عملية "الجدار الحديدي" الإسرائيلية في شمال الضفة: أبعادها الجيوسياسية والأمنية

تختلف العملية العسكرية الحالية "السور الحديدي" عن سابقاتها، ليس في حجم القوة العسكرية وهو أكبر، بل في كونها تستهدف تفكيك المخيمات الفلسطينية وإعادة تركيبها بهندسة معمارية واجتماعية وإدارية جديدة، مع عزمها على البقاء هناك لفترة طويلة غير محددة.
1 أبريل 2025
إسرائيل شنت عملية "الجدار الحديدي" بهدف معلن هو القضاء على المقاومة المسلحة ومنع امتدادها (الفرنسية).

مقدمة

شنت إسرائيل عملية عسكرية واسعة استهدفت مدن ومخيمات شمال الضفة الغربية، أسمتها "الجدار الحديدي"، بهدف معلن، ألا وهو القضاء على المقاومة المسلحة ومنع امتدادها. تشير التقديرات إلى أن إسرائيل قتلت 69 فلسطينيا، وهدمت مئات المنازل والمنشآت التجارية، وهجّرت أكثر من 40 ألف فلسطيني من مخيم جنين ومخيمي نور شمس وطولكرم، ومخيم الفارعة في طوباس، ومخيم العين في نابلس منذ بداية عمليتها يوم 21 يناير/كانون الثاني حتى 19 مارس/آذار 2025(1).

وجاءت عمليتها العسكرية في شمال الضفة الغربية استكمالاً لعمليات سابقة محدودة في المناطق والمخيمات التي تنشط فيها المقاومة، وبعد استهداف مئات المقاومين بالاغتيال وقتل مئات المواطنين، وتدمير ممنهج ومتعمد للبنى التحتية والخدماتية ونسفٍ لمربعات سكنية كاملة، وحصار اقتصادي للسكان. تسعى إسرائيل إلى إعادة تشكيل الجغرافيا والديمغرافيا في المخيمات بسياسات الهدم والتهجير واستهداف وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، المسؤولة عن تقديم الخدمات في مخيمات الضفة، بما يعزز تقدمها في المشروع الكبير على مستوى الضفة. تصنف إسرائيل العملية بأنها الأكبر منذ عملية "السور الواقي" التي اجتاحت فيها المناطق المصنفة (أ)(2) عام 2002 ودمرت حينها ما يقارب 400 منزل في مخيم جنين، وتقول على لسان وزير الجيش، يسرائيل كاتس، إن العملية ستتوسع إلى مناطق أخرى من الضفة(3).

تهدف الورقة إلى تأطير هذه العملية وتحديد سياقها، وتحليل مآلاتها وتداعياتها على مخيمات شمال الضفة الغربية، فضلا عن آثارها على مستقبل السلطة الفلسطينية وعلاقتها بإسرائيل.

سياق عملية "السور الحديدي" ومجالها

صعّدت إسرائيل هجمتها العسكرية ضد المخيمات الفلسطينية منذ أواسط عام 2021 الذي شهدت فيه الضفة الغربية تأسيس "كتيبة جنين" التابعة لحركة الجهاد الإسلامي. تشكلت الكتيبة في مخيم جنين، وهي أكبر تشكيل للمقاومة في الضفة الغربية منذ انتهاء الانتفاضة الثانية عام 2004، على يد "جميل العموري" بعد هبة القدس ومعركة "سيف القدس" عام 2021، واغتالت إسرائيل العموري لاحقاً.

برز اسم الكتيبة في جنين خلال سبتمبر/أيلول من ذلك العام، بعد تمكن 6 أسرى فلسطينيين من الهروب وانتزاع حريتهم من معتقل "جلبوع" الإسرائيلي، حيث أعلنت المجموعة عن قدرتها على حماية الأسرى في حال وصولهم إلى المخيم، وأنها ستتصدى لاقتحامات الجيش الإسرائيلي لمدينة جنين ومخيمها(4)، وتَوسعَ عملها لاحقاً إلى تنفيذ هجمات مسلحة في الضفة والمناطق المحتلة عام 1948. وسرعان ما استنسخت فكرتها من مخيم جنين إلى الضواحي وإلى مخيمات أخرى، مثل بلاطة في نابلس، والفارعة في طوباس، ومخيمي نور شمس وطولكرم، ومخيم عقبة جبر في أريحا.

وفي ذات السياق برزت مجموعة "عرين الأسود" في نابلس عام 2022 مستلهمة الفكرة من كتيبة جنين، واستطاعت إسرائيل خلال عامي 2022 و2023 الحد من نشاط هذه الأخيرة وتصفية قيادتها عبر عمليات عسكرية وسياسات أمنية، إلا أنها لم تستطع القضاء على كتيبة جنين رغم حجم الاغتيالات التي استهدفت قيادات المجموعة وعناصرها.  

سجلت إحصائيات الاقتحامات لمدن الضفة الغربية ومخيماتها قبل الحرب على غزة، مقتل 421 فلسطينياً برصاص الجيش الإسرائيلي، منهم 58 مقاوماً اغتيلوا بشكل مباشر. وجاءت النسبة الأعلى البالغة 144 فلسطينياً؛ في جنين، 59 منهم في المخيم، إلى جانب 98 آخرين في نابلس.

من أبرز العمليات التي استهدفت المقاومة في المخيمات، عملية "كاسر الأمواج"(5) التي شنتها إسرائيل في مارس/آذار 2022، واستهدفت فيها مدينتي جنين ونابلس، وقتلت خلالها أكثر من 100 فلسطيني. كما نفذت إسرائيل عملية "بيت وحديقة" في جنين ومخيمها خلال يوليو/تموز 2023، في محاولة منها للقضاء على المقاومة التي واجهت الاقتحام وأفشلته، وفي المقابل أطلقت الكتيبة على العملية اسم "بأس جنين".

منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، واصلت إسرائيل تصعيدها في الضفة الغربية، ورأت في المخيمات حاضنة للعمل المسلح الذي تخشى تصاعده وزيادة تنظيمه على غرار غزة، على قاعدة وحدة الساحات والعمل العسكري والارتباط "بمحور المقاومة". قتلت إسرائيل خلال عدوانها على الضفة حتى تاريخ 19 مارس/آذار 2025، 943 فلسطينياً، منهم 273 في جنين (55 في المخيم)، وتجاوز عدد الشهداء في طولكرم 210 (65 منهم في مخيم نور شمس و52 في مخيم طولكرم)، بينما تجاوز العدد في طوباس 86 فلسطينيا. كما لاحقت إسرائيل كتيبة جنين بالاغتيالات، حيث قتلت 275 من المقاومين (106 منهم في جنين، 91 في طولكرم، 27 في نابلس، و35 في طوباس)(6).

مارست إسرائيل أساليب الاقتحامات المباغتة لتنفيذ عمليات الاغتيال والاعتقالات أو إرسال الطائرات المسيّرة المفخخة، أو القصف الجوي من الطائرات، وشنت عمليات عسكرية كبيرة شارك فيها آلاف الجنود، أبرزها عملية "مخيمات صيفية" التي استهدفت مدن شمال الضفة ومخيماتها في نهاية أغسطس/آب 2024، بهدف القضاء على تشكيلات المقاومة.

أهداف العملية

تدعي إسرائيل أن أهداف عملية "السور الحديدي" أمنية تنحصر في القضاء على المقاومة المسلحة فقط، لكن الإجراءات المستمرة على الأرض وتصريحات قيادات من الجيش والإدارة المدنية، تفيد بأن هنالك دوافع جيوسياسية وديمغرافية ترتبط بمشروع إسرائيل الكبير لضم الضفة الغربية وإخضاعها للسيادة الإسرائيلية الكاملة. تسعى إسرائيل إلى تقليص الكتلة السكانية في المخيمات الفلسطينية في إطار تذويبها وتحويلها إلى أحياء تابعة للمدن، وما صدر من تصريحات لمسؤولين إسرائيليين يؤكد ذلك، إذ عبروا فيها عن نية إسرائيل البقاء لفترة طويلة في تلك المخيمات رغم وقوعها في مناطق سيادة السلطة الفلسطينية. كما أن الجيش يمنع اللاجئين من العودة إلى منازلهم التي نزحوا منها داخل المخيمات، أو من ترميم ما هدمته آلته العسكرية، وذلك رغم تحقيقه جزءا من أهداف عمليته المزعومة، بإنهاء مظاهر المقاومة المسلحة ووجودها بعد تهجير غالبية السكان.

ومما تهدف إليه إسرائيل من وراء هذه السياسات، منع إعادة تشكل مجموعات عسكرية جديدة للمقاومة الفلسطينية، أو انخراط أسرى محررين في العمل المقاوم(7)، فإسرائيل تخشى المخيمات وخصوصاً في جنين وطولكرم التي نجحت -رغم تدميرها سابقا- في إعادة إنتاج المقاومة وتجديدها عبر الأجيال، وباتت تشكّل حصوناً يلجأ إليها المقاومون من الضواحي للانخراط في المقاومة والتخفي.

ومن منظور أوسع، ترتبط إجراءات إسرائيل في المخيمات المستهدفة بمشروع تسعى فيه إلى طمس قضية اللاجئين الفلسطينيين في الضفة الغربية باستهداف المخيمات المرتبطة رمزياً بالنكبة الفلسطينية، باعتبارها مأساة تعبر عن مظلومية جماعية للاجئين الذين يسكنون المخيمات، ويرون أن وجودهم مؤقت إلى حين العودة. يحافظ اللاجئون على شكل المخيم رغم ضيق المساحة وارتفاع كثافته السكانية وكونه تجمعاً معزولاً عن محيطه، وفيه مزيج من لاجئين تجمعهم سمة مشتركة وهي: التمسك بحق العودة إلى ديارهم التي هجروا منها عام 1948، ورفض مشاريع التوطين والدمج في محيطهم.

يختلف التكوين البنيوي للاجئين في المخيمات اجتماعياً واقتصادياً عن المدن والقرى الفلسطينية المحيطة، باعتبار أن المخيمات مزيج من عائلات تعود أصولها إلى مناطق فلسطينية مختلفة، ولديها قضايا اجتماعية ومعيشية مشتركة، وتعتمد مؤسسياً وخدماتياً على وكالة الأونروا المسؤولة عن تقديم الخدمات الأساسية، على رأسها الصحة والتعليم والبنية التحتية لـ19 مخيماً في الضفة الغربية.

وتعود المرجعية الإدارية في المخيمات إلى لجان شعبية داخلية من الأهالي، تشكل مرجعية وقيادة مؤسسية للعمل الأهلي والمؤسسي فيه وتتبع دائرةَ شؤون اللاجئين التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهي عبارة عن لجان فصائلية مسؤولة عن منع النزاع والاقتتال داخل المخيمات، وتتابع سير تقديم الخدمات للاجئين في المخيمات، وتسعى لتطويرها بالتعاون مع الأونروا.  

تسعى إسرائيل إلى تفكيك المخيمات وإعادة تركيبها بهندسة معمارية واجتماعية وإدارية جديدة، من خلال إجراء تغييرات في الطرق الداخلية والبنى العمرانية لطمس بعض الملامح والخصائص التي تميز المخيمات، ومن أبرزها الكثافة السكانية وعشوائية البنيان البسيط والمكتظ وضيق الطرق الداخلية. كما تسعى إلى إعادة تعريف وتسمية المخيمات كأحياء تتبع المدن الفلسطينية، ونقل مسؤولية الخدمات المقدمة فيها من الأمم المتحدة إلى البلديات الفلسطينية التابعة حالياً لوزارة الحكم المحلي في الحكومة الفلسطينية. وفي ذلك تعميق كبير للفجوة القائمة بين اللاجئ الفلسطيني ومشروع السلطة الفلسطينية، أي "حل الدولتين" الذي لا يضمن حق العودة للاجئي الضفة الغربية وغزة والشتات الذين تعود أصولهم إلى المناطق المحتلة عام 1948. ويؤدي التوجه الإسرائيلي أيضاً إلى نزع المسؤولية الأممية عن وكالة الأونروا التي تم تشكيلها من أجل تقديم برامج الإغاثة والتشغيل للاجئين الفلسطينيين إلى حين إيجاد حل عادل لقضيتهم(8).

بدأت إسرائيل هذه الإجراءات باستهداف البنية التحتية وتحويل المخيمات إلى مناطق غير صالحة للعيش بعد تجريف الطرق وتدمير شبكات الخدمات والصرف الصحي والمرافق العامة، وإجبار سكانها على النزوح إلى مناطق أخرى لفترات غير محددة ستبقى فيها إسرائيل داخل المخيمات.

ويأتي تفكيك المخيمات استكمالاً للسياسات السابقة التي بدأت فيها إسرائيل بحصار وكالة الأونروا اقتصادياً وتقليص دورها في مخيمات الضفة، وصولاً إلى إعلان حظر عملها في الضفة الغربية وغزة(9)، وهذا يتوافق مع بنود سابقة في صفقة القرن التي اقترحتها إدارة دونالد ترمب عام 2019، ونصت على إلغاء حق الفلسطينيين في العودة، ودعت إلى استيعاب اللاجئين الفلسطينيين الموجودين في مخيمات الضفة من قبل السلطة الفلسطينية مع الخضوع للقيود الإسرائيلية.

التداعيات

يؤدي الاستهداف الإسرائيلي للضفة الغربية بشكل عام، وهذه العملية بشكل خاص، إلى تداعيات على الحيز الجغرافي وتبعاتٍ على التوزيع الديمغرافي للفلسطينيين وقدرتهم على الصمود، ويمكن حصر آثارها فيما يلي:

أولا- ترسيخ التقسيمات المناطقية في الضفة الغربية، وهو ما بدأت به إسرائيل سابقاً وأنجزت جانباً من ترتيباته عبر الفصل الجغرافي بين المحافظات الفلسطينية بشوارع التفافية وحواجز وبوابات وجدار الضم والتوسع الاستيطاني، وحوّلت المحافظات إلى مناطق مفصولة عن بعضها، ترتبط بشبكات طرق خاضعة لأنظمة التحكم والسيطرة، تستطيع بموجبها إغلاق المحافظات وفصلها عن بعضها أو فصلها عن محيطها. كما تستطيع التحكم بتجمعات السكان في القرى والأرياف عبر أنظمة البوابات القابلة للفتح والإغلاق التي وصل عددها إلى نحو 988 بوابة. ويرتبط ذلك بمخططات إسرائيلية لإعلان ضم المناطق المصنفة (ج)(10) التي تبلغ مساحتها حوالي 62% من مساحة الضفة الغربية، عبر سياسات الحصار والتضييق على السكان، لتهجيرهم منها إلى مناطق أخرى، ومثال ذلك محافظة طوباس التي تصنف قرابة 78.3% من أراضيها كمناطق (ج). وتتركز الهجمة الإسرائيلية في مناطق أخرى غير مخيم الفارعة، وهي قرى "طمون" و"عقابا"، كما تستهدف إسرائيل الأغوار الشمالية بالاستيطان الرعوي.

ثانيا- توسيع نطاق حكم الإدارة المدنية الإسرائيلية والحكم العسكري للجيش، حيث يمتد إلى مناطق (أ) التي لم تكن خاضعة للحكم العسكري سابقاً. وتسعى الإدارة المدنية للاشراف المباشر على عملية إعادة هيكلة المخيمات هناك وتذويبها، ونسج علاقات مع جهات فلسطينية للتنسيق المباشر معها وتجاوز السلطة الفلسطينية، وهذا ما عرضته الإدارة المدنية عندما اجتمعت مع شخصيات ورجال أعمال فلسطينيين من جنين(11)، في حين يتعامل الجيش مباشرة مع السكان بالحكم والأوامر العسكرية دون الاتصال عبر مكاتب الارتباط التابعة للسلطة الفلسطينية.

ثالثا- تعميق الشرخ الاجتماعي والوطني بين اللاجئين وغيرهم في المحافظات المستهدفة، عبر دعوة الإدارة المدنية الإسرائيلية إلى عودة الحياة بشكل طبيعي في المدن للتطبيع مع العمليات العسكرية الإسرائيلية، وإعطاء المخيمات بالمقابل وضعا عسكريا استثنائيا من حيث استهدافها بشكل شامل. كما تسعى إسرائيل إلى تعزيز فصل المحافظات بعضها عن بعض، واستهدافها بشكل غير متزامن، ويظهر ذلك من خلال إمعانها في استهداف محافظات شمال الضفة الغربية على وجه الخصوص، مما يخلق فجوة عملياتية بالمقارنة مع الوسط والجنوب، وتنعكس اختلافا بين هذه المحافظات من ناحية المعيشة وانتظام الحياة العامة.

رابعا- خلق أزمات معيشية واقتصادية وبيئية في التجمعات المستهدفة بالعملية العسكرية عبر تدمير البنى التحتية على غرار غزة، وقد أفادت تقارير بلدية جنين بأن جيش الاحتلال جرّف كل شوارع مخيم جنين، و80% من شوارع مدينة جنين بواقع 15.63 كلم من الطرق، وتم تدمير ما يقرب من 21 كلم من شبكات المياه(12)، بينما سجلت خسائر في خطوط الكهرباء والاتصالات والصرف الصحي. هذا إلى جانب تأثر المشاريع الاقتصادية والإنتاجية والمنشآت التجارية والأسواق باستهداف بنيتها التحتية وفرض الحصار العسكري.

خامسا- محاولة خلق ضغط شعبي داخلي موجه ضد المقاومة ونهجها، من خلال سياسات العقاب الجماعي للسكان، وزيادة الفجوة بين مناطق العمليات العسكرية ومناطق أخرى لخلق مقارنات بين محافظات الشمال والمحافظات الأخرى في الوسط والجنوب، لزيادة وتعزيز قوة الأصوات الرافضة لنهج العمل المسلح في الأوساط الفلسطينية، بما يحقق معادلة "الأمن مقابل المعيشة". وبذلك تعمل إسرائيل على تجريد المقاومة من حاضنتها الشعبية، وزيادة الفجوة بين "تيار المقاومة" وتيار السلطة الفلسطينية، عبر اعتقال واستهداف قيادات فصائلية مقبولة اجتماعياً ووطنياً داخل المخيمات.

سادسا- رفع معدلات الهجرة الصامتة لفلسطينيي الضفة الغربية إلى الخارج عبر سياسات تضييق المجال الحيوي والعقاب الجماعي والحصار الاقتصادي، الذي يساهم في تعميق الأزمات المعيشية ورفع معدلات الفقر والبطالة، وإضعاف مقومات الصمود، ودفع نسبة من الفلسطينيين للهجرة إلى الخارج بحثاً عن فرص عمل.

التداعيات على السلطة ودورها

تستهدف إسرائيل أيضا بعملية "السور الحديدي" والإجراءات المصاحبة لها تقويض حكم السلطة الفلسطينية ودورها في المناطق المصنفة (أ)، فهي تسعى لتقليص صلاحيات السلطة بتحويل صلاحيات الحكم الذاتي إلى المحافظات والبلديات الفلسطينية بشكل منفصل ومستقل عن السلطة، ويتوافق مع مخطط عزل المحافظات وفصلها إدارياً وجغرافياً، وهو أشبه بنظام روابط القرى الذي حاولت إسرائيل إقامته عام 1981.

ولا تبدو السلطة مقاومة لهذا التوجه الإسرائيلي، فبينما تسعى إسرائيل إلى تغيير معالم مدن شمال الضفة الغربية، ينحصر موقف السلطة في اتجاهين: أولهما ممارسة دور أمني يساهم في توطيد علاقتها مع إسرائيل وحلفائها ويؤدي إلى استمرار دعمها مالياً ووظيفياً، والثاني الوقوف في موضع المتفرج تجاه السياسات الإسرائيلية التي تضع اللمسات الأخيرة على مخططات بسط السيطرة وإعادة حكم الإدارة المدنية، وهي مناطق تقع في قلب سيادة السلطة ولا تعمل مع أذرع السلطة الحكومية ضمن خطة شاملة لمواجهة التداعيات الإنسانية(13).

ومما يتعلق بالاتجاه الأول، فقد قامت أجهزة السلطة الفلسطينية بملاحقة عناصر كتيبة جنين والتشكيلات المسلحة الأخرى منذ تأسيسها وواجهت عناصرها بالاعتقال والملاحقة، ووصل الأمر في نهاية المطاف إلى الاشتباك العسكري المباشر بين الطرفين. تختلف السلطة مع هذه التشكيلات وجودياً لأن نهجها مغاير لبرنامج السلطة، وكلما تمكنت هذه المجموعات من تنظيم نفسها وشن هجمات ضد إسرائيل وصد اقتحاماتها، اعتبرت إسرائيل أن السلطة غير قادرة على ضبط الأمن وتتهمها بالإخلال بالوظيفة الأمنية المنوطة بها، وهي الوظيفة التي باتت تشكل مؤخراً أساس العلاقة مع إسرائيل.

سعت السلطة الفلسطينية إلى تفكيك المجموعات المسلحة عبر الضغط الاجتماعي على المقاومين من خلال العائلات وكبار الشخصيات الفصائلية، أو بتقديم مبادرات لدمج هذه العناصر في أجهزة أمن السلطة، ومنح بعضهم، وخصوصاً المنتمين إلى حركة فتح، وظيفة في أجهزة السلطة مقابل تسليم سلاحهم و"تسوية ملفاتهم الأمنية" بالتعاون مع إسرائيل، وذلك وفق شروط ومقاييس أمنية إسرائيلية.

وواجهت السلطة انتقادات محلية على ملاحقتها عناصر المقاومة المسلحة، ووقوفها على الحياد وتنازلها عن السيادة لصالح جيش الاحتلال الذي بات يقتحم قلب السيادة الفلسطينية لملاحقة المقاومة، وهو ما زاد من حالة الاحتقان الشعبي وأفضى إلى مواجهة بين عناصر الكتيبة وأجهزة السلطة، حتى إن شخصيات محسوبة على قيادة حركة فتح منعها بعض الأهالي من دخول مخيم جنين بعد عمليات للاحتلال، احتجاجاً على دور السلطة وقيادة الحركة، وكانت هذه الحالات تواجه باحتواء ومبادرات من قبل قيادات تنظيمية من المخيم(14).

وقد شنت أجهزة السلطة الفلسطينية يوم 5 ديسمبر/كانون الأول 2024 عملية عسكرية في مخيم جنين هي الأولى من نوعها وحجمها وعلانيتها، أطلقت عليها اسم "حماية وطن"، سعت فيها للقضاء على مسلحين "مقاومين" للاحتلال اعتبرتهم "خارجين عن القانون" و"ذراعا إيرانية". ترافقت العملية مع حملات إعلامية ضد "المقاومة" وأهدافها ومرجعيتها، ومع تنظيم مسيرات مؤيدة للعملية بدعوة من قيادات حركة فتح المقربة من السلطة والأجهزة الأمنية، اتهمت "المقاومين" في الضفة الغربية بأنهم يعطون مبرراً لإسرائيل لصناعة نموذج غزة آخر. استمرت عملية السلطة لمدة 48 يوماً وأدت إلى مقتل 14 مواطنا فلسطينياً، منهم 6 من عناصر السلطة، وإلى اعتقال مئات المواطنين، كما لاحقت من وصفتهم "بالمطلوبين" في قرى وأحياء المحافظة.

لم تمنع إجراءات السلطة الفلسطينية إسرائيل من القيام بعمليتي اغتيال وتصفية لقيادات من كتيبة جنين، وذلك في الوقت الذي كانت السلطة تحاصر المخيم وتستهدف المجموعة. بل واصلت إسرائيل عملياتها واقتحمت المدن، وأمعنت في تدمير البنية التحتية وشبكات الكهرباء والماء والاتصالات للمخيمات والمدن، لزيادة الأعباء على السلطة الفلسطينية المسؤولة بالدرجة الأولى عن إعادة إعمار المناطق الواقعة تحت سلطتها الإدارية.

ورغم تراجع المقاومة وتلاشيها بعد إخلاء المخيمات بشكل كامل من سكانها، أقدمت إسرائيل بعد أكثر من شهر من بدء العملية العسكرية على إدخال آلياتها العسكرية الثقيلة والمدرعة، في مشهد شبيه بالحرب على غزة، وأعلنت نيتها البقاء في هذه المناطق لفترة طويلة، وبالتالي فقدت السلطة سيادتها بشكل كامل في أجزاء من المناطق المصنفة (أ) التي يُفترض أن تخضع لها، وهذا يعني خضوع هذه المناطق للاحتلال العسكري الإسرائيلي كما هو الشأن مع المناطق المصنفة (ج). وتجاهل السلطة للعملية الإسرائيلية في مخيمات الشمال ينذر بتوسعها إلى مخيمات أخرى في الضفة، ويساهم في التقدم بخطوات إضافية باتجاه معاكس لمشروع السلطة السياسي المتمثل في "حل الدولتين"، ويهدد مستقبلها.

خاتمة

تختلف العملية العسكرية الحالية عن العمليات السابقة التي نفذتها إسرائيل في مخيمات شمال الضفة الغربية منذ عقدين، ولا يقتصر الفارق على حجم القوة العسكرية المشاركة فيها، بل يمتد إلى كونها تشكل أساساً لمخطط تنوي إسرائيل تنفيذه بشكل مباشر، مع اعتزامها البقاء هناك لفترة طويلة غير محددة قد تؤسس لعلاقة جديدة مع الفلسطينيين والسلطة.

إن نجاح العملية الإسرائيلية في شمال الضفة ومخيماتها، سيكرس معايير جديدة لمرحلة جديدة، تتوسع فيها الهجمة نحو مناطق أخرى في ظل استغلال إسرائيل للظروف المواتية لها، فهي تحظى بالدعم والمساندة الأميركية من إدارة ترمب، والصمت العربي والدولي مستمر إزاء جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة وجرائمها في الضفة الغربية. وبالمقابل، تعاني السلطة الفلسطينية ضعفا سياسياً واقتصادياً بنيويا، وأبقت على تعاونها وتنسيقها الأمني مع الاحتلال، وهناك تراجع في العمل الشعبي والفصائلي في الضفة.

لا شك أن إسرائيل تسعى لحسم الصراع وفق رؤية حكومتها اليمينية، فهي تريد إرساء وضع دائم يكون فيه الفلسطينيون طرفاً خاضعاً لإسرائيل بالقوة العسكرية، وعدم تقديم أي "تنازلات" لهم قد تؤدي إلى التقدم نحو مشروع "حل الدولتين".

أما الطرف الفلسطيني المتمثل في السلطة والفصائل فلا يزال يعاني من اختلاف في الرؤية والبرامج، إذ ما زالت السلطة تتمسك بدورها وعلاقتها مع إسرائيل رغم الاستهداف العلني لها واستمرار حصارها ومنع تحويل أموالها وإعلان مخططات إضعافها وصولاً إلى تفكيكها، وينحصر موقفها بين الصمت والانتظار. أما الفصائل الفلسطينية التي تتعارض مواقفها مع السلطة فقد تم إقصاؤها عن المشهد السياسي الواقع في مجال السلطة السيادي، وباتت مغيبة عن الميدان بفعل الاستهداف المستمر.

نبذة عن الكاتب

مراجع
  1. "شهداء فلسطين.. عدوان السور الحديدي"، مرصد شيرين، (تاريخ الدخول: 26 مارس/آذار 2025)، https://www.shireen.ps/home
  2. هي مناطق تابعة للسلطة الفلسطينية أمنياً وإدارياً بموجب اتفاقية طابا عام 1995.
  3. "كاتس عن عملية الجدار الحديدي: "جنين أولاً، ثم ستتوسع العملية إلى كل أنحاء يهودا والسامرة"، الصفحة الرئيسية للقطاع الديني، 22 يناير/كانون الثاني 2025 (تاريخ الدخول: 25 مارس/آذار 2025)، https://bit.ly/3FDH0Vs
  4. "كتيبة جنين.. نشأت للدفاع عن أسرى هاربين وأصبحت درع مخيم جنين"، الجزيرة نت، 22 ديسمبر/كانون الأول 2023 (تاريخ الدخول: 21 مارس/آذار 2025)، https://bit.ly/4iBWLLi
  5. "أبرز العمليات العسكرية الإسرائيلية على الضفة الغربية منذ الانتفاضة الثانية"، الجزيرة نت، 4 سبتمبر/أيلول 2024 (تاريخ الدخول: 17 مارس/آذار 2025)، https://bit.ly/41NNjP8
  6. "شهداء فلسطين.. بحث في فترة مخصصة"، مرصد شيرين (تاريخ الدخول: 28 مارس/آذار 2025)، https://www.shireen.ps/home
  7. "تهجير مخيمات الضفة في إطار الحرب"، الجزيرة نت، 25 فبراير/شباط 2025 (تاريخ الدخول: 22 مارس/آذار 2025)، https://bit.ly/41QhcwT
  8. "من نحن"، موقع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، (تاريخ الدخول: 25 مارس/آذار 2025)، https://www.unrwa.org/ar/who-we-are?tid=85.
  9. "ما الذي يعنيه حظر عمل الأونروا في غزة والضفة الغربية بالنسبة للفلسطينيين؟"، بي.بي.سي عربي، 8 يناير/كانون الثاني 2025 (تاريخ الدخول: 21 مارس/آذار 2025)، https://bit.ly/3FL2Fv5
  10.  هي مناطق تخضع لإسرائيل أمنياً وإدارياً بموجب اتفاقية طابا عام 1995.
  11. نائلة خليل، "خاص | الاحتلال يخطط لتفكيك مخيم جنين وتحويله إلى حي من أحياء المدينة"، العربي الجديد، 12 فبراير/شباط 2025 (تاريخ الدخول: 25 مارس/آذار 2025)، https://bit.ly/425hRe7
  12. "آخر مستجدات الحالة الإنسانية رقم 274 | الضفة الغربية"، مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأرض الفلسطينية المحتلة، 20 مارس/آذار 2025 (تاريخ الدخول: 25 مارس/آذار 2025)، https://bit.ly/4j2Y8Cy
  13. إبراهيم ربايعة، "اجتياح جنين.. تفكيك المخيم وإعادة تعريف العلاقة الاستعمارية"، موقع العربي الجديد، 25 فبراير/شباط 2025 (تاريخ الدخول: 25 مارس/آذار 2025)، https://bit.ly/4hLddra
  14. "حملة الأجهزة الأمنية الفلسطينيّة في مخيم جنين.. جذور الأزمة ومآلاتها"، مركز رؤية للتنمية السياسية، 28 يناير/كانون الثاني 2025 (تاريخ الدخول: 25 مارس/آذار 2025)، https://bit.ly/4l0Qfzi