اتفاق وقف إطلاق النار في غزة: فرضته المقاومة الفلسطينية وتخشى تداعياته إسرائيل

يمثل اتفاق وقف إطلاق النار، فرصة للاستجابة للأزمات الإنسانية المعقدة في غزة، وقد فرضته المقاومة رغم رفض إسرائيل المتكرر له، وكي يتحول إلى استجابة أكثر استدامة، لابد أن يتوحد الفلسطينيون على خطاب واحد، سواء في مخاطبة العالم أو مواجهة محاولات إسرائيل لعرقلته.
20 يناير 2025
بدأت إسرائيل وحركة حماس بتنفيذ بنود المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار، بتبادل الأسرى بينهما (رويترز).

مقدمة

بدأت إسرائيل وحركة حماس بتنفيذ بنود المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار، والمقسَّم إلى عدة مراحل. وبالرغم من التوتر الذي ساد الساعات الأولى للاتفاق؛ حيث تأخر تسليم أسماء الأسيرات الثلاث لدى حماس، ولم تلتزم إسرائيل بوقف إطلاق النار إلا بعد الساعة الحادية عشر والنصف ظهرًا، إلا أن الطرفين تمسكا بالاتفاق، وتجاوزا هذه النقطة، ومن المتوقع أن تتم المرحلة الأولى دون مشاكل جوهرية رغم العقبات الفنية المحتملة. 

حين بدأت إسرائيل حربها على قطاع غزة قبل ستة عشر شهرًا، انطلقت متسلحة بدعم غربي غير محدود، ومستظلة بغطاءٍ دولي واسع، ومدفوعة بتجييش وتعبئة داخلية، وقدمت نفسها رأس حربة الدول المتحضرة في مقابل ما أسمته البربريين والدواعش(1). هذا الدعم الغربي وجُلُّه أميركي، عسكريًّا وأمنيًّا ودبلوماسيًّا، مضافًا إلى الفجوة ما بين المقدرات التي تمتلكها إسرائيل وتلك التي تمتلكها فصائل المقاومة، وصورة الوحدة الإسرائيلية المتوهمة، وحالة التراخي العربي والإسلامي الرسمي، حفزت حكومة إسرائيل على رسم أهدافٍ كبرى لهذه الحرب: في البداية كانت تدمير حماس واجتثاثها، وتخليص الأسرى من قبضتها وقبضة بقية الفصائل، والسيطرة العسكرية على القطاع، وصولًا إلى فتح المجال لإعادة الاستيطان في بعض مناطقه بعد تهجير الفلسطينيين منها. بعض تلك الأهداف أُعلن رسميًّا، وبعضها أُعلن من شخصيات حكومية وإن بطريقة غير رسمية.

لأجل تلك الغايات صبَّت إسرائيل النار صبًّا على القطاع، ولم تُبْقِ حجرًا على حجر في كثير من المناطق، وتركت كل أهالي القطاع ما بين شهيد وجريح وأسير ونازح وجائع ومروَّع، ومع ذلك لم تحقق إسرائيل أيًّا من أهدافها بشكل كامل، وبدأت بعض العوامل بالتبدل والتحول التدريجي وانعكست تعديلًا في الموقف الأميركي وإن كان طفيفًا(2)، منها حراك شعبي غربي غير مسبوق ضد العدوان على القطاع(3)، متبوعًا بتفكك المظلة الدولية، ومتزامنًا مع بدء اتهام إسرائيل بالإبادة الجماعية والتطهير العرقي في العدل الدولية وقادتها بجرائم الحرب في الجنائية الدولية(4). وهنا لم تعد إسرائيل رأس حربة منظومة القيم والحريات كما زعمت، وأضحت عبئًا أخلاقيًّا وسياسيًّا على من اقترب منها، كما هو تصريح بايدن الشهير بأن هناك تخوفات على المركز الأخلاقي للولايات المتحدة الأميركية نتاجًا لحرب إسرائيل على غزة(5).

أما ميدان القتال في غزة فكان حكاية أخرى، ففي الوقت الذي كان يُفترض فيه أن تكون فصائل المقاومة قد أعلنت عن هزيمتها أو استسلامها ورفع الراية البيضاء على أقل تقدير وفقًا لتطلعات إسرائيل، وجدت إسرائيل نفسها وقد عادت إلى التناحر الداخلي من جديد، ما بين معارضة وحكومة، وبين مكونات الحكومة نفسها، وكذلك بين أعضاء مجلس حربها، وبين الساسة والعسكر، وبين شارعٍ ينادي بصفقة وحكومة متمسكة بالحرب، فضلًا عن وسائل إعلام تُحصي الخسائر في الجند والعتاد والأسرى والمال والأمن والسمعة.

تعثر المفاوضات قبل نجاحها

بيد أن كل هذه العوامل لم تحل دون إصرار نتنياهو على الاستمرار في الحرب وعرقلة العملية التفاوضية وإفشالها، قبل الوصول إلى الاتفاق. ومما كان يفسر هذا الإصرار:

أولًا: الحراك الشعبي على المستوى الغربي عاد للفتور، وبالتالي لم يعد يمثل ضغطًا على الحكومات.

ثانيًا: الدول التي انفضت من حول إسرائيل ولم تعد جزءًا من المظلة الدولية اكتفت بتعديل الخطاب دون سياسات ملموسة ضاغطة.

ثالثًا: الموقف الأميركي المعدل والداعي لإنهاء الحرب والوصول إلى اتفاق لم يستخدم أدوات ضغط كافية على نتنياهو وبقي يشكل دعمًا لإسرائيل وتبنيًا شبه كامل لرؤيتها.

رابعًا: الحراك في الشارع الإسرائيلي من أجل الصفقة تنامى وتغذى على تدفق المعلومات من الميدان بيد أنه لم يطور أدوات الاحتجاج من الاعتصام إلى الإضرابات المفتوحة وبقي حراكًا قابلًا للاحتواء.

خامسًا: المعارضة الإسرائيلية لم تتمكن من طرح مسار بديل قوي منافس لمسار نتنياهو، حتى بعد انسحاب بني غانتس وغادي آيزنكوت من الحكومة، ولا حتى بعد إقالة وزير الدفاع، يوآف غالانت.

سادسًا: نجاح نتنياهو في ضم جدعون ساعر، المنشق عن الليكود، إلى الحكومة وتعزيز استقرار ائتلافه.

سابعًا: انزياح إسرائيل بشكل كبير نحو اليمين وترسيخ مقولاتهم، جعل من شريحة واسعة في إسرائيل مستعدة لتقبل الخسارات المتراكمة بشريًّا وماديًّا؛ مما خفَّف من أثر المعلومات المتدفقة من الميدان، مضافًا إلى عمليات الحجب والتزوير لكثير من المعلومات(6).

ثامنًا: استماتة نتنياهو في محاولة الحفاظ على ائتلافه، وفي محاولة إبعاد نفسه عن الملاحقات القضائية. هذا الإصرار الذي استمر حوالي خمسة عشر شهرًا، ترجمه نتنياهو على شكل تلاعب في المفاوضات جعل منها عملية فارغة من مضمونها، واتبع عدة خطوات للإفشال:

أولًا: عدم إعطاء الوفد المفاوض صلاحيات كافية للتفاوض، فمع كل تقدم في المفاوضات من الناحية الفنية والتقنية، ينتهي به مرفوضًا من نتنياهو.

ثانيًا: وضع شروط جديدة في كل جولة تفاوضية، بحيث لم تعد المفاوضات عملية تراكمية، وإنما عودة إلى الصفر مع كل جولة.

ثالثًا: التصعيد الكبير بالاغتيالات أو بالمجازر، وهو ما أدى إلى تجميد المفاوضات أكثر من مرة.

رابعًا: توظيف المفاوضات لإدارة العلاقة مع البيت الأبيض لا للتوصل إلى اتفاق حقيقي، إلى حد التلاعب ببايدن.

خامسًا: توظيف المفاوضات لإدارة العلاقة مع المعارضة والشارع المحتج، وقد استخدمت كأداة من أدوات الإيهام والاحتواء.

مع ذلك؛ نجح الوسطاء في دفع الطرفين للوصول إلى اتفاق في تاريخ 15 يناير/كانون الثاني 2025، فكيف يمكن فهم هذا التحول في الموقف الإسرائيلي؟ وما العوامل التي تبدلت أو استجدت؟

ملامح الاتفاق

ينص الاتفاق في مرحلته الأولى على وقف مؤقت للعمليات العسكرية وانسحاب القوات الإسرائيلية إلى مسافة 700 متر شرق حدود غزة، وتعليق النشاط الجوي الإسرائيلي جزئيًّا. تشمل المرحلة الأولى إطلاق سراح حوالي ألفي أسير فلسطيني منهم 250 من المحكومين بالمؤبدات، وعودة النازحين مع انسحاب تدريجي من محاور رئيسية، وفتح معبر رفح لإدخال المساعدات بآلية منسقة.

فيما تفاصيل المرحلة الثانية ووقت تنفيذها غير معلوم حتى اللحظة، وسيبدأ التفاوض عليها في اليوم السادس عشر من المرحلة الأولى، وقد تستمر المفاوضات إلى ما بعد الـ42 يومًا الخاصة بالمرحلة الأولى. بيد أنه قد جرى التفاهم على النقاط الأساسية في المرحلة الثانية، فستكون مدتها 42 يوم أيضًا، يجري فيها تبادل آخر للأسرى بمعايير جديدة ليُعلَن عن الهدوء المستدام، والانسحاب الكامل من القطاع. أما آخر المراحل فتشمل تبادل الجثامين، والبدء بتنفيذ خطة إعادة الإعمار وفتح المعابر والسماح بحرية التنقل للأشخاص والبضائع.

من الواضح أن البنود العامة الواردة في المرحلة الثانية والثالثة ستحتاج إلى مفاوضات مكثفة لإيجاد صيغ مقبولة، حول شكل إدارة معبر رفح، وآلية إعادة الإعمار. ستحاول إسرائيل الحد من قدرة حماس على التدخل في الأمرين، ونجاحها مستبعد في ذلك، أو حول أعداد الأسرى المحتمل الإفراج عنهم من سجون الاحتلال؛ إذ يُتوقع أن لا تنجح حماس في تبييض السجون، لكنها قد تنجح في إخراج معظم أصحاب المحكوميات العالية، ورموز الحركة الأسيرة وقيادتها، ومن المتوقع أيضًا أن لا تقبل إسرائيل وجودهم في الضفة الغربية بعد الإفراج.

بالنظر إلى الاتفاق الذي تم التوصل إليه فإنه لا يختلف جوهريًّا عن المقترح الذي قدمه جو بايدن قبل سبعة أشهر تقريبًا(7)، أي إن التراجع الواضح والصارخ كان في الموقف الإسرائيلي، فالقبول بفكرة التقسيم إلى مراحل قد تمت مسبقًا من الفلسطينيين. إجمالًا، يمكن القول: إن هذا الاتفاق قائم على الركائز التالية:

أولًا: القبول بفكرة التقسيم إلى مراحل رغم ما تحمله من مخاطرة بإمكانية النكوص عن الاتفاق في مرحلة لاحقة، فالتقسيم يتيح للفصائل الفلسطينية تنفيذ الاتفاق بشكل أيسر من الناحية الفنية، بسبب الاحتياجات الأمنية والفنية الخاصة لتنفيذه، بعد ما حل بالقطاع من تدمير وما تعرضت له الفصائل من ضرر، وهو ما لم تُخْفِه حماس بإشاراتها المتكررة لفقدان الاتصال مع المكلفين بحراسة بعض الأسرى(8). كما أنه يتيح لنتنياهو أن يتجاوز تخوفاته بشأن إمكانية انفراط حكومته إذا ما ذهب لاتفاق ينهي الحرب من اللحظة الأولى، فما زال بحاجة إلى تمرير هذا الاتفاق على قوى اليمين. ورغم وجود شبكة الأمان من يائير لابيد إلا أنه لا يفضِّل اللجوء إليها ويدرك أنها ستكون مؤقتة، لذلك بذل جهودًا مضنية في إغراء وزير المالية اليميني، بتسلئيل سموتريتش، لعدم اتخاذ موقف مهدد للائتلاف.

ثانيًا: الاستجابة للأزمة الإنسانية المركبة التي حلَّت بالقطاع بشكل عاجل في المرحلة الأولى، ورغم أن علاج ما حل بالقطاع يحتاج إلى سنوات طويلة إلا أن تدفق المساعدات بشكل منتظم وفتح المعابر سيخفف بدون شك من الأزمة الإنسانية.

ثالثًا: القبول بالاتفاق على قاعدة مفادها: أن الضمانات أهم من بنود الاتفاق الحرفية. لذلك يمكن القول: إن تاريخ إسرائيل الطويل في التراجع عمَّا توقِّعه، جعل التركيز والبناء في آخر جولة تفاوضية، على ما يعبِّر عنه الوسطاء، وتحديدًا الأميركي، من التزام بحماية الاتفاق والتواصل بين مراحله، دون أن يكون ذلك مضمونًا بشكل يقيني من قبل الفلسطينيين لكنه قبول الموازِن بين الاحتياجات الإنسانية الملحَّة وبين موازين القوة المختلة لصالح الاحتلال.

رابعًا: محاولة حماس الاستفادة من تجاربها التفاوضية السابقة مع إسرائيل وخصوصًا في موضوع التبادل؛ إذ تمت الإشارة مثلًا إلى تعهد الاحتلال بعدم الاعتقال مجددًا للمفرج عنهم بناء على ذات التهم التي اعتُقلوا بسببها. وهذه النقطة وإن بدت هامشية أمام القضايا الكلية الكبرى مثل الانسحاب ووقف الحرب، إلا أنها تعكس التراكمية وبناء الخبرة في التفاوض مع الاحتلال.

كيف قبلت إسرائيل بالاتفاق؟

إذا كان منتهى وغاية الاتفاق هو انسحاب كامل من القطاع ووقف الحرب، دون أن تتمكن إسرائيل من اجتثاث حماس أو فرض حكم عسكري على غزة، ولا دفع الفلسطينيين إلى الهجرة، ولا استعادة الاستيطان في القطاع، وبافتراض أن هذا المنتهى ممكن وقابل للتحقق، رغم التخوفات المبررة في حال ظهور عوامل جديدة، فإن الاتفاق يمثل رضوخًا من قبل إسرائيل في نهاية المطاف، وبهذا فإن قبولها بما كانت قد رفضته لأشهر عديدة، يحتاج إلى تفسير.

هناك مجموعة من العوامل التي شهدت ثباتًا نسبيًّا على مدار الأشهر المنصرمة، وأبقت التفاوض خيارًا حيًّا. منها عدم التمكن من استعادة الأسرى الإسرائيليين عبر العمل العسكري باستثناء حالات محدودة، وبقاء حركة الاحتجاج في الشارع الإسرائيلي، والدعوات الإقليمية والدولية لوقف الحرب، وخسارة إسرائيل المتراكمة على مستوى الصورة والمكانة الدولية والخسائر البشرية والمادية، وحالة المشاغلة والإسناد من حزب الله إلى مرحلة متقدمة، ومن أنصار الله حتى لحظة تنفيذ الاتفاق، وهذه الأخيرة سبَّبت حالة من الضغط، تفاقمت آثارها في إسرائيل بعد التهديد المتكرر من الحوثيين لمناطق حيوية في إسرائيل، تجاوزت المساحات التقليدية التي تأثرت بالحرب في الشمال والجنوب.

بيد أن هناك عوامل أخرى جرى عليها تغيير وأخرى مستجدة. أما تلك التي جرى عليها تغيير، فهي مرتبطة بالميدان في قطاع غزة أولًا؛ إذ تكثفت عمليات المقاومة في آخر شهرٍ بشكل عكس القدرة على التكيف مع الظرف الجديد في القطاع والقدرة على الترميم للأضرار التي تكبدتها، مضافًا إلى اتباعها سياسة جديدة فيما يتعلق بكيفية التعامل مع الأسرى في حال وجود عمل عسكري إسرائيل في المحيط، بما يجعل من أي عملية عسكرية إسرائيلية حكمًا بالإعدام على هؤلاء الأسرى. أما ثانيًا؛ فهو متعلق ببنية الحكومة الإسرائيلية الحالية. استطاع نتنياهو أن يوسِّع ائتلافه بضم ساعر بما يجعل قدرة بن غفير وسموتريتش على ابتزازه أقل وإن لم تنته، وهو ما مكَّنه من الذهاب إلى هذا الاتفاق دون تخوف جدي من انهيار الحكومة. والتحول الثالث مرتبط بمجموعة من الإجراءات التي شرعت بها بعض الدول لملاحقة إسرائيليين تورطوا بجرائم ضد الفلسطينيين بعد وصولهم أراضيها، وهي مرحلة انتقلت فيها خسارات إسرائيل من مستوى الصورة والمكانة إلى إجراءات فعلية، قد تستهدف رئيس وزرائها بعد قرار الجنائية الدولية، وليس فقط جنودًا أو ضباطًا خدموا في الجيش.

أما ما هو متعلق بالمستجد من العوامل وهو أهمها، فيتمثل في نتائج الانتخابات الأميركية التي فاز فيها دونالد ترامب، وهو الذي بنى جزءًا من خطابه الانتخابي على أساس نقد إدارة بايدن في عدم قدرتها على إنهاء الحرب، وجزم بقدرته على تحقيق هذه الغاية حال تم انتخابه رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية، وهو الأمر الذي ترجمه بعد الفوز بخطاب واضح وصريح وحاد يحذر فيه من جحيم يتهدد الشرق الأوسط برمته إن لم يتم التوصل لاتفاق قبل تنصيبه(9). وبعيدًا عن النقاش الذي دار حول صيغة التهديد وشعبويته، فإنه كان يعكس رغبة الرئيس المنتخب بالتوصل إلى اتفاق أكثر من رغبته في خلق الجحيم. وبالاستناد إلى شخصية ترامب وسلوكه السياسي خلال ولايته الأولى وما بعدها، يمكن القول: إنه لم يكن ليسمح بأن تكون تصريحاته محل اختبار منذ أيامه الأولى، ولا أن يتم تجاهل رؤيته وإن خالفت رغبات وتطلعات حلفائه. وبالاستناد أيضًا إلى حقيقة أن إسرائيل لم يكن بمقدورها أن تستمر في هذه الحرب ولا أن تبدأها أساسًا دون دعم الولايات المتحدة الأميركية، فإنه ليس بمقدورها أيضًا أن تتجاهل توجهات ترامب الذي لم يدع مجالًا لمراوغة نتنياهو كما فعل بايدن. والأخير قد بدأ مؤخرًا في الكشف عن تلك المراوغة والتلاعب لبعض وسائل الإعلام(10).

من المهم الإشارة هنا إلى أن ذهاب الحكومة الإسرائيلية لهذا الاتفاق لم يأت بالضرورة نتاجًا للعصا الأميركية فحسب، فجَزَرُها قد كان حاضرًا أيضًا دون إفصاح. فقد أقرت الحكومة الاتفاق واكتفى المعارضون ومنهم سموترتيش وبن غفير بما هو أدنى من القطيعة مع نتنياهو، وذلك لتطلع قوى اليمين إلى استمرار التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية بما فيها القدس بشكل أكثر تسارعًا وصولًا إلى الضم الكامل، بمساعدة وتفهم أميركي، مضافًا إلى تطلعات أخرى مرتبطة بمساعدة أميركية محتملة لإنهاء دور إيران الاقليمي.

مآلات الاتفاق والتحديات المستقبلية

يشكِّل الاتفاق بصيغته الحالية إقرارًا إسرائيليًّا بعجزها عن تحقيق أهدافها، وفرصة للفلسطينيين لمحاولة ترميم ما هو قابل للترميم وإعادة البناء، إلا أن صيغة الاتفاق والظروف المحيطة بتوقيعه تفتح المجال للحديث عن تحديات عديدة ومآلات محتملة.

أولها أن الانتقال من المرحلة الأولى إلى الثانية سيكون عسيرًا في ظل التركيبة الحكومية الإسرائيلية الحالية، وهناك افتراض وجيه بأن قبول بعض أعضاء الائتلاف به لم يكن ليتم لولا تفاهم غير معلن حول احتمالية العودة للقتال بعد استعادة جزء من الأسرى، وهو أمر قد يضع نتنياهو من جديد أمام معضلة الاختيار بين الانتقال إلى المرحلة الثانية واللجوء إلى شبكة لابيد غير الآمنة وخسارة الائتلاف اليميني، والتخلي عن الاتفاق والتخلي معه عن علاقة سلسة مع إدارة دونالد ترامب. وهذا التحدي قد يخلق مآلات جديدة للاتفاق من بينها الانهيار. بيد أن هذا المآل محتمل في ظل ثبات العوامل الأخرى، وهذا الأخير أمر غير متوقع. فمن المرجح أن تكون الحركة الاحتجاجية أقوى لبقاء جزء من الأسرى لدى حماس، ومن المتوقع أن يكون موقف المؤسسة العسكرية والأمنية أكثر تحفظًا على خيار العودة للقتال، ومن المرجح أيضًا ألا يسمح ترامب بانهيار سريع لما قدمه على أنه إنجاز لإدارته قبل التنصيب. إلا أن الإشارة المتكررة لاحتمالية عودة إسرائيل للقتال إذا ما أخلَّت حماس بالاتفاق قد تبقي الباب مفتوحًا لهذا الخيار، فهذه مسألة فضفاضة قابلة للتأويل وتتيح لإسرائيل التذرع بما يمكن أن تختلقه في ظل بيئة غزة الجديدة وفي ظل غياب مرجعية محددة حتى اللحظة لتحديد ماهية الإخلال بالاتفاق الذي قد تبرر التراجع عن الاتفاق. ويبدو حتى اللحظة أن إسرائيل هي التي ستحتفظ بالسلطة التقديرية لما يمكن أن يظهر من القطاع أو فيه على أنه مخل بالاتفاق.

أما التحدي الآخر؛ فهو الانتقال من الضغط العسكري على قطاع غزة والقائمين عليه أيًّا كانت هويتهم، إلى التحكم في المقدرات اللازمة لإعادة الإعمار. وهو تحدٍّ خطير قد يؤثر أيضًا على التركيبة السياسية الفلسطينية، ويجعل المشهد السياسي الفلسطيني أكثر انكشافًا على المؤثرات الخارجية. وهو تحدٍّ قابل للمعالجة إذا ما كان في مخرجات العملية التفاوضية اللاحقة ما يكفي من الضمانات لإعادة الإعمار وتدفق المساعدات دون ابتزاز سياسي ولكنه بدوره أمر مستبعد.

مضافًا إلى ذلك؛ فإن اليوم التالي لانتهاء الحرب ما زال غامضًا، ورغم تقديم بعض المبادرات وآخرها تشكيل لجنة من قوى فلسطينية مختلفة لإدارة القطاع، إلا أن المقترح لم يُقبل من قيادة السلطة الفلسطينية حتى اللحظة؛ ما يعني أن المرحلة القريبة القادمة قد تشهد توترًا في العلاقات الفلسطينية الداخلية، خصوصًا في ظل محاولات أميركية وإسرائيلية لفرض أنماط إدارية وسياسية جديدة في القطاع، فآخر تصريحات بلينكن أشار فيها إلى أن السلطة الفلسطينية يجب أن تكون شريكة في إدارة القطاع مع تأكيد على استبعاد حركة حماس، وكلمة شريكة تعني أن هناك أطرافًا أخرى في التفكير الأميركي غير السلطة الفلسطينية.

لذلك، قد تتفاقم الأزمة الفلسطينية إذا لم تشهد المرحلة الحالية خطوات فلسطينية جادة في طريق تحقيق حدٍّ أدنى من الوفاق لمواجهة تحدي التدخل الخارجي في كيفية إدارة القطاع ومواجهة أزماته، وفي التعامل مع التحديات التي ستتنامى لا في القطاع فحسب، إنما في الضفة الغربية أيضًا؛ إذ من المتوقع أن تكون تحركات إسرائيل أسرع فيما يتعلق بإجراءات التوسع والضم في الضفة وتقزيم دور السلطة الفلسطينية.

خاتمة

 يمثل الاتفاق فرصة للاستجابة للأزمات الإنسانية المعقدة في قطاع غزة، لكن التعويل على توقيع الاتفاق فقط، هو مغامرة من قبل كل الأطراف المعنية بوقف العدوان بصوره المتعددة. وحتى يتحول الاتفاق من استجابة مؤقتة للأزمة إلى استجابة أكثر استدامة، لابد من أن يكون هناك موقف فلسطيني موحد يستطيع التعامل مع التحديات والتداعيات التي ستنشأ عنه أو معه، وأن يخاطب الفلسطينيون القوى الدولية والإقليمية بلسانٍ واحد لعرقلة أي إجراءات إسرائيلية محتملة في الضفة والقطاع، وأيضًا للبناء على الوضع الجديد على المستوى الدولي الرسمي والشعبي، والذي قد يعطي القيادة الفلسطينية فرصة للتحرك من أجل فرض مسار جديد للتعامل مع الحقوق الفلسطينية متجاوزةً دائرة التعامل مع الاحتياجات المعيشية للفلسطينيين، لتصل إلى الحقوق الوطنية وعلى رأسها تقرير المصير.

نبذة عن الكاتب

مراجع
  1. زينة البكري، "كيف تستخدم إسرائيل مقولة حرب الحضارات لتبرير جرائمها في غزة؟"، مسبار، 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، (تاريخ الدخول: 17 يناير/كانون الثاني 2025)، https://shorturl.at/RAWGY
  2. Jang Ji-Hyang, “U.S. Strategy for the War in Gaza: Changes and Prospects”, THE ASAN INSTITUTE FOR POLICY STUDIES,  May 13, 2024, “accessed January 17, 2025”,   http://en.asaninst.org/contents/us-strategy-for-the-war-in-gaza-changes…
  3. Terry Regier,  &Muhammad Ali Khalidi. “Palestine and the Western street”,” Security in Context Policy Paper. May 2024, “accessed January 17, 2025”https://www.securityincontext.org/posts/palestine-and-the-western-street
  4. Michael A Becker, “Crisis in Gaza: South Africa v Israel at the International Court of Justice”, Forthcoming in the Melbourne Journal of International Law, Volume 25(2) (2025), October 15, 2024,“accessed January 17, 2025”, https://ssrn.com/abstract=5018178 or http://dx.doi.org/10.2139/ssrn.5018178
  5. سمير العركي، ماذا بعد تصريح «بايدن» وموقف مجموعة «العيون الخمس».. هل تنتهي الحرب؟!، 13 ديسمبر/كانون الأول 2023، (تاريخ الدخول: 17 يناير/كانون الثاني 2025)، https://shorturl.at/3NyDd
  6. "خسائر جيش الاحتلال، هكذا يخفيها ولهذه الأسباب"، الجزيرة نت، 23 يناير/كانون الثاني 2024، (تاريخ الدخول: 17 يناير/كانون الثاني 2025)، https://shorturl.at/uOuc8
  7. انظر إلى نص مقترح بايدن ونص الاتفاق الجديد. الجزيرة تكشف تفاصيل مقترح بايدن لصفقة التبادل بين حماس وإسرائيل، الجزيرة نت، 9 يونيو/حزيران 2024، (تاريخ الدخول: 18 يناير/كانون الثاني 2025)،https://shorturl.at/I9RdG

بنود اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، موسوعة الجزيرة، 16 يناير/كانون الثاني 2025، (تاريخ الدخول: 18 يناير/كانون الثاني 2025)، https://shorturl.at/7fnQp

  1. أبو عبيدة: نرجح مقتل 5 أسرى إسرائيليين بقصف على غزة، الجزيرة نت، 23 ديسمبر/كانون الأول 2023، (تاريخ الدخول: 18 يناير/كانون الثاني 2025)، https://shorturl.at/mGdhE
  2. Dan Mangan,  “Trump warns ‘all hell will break out’ if Gaza hostages not released by his inauguration”, CNBC, Jan 7 2025, “accessed January 17, 2025”, https://www.cnbc.com/2025/01/07/trump-threatens-hell-if-gaza-hostages-n…
  3. Biden’s interview with Lawrence O'Donnell, MSNBC, January 17, 2025, “accessed January 17, 2025”, https://www.msnbc.com/the-last-word/watch/biden-shares-serious-concern-…