
انعقد في العاصمة القطرية، الدوحة، يومي 15 و16 فبراير/شباط 2025، منتدى الجزيرة السادس عشر تحت عنوان "من الحرب على غزة إلى التغيير في سوريا: الشرق الأوسط أمام توازنات جديدة"، بمشاركة نخبة من السياسيين والخبراء والباحثين من بلدان مختلفة، وحضور جماهيري واسع. ناقشت جلسات المنتدى على مدار يومين أبرز التحولات الجيوسياسية التي تمر بها المنطقة، خاصة في ظل الحرب الإسرائيلية على غزة وسقوط نظام بشار الأسد في سوريا، وما ترتب على هذه التطورات من تغييرات في موازين القوى الإقليمية والتحالفات الدولية.
الافتتاح والكلمات الرئيسة
افتتح الشيخ حمد بن ثامر آل ثاني، رئيس مجلس إدارة شبكة الجزيرة الإعلامية، المنتدى مؤكدًا في كلمته على جوهر مهنة الصحافة ورسالتها في نقل الحقيقة رغم التحديات الجسيمة والتبعات الخطيرة التي تواجهها. وأشار إلى أن قناة الجزيرة تعرضت لاستهداف مباشر، شمل قتل مراسليها وإغلاق مكاتبها، في محاولة لإسكات صوتها. وفي هذا السياق، شدَّد الشيخ حمد على أن الصحفي المخلص يؤدي خدمة جليلة للعالم من خلال نقل الوقائع كما هي، ليكون الجميع على دراية بحقيقة ما يجري، مؤكدًا أن من الظلم أن يُتهم الصحفيون بالإرهاب أو يُستهدفوا بالاعتقال والقتل، هم وعائلاتهم، لمجرد قيامهم بواجبهم المهني.
كما استعرض الشيخ حمد بن ثامر التحديات التي تواجهها شبكة الجزيرة نتيجة التزامها بالتغطية المهنية والموضوعية، مشيرًا إلى أسماء شهدائها الذين سقطوا في فلسطين وسوريا، وأسماء المراسلين الذين تعرضوا للإصابة خلال أداء واجبهم. وترحَّم على من فقدتهم الشبكة، متمنيًا الشفاء العاجل للمصابين الذين لا يزالون يتلقون العلاج.
ثم انتقل الشيخ حمد بن ثامر إلى الحديث عن المنتدى وأهميته، مشيرًا إلى أن النقاشات التي جرت في العام الماضي، والتحليلات الدقيقة التي قدمها المشاركون، أثبتت صحتها هذا العام؛ حيث شهدت المنطقة تحقق العديد من التوقعات، مثل التهديد بالتهجير في غزة، والتطورات في سوريا، والتحديات التي واجهتها دول أخرى منخرطة في الصراع.
وتوقع الشيخ حمد أن تستمر المنطقة في مواجهة أحداث كبرى، مؤكدًا أن أسباب هذه الأزمات لا تزال قائمة وتواصل تأثيرها. وشدد على أهمية التحليل العميق والقراءة الدقيقة في جلسات هذه النسخة من المنتدى، نظرًا لأن المنطقة لا تزال حبلى بالتحولات. وفي هذا السياق، أشار إلى ضرورة اتخاذ القرارات الصائبة للتعامل الفعَّال مع هذه المتغيرات، محذرًا من أن أي تقصير في ذلك قد يؤدي إلى تبعات أشد وعواقب أكثر خطورة.
واختتم رئيس مجلس إدارة شبكة الجزيرة، الشيخ حمد بن ثامر آل ثاني، كلمته بالتأكيد على أن تضحيات مراسلي الجزيرة لم تذهب سدى، مشيرًا إلى أن الشعوب حول العالم تحركت للتعبير عن تضامنها مع الفلسطينيين ضد المجازر التي يتعرضون لها، وذلك بفضل الصورة التي نقلها هؤلاء المراسلون بشجاعة ومهنية. كما شدد على أن الشبكة ستواصل التزامها بنقل الحقيقة بأمانة واحترافية، رغم الضغوط والتحديات والتضحيات.
من جهته، قال نائب وزير العلاقات الدولية والتعاون بجمهورية جنوب إفريقيا، ألفين بوتس، خلال كلمته في الجلسة الافتتاحية إن بلاده عانت من الاضطهاد والظلم في عصور ماضية، وإنها ستظل تساند الشعوب المضطهدة وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني الذي يعاني من حرب وعدوان غاشم منذ نحو 15 شهرًا تسببا في عشرات الآلاف من الضحايا. وأكد بوتس أن جنوب أفريقيا لن تتوقف عن مقاضاة إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية وستتابع قضيتها العادلة لمناصرة الشعب الفلسطيني حتى الحصول على حقوقه المشروعة. كما أشاد بدور شبكة الجزيرة الإعلامية في كشف الحقيقة للعالم أجمع، معتبرًا أن الجزيرة تقدم نموذجًا مشرفًا للعمل الإعلامي الحر الذي يقف إلى جانب الشعوب التي تحتاج إلى دعم.
الوضع في غزة: تحديات ما بعد الحرب
بدأ المنتدى بجلسة "الوضع في غزة: تحديات ما بعد الحرب"، واستعرض في بدايتها باسم نعيم، عضو المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، تفاصيل خطة إعادة إعمار قطاع غزة، وأوضح أن جميع الدول التي تواصلت معها الحركة أكدت عدم استعدادها للانخراط في عملية الإعمار إلا بعد التوصل إلى وقف تام لإطلاق النار وانسحاب القوات الإسرائيلية بالكامل. وكشف نعيم عن جهود مكثفة تبذلها الحركة، بالتعاون مع الوسطاء والدول العربية، لوضع خطة شاملة تعتمد على بروتوكول إنساني متفق عليه ضمن اتفاق وقف إطلاق النار الحالي، يشمل مراحل الإغاثة والإيواء، ثم إعادة الإعمار.
أوضح باسم نعيم أن الخطة التي يقودها الطرف المصري بالتنسيق مع دولة قطر وعدة دول عربية وأوروبية، إضافة إلى المنظمات الأممية، تقدر تكلفتها بما بين 50 و70 مليار دولار، وشدَّد على أن تنفيذها لا يشترط ترحيل السكان، وهي الفكرة التي يروج لها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب. كما أكد نعيم التزام الحركة بتنفيذ الاتفاق الحالي، رغم عدم إعلان إسرائيل صراحة عن استعدادها للمرحلة الثانية من الاتفاق، التي كان من المفترض الكشف عنها في اليوم الـ16 من المرحلة الأولى، لكن الحركة تلقت وعودًا جادة من الوسطاء بإعلان قريب من الجانب الإسرائيلي بهذا الشأن. ولفت إلى أن مستقبل غزة لا يمكن فصله عن الأبعاد الإنسانية، والعمرانية، والسياسية، مشددًا على أن الاحتلال يرفض وقف إطلاق النار ما دامت حماس أو حتى حركة فتح في الحكم، مؤكدًا أن حماس ليست متمسكة بالسلطة ومستعدة للتنازل عنها إذا تم التوافق وطنيًّا على إدارة القطاع ضمن السياق الوطني العام.
من جانبه، أشار هاني المصري، مدير المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الإستراتيجية "مسارات"، إلى أن الضفة الغربية هي الضحية المنسية رغم كونها الهدف الأساسي للمشروع الصهيوني الذي يعتبرها "أرض الميعاد" أو "يهودا والسامرة". وأوضح أن مخططات تهويد الضفة كانت قائمة حتى قبل عملية "طوفان الأقصى"؛ حيث تضمن برنامج الحكومة الإسرائيلية الجديدة مشروع ضم الضفة بالكامل، باعتباره فرصة تاريخية لحسم الصراع وليس فقط إدارته كما فعلت الحكومات السابقة. ولفت المصري إلى أن الحرب الأخيرة سرَّعت هذه المخططات، محوِّلة الضفة إلى سجون منفصلة تضم 900 حاجز و150 بوابة؛ ما جعل التنقل بين المدن أمرًا صعبًا ومهددًا؛ حيث قد يواجه الفلسطينيون الاعتقال أو الاعتداء من قبل المستوطنين، مؤكدًا أن الاحتلال يسيطر أمنيًّا على أكثر من 60% من الضفة؛ ما أدى إلى منع 200 ألف عامل من العمل داخل إسرائيل، وارتفاع عدد المعتقلين إلى أكثر من 10 آلاف، بالإضافة إلى استشهاد أكثر من ألف فلسطيني وإصابة الآلاف؛ ما يبرز أن تداعيات الحرب لم تقتصر على غزة وحدها.
أما رياض مشارقة، رئيس المجلس الاستشاري لتجمع الأطباء الفلسطينيين في أوروبا، فقد سلَّط الضوء على الكارثة الصحية التي خلَّفتها الحرب؛ حيث استشهد نحو 1200 طبيب وعامل صحي، فيما بلغت نسبة الأطفال والنساء قرابة 59% من بين 48 ألف شهيد، مع إصابة نحو 111 شخصًا، بينهم أزيد من 21 إصابة خطيرة. وأكد مشارقة أن الاحتلال دمَّر 212 منشأة طبية، منها 34 مستشفى خرجت من الخدمة بالكامل و191 مركبة إسعاف، مشيرًا إلى أن دراسة جديدة كشفت أن أعداد الشهداء قد تكون أعلى بنسبة 41% من الأرقام الرسمية؛ ما يعني أن العدد الفعلي يتراوح بين 55 و78 ألف شهيد حتى يونيو/حزيران 2024، موضحًا أن الحرب التي استمرت 471 يومًا تسببت في كارثة صحية غير مسبوقة؛ ما يستدعي توفير إغاثة عاجلة وفتح ممرات آمنة تحت إشراف الأمم المتحدة لتشغيل المستشفيات وضمان عدم استهدافها مجددًا.
في ختام الجلسة، حذَّر الصحفي والباحث السياسي، توفيق شومان، من "إستراتيجية تصدير الأزمات" التي تتبعها إدارة ترامب، موضحًا أن خطة تهجير سكان غزة تأتي في إطار محاولة للتنصل من مسؤولية إعادة الإعمار وتحميلها للدول العربية؛ ما قد يخلق توترًا بين الفلسطينيين والعرب، مشبِّهًا ذلك بالتهديد الإسرائيلي بإغلاق مطار بيروت وما قد يسببه من اضطرابات داخلية في لبنان، لافتًا إلى أن فرض شروط مالية وسياسية وأمنية من تل أبيب وواشنطن على الدول العربية هو جزء من هذه الإستراتيجية، التي تسعى لجعل القضية الفلسطينية شأنًا عربيًّا داخليًّا بدلًا من كونها صراعًا مع الاحتلال.
العدالة الانتقالية في دول ما بعد الصراع: فرص وتحديات
خلال جلسة "العدالة الانتقالية في دول ما بعد الصراع: فرص وتحديات"، شدَّد المشاركون على ضرورة الإسراع في جبر الضرر وتعويض الضحايا، ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، مع اتخاذ التدابير الكفيلة بعدم تكرارها، مؤكدين أن أحد الأهداف الأساسية للعدالة الانتقالية هو تحقيق المصالحة المجتمعية.
حذَّر المتحدثون من أن غياب بنية واضحة للعفو والصفح بعد المحاسبة قد يفضي إلى مجتمع غارق في دوامة الانتقام والثأر، مشددين على أهمية تعزيز ثقافة مجتمعية تقوم على أسس دينية وثقافية سليمة، وتدعم حياة مشتركة بين جميع مكونات المجتمع.
أوصت الجلسة بإنشاء هيئة مستقلة تضم شخصيات قضائية وحقوقية نزيهة، بالإضافة إلى ممثلين عن الضحايا، لضمان الشفافية والمصداقية في تحقيق العدالة الاجتماعية، مشيرين إلى أن نجاح العدالة الانتقالية مرهون بتحقيق سيادة القانون والتوافق الوطني الشامل.
في هذا السياق، استعرض وزير العدل وحقوق الإنسان الأسبق في المغرب، محمد أوجار، تجربة بلاده في العدالة الانتقالية، مشيرًا إلى أن جلسات الاستماع العمومية، التي نُظِّمت في مختلف الأقاليم والمدن والقرى المغربية، كانت إحدى أبرز محطاتها، حيث نُقلت مباشرة عبر التليفزيون؛ ما عزز الشفافية والمشاركة المجتمعية. ووصف أوجار التجربة المغربية بأنها من أنجح التجارب في الوطن العربي وإفريقيا، مؤكدًا أن السؤال الذي يطرح نفسه بعد أي تغيير سياسي أو ثورة هو: كيف يمكن معالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وتعويض الضحايا، مع ضمان عدم تكرارها؟
وأشار إلى أنه رغم عدم وجود نموذج موحد للعدالة الانتقالية، فإن التجارب الناجحة تشترك في قيم وأفكار عامة، لافتًا إلى أن دولًا مثل إسبانيا والبرتغال واليونان، اختارت طي صفحة الماضي دون اللجوء إلى العدالة الانتقالية أو محاسبة المسؤولين، بعد انتقالها من أنظمة شمولية إلى ديمقراطية. وشدَّد أوجار على أن نجاح العدالة الانتقالية مرهون بوجود دولة قانون قوية، تقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف، وتتمتع بمشروعية انتخابية وتوافق وطني واسع، مع ضرورة إشراك الضحايا في هذه العملية لضمان نجاحها.
من جانبه، أكد أستاذ القانون الدولي، محمود برهان عطُّور، أن العدالة الانتقالية تتجاوز مجرد كونها مفهومًا قانونيًّا إلى كونها هاجسًا إنسانيًّا يسعى لتحقيق الإنصاف، مشيرًا إلى أن النظام الدولي بحاجة إلى إعادة بناء لتحقيق عدالة أكثر شمولًا على المستوى العالمي. واعتبر عطُّور أن غياب العدالة كان أحد المحركات الرئيسية لثورات الربيع العربي؛ حيث بدأت المطالبات بالإصلاح، لكنها تحولت إلى ثورات تطالب بتغيير الأنظمة بعد فشل الإصلاح، في سبيل بناء مستقبل أكثر عدالة يضمن حقوق الشعوب وحرياتها.
وأشار إلى أن التحديات التي تواجه العدالة الانتقالية، سواء في سوريا أو دول أخرى، تتضمن عقبات سياسية وتشريعية وتنظيمية وثقافية؛ ما يجعل من تحقيق المصالحة المجتمعية هدفًا صعب المنال دون إرادة سياسية واضحة.
في هذا الإطار، شدَّد محمد النسور، رئيس قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مكتب المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، على أن الهدف الأساسي من العدالة الانتقالية هو منع تكرار المآسي، مشيرًا إلى أن انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا لم تبدأ خلال السنوات الـ14 الأخيرة فقط، بل تعود إلى 54 عامًا من غياب احترام الحقوق الأساسية. وأوضح النسور أن العدالة الانتقالية يجب أن تراعي خصوصية كل دولة، مشيرًا إلى أنه خلال زيارته الأخيرة إلى دمشق لمس سوء فهم لمفهوم العدالة الانتقالية؛ حيث اعتقد البعض أنها شكل من أشكال العدالة المخففة التي يمكن تجاوزها بسبب تحديات أخرى، محذرًا من أن هذا الفهم الخاطئ قد يعيق أي تقدم نحو مستقبل أكثر عدالة في سوريا، داعيًا إلى تأسيس هيئة مستقلة تعكس التزام الدولة بحقوق الإنسان.
أما فضل عبد الغني، مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فأكد أن الحالة السورية تتمتع بخصوصية فريدة نظرًا لطول فترة النزاع التي استمرت 14 عامًا، وحجم الانتهاكات التي خلَّفتها، بما في ذلك 115 ألف حالة اختفاء قسري، وملايين اللاجئين والضحايا. وشدَّد عبد الغني على ضرورة وجود هيئة حكم تشرف على إعلان دستوري يؤسس لهيئة عدالة انتقالية، بدلًا من العودة إلى دساتير سابقة، مشيرًا إلى أن سوريا بحاجة إلى محاكم خاصة بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وهو ما تفتقر إليه حاليًّا.
حرب الإستراتيجيات الإقليمية
سلَّطت جلسة "حرب الإستراتيجيات الإقليمية" الضوء على التنافس الحاد بين القوى الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط، الذي تفاقم بفعل الحرب الإسرائيلية على غزة وامتداداتها إلى لبنان، وإيران، واليمن، والعراق، إضافة إلى التغييرات الجيوسياسية التي أعقبت سقوط نظام الأسد في سوريا. وناقش المتحدثون طبيعة الصراع الراهن، الظاهر منه والخفي، بين إستراتيجيات كل من إيران وإسرائيل وتركيا، متسائلين عن إمكانية أن يصبح الدور العربي أكثر استقلالًا وتأثيرًا بعيدًا عن التبعية وردود الأفعال.
استهل مجتبى فردوسي بور، الدبلوماسي والأستاذ الجامعي، مداخلته بالإشارة إلى التحولات في النظام العالمي، الذي وصفه بأنه يتحرك نحو نظام "ما وراء القطبية"؛ حيث تلعب البيانات الضخمة والتحالفات الإقليمية والدولية دورًا محوريًّا في تشكيله. ونقل عن أستاذ العلاقات الدولية الأميركي، جون ميرشايمر، رأيه بأن أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول تسببت في تدمير التوازن التقليدي للقوى الدولية؛ مما يدفع المشروع الغربي إلى تبني نهج فوضوي للحفاظ على نفوذه في الشرق الأوسط، خاصة بعد فشل خطط استبدال النظام الإسرائيلي وضمان مصالحه في المنطقة.
وأشار فردوسي بور إلى أن الاكتشافات الجديدة للغاز الطبيعي في حوض الشام، التي تقدر بـ122 تريليون قدم مكعب من الغاز و1.7 مليار برميل من النفط القابل للاستخراج، جعلت من السيطرة على غزة وسواحلها هدفًا إستراتيجيًّا للغرب وإسرائيل، خاصة أن معظم هذه الثروات يقع تحت الأراضي الفلسطينية المحتلة لعام 1967، ويمتد إلى السواحل السورية؛ ما يفسر الاهتمام الغربي بالتطورات في سوريا وقطاع غزة.
وتحدث عن لقاء الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بعد حفل التنصيب؛ حيث كان الهدف الرئيسي هو إنقاذ حكومة نتنياهو واستكمال خطط الاحتلال في غزة، مع طرح فكرة "الهجرة القسرية" للفلسطينيين إلى داخل سوريا مقابل رفع العقوبات عنها؛ ما يجعل سوريا المستهدف الرئيسي في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، مشيرًا إلى أن سقوط سوريا سيؤدي إلى اختلال التوازن في مواجهة إسرائيل ويهدد الهوية الوطنية السورية بفعل التدخلات الإقليمية والدولية.
من جانبه، قدَّم مراد يشلتاش، أستاذ العلاقات الدولية، رؤية تركيا للتطورات الإقليمية بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول وسقوط نظام الأسد، مشيرًا إلى أن تركيا تراقب ديناميات التراجع والصعود في المنطقة، خاصة تراجع النفوذ الإيراني في لبنان وسوريا وغياب التأثير الروسي نتيجة الحرب الأوكرانية. وأكد أن تركيا تعيد تعديل إستراتيجياتها للتعامل مع هذه التغيرات، مع التركيز على بناء جيش سوري جديد خلال المرحلة الانتقالية، في ظل تراجع دور الوكلاء الإقليميين مثل حزب الله وإيران.
وشدَّد يشلتاش على أن تركيا تسعى للحفاظ على نفوذها السياسي في سوريا عبر التعاون مع القوى الدولية، مع الأخذ بعين الاعتبار قرارات مجلس الأمن والعملية الأممية المستمرة، معتبرًا أن تشكيل جيش سوري جديد يعد أولوية إستراتيجية لتركيا في ظل تراجع النفوذ الروسي والإيراني.
أما حسن البراري، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة قطر، فقد اعتبر أن النظام العربي يعاني من الضعف والهشاشة والتنافس الداخلي؛ ما يجعله دائمًا تابعًا للعوامل الخارجية. وأوضح أن الإستراتيجية تتطلب هدفًا واضحًا ووسيلة لتحقيقه ضمن بيئة مليئة بالمخاطر والفرص، مشيرًا إلى أن إسرائيل تمتلك هدفًا إستراتيجيًّا واضحًا منذ تأسيسها، يتمثل في السيطرة على كامل فلسطين دون سكانها، معتمدين على القوة العسكرية، في حين أن العالم العربي يفتقر إلى إستراتيجية مضادة؛ ما يجعل أي مبادرات فردية مثل "طوفان الأقصى" مجرد رد فعل لا يرتقي إلى مستوى الإستراتيجية العربية الموحدة.
اختتم شفيق شقير، الباحث في مركز الجزيرة للدراسات، مداخلات المتحدثين في الجلسة بتحليل النظام العربي الحالي، مشيرًا إلى أن أي محاولة لاستعادته يجب أن تبدأ من سوريا، كما حدث بعد سقوط جدار برلين. وأكد أن إعادة بناء النظام العربي تتطلب توافقات بينية تبدأ من سوريا، مع الإجماع على القضية الفلسطينية كحدٍّ أدنى، محذرًا من أن تجاهل ذلك قد يؤدي إلى نظام عربي جديد مبني على ركام غزة دون رؤية واضحة لمستقبل القضية الفلسطينية.
الشرق الأوسط أمام توازنات جديدة
ناقشت الجلسة الرابعة من منتدى الجزيرة الـ16 التحولات التي يشهدها الشرق الأوسط بعد الحرب الأخيرة على غزة، والتي خلَّفت آثارًا مدمرة على الإنسان الفلسطيني وبيئته، وسط تدخلات إقليمية ودولية معقدة. وتناولت الجلسة التحديات التي تواجه القضية الفلسطينية بعد فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها بالقضاء على المقاومة، وانعكاسات ذلك على موازين القوى في المنطقة، بما في ذلك الأثمان التي قد يدفعها العرب أو يجنونها من الترتيبات الجارية.
استهل أسامة حمدان، القيادي في حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، مداخلته بالتأكيد على أن يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول كان إنجازًا تاريخيًّا للفلسطينيين؛ حيث نجحت مجموعة صغيرة من المقاومين، بأسلحة فردية بسيطة، في تفكيك فرقة عسكرية إسرائيلية تضم نحو 4000 جندي خلال 6 ساعات فقط؛ ما عزَّز الشعور الفلسطيني بالقدرة على المبادرة وتحقيق الإنجاز السريع.
وشدَّد حمدان على أن حماس لن تتنازل عن غزة أو تخرج منها تحت أي تفاهمات، رافضًا تقديم أي تنازلات مقابل إعادة الإعمار. وأكد أن المقاومة، التي ضحت بنفسها وخسرت عائلات بأكملها، لن تقبل أن تكون خارج المشروع الفلسطيني تحت أي ضغط، وقال بوضوح: "اسمعوني جيدًا لِأُنهي هذا النقاش، إن أي أحد يحل محل الاحتلال في غزة، أو أي مدينة في فلسطين، سنتعامل معه بالمقاومة فقط كما نتعامل مع الاحتلال الإسرائيلي، وهذا أمر منتهٍ وغير قابل للنقاش".
وفي معرض حديثه عن التحديات المقبلة، أشار حمدان إلى ضرورة استعادة المشروع الوطني الفلسطيني القائم على التحرير والعودة وإقامة دولة فلسطينية مستقلة على كامل التراب الوطني، مؤكدًا أن مشروع أوسلو لم يحقق سوى الخسائر. وأضاف أن احتكار القرار الوطني الفلسطيني يجب أن ينتهي، وأن مشروع التفاوض أثبت عجزه عن حماية الضفة التي تتعرض لاجتياحات مستمرة وتهجير الآلاف، مشددًا على ضرورة إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني على أسس أصلية.
كما تطرَّق حمدان إلى تحدي إعادة إعمار غزة، معتبرًا أنه سيكون ساحة للصراع بين محاولات استخدامه أداة ضغط على الفلسطينيين وفرصة لبناء مشروع إستراتيجي للتحرير. ولفت إلى أن الموقف العربي في هذا الملف سيكون حاسمًا، محذرًا من أن التسويات لن تكون على حساب الفلسطينيين وحدهم، بل ستشمل المنطقة بأكملها، مشيرًا إلى مخطط التهجير الإسرائيلي كأحد النماذج المطروحة.
وحول نتائج الحرب، أوضح حمدان أن الاحتلال الإسرائيلي فشل في تحقيق أهدافه، سواء بتهجير الفلسطينيين أو إنهاء المقاومة أو نشر الفوضى في غزة، مشيرًا إلى أن انهيار فرقة عسكرية كاملة يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول وأزمة الثقة التي يعاني منها الجيش الإسرائيلي الذي أصبح مرهقًا ويحتاج إلى إعادة بناء، تنذر بأزمة داخلية عميقة تتجاوز الصراعات السياسية لتصل إلى جوهر التناقضات داخل الكيان الإسرائيلي.
وأكد حمدان أن إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عن خطط تهجير الفلسطينيين يأتي لتغطية الفشل العسكري والاستخباراتي الذي مُنيت به واشنطن وتل أبيب بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، مشيرًا إلى فشل اتفاقيات أبراهام في رسم مشهد جيوسياسي جديد في المنطقة. كما توقع أن تكون دمشق، بعد سقوط نظام الأسد، عنصرًا فاعلًا في المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، نظرًا لاستمرار احتلال الجولان السوري واحتلال أراضٍ سورية جديدة؛ ما يدفعها إلى مقاومة الاحتلال بكل الوسائل الممكنة.
من جانبه، أشار لقاء مكي، الباحث في مركز الجزيرة للدراسات، إلى أن الحرب بين إسرائيل وإيران باتت واقعًا ملموسًا، مع تصاعد القصف المتبادل ووجود فصائل تقاتل بالوكالة عن إيران، مثل حزب الله وبعض الفصائل العراقية والحوثيين، فيما تستعد إسرائيل، بدعم أميركي، لشن هجوم على المشروع النووي الإيراني، وفق ما نشرته وسائل إعلام أميركية وإسرائيلية. ولفت مكي إلى أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يسعى لإحياء مشروع "الممر الكبير" الذي يربط الهند بإسرائيل وأوروبا؛ ما يتطلب تأمين بيئة أمنية مستقرة، خصوصًا من تهديدات غزة وحماس، التي تشكِّل خطرًا على هذا المشروع رغم كل الجهود لتأمين المنطقة.
من جانبه، اختار محسن محمد صالح، مدير مركز الزيتونة للدراسات، أن يبدأ مداخلته بتحليل شخصية الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وأشار في هذا الصدد إلى نرجسيته العالية وبراغماتيته كسمات تميزه، فضلًا عن تأثره بالعقيدة الإنجيلية في ما يتعلق بفلسطين. واعتبر صالح أن ترامب يخلط بين اعتبارات السوق، والحسابات الإستراتيجية، والقيم الإنسانية؛ ما يجعله يتجاهل واقع الشعب الفلسطيني وارتباطه العميق بأرضه، رغم فشل كل مشاريع التهجير منذ 77 عامًا. وشدَّد على أن الاحتلال الإسرائيلي، رغم كل ما فعله، لم يتمكن من السيطرة على غزة؛ ما يجعل أي حديث عن تملكها أو تهجير سكانها ضربًا من الوهم.
أما جوني منير، الصحفي والمحلل السياسي، فقد رأى أن الحرب الأخيرة لم تكن فقط لتأمين المستوطنات الإسرائيلية، بل هدفت إلى طرد الفلسطينيين من غزة والضفة، مشيرًا إلى أن العقلية الإسرائيلية طالما حلمت بالتخلص من غزة، كما عبَّر عن ذلك إسحاق رابين سابقًا. واعتبر منير أن خطة ترامب ونتنياهو لطرد الفلسطينيين قائمة على تدمير البنية التحتية وجعل الحياة مستحيلة، لكن تمسك الفلسطينيين بأرضهم يبقى التحدي الأكبر لهذه المخططات، مؤكدًا أن مواجهة هذه الأفكار "المجنونة" تتطلب إدارة واعية وحازمة من الفلسطينيين والعرب على حدٍّ سواء.
الوضع الدولي في ظل الإدارة الأميركية الجديدة
استهل محمد المنشاوي جلسة "الوضع الدولي في ظل الإدارة الأميركية الجديدة" بمداخلة أعرب فيها عن دهشته من اندهاش البعض في الشرق الأوسط من شخصية ترامب وسياساته، مؤكدًا أن ترامب "كتاب مفتوح" يمكن التعامل معه بسهولة، مشيرًا إلى أن فترة حكمه الأولى التي امتدت لأربع سنوات كانت مقدمة واضحة لما نشهده اليوم. ولفت إلى أن ترامب يُعد رئيسًا غير تقليدي بشكل كامل وراديكالي، فهو الرئيس الأميركي الوحيد الذي وصل إلى البيت الأبيض دون خوض أي انتخابات سابقة، حتى على مستوى المجالس المحلية أو المدرسية؛ حيث كانت أول تجربة انتخابية له هي الانتخابات الرئاسية عام 2016، والتي نجح فيها. وأوضح المنشاوي أن جميع الرؤساء السابقين خاضوا تجارب انتخابية على مستوى الولايات أو الكونغرس أو شاركوا في حروب خارجية، في حين جاء ترامب من خارج هذا الإطار التقليدي ليهز أركان السياسة الأميركية ويُحدث تغييرات جذرية، ليس فقط في الداخل الأميركي، بل على مستوى العالم أجمع، معتبرًا أن ما يقوم به ترامب في ولايته الثانية هو امتداد لما بدأه في فترته الأولى.
وأشار المنشاوي إلى أن هناك إجماعًا فكريًّا ونخبويًّا أميركيًّا بعد الحرب العالمية الثانية على الحفاظ على النظام العالمي الذي أُسِّس حينها؛ حيث خرجت الولايات المتحدة كأقوى دولة في العالم بعد تدمير جميع أعدائها خلال الحرب، مع وجود تحدٍّ وحيد تمثَّل في الاتحاد السوفيتي، الذي تمكنت واشنطن من التغلب عليه لاحقًا. وأوضح أن هذا النظام يستند إلى مسارين أساسيين: الأول: هو ضمان استقرار عالمي يسمح للرأسمالية العالمية بالنمو والتمدد، والثاني: هو الحفاظ على هيمنة الولايات المتحدة على هذا النظام. ورأى أن ترامب لا يكترث بهذا الإرث الذي حافظ عليه جميع الرؤساء الأميركيين السابقين؛ حيث يسعى إلى هدم ما تم بناؤه بعد الحرب العالمية الثانية.
وأكد المنشاوي أن ترامب دخل التاريخ من أوسع أبوابه بعد أن تم انتخابه لولايتين غير متتاليتين، وهو أمر لم يحدث منذ أكثر من 100 عام، معتبرًا أن ترامب يسعى إلى تحقيق إرث شخصي يرضي غروره. وفيما يتعلق بالشرق الأوسط، أشار إلى أن ترامب يطمح إلى النجاح في تحقيق ما فشل فيه 13 رئيسًا أميركيًّا سابقًا منذ اندلاع الصراع العربي-الإسرائيلي؛ حيث حاول جميع الرؤساء الجمهوريين والديمقراطيين التوصل إلى سلام في الشرق الأوسط، خاصة من خلال حل الدولتين، لكنهم لم ينجحوا في ذلك. وأوضح أن ترامب جاء برؤية راديكالية لتحقيق السلام في المنطقة، لكنه ليس سلامًا عادلًا؛ إذ لا تعني له العدالة شيئًا، سواء في الشرق الأوسط أو في أوكرانيا؛ حيث يسعى لتحقيق السلام فقط ليظهر كصانع سلام، ما يعكس طموحه للحصول على جائزة نوبل للسلام. وختم المنشاوي بالإشارة إلى أن تصريحات ترامب بشأن مستقبل الشرق الأوسط وقطاع غزة مهمة للغاية، لافتًا إلى أن الولايات المتحدة تربط العالم كله بسلاسل من ذهب أو حديد أو نحاس، لكنها في النهاية تهز العالم أجمع.
من جانبه، أكد محمود يزبك أن انتخاب ترامب وزيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الأخيرة إلى الولايات المتحدة يعكسان بوضوح دخول السياسة العالمية، وخاصة سياسة الشرق الأوسط، مرحلة جديدة تختلف عن الإستراتيجيات المتبعة حتى الآن. وأوضح أنه مع اقتراب تولي ترامب للحكم والتصريحات التي صدرت عشية ذلك، ظهرت توقعات بأن النظام الأميركي الجديد سيُحدث تغييرات جذرية في الشرق الأوسط، خاصة فيما يتعلق بالصراع العربي/الفلسطيني-الإسرائيلي.
وأشار يزبك إلى أن أولى هذه التغييرات تمثَّلت في إجبار نتنياهو على قبول التقدم في صفقة تبادل الأسرى، وهو ما حدث بشكل مفاجئ. وأضاف أن دعوة ترامب لنتنياهو ليكون أول زعيم يلتقي به بعد توليه السلطة أثارت جدلًا واسعًا وتناقضات كبيرة في التوقعات حول اتجاهات السياسة الأميركية الجديدة.
وذكر يزبك أن الليلتين السابقتين لاجتماع ترامب ونتنياهو شهدتا مقالات وتحليلات متباينة حول ما إذا كان ترامب سيضغط على نتنياهو في اتجاه معين أم العكس، مشيرًا إلى أن تصريحات ترامب خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع نتنياهو كانت صادمة للكثيرين؛ حيث لم يتمكن العديد من فهم مغزى كلماته. وأكد أنه لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، جعل رئيس أميركي مصطلحات مثل "التطهير العرقي" و"التهجير القسري"، التي كانت منبوذة وغير مقبولة دوليًّا، موضع نقاش وكأنها أصبحت مقبولة على الساحة السياسية الدولية، في تحدٍّ واضح للقانون الدولي.
من جهته، أشار الحواس تقيِّة، الباحث في مركز الجزيرة للدراسات، المتخصص في العلاقات الدولية، إلى أن ترامب يعتمد على أسلوب "الصدمة والترويع"، الذي كان وزير الدفاع الأميركي الأسبق، دونالد رامسفيلد، يستخدمه في الحروب، ووصف ترامب بأنه "نسخة باهتة" من الرئيس الأسبق، ريتشارد نيكسون، ووزير خارجيته، هنري كيسنجر، اللذين نظَّرا لنظرية "الشخص المجنون" في السياسة الدولية؛ حيث كان نيكسون يهدد باستخدام السلاح النووي في تعاملاته مع الفيتناميين، بينما يفتقد ترامب لهذا البعد الاستثنائي في شخصيته وسياسته.
وأوضح تقيِّة أن نيكسون وكيسنجر كانا يستخدمان التسريبات الإعلامية للضغط على الخصوم دون الإدلاء بتصريحات مباشرة، على عكس ترامب الذي يطلق تهديداته علنًا، مثل تهديده لحركة حماس بـ"الجحيم" إذا لم تسلم الرهائن، ثم إعلانه دعمه المطلق للحكومة الإسرائيلية؛ ما يعكس افتقاره للحنكة السياسية التي تميز بها أسلافه. وأكد أن مشكلة ترامب تكمن في إعلانه عدم خوض حروب جديدة؛ ما يجعله يفتقد لأدوات التهديد التقليدية في العلاقات الدولية، مشيرًا إلى أن الرئيس الأميركي الأسبق، ثيودور روزفلت، كان يقول: "احمل عصا غليظة وتحدث بلطف"، في حين أن ترامب يعلن صراحة أنه لن يستخدم القوة العسكرية؛ ما يضعف من قدرته على التهديد، ويجعله يعتمد على العقوبات الاقتصادية فقط، رغم افتقاره لأدوات المكافأة الاقتصادية الكافية.
وأضاف تقيِّة أن ترامب يلوِّح بفرض عقوبات قاسية على إيران لإجبارها على التفاوض بشأن مشروعها النووي، لكنه يدرك أيضًا أن بالإمكان التعايش مع العقوبات لفترة طويلة، كما أن هناك حالة من الإرهاق في الداخل الأميركي من التدخلات العسكرية الخارجية. وفيما يتعلق بالشرق الأوسط، أشار تقيِّة إلى أن ترامب يسعى لتحميل حلفائه، مثل الأردن ومصر، أعباء تهجير الفلسطينيين، ملوِّحًا باستخدام المساعدات الاقتصادية السنوية للضغط عليهما؛ ما يهدد استقرار هذه الدول، لافتًا إلى أن رفض الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، والعاهل الأردني، الملك عبد الله الثاني، زيارة ترامب يعكس رفضهما لهذه الضغوط؛ ما دفع ترامب إلى الإشادة بهما لاحقًا بعد أن أبديا مقاومة واضحة لسياسته.
أما تاراس جوفتينكو فأكد في مداخلته أن إدارة ترامب تسعى للمضي قدمًا في بدء عملية تفاوض مع الاتحاد الروسي لوقف إطلاق النار في أوكرانيا، تمهيدًا لمفاوضات دبلوماسية أوسع نطاقًا لإنهاء الحرب، لكن ترامب لا يملك إستراتيجية واضحة حول كيفية البدء في هذه العملية أو الأدوات التي سيستخدمها لإقناع موسكو بالجلوس إلى طاولة المفاوضات.
وأشار جوفتينكو إلى أن خطة ترامب تعتمد على تحميل الدول الأوروبية مسؤولية ضمان الأمن في أوكرانيا، بما في ذلك نشر قوات أوروبية لحفظ السلام، وهو ما يثير قلقًا لدى الأوروبيين الذين يدرسون سيناريوهات متعددة للتعامل مع هذا الوضع. ولفت إلى أنه في نهاية خريف 2024، لم تكن الدول الأوروبية تتوقع فوز ترامب بالانتخابات، ما جعلها غير مستعدة للتعامل مع خطة قد تتطلب نشر قوات عسكرية على الأراضي الأوكرانية لضمان وقف إطلاق النار والإشراف على المفاوضات، وهو ما قد يفرض عليها أعباء مالية وعسكرية كبيرة.
فيلم "عيون غزة": عرض ونقاش (الجزيرة 360)
قدمت هذه الجلسة من خلال الفيلم الوثائقي "عيون غزة" رؤية إنسانية وصحفية للأوضاع في قطاع غزة، الذي وثَّق المأساة التي يعيشها السكان في ظل حرب الإبادة التي تعرضوا لها. ومن خلال عدسة الصحفيين وشهاداتهم، يعكس الفيلم واقع الحياة اليومية تحت القصف، مسلطًا الضوء على المخاطر التي تحيط بالعمل الصحفي في بيئة تتسم بالعنف والاستهداف المباشر للإعلاميين.
عبَّر وائل الدحدوح، مدير مكتب الجزيرة في غزة، في مداخلته عن حجم المعاناة التي يعيشها الصحفيون في القطاع، قائلًا: "في قطاع غزة، ليس من السهل أن تكون صحفيًّا، وليس من السهل أن تكون إنسانًا، وليس من السهل أن تكون أحد الضحايا أو والد شهيد، أو قريبًا لشهيد. فما بالك أن تكون كل هؤلاء في آنٍ واحد؟ هذا أمر يفوق قدرة البشر على الاحتمال". وأضاف أن كل ما يحدث في غزة استثنائي وغير منطقي؛ ما دفع الصحفيين إلى أن يكونوا استثنائيين أيضًا، مشددًا على أن دورهم لم يكن مهمًّا فقط بالنسبة لهم ولأسرهم، بل للصحافة وروحها، وللملايين الذين تابعوا ما يحدث لحظة بلحظة عبر عدساتهم.
وتحدث الدحدوح عن التحديات التي واجهها الصحفيون خلال الحرب، موضحًا أنهم أعدوا خططًا مسبقة وبديلة في الحروب السابقة، لكن هذه الحرب كانت مختلفة تمامًا؛ ما فرض عليهم أدوارًا غير مسبوقة. ولفت إلى أن الصحفيين في غزة دفعوا أثمانًا باهظة؛ حيث كانوا في عين الخطر، يخشون على حياتهم وعلى أسرهم، الذين بدورهم كانوا يخشون عليهم. وأشار إلى صعوبة التوفيق بين العمل الصحفي والحياة الأسرية في ظل النزوح القسري والرحيل المفاجئ، مؤكدًا أن الصحفي كان مطالبًا بأن يكون أبًا في بعض اللحظات، لكن المآسي والأوجاع كانت دائمًا تلاحقه.
وأضاف الدحدوح أن الاحتلال يستهدف الصحفيين في أعز ما يملكون لعرقلة عملهم، لكن ذلك لم يمنعهم من مواصلة دورهم، حتى مع تفرُّق أسرهم وإصابة بعض أفرادها، مشدِّدًا على أن الصحفيين اضطروا لتغليب مصلحة العمل على أوجاعهم لتوثيق بشاعة ما يحدث، وقال: "في هذه اللحظات، قال لي من تبقى من أسرتي، من بناتي الجرحى: يا أبي، نحن معك إما أن نحيا معًا أو نموت معًا".
من جانبه، قال عاصف حميدي، مدير الأخبار بقناة الجزيرة الإخبارية: إن الصمت في هذه اللحظة هو أبلغ تعبير عن معاناة الصحفيين في غزة، وشدَّد على ضرورة المضي قدمًا في توثيق الحقيقة. وأضاف أن ما تم عرضه في الفيلم ليس سوى لمحة بسيطة مما يحدث في غزة، مشيرًا إلى أن الصحفيين هناك فقدوا حياتهم وأطرافهم، لكنهم لم يفقدوا إصرارهم أو ضميرهم المهني.
وأكد حميدي أن وصف الصحافة بـ"مهنة المتاعب" لا ينصف الصحفيين في غزة؛ حيث تصبح الصحافة هناك "مهنة الكوارث والمخاطر والإنسانية والتضحيات". واعتبر أن الصحفيين في غزة هم مرآة الواقع والفاجعة، وأن الاحتلال حاول كسر هذه المرآة عبر التحريض والاتهامات والقتل، لكنه فشل؛ ما زاد من عزيمة الصحفيين على مواصلة عملهم رغم المعاناة النفسية والجسدية واللوجستية. وأضاف أن شبكة الجزيرة ستواصل تقديم الحقيقة مهما كانت التحديات، مشددًا على أن استهدافها لن يثنيها عن حمل الراية.
من جهته، أوضح جمال الشيَّال، مدير إستراتيجية المحتوى في منصة 360 بشبكة الجزيرة، أن إستراتيجية المحتوى للمنصة كانت تهدف إلى مواصلة رسالة الجزيرة، والتقرب من الجمهور، وتقديم الرأي والرأي الآخر، ونقل الحقيقة التي يحاول البعض طمسها. وأشار إلى أن الأفلام الوثائقية أصبحت وسيلة فعالة للتواصل مع الجمهور خلال الحروب، حيث تمت إضافة مشاهد بسيطة في فيلم "عيون غزة"، مثل اللعب مع الأطفال، لملامسة الجانب الإنساني في كل مشاهد.
ولفت الشيَّال إلى أن أحد التحديات في توثيق تاريخ غزة هو خطر وصول الجمهور إلى حدِّ التشبع من الأخبار الحادة؛ ما يستدعي إيجاد طرق جديدة لإبقاء معاناة أهل غزة في وجدان العالم. واعتبر أن الحرب الأخيرة علمتهم مدرسة جديدة في الصحافة عنوانها "الابتكار والتمسك بالحياة"، رغم صمت المؤسسات الدولية التي يُفترض بها الدفاع عن المهنة، في وقت استُشهد فيه أكثر من 200 صحفي دون ردود فعل دولية كافية.
وفي مداخلة عن بُعد، قال محمد أحمد، مراسل الجزيرة في شمال غزة: إن توثيق المعاناة بعد الحرب كان أكثر صعوبة من التغطية خلال الحرب، التي كانت بدورها قاسية للغاية، مشيرًا إلى ظروف العمل الصعبة في ظل انعدام المواصلات والتواصل مع المؤسسات، والمجاعة التي عانوا منها خلال شهر ديسمبر/كانون الأول، إضافة إلى الإصابات والضغوط النفسية والجسدية.
وأضاف محمد أحمد أنهم اضطروا للعمل دون كاميرات احترافية أو معدات بث، معتمدين على كاميرات الهواتف المحمولة؛ حيث كانوا يقطعون أكثر من 20 كيلومترًا يوميًّا للتنقل والتصوير؛ ما زاد من العبء عليهم. وأوضح أنهم كانوا يواكبون الحدث منذ اللحظات الأولى للضربات وحتى وداع الشهداء، مشيرًا إلى صعوبة التعامل مع مشاهد الأطفال المصابين، التي كانت تذكِّره بابنه المولود بعيدًا عنه.
وأشار إلى أن زميله، عبد القادر، عاش تجربة مختلفة؛ حيث كان مسؤولًا عن أسرته التي تعرضت للاستهداف، ما أدى إلى إصابة ابنه ووالده وزوجته، وفقدان عدد من أفراد أسرته. وختم محمد أحمد بالتأكيد أن الصحفيين في غزة حاولوا أن يبقوا صامدين، معتبرًا أن مسؤوليتهم الكبرى كانت نقل ما يحدث للعالم رغم كل الصعوبات.
إصدارات
وبالتزامن مع انعقاد جلسات المنتدى أقيم حفل توقيع كتاب "إيران وحماس: من مرج الزهور إلى طوفان الأقصى"، لمؤلفته الدكتورة فاطمة الصمادي، الباحثة الأولى في مركز الجزيرة للدراسات، والذي يقدِّم نظرة شاملة على تطور العلاقة بين إيران وحركة حماس منذ بداياتها، مسلِّطًا الضوء على محطاتها الأساسية وأزماتها، والعوامل الإقليمية والدولية التي أثَّرت فيها، وصولًا إلى تأثير المواقف الإقليمية المحيطة بالأحداث الراهنة.
وفي السياق ذاته، صدر "التقرير الإستراتيجي السنوي لمركز الجزيرة للدراسات" تحت عنوان "مراجعة الإستراتيجيات المتصارعة في ضوء الحرب على غزة والتغيير في سوريا"؛ حيث يستعرض التقرير بشكل معمَّق المرتكزات الأساسية لتلك الإستراتيجيات، وأهدافها وأولوياتها، مع التركيز على التطورات التي شهدتها المنطقة خلال العام الماضي، وتقييم قدرتها على تحقيق غاياتها أو اضطرارها لإعادة صياغتها في ظل المتغيرات المتسارعة.
كلمة مدير شبكة الجزيرة
خلال كلمته في حفل العشاء الذي أقيم على شرف ضيوف منتدى الجزيرة السادس عشر، أكد الدكتور مصطفى سواق، المدير العام لشبكة الجزيرة الإعلامية، أن الجزيرة نشأت تحت شعار "الرأي والرأي الآخر"، مشددًا على ثقة الشبكة في ذكاء جمهورها وقدرته على اختيار ما يناسبه من آراء ومعلومات دون الحاجة إلى فرض رأي واحد عليه.
وعن التغيير الذي شهدته سوريا، أشار سواق إلى أنها تخلصت من الطغيان، معربًا عن تفاؤله ببوادر بناء دولة متميزة بفضل ما تمتلكه من عقول قادرة على تحقيق هذا الهدف.
وفي سياق حديثه عن الأوضاع في غزة، أوضح سواق أن ما يجري في القطاع هو نتيجة للاحتلال والطغيان الإسرائيلي، داعيًا الدول العربية إلى التكاتف وعدم السماح بأن "يؤكل الثور الأبيض"، في إشارة إلى ضرورة مواجهة الأطماع الإسرائيلية التي رأى أنها لا تعرف حدودًا في المنطقة.
واختتم سواق كلمته بالإشادة بدور منتدى الجزيرة في جمع العقول والخبرات لمناقشة القضايا العربية بعمق وموضوعية، مؤكدًا أهمية استمرار هذا الحوار في مواجهة التحديات الراهنة.
الختام
في ختام أعمال المنتدى، قال الدكتور محمد المختار الخليل، مدير مركز الجزيرة للدراسات: إن المنتدى سعى ليكون ساحة لقاء مفتوحة تجمع صنَّاع القرار والإعلام، مشيرًا إلى أن الهدف من المنتدى هو تعزيز الوعي في الاتجاه الصحيح، وموجهًا شكره للحضور وجميع قطاعات شبكة الجزيرة الإعلامية التي أسهمت في تنظيم المنتدى. وأكد الخليل أن منتدى الجزيرة سيُنظَّم في العام المقبل، وأنه سيشهد مزيدًا من التنويع والإبداع في القوالب والمضامين، معربًا عن تطلعه إلى تجدد الأصوات التي تسهم في التوعية والنقاش المستمر.
يمكن مشاهدة جلسات المنتدى عبر هذه الروابط:
تغيير النظام في سوريا: آثاره في الداخل وأبعاده الإقليمية
الشرق الأوسط أمام توازنات جديدة
العدالة الانتقالية في دول ما بعد النزاعات: فرص وتحديات
الوضع الدولي في ظل الإدارة الأميركية الجديدة