق ولا يتناقض مع محيطه.

نبذة عن الكاتب

مراجع
  1. " القصة الكاملة لسقوط نظام الأسد في 12 يوما"، الجزيرة نت، 8 ديسمبر/كانون الأول 2024 (تاريخ الدخول: 14 ديسمبر/كانون الأول 2024): https://2cm.es/Nlzw
  2. "الأزمات الدولية عن الجولاني: حلب ستحكمها هيئة انتقالية"، الشرق الأوسط، 4 ديسمبر/كانون الأول 2024، (تاريخ الدخول: 15 ديسمبر/كانون الأول 2024): https://2cm.es/PLDN
  3. أصدرت قيادة عملية ردع العدوان والإدارة السياسية في حكومة الإنقاذ خلال أيام المعركة عدّة بيانات موجهة إلى الطوائف المسيحية والعلوية والإسماعيلية والدرزية، حملت رسائل طمأنة لهم بعدم المساس بحقوقهم، ومشاركتهم في مستقبل سوريا.
  4. عيّن الشرّع محمد البشير رئيس مجلس الوزراء وأسعد الشيباني وزيرًا للخارجية وأنس خطاب رئيس جهاز الاستخبارات ومرهف أبو قصرة وزيرًا للدفاع وعلي نور الدين النعسان رئيسًا لهيئة الأركان العامة، وجميعهم كانوا من قيادات هيئة تحرير الشام ورافقوا قائدها منذ تأسيسه جبهة النصرة مرورًا بجميع تحوّلاتها.
  5. رصد الباحث ذلك، خلال جولة أجراها في سوريا فيما بين 20 و31 ديسمبر/كانون الأول 2024.
  6. مقابلة أجراها الباحث مع عدد من مسؤولي الملف الاقتصادي ضمن الإدارة السورية الجديدة، 22 ديسمبر/كانون الأول 2024.
  7. "أحمد الشرع في مقابلة مع بي بي سي يتحدث عن خططه من أجل مستقبل سوريا وارتباطه السابق بتنظيم القاعدة"، BBC عربي، 19 ديسمبر/كانون الأول 2024 (تاريخ الدخول: 28 ديسمبر/كانون الأول 2024): https://goo.su/ICzxLov
  8. مقابلات أجراها الباحث فيما بين 21 و29 ديسمبر/كانون الأول 2024 مع عدد من قادة فصائل المعارضة الذين شاركوا في الاجتماعات مع الشرع في دمشق من أجل ترتيبات تشكيل الجيش الجديد وحل الجيش الوطني.
  9. "مقابلة خاصة مع قائد الإدارة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع"، العربية نت، 29 ديسمبر/كانون الأول 2024، (تاريخ الدخول: 30 ديسمبر/كانون الأوّل 2024): https://goo.su/aroU5V
  10. رصد الباحث ذلك خلال جولة أجراها في سوريا فيما بين 20 و31 ديسمبر/كانون الأول 2024.
  11. بلينكن يعلن شروط الولايات المتحدة للاعتراف بحكومة جديدة في سوريا، CNN العربية، 10 ديسمبر/كانون الأوّل 2024، (تاريخ الدخول: 30 ديسمبر/كانون الأول 2024): https://goo.su/VZTz
  12. "عن بيان قمة العقبة وعملية الانتقال في سورية"، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 17 ديسمبر/كانون الأول 2024، (تاريخ الدخول: 30 ديسمبر/كانون الأول 2024): https://goo.su/G6EYaL
  13. مرجع سابق، "مقابلة خاصة مع قائد الإدارة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع".
  14. مرجع سابق، "أحمد الشرع في مقابلة مع بي بي سي يتحدث عن خططه من أجل مستقبل سوريا وارتباطه السابق بتنظيم القاعدة".