ضعف الدولنة: محاولة في تفسير التدخل العسكري في السياسة بإفريقيا

تستحضر هذه الورقة جل المقاربات التي تناولت ظاهرة التدخل العسكري في السياسة بإفريقيا، لكنها تفترض بالمقابل أن التدخل العسكري في السياسة ظاهرة عالمية، سواء منها الديمقراطية أو التسلطية، وأن ما يُحدث الفرق ليس وجود الظاهرة في حدِّ ذاتها، بل مستوى الدولنة من حالة إلى أخرى.
تتميز القارة الإفريقية بالتدخل العسكري في السياسة وتؤكد ذلك ظاهرة الانقلابات التي لم تنقطع في القارة (الأناضول).

تتميز القارة الإفريقية بالتدخل العسكري في السياسة، وتؤكد ذلك ظاهرة الانقلابات التي لم تنقطع في القارة. ففي السنوات الأربع الأخيرة، شهدت القارة نحو 14 محاولة انقلابية، نجح منها ثمانية. مما لا شك فيه أن العوامل التي دفعت الجيوش الإفريقية إلى السيطرة على السلطة تختلف من حالة إلى أخرى، لكنها تثبت أن الجيوش فاعل مؤثر في الحياة السياسية بإفريقيا، سواء بشكل مباشر (تولي السلطة) أو غير مباشر، خصوصًا في السياقات التي تتميز بضعف السلطة المدنية، والانقسام المجتمعي.

طالما شكَّل التدخل العسكري في السياسة محورًا للدراسة في حقل العلاقات المدنية العسكرية. وفي حالة إفريقيا، قُدِّمت تفسيرات متنوعة، تُرجع الظاهرة تارة إلى ضعف المؤسسات المدنية الحديثة الموروثة عن الاستعمار، وتارة أخرى إلى البنى الثقافية الانقسامية، وتارة ثالثة إلى فشل سياسات التنمية والتحديث السياسي، في حين يربط تفسير رابع الانقلابات بالصراع الدولي حول القارة. وخلال العقدين الماضيين، تم ربط استمرار الانقلابات بعوامل إضافية مثل فشل التحول الديمقراطي من خلال إساءة استخدام الانتخابات، أو تنامي دور حركات التمرد والانفصال والإرهاب، إضافة إلى التحولات المربكة في النظام الدولي.

تستحضر هذه الورقة جل المقاربات التي تناولت ظاهرة التدخل العسكري في السياسة بإفريقيا، لكنها تفترض بالمقابل أن التدخل العسكري في السياسة ظاهرة عالمية، موجودة في أغلب الدول، سواء منها الديمقراطية أو التسلطية، وأن ما يحدث الفرق ليس وجود الظاهرة في حد ذاتها، بل مستوى الدولنة (Statedness) من حالة إلى أخرى.

وعليه، ستحاول الورقة أن تفحص، في محور أول، أهم المقاربات التي تناولت ظاهرة التدخل العسكري في السياسة بإفريقيا، وخصوصًا التفسيرات التي تناولت الموجة الأخيرة من الانقلابات، وفق مقاربة نقدية، ترمي إلى تفكيك تلك المقاربات انطلاقًا من خلفياتها المعرفية والسياسية. على أن نقوم، في محور ثان، باختبار صحة الفرضية التي ندافع عنها، والتي تدعي أن تدخل الجيوش في السياسة يرتفع في حالة ضعف مستوى الدولنة، وينخفض في حالة الدولنة القوية، على أن نعتمد مؤشرات موضوعية في قياس الدولنة، مسترشدين بأهم الدراسات التي تناولت الظاهرة، وأهمها دراسات غيورغ سورنسن(1).

أولًا: تدخل الجيش في السياسة: مقاربة نقدية

تكاد الدراسات التي تناولت الانقلابات العسكرية في إفريقيا، خلال السنوات الأخيرة، تُجمع على عوامل مختلفة يمكن اختزالها في ثلاث أطروحات تفسيرية، كما يلي:   

1- ربط الانقلابات بتراجع الديمقراطية

تعاني الديمقراطية من الانحسار على المستوى العالمي، وفق مؤشر "ذي إيكونوميست" (The Economist) لسنة 2023؛ إذ تراجع المتوسط العالمي للديمقراطية إلى مستوى 5.23 على سلم من عشر درجات، وهو أدنى مستوى منذ سنة 2006(2). وتشكل القارة الإفريقية إحدى المناطق التي انحسرت فيها الديمقراطية، بحيث انخفض المتوسط القاري للانتخابات ذات المصداقية بشكل مقلق(3). وفي السنوات الأخيرة، برز تحد آخر أمام التحول نحو الديمقراطية في القارة، تمثل في التهرب من تحديد الولاية الرئاسية في عدة دول، خصوصًا التي شهدت انقلابات عسكرية، على اعتبار أنهما "وجهان لعملة واحدة"(4).

قد يسعف العديد من الحجج في التأكيد على هذا التلازم، فقد تمسك أربعة عشر زعيمًا إفريقيًّا بالسلطة لأكثر من فترتين رئاسيتين. وهذا التوجه لوحظ منذ 2015، وتقوَّى أكثر بعد 2020، على نحو متصاعد. كما شهدت ثماني دول إفريقية انقلابات عسكرية نتج عنها تعليق الدستور أو تعطيله. ويُلاحظ أن السلطات العسكرية تتهرب بدورها من الالتزام بالتخلي عن السلطة أو تحديد فترة انتقالية محددة، وفي بعض الحالات لا تلتزم تلك السلطات بالفترة المعلنة لانتقال السلطة إلى المدنيين حتى لو حددتها، كما حدث في مالي(5).

يؤكد أصحاب هذا الطرح على أن الإجراءات المخالفة للدستور من جهة السلطة المدنية (أي التهرب من تحديد فترة الولاية)، أو تغيير الدستور للاستمرار في السلطة (كما وقع في الغابون)، تتولد عنها إجراءات مخالفة للدستور من نوع آخر، أي الاستيلاء على السلطة عبر الانقلابات العسكرية. لكن لا يعني ذلك أن الانقلابات العسكرية في هذا السياق مجرد رد فعل سليم وإصلاحي؛ لأن الذين قاموا بالانقلابات في تشاد والغابون والسودان وزيمبابوي كانوا جزءًا من النظام نفسه، أو حلفاء له، وبالتالي فهو استمرار للنظام نفسه، وإن كان بوجوه جديدة.

في الواقع، ينبغي التذكير في هذا السياق بأن نحو ثلاثين من أصل أربع وخمسين دولة إفريقية تعمل بدون قيود دستورية على بقاء الرئيس في السلطة. أما بالنسبة للقادة الذين تهربوا من تحديد فترة الولاية الرئاسية في السنوات الأخيرة، وعددهم أربعة عشر، فإن متوسط المدة التي قضوها في المنصب بلغت ستة عشر عامًا، وقد تصل إلى ستة وعشرين عامًا إن احتسبنا فترة الولاية المعدلة، أي تغيير الرئيس مقابل استمرار النظام نفسه كما حدث في الجزائر وبوروندي(6).

ويعني ذلك أن ربط الانقلابات بالتهرب من تحديد فترة الولاية الرئاسية أو عدم الالتزام بها، في حالة وجودها مسبقًا في الدستور، قد لا يكون حجة قوية بما يكفي لتفسير الموجة الأخيرة من الانقلابات في إفريقيا. وتعزز حالتا مالي والنيجر هذا الطرح المضاد، ففي الحالتين معًا وقع الانقلاب من أجل وقف المسار الديمقراطي بحجة تدهور الأمن والاستقرار، وليس لأن الرئيس المنتخب لم يلتزم بالدستور أو بفترة الولاية الرئاسية المحددة.

2- ضعف الاحترافية العسكرية

يمكن تفسير الانقلابات بالميول القوية لدى الجيوش للسيطرة على السلطة، بسبب ضعف مستوى المهنية والاحتراف. في هذا السياق، تقدم دراسة العقيد إميل ويدراوغو(7) تفسيرًا وافيًا حول العلاقة بين ضعف الاحترافية والمهنية في الجيوش وميولها للانقلاب على السلطة المدنية. وتجد هذه الأطروحة جذورها في كتابات صامويل هنتنغتون، وقد أعاد العقيد ويدراوغو تنشيطها في سياق محاولته فهم الموجة الأخيرة من الانقلابات في إفريقيا.

تفترض الاحترافية خضوع الجيش للسلطة المدنية الديمقراطية، والولاء للدولة، والالتزام بالحياد السياسي، والثقافة المؤسسية الأخلاقية. ويتم تكريس هذه المبادئ في القيم التي تميز تصرفات الجندي المحترف، مثل الانضباط والنزاهة والشرف والالتزام والخدمة والتضحية والواجب. وتزدهر هذه القيم في منظمة ذات مهام هادفة وخطوط واضحة للسلطة، والمساءلة، والبروتوكول.

ويمثل التعليم العسكري المدخل الأساس لترسيخ مبادئ المهنية والاحتراف وتكريس القيم الديمقراطية، وخصوصًا دعم سيادة القانون، لاسيما في حالات النزاع. كما يؤدي نظام التجنيد والقواعد الناظمة للترقية الهدف نفسه. فكلما جرى تعزيز مبادئ الجدارة والكفاءة والشفافية والحياد، سواء في مرحلة التجنيد والالتحاق بالمدارس العسكرية أو في مراحل التدرج الوظيفي والترقية وإسناد المسؤوليات، تمكنت مؤسسة الجيش من إضفاء الطابع المؤسسي على الاحتراف والمهنية العسكرية، وبالتالي تعزيز المبادئ الديمقراطية في العلاقات بين السلطات العسكرية والمدنية. 

بالمقابل، كلما كان نمط التجنيد يغلب عليه الطابع الجهوي أو العرقي أو الديني، كما هو واضح في بعض الجيوش الإفريقية، أدى ذلك إلى غرس الانحراف داخل الجيش وقوات الأمن، وتشكيل قيادة عسكرية ولاؤها للرئيس أكثر من الدستور؛ مما يجعلها طرفًا دائمًا في الصراعات السياسية بين قوى المعارضة والممسكين بالسلطة. لهذا، يتم تحصين الاحترافية والمهنية عبر بناء علاقات مدنية-عسكرية جديرة بالثقة.  

بيد أن الربط بين ضعف الاحترافية العسكرية والانقلابات في إفريقيا قد لا يكون كافيًا تمامًا لفهم ما جرى. صحيح أن الاحترافية تمثل تحديًا خاصًّا للجيوش الإفريقية بسبب الإرث الاستعماري، الذي جعل من قمع المواطنين وحماية النظام المهمة الرئيسية لقوات الأمن والجيش. وهي مهمة سياسية في الأساس، جعلت ولا تزال تجعل قوات الأمن والجيوش طرفًا في الصراع السياسي حول السلطة، ولاءها للرئيس وليس للدولة. لكن الاحترافية قضية عالمية وليست إفريقية فقط؛ ففي سبتمبر/أيلول 2022، صدرت وثيقة مهمة عن ثلاثة عشر من وزراء الدفاع ورؤساء هيئة الأركان المشتركة في الولايات المتحدة الأميركية بعنوان "مبادئ المراقبة المدنية وأفضل الممارسات للعلاقات المدنية والعسكرية"(8)، على خلفية التشكيك في نتائج الانتخابات الرئاسية التي أدت إلى فوز الرئيس جو بايدن وخسارة سلفه، دونالد ترامب، في انتخابات 2020، والهجوم على الكونغرس ونزول الجيش الأميركي لأول مرة إلى الشارع.

والخلاصة هي أن الفرق لا يكمن في مستوى الاحترافية فقط، بل في قوة المؤسسات وتوازنها، والتي تعكس قوة الثقافة المؤسسية والقانونية في هذا المجتمع أو ذاك.

3- دور الفاعل الخارجي

تخضع الانقلابات للحساب العقلاني، وفق الباحث جوزيف سيجل، فهي في نهاية المطاف نتيجة لـ"حسابات موضوعية هادئة للفوائد مقابل التكاليف"(9). وتتمثل المكاسب في السيطرة على السلطة بالقوة والوصول الجامح إلى موارد الدولة، وبالتالي إمكانية الجمع بين السلطة والثروة معًا في يد واحدة. فهي مكاسب مغرية تجعل الانقلاب فكرة جذابة، في حين أن الكلفة، مثل الفشل أو السجن، يمكن التحكم فيها عبر ترتيبات عسكرية وأمنية.

باختصار، يركب الانقلابيون موجة الانقلاب حين يتحقق لديهم الاقتناع بأن الفوائد أكبر من الكلفة وأن بإمكانهم الإفلات من العقاب بأقل تكلفة ممكنة، خصوصًا في العلاقة بالخارج.

والملاحظ في السياق الإفريقي أن القوى الدولية والإقليمية تلعب دورًا حاسمًا في تمرير الانقلابات، خصوصًا حين تقبل التعامل الدبلوماسي مع السلطات العسكرية الجديدة، ولا تقاطعها أو تفرض عليها عقوبات. في العديد من الحالات، تنصت القوى الدولية لجاذبية المصالح على حساب القيم، من خلال التعامل مع الانقلابات على أنها وسيلة مؤسفة ولكنها طبيعية لنقل السلطة في قارة مثل إفريقيا.

وفق الباحث جوزيف سيجل، تستمر الانقلابات حينما يتم الاعتراف بها، أما إذا رفضت القوى الدولية والإقليمية الاعتراف بها، يصبح الانقلابيون معزولين سياسيًّا، ويزداد الأمر تعقيدًا عندما يُحرمون من الوصول إلى الحسابات المالية السيادية للدولة.

تندرج سياسة الاتحاد الإفريقي المتمثلة في عدم التدخل ضمن هذا الأفق؛ إذ تجعل قادة الانقلابات في إفريقيا غير قلقين بشأن التكاليف الخارجية. فمنذ سنة 2000، أبدى الاتحاد الإفريقي نوعًا من سياسة عدم المبالاة إزاء الانقلابات، وبالتالي باتت المجالس العسكرية في مأمن من تعليق عضويتها أو فرض عقوبات أو التهديد بالتدخل. وقد أكدت مواقف الاتحاد بشأن الانقلابات الأخيرة في القارة هذا التوجه.

يسمح هذا الوضع بالقول: إن الارتفاع في عدد الانقلابات يعكس تراجع استعداد الفاعلين الدوليين والإقليميين لفرض قواعد مناهضة للانقلاب. بل إن بعض القوى العربية، مثل الإمارات ومصر، باتت تعتبر الانقلابات فرصة سانحة لتعزيز نفوذها الإقليمي في شرق إفريقيا.

في السودان، يبدو الصراع قويًّا بين أنصار الجيش السوداني وأنصار قوات الدعم السريع، وهو صراع يسعى أطرافه إلى تعزيز طموحاتهم الإقليمية، ولو على حساب الأمن واستقرار السودان. ويندرج النشاط العسكري الروسي، من خلال الفيلق الإفريقي (فاغنر سابقًا)، ضمن الأفق نفسه، أي تعزيز النفوذ الروسي في البحر الأحمر لأهميته الإستراتيجية، وفي إفريقيا عمومًا، في مواجهة النفوذ الأميركي والأوروبي.

ثانيًا: نقص مستوى الدولنة أساس الخلل

تلتقي التفسيرات الثلاثة السابقة في قضية واحدة، وهي ضعف مستوى الدولنة، نتيجة هيمنة السلطة على الدولة. ويعني ذلك أن الدولة، بوصفها بناءً اجتماعيًّا ومؤسساتيًّا يشكِّل أساس التوافق والإجماع الوطني، مشروع لم يكتمل بعد في إفريقيا، وأن السلطة، باعتبارها مجال التنافس والصراع، هي السائدة حتى الآن. وذلك هو معنى ضعف الدولنة، كما صاغها يورغ سورنسن (10). يؤدي ضعف الدولنة إلى هيمنة السلطة، أي حكم فئة أو نخبة معينة باستخدام العنف ضد المعارضة، وتوزيع المزايا والمنافع والريع على أساس الموالاة. ومن نتائج ذلك ضعف حكم القانون وقيم المواطنة والصالح العام، وهو أسلوب حكم يعمق الصراعات وقيم الثأر والانتقام بين النخب المتنافسة، بحيث تعيد النخب المعارضة، في حالة صعودها نتيجة انقلاب أو غيره، إنتاج القيم نفسها، وهكذا دواليك. وفي بيئة متصارعة كهذه، تغيب فيها ثقافة وقيم الدولنة، يسهل على القوى الطامحة، سواء كانت عسكرية أو مدنية، خصوصًا التي لها ارتباطات بالخارج، أن تتلاعب بالدستور والمؤسسات، وبالتالي القيام بانقلابات، سواء كانت مدنية أو عسكرية أو هما معًا، وتتجلى هشاشة ثقافة وقيم الدولنة في إفريقيا في ثلاثة أبعاد أساسية، وهي:

1- ضعف الاندماج الوطني

إن هيمنة السلطة على الدولة تدفع النخبة المسيطرة إلى تحصين نفسها داخل القبيلة أو العرقية أو الطائفة، بدل البحث عن شرعية واسعة وسط المجتمع ككل، وبالتالي نقل الصراع من مجال السلطة إلى مجال المجتمع؛ ما يؤدي في النهاية إلى تدمير مقومات التماسك والاندماج الوطني(11). يعكس هذا المعطى محدودية الحصيلة السياسية لدولة ما بعد الاستقلال في بناء مجتمع متماسك أساسه المواطنة، تشده إلى بعضه البعض قيم وجدانية مشتركة وهوية اندماجية مشتركة، بصرف النظر عن تنوعه العرقي أو الديني أو اللغوي. ويحيل هذا المعطى سياسيًّا إلى غياب مشروع وطني للنخب السلطوية التي هيمنت على الدولة ما بعد الاستقلال في إفريقيا. فقد ركزت هذه النخب على العنف في احتكار السلطة، وأهملت المقومات والأسس الرمزية والأخلاقية للحكم، سواء في مجالات الفكر أو التعليم أو الإعلام أو الثقافة، وبالتالي افتقدت القدرة على إعادة صياغة تاريخ مشترك لكل مكونات المجتمع أو صناعة رموز مشتركة لها معانٍ متماثلة في وجدان هذا الشعب أو ذاك، تترسخ بالموسيقى والفنون والآداب المختلفة.

وتظهر نتائج هذه الاختلالات الجوهرية في أمرين:

  • الأول: سيطرة السلطة على مؤسسات الدولة، وبالتالي إيلاء الأهمية للأجهزة الأمنية والعسكرية على حساب باقي المؤسسات المدنية في الدولة.
  • الثاني: استمرار تأكيد الهويات الفرعية (عرقية، دينية، جهوية...) لذاتها، ليس لحاجة الحكام السلطويين إليها في إطار سياسة "فرق تسد" فقط، بل بوصفها البيئة الحاضنة والحامية للأفراد والجماعات من عنف السلطة كذلك. وتبرز هذه الوظيفة أساسًا في أوقات التمردات والفتن، أي حين تضعف السلطة وتنكمش، فتؤكد الهويات الفرعية ذاتها بمختلف الوسائل الممكنة، بما في ذلك نسج تحالفات مع الجماعات المتمردة أو جماعات الجريمة المنظمة. وهي ملاحظة رصدها الباحث الألماني ولفرام لاخر منذ 2012، ولا تزال تُلاحَظ بنشاط لافت على التناقضات القائمة في العلاقات المعقدة بين الأنظمة والقبيلة وجماعات الجريمة المنظمة في دول منطقة الساحل والصحراء.

2- الافتقار إلى المؤسسات الفعالة

يؤشر الافتقار إلى المؤسسات الفعالة إلى ضعف الدولة وعجزها عن بسط سيطرتها على مجمل الإقليم الوطني، برًّا وبحرًا وجوًّا، من خلال القدرة على صياغة سياسات عامة وتنفيذها في المركز كما في شتى أطراف الإقليم. ولعل الافتقار إلى المؤسسات الفعالة والكفؤة يؤكد عدم اكتمال مشروع بناء الدولة، ويفضي، في الغالب، إلى جعل السلطة غنيمة، بحيث تدار السياسات والمؤسسات لمصلحة طائفة أو عرقية أو تجمع قبلي معين، بدل أن تدار لصالح الغالبية العظمى في المجتمع، وبمساندتها.

ومن نتائج هذا الوضع ما نلاحظه من ضعف منسوب الشرعية القانونية للمؤسسات السياسية في إفريقيا، ومن ثم تآكل مشروعيتها الثقافية وثقة الأفراد والجماعات في فعاليتها. وتعني الفعالية في هذا السياق وجود بيروقراطية متمكنة وفعالة ومحايدة في الصراع السياسي، كمؤشر على مهنية الإدارة باعتبارها جهازًا للدولة، إلى جانب نخبة سياسية لها القدرة على التعبئة والقيادة، والتمييز بين مجال الصراع على السلطة، وهو أمر مباح وطبيعي، وبين مجال الإجماع حول الدولة، وهو أمر لازم وضروري.

وحين تكون بيروقراطية الدولة ضعيفة، يهجم عليها الفساد، في حين يسهل على النخبة السياسية أن تحول أجهزة الدولة ومؤسساتها إلى مصدر للثراء الشخصي، ما يؤدي إلى ضعف أداء الدولة في القيام بوظائفها العامة، أي إنتاج السلع والخدمات لكل مواطنيها. ويفضي ذلك إلى أمرين:

  • الأول: لجوء الناس إلى الاحتماء بكيانات بديلة عن الدولة (قبيلة، عرقية، طائفة..)، وهو أمر ملاحظ على نحو منهجي في منطقة الساحل والصحراء.
  • الثاني: إضعاف رابطة الحقوق والواجبات بين الشعب والدولة، بحيث لا تتطور ولا تنضج أواصر الولاء السياسي التي تعزز من شرعية الدولة ومشروعيتها .(13)

3- الافتقار إلى اقتصاد وطني متماسك

يؤثر ضعف الاندماج الوطني وغياب مؤسسات فعالة وذات كفاءة على الاقتصاد كذلك؛ حيث تفشل الدولة الإفريقية عادةً في بناء اقتصاد وطني متماسك قادر على توفير الضروريات الأساسية للمواطنين، مثل الغذاء والدواء والأمن. هذا الخلل يدفع السلطات المسيطرة على الدولة إلى الاعتماد على الخارج وعلى الاقتصاد التقليدي، مثل الزراعة والمواد الأولية، في الوقت الذي قد تغض فيه الطرف عن اقتصاد التهريب والممنوعات، مثل المخدرات وغيرها (14).    

وعمومًا، تبدو الاقتصادات الإفريقية أحادية الاتجاه؛ فهي تقوم على تصدير المنتجات والمواد الأولية مقابل استيراد السلع الأكثر تطورًا. وفي إفريقيا جنوب الصحراء، تمثل المنتجات الأولية نحو 80 إلى 90% من إجمالي الصادرات؛ مما يؤكد وجود عيوب جوهرية في بنية الاقتصاد الإفريقي.

مما لا خلاف حوله أن اقتصاد الدول الإفريقية يتميز، في الغالب، بأنه غير مهيكل بل ومشتت ولا يستجيب لأولويات المجتمع وحاجاته، وهو الوضع الذي يدفع الناس إلى التركيز على اقتصادات الزراعة وتربية المواشي والمواد الأولية لتحقيق الحد الأدنى من الكفاف. ومن نتائج ذلك أن الدول الإفريقية تصنف، في مجملها، ضمن الدول المتخلفة اقتصاديًّا؛ إذ يتسم معظمها بالتخصص في إنتاج المواد الأولية، وضعف القطاع الصناعي وتخلف أدواته الإنتاجية، مع قلة رؤوس الأموال وضعف نصيب تلك البلدان من الاستثمار الأجنبي، علاوة على تفاقم أعباء خدمة الديون. وقد أسفر ذلك عن انخفاض الدخل القومي لهذه الدول ونصيب الفرد منه. ووفقًا لبيانات الأمم المتحدة لعام 2021، تضم إفريقيا 46 دولة تُعد من الأقل نموًّا في العالم(15).  

خلاصة

مجمل القول: إن الانقلابات العسكرية التي شهدتها القارة الإفريقية في السنوات الأخيرة، خصوصًا في غرب ووسط وشرق القارة، كشفت عن عدة عيوب خلقية في الدولة الإفريقية. ليس ضعف الاحترافية والمهنية في مؤسسات الدولة، ومنها المؤسسة العسكرية، وغياب تقاليد راسخة للعلاقات المدنية العسكرية، وتلاعب القوى الخارجية وجماعات الإرهاب والجريمة المنظمة بمصير الاستقرار والأمن في القارة، سوى مظاهر معدودة، من بين أخرى، لإشكالية أكبر تتمثل في نقص الدولنة.

أي إن مشروع الدولة في إفريقيا لم يكتمل حتى الآن، وهو النقص الذي تتجلى مظاهره في ضعف الاندماج الوطني، والافتقار إلى المؤسسات الفعالة والكفؤة، وعيوب هيكلية في بنية الاقتصاد المفتقر بدوره إلى العصرنة والتماسك والاتساق. هذه معوقات بنيوية تحول حتى الآن دون تعزيز التقدم الديمقراطي، كما تحول دون بناء دولة القانون والمواطنة.

يمكن القول: إن ضعف الدولنة هو الذي يسمح للضغوط الخارجية بأن تتحول إلى تدخل مباشر، كما يجعل من الانتخابات، وهي عماد أي تحول ديمقراطي، مناسبة لتعميق الصراعات القبلية والإثنية، بدلًا من أن تكون فرصة لإعادة بناء التوافقات السياسية بين النخب الطامحة إلى التداول على السلطة. والمثير للانتباه أن الفترة التي تميزت بتقدم المد الديمقراطي شهدت أمرين:

أنها أتاحت للجماعات العرقية والقبلية والطائفية فرصة للتجذر أكثر؛ مما أفضى إلى مزيد من الصراعات العرقية والقبلية. اختزال الديمقراطية في انتخابات تُنظم بضغط خارجي من لدن مانحي المساعدات؛ مما أدى في حالات عديدة إلى زعزعة الاستقرار والأمن.

وعليه، فإن التوصية الرئيسية لهذه الورقة تتمثل في إعادة الاعتبار للدولة، باعتبارها توليفة مبتكرة للقيم والسلوكيات والمؤسسات؛ وكما أوصى بذلك فرانسيس فوكوياما نفسه: "قبل أن تكون قادرًا على تحقيق الديمقراطية أو التنمية الاقتصادية، لابد أن تكون عندك دولة"(16). لكن يجب أن ندرك أن بناء دولة فعالة في فترة زمنية قصيرة خيار صعب وغير واقعي، كما يظهر بوضوح في نماذج مختلفة مثل الصومال أو ليبيا والسودان. لذلك، يظل الحفاظ على الدولة، مهما كانت هشة، أفضل بكثير من غيابها، لأن التطوير والبناء على شيء موجود يظل الخيار الأكثر عقلانية والأقل كلفة مقارنة بالبحث عن شيء غير موجود وينبغي إيجاده بالضرورة.

نبذة عن الكاتب

مراجع

1) غورغن سورنسن، الديمقراطية والتحول الديمقراطي: السيرورات والمأمول في عالم متغير، ترجمة: عفاف البطاينة، بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015.

2) انظر مؤشر الديمقراطية لسنة 2023، ص 3. متاح على الرابط التالي: https://shorturl.at/MfhvT 

3) أفروبوليسي (ترجمات)، حالة الديمقراطية في إفريقيا، 19 مايو/أيار 2024، تم التصفح في 22 ديسمبر 2024، https://shorturl.at/rdvWA

4) التهرب من تحديد فترة الولاية والانقلابات داخل إفريقيا: وجهان لعملة واحدة، مركز إفريقيا للدراسات الإستراتيجية، 6 يونيو/حزيران 2024، تم التصفح في 28 ديسمبر 2024،  https://shorturl.at/PQARE

5) حبيب الله مايابي، هل قرر المجلس العسكري في مالي البقاء في السلطة؟، الجزيرة نت، 22 أبريل/نيسان 2024، تم التصفح في 24 ديسمبر 2024، https://shorturl.at/hEezt

6) التهرب من تحديد فترة الولاية والانقلابات داخل إفريقيا، مرجع سابق.

7) إميل وادراوغو، الارتقاء بالاحتراف العسكري في إفريقيا، مركز إفريقيا للدراسات الاستراتيجية، واشنطن دي سي، يوليو/تموز 2014.      

8)- To Support and Defend : Principles of Civilain Control and Best Practices of Civil-Military Relations, Open Latter, War On Rocks, Septembre 6, 2022. On : https://shorturl.at/yUur7

9) جوزيف سيجل، انقلابات إفريقيا ودور الأطراف الخارجية، مركز إفريقيا للدراسات الاستراتيجية، 3 يناير/كانون الثاني 2022، تم التصفح في 26 ديسمبر 2024، https://shorturl.at/SVeAS

10) يورغ سورنسن، مرجع سابق، ص 103.

11) والي، فايزة، إشكالية الاندماج الوطني في إفريقيا، مجلة قراءات إفريقية، السنة 15، أبريل/نيسان 2019، ع40، ص 26-35.

12) ولفرام لاخر، الجريمة المنظمة والصراع في منطقة الساحل والصحراء، أوراق كارنيغي الشرق الأوسط، سبتمبر/أيلول 2012.

13) محمد أحمد بنيس، أزمة الدولة الوطنية في إفريقيا، العربي الجديد، 7 سبتمبر/أيلول 2023، تم التصفح في 31 ديسمبر 2024،  https://shorturl.at/Iyuop

14) حبيب الله مايابي، كيف أصبحت دول الساحل الإفريقي ساحة لتجارة المخدرات؟، الجزيرة نت، 27 أكتوبر/تشرين الأول 2024، تم التصفح في 21 ديسمبر 2024، https://shorturl.at/Vlk6O

15) محمد عاشور، تحديات ومآلات الإقليمية الإفريقية، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 18 أكتوبر/تشرين الأول 2022، تم التصفح في 31 ديسمبر 2024، https://shorturl.at/8qGan  

16)- Francis Fukuyama, Stateness First, Journal of democracy, vol 16, no.1(2005), p.84.