مقدمة
أنجزت سوريا، في 5 أكتوبر/تشرين الأول 2025، أول انتخابات نيابية، هي الأولى التي تشهدها سوريا خارج إطار حكم آل الأسد الذي استغرق قرابة 50 عامًا، واعتُمد فيها التصويت غير المباشر.
أسفرت الانتخابات عن نجاح 121 عضوًا من أصل 140 كان يُفترض أن يتم انتخابهم، مع تعليق الانتخابات في بعض الدوائر التي تقع خارج سيطرة الحكومة حاليًّا، كما سيعيِّن الرئيس السوري لاحقًا 70 عضوًا أي ثلث أعضاء مجلس النواب الذي يجب أن يبلغ 210 أعضاء وفقًا للمرسوم الرئاسي 143 الذي صدر في أغسطس/آب 2025.
ومع هذه الخطوة التي يراد منها استكمال المرحلة الانتقالية، دخل المشهد السوري في مرحلة سياسية مهمة، بعد تصدر الاعتبارات الأمنية أولوية الاهتمامات على مدار الأشهر العشرة التي تلت عملية سقوط الأسد، وقد تباين التعاطي الشعبي مع نتائج الانتخابات بين ارتياح وتحفظ ورفض تبعًا لحالة الانقسام السابقة على إجراء هذه الانتخابات.
أولًا: دوافع إجراء الانتخابات النيابية
جرت الانتخابات النيابية في سياق تسعى فيه السلطة التنفيذية، التي تتولى إدارة المرحلة الانتقالية، إلى تعزيز شرعيتها الداخلية وكسب اعتراف خارجي أوسع. وقد جاءت هذه الانتخابات في ظل استمرار الانتقادات الموجهة إلى السلطة بشأن آليات الحوار الوطني الذي نظَّمته، بوصفه المدخل الأساسي لتجديد التفويض السياسي لها. وكان ذلك الحوار قد مهَّد لتسلمها مهامها عقب مؤتمر "النصر" الذي عقدته، مطلع عام 2025، القوى المشاركة في عملية "ردع العدوان"، ضمن إطار التحالف العسكري الذي قاد المواجهة الأخيرة وأرسى ترتيبات المرحلة السياسية الراهنة.
تحتاج الحكومة السورية إلى إظهار استجابتها لمطالب المجتمع الدولي بأنها تعمل على توسيع المشاركة السياسية في السلطة لتشمل مختلف المكونات(1)، بهدف ترسيخ شرعية تمثيلها للسوريين، ولتشجيع الدول على المزيد من الانفتاح السياسي والاقتصادي على سوريا.
وقد حرصت الحكومية السورية منذ تشكيل اللجنة العليا للانتخابات التي أدارت عملية تشكيل الهيئات الناخبة على إبراز مشاركة المكونات الفاعلة في العملية السياسية؛ حيث ضمَّت اللجنة شخصية مسيحية ممثلة بالناطق باسم اللجنة، "نوار نجمة"، وسيدة من الطائفة الإسماعيلية، "لارا عيزوقي"، وشخصية كردية وهي محمد ولي. وذلك بالإضافة إلى شخصيات معروفة لدى منظمات المجتمع المدني والدول المؤثرة، لاسيما رئيس هيئة التفاوض للمعارضة السورية سابقًا، "بدر جاموس"، ورئيس الائتلاف المعارض السابق، "أنس العبدة".
ولا شك أن تجاوب الحكومة السورية مع مطالب المجتمع الدولي في هذا التوقيت، سيساعدها في مسارها نحو العقوبات عن سوريا، خاصة الأميركية منها التي تشترط استكمال العملية الانتقالية وحماية الأقليات. كما أن تعزز شرعية الحكم دوليًّا، سيمكِّنه من توقيع اتفاقيات ومعاهدات اقتصادية وأمنية، لتنعكس استقرارًا داخليًّا بدورها.
ثانيًا: نتائج الانتخابات
اعتمدت سوريا نظام الانتخابات غير المباشر عبر لجنة عليا للانتخابات، تشكلت بموجب المرسوم رقم 66 الصادر في يونيو/حزيران 2025، استنادًا إلى المادة 24 من الإعلان الدستوري الصادر في مارس/آذار 2025. كما أُنشئت هيئات فرعية تولَّت تنظيم عملية التصويت في كل محافظة، وذلك في ظل عدم استكمال سيطرة الحكومة على كامل الأراضي السورية، واستمرار الاضطرابات الأمنية، وغياب القدرة الفنية اللازمة لتمكين جميع المواطنين من التصويت، بمن فيهم اللاجئون السوريون والمقيمون في الخارج.
حصلت محافظة حلب على النسبة الأعلى من التمثيل بواقع 30 عضوًا، وبنسبة تفوق ربع الأعضاء المنتخبين، وبفارق يزيد عن النصف عن المحافظات التي تلتها من حيث عدد الأعضاء، وهي: ريف دمشق، وحمص، وإدلب، ثم حماه، وقد بلغ عدد الممثلين في كل منها 12 عضوًا. وبلغ تمثيل محافظتي دمشق ودير الزور 8 أعضاء لكل منها، واللاذقية 7 مقاعد، ودرعا 6 مقاعد، وطرطوس 5 مقاعد، والقنيطرة 3 مقاعد، ومقعد واحد لكل من الرقة والحسكة، مع تأجيل الانتخابات في دوائر عديدة ضمن الرقة والحسكة والسويداء، بحكم عدم سيطرة الحكومة السورية على هذه الدوائر التي تقع ضمن مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وسيطرة اللجنة القانونية والتنظيمية والمجلس العسكري في السويداء.
أفرزت النتائج تمثيلًا محدودًا للأعراق والأديان والمذاهب، فمقابل 113 نائبًا عربيًّا، حصل المكون الكردي على 4 مقاعد، والعدد ذاته للمكون التركماني. بالمقابل، بلغ عدد الأعضاء المنتمين للمسلمين السنَّة 113 عضوًا، مقابل 3 مقاعد لأبناء الطائفة العلوية، ومقعدين للطائفة الإسماعيلية، فيما لم يفز أي نائب من الطائفة الدرزية بحكم تأجيل الانتخابات في محافظة السويداء ذات الأغلبية الدرزية غير الخاضعة لسيطرة الحكومة. كما غابت الطوائف الشيعية والمرشدية عن المجلس بحكم نسبتهم المنخفضة في سوريا.
شاب العملية الانتخابية اعتراضات لجهة استبعاد شخصيات محسوبة على الحراك الشعبي ضد نظام الأسد المخلوع، مع عدم تقديم مبررات واضحة حول سبب الاستبعاد. كما شهدت محافظة حلب تحديدًا احتجاجًا على العملية الانتخابية بحجة هيمنة "جماعة الإخوان المسلمين" على الهيئة الناخبة، وهذا ما أخَّر الإعلان عن النتائج لأكثر من 24 ساعة مقارنة مع المحافظات الأخرى، لكن اختفت الأصوات الناقدة مع الإعلان عن الأسماء الفائزة(2).
شهدت الانتخابات تشكيل تحالفات سياسية آنية تخدم العملية الانتخابية أكثر من كونها تعبِّر عن اتجاهات سياسية مستقبلية، وقد كان من نتيجة هذه التحالفات انخفاض عدد النساء الفائزات بعضوية نيابية في مختلف المحافظات، بالإضافة إلى صعود الاتجاه المحافظ.
أظهرت النتائج تمثيلًا مقبولًا على مستوى المحافظات، ومحدودًا على صعيد التمثيل العرقي والطائفي، مع هيمنة التيار المحافظ على غالبية مقاعد المجلس، خاصة في إدلب وحمص وريف دمشق وحلب، وحضور محدود للغاية للتيار العلماني، والمحسوبين على المجتمع المدني؛ مما يعني في الأغلب أن المجلس سيكون أقرب للتناغم مع توجهات الحكومة.
ثالثًا: تحديات ما بعد الانتخابات
من المتوقع أن تنعكس نتائج الانتخابات على النواحي التالية:
الاستقرار الداخلي: أبدت بعض الشرائح الشعبية خاصة في حلب وإدلب وحمص وريف دمشق ودرعا الارتياح للنتائج، كون الانتخابات أقصت بشكل شبه كامل منتسبين أو موالين للنظام السابق. بالمقابل، سجل العديد من الأطراف الداخلية تحفظاته أو انتقاداته للنتائج، وأولها القوى السياسية التي لم تتمكن من الدخول في العملية الانتخابية وفق الآلية التي تمت بها، ولم تُتِحْ للأحزاب والتيارات السياسية المشاركة بأسمائها.
على سبيل المثال، رأت هيئة التنسيق الوطنية التي تضم العديد من الأحزاب والتيارات السياسية، أنه نتج عن الانتخابات تمثيل للون واحد(3)، وهو القريب من السلطة، في إشارة إلى هيمنة التيار "المحافظ" والإسلامي على غالبية مقاعد مجلس النواب. في حين امتنعت جماعة الإخوان المسلمين عن التعليق المباشر على النتائج، وأصدرت لاحقًا وثيقة حول "التعايش المشترك"، تضمنت مقترحات لإدارة التعدد السياسي والديني في سوريا عن طريق التعاقد لا بـ"الهيمنة"(4).
من المتوقع أن تؤثر هذه النتائج، وما أعقبها من اعتراضات من قبل القوى والكتل السياسية، على الانطباع السياسي العام؛ إذ تعزز القناعة بأن الحكومة السورية لا تزال غير منفتحة على المشاركة السياسية الحقيقية. وقد يؤدي ذلك إلى مزيد من الاحتقان والابتعاد عن مسار تطبيع الحياة السياسية ما لم يتصد مجلس النواب الجديد لمعالجة هذه الإشكالية من خلال وضع إطار قانوني ينظم عمل الأحزاب السياسية، بما يوجه الجهود نحو تأطير النشاط السياسي داخل أحزاب ومؤسسات منظمة، بدل أن يتجلى في شكل سخط شعبي غير مؤطر.
مسار وحدة الأراضي السورية: اعترضت قسد وذراعاها، المدني المتمثل بـ"الإدارة الذاتية"، والسياسي ممثلًا بمسد، على النتائج، واعتبرتها غير ملزمة ولا تمثلها، لأن الأعضاء المنتخبين لا يمثلون الإرادة السياسية المتنوعة للمجتمع السوري. واجتمع عقب صدور نتائج الانتخابات، عدد من مناهضي الحكومة السورية في ساحة السويداء ممن يتبنون شعار "الإدارة الذاتية"، و"حق تقرير المصير" للتأكيد على عدم الاعتراف بها(5).
عزَّزت الاعتراضات التي تلت الانتخابات القناعة بأن حالة الاستعصاء المرتبطة بتوحيد كامل الأراضي السورية ستستمر؛ إذ أضيفت قضية شرعية مجلس النواب الجديد إلى سلسلة الملفات الخلافية بين الحكومة السورية من جهة، والقوى المسيطرة على الحسكة والرقة والسويداء من جهة أخرى.
وترى هذه القوى أن طريقة إجراء الانتخابات تمثل مؤشرًا إضافيًّا على رغبة الحكومة في فرض أمر واقع دون تشاركية حقيقية معها؛ الأمر الذي قد يدفعها إلى رفض القوانين والتشريعات التي سيصدرها المجلس لاحقًا، ما لم تتم معالجة الخلاف عبر إجراء انتخابات خاصة في دوائر الرقة والحسكة والسويداء، أو من خلال تفعيل حصة الثلث التي يملك الرئيس السوري حق تعيينها، والبالغة 70 عضوًا من أصل 210.
إنهاء انتشار السلاح: تُعَدُّ قضية إنهاء انتشار السلاح خارج إطار مؤسسات الدولة وتفكيك الكيانات العسكرية المستقلة من القضايا الملحَّة، التي من شأن إنجازها أن يسهم في تعزيز الاستقرار ودعم مسار بناء الدولة. هذا المسار يتأثر بشكل مباشر بالاعتبارات السياسية؛ إذ تُعد الكيانات التي لا تزال تنشط خارج إطار مؤسسة الجيش حاملةً لمشاريع سياسية واضحة، وليست مجرد تنظيمات عسكرية بلا أهداف، كما هي الحال في قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والمجلس العسكري في محافظة السويداء.
عكفت قسد والمجلس العسكري في السويداء، على رفض أي خطوة تصدر عن الحكومة منذ صدور الإعلان الدستوري، انطلاقًا من رغبتهما في أن تتعامل الحكومة معهما كطرفين شريكين في بلورة ملامح المرحلة الانتقالية، لا كتنظيمين خارجين عن الشرعية.
بعد يوم واحد من إجراء الانتخابات النيابية، اندلعت موجة تصعيد جديدة بين قوات قسد والحكومة السورية على تخوم أحياء حلب التي لا تزال تتمركز فيها قوات قسد، ولاسيما في حيي الشيخ مقصود والأشرفية. وفي هذا السياق، صرَّح عضو مجلس قيادة قسد، سيبان حمو، بأنهم يمثلون مشروعًا اجتماعيًّا وسياسيًّا قبل أن يكونوا فصيلًا عسكريًّا، متهمًا الحكومة بأنها تسعى لإلغاء هويتهم الاجتماعية والسياسية. يؤشر هذا التطور إلى أن جهود احتواء التنظيمات العسكرية ضمن مؤسسات الدولة تواجه مزيدًا من التعثر(6).
ملف إعادة الإعمار: فقًا لتقديرات البنك الدولي، تحتاج سوريا إلى نحو 216 مليار دولار أميركي لإعادة إعمار المناطق التي تعرضت لأضرار جسيمة خلال سنوات الحرب، إذ تشير التقديرات إلى أن نحو ثلث الأصول الإنتاجية الثابتة في البلاد قد تضرر، بما في ذلك المساكن والمصانع وشبكات المياه والكهرباء وغيرها من البنى التحتية الحيوية(7).
إن دوران عجلة إعادة الإعمار في سوريا يتطلب أولًا تحقيق الاستقرارين السياسي والأمني، إلى جانب تهيئة بيئة قانونية تُقدم تطمينات للجهات الدولية والمستثمرين، بما يشجعهم على ضخ الاستثمارات اللازمة دعما لعملية الإعمار. ويبدو أن الانتخابات النيابية الأخيرة أسهمت إلى حد ما، في تعزيز هذه التطمينات، إذ أشادت البعثة الأممية الخاصة بسوريا بسير العملية الانتخابية، مؤكدةً أنها جرت في بيئة منظمة وسليمة.
كما أن إطلاق مسار إعادة الإعمار يبقى مرهونًا برفع العقوبات الدولية المفروضة على سوريا، في ظل ربط العديد من الدول، وعلى رأسها أميركا، بين تخفيف العقوبات وتحقيق إصلاحات سياسية وضمان الاستقرار وحماية الأقليات. من هذا المنطلق، فإن تمثيل مختلف الطوائف ضمن المجلس النيابي الجديد من الممكن أن يترك أثرًا إيجابيًّا في هذا الاتجاه، فيعزز فرص الانفتاح الدولي والإقليمي على دمشق.
العلاقة مع إسرائيل: من المتوقع أن تنظر إسرائيل إلى الانتخابات النيابية التي شهدتها سوريا بوصفها خطوة نحو تكريس سلطة الحكومة السورية الحالية، ولاسيما في ظل سيطرة التيار المحافظ على غالبية مقاعد المجلس. وبناءً على ذلك، يُرجح أن تواصل تل أبيب نهجها القائم على تطوير العلاقات مع بعض الأطراف المناهضة للحكومة السورية، مثل الكرد والدروز وبعض المجموعات العلوية، وهي السياسة التي تتبعها إسرائيل منذ المراحل الأولى لسقوط بشار الأسد. فقد استضافت تل أبيب، في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2025، أول مؤتمر إقليمي للأقليات في الشرق الأوسط، وشاركت فيه شخصيات كردية وعلوية ودرزية وآشورية من سوريا والعراق. وفي اليوم نفسه، جدَّد "الزعيم الدرزي"، حكمت الهجري، الذي يعد "مرجعية دينية" لمجلس السويداء العسكري المدعوم إسرائيليًّا، تمسكه بما سماه "حق تقرير المصير" واستقلال محافظة السويداء(8). ومن دون موافقة الحكومة السورية الحالية ومجلس النواب المنتخب على اتفاق جديد مع إسرائيل يُقر بالواقع الميداني القائم وتوسع الانتشار الإسرائيلي داخل الأراضي السورية، يُتوقع أن تواصل تل أبيب رفضها لشرعية الخطوات التي تتخذها الحكومة السورية، معتبرةً إياها محاولة لترسيخ سلطة تفتقر إلى الاعترافين، الإقليمي والدولي، الكافيين.
رابعًا: المأمول بعد الانتخابات
وفقًا للظروف الحالية التي تعيشها سوريا، فإن المأمول من المجلس التشريعي المنتخب اتخاذ الخطوات التالية:
إقرار الدستور: يُعَدُّ انتخاب مجلس النواب خطوة تمهيدية نحو استكمال العملية الانتقالية من خلال إقرار دستور دائم للبلاد، بما يُنهي مرحلة العمل بـ"الإعلان الدستوري المؤقت". ورغم أن الآلية التي سيعتمدها المجلس لصياغة الدستور الجديد لم تتضح بعد، فإن من المرجح أن يقوم بمنح الثقة للجنة تقنية متخصصة تتولى إعداد مسودة الدستور، ليُصار لاحقًا إلى التصويت عليها داخل المجلس وفق نسبة تأييد محددة، أو طرحها للاستفتاء الشعبي. تُعد عملية إقرار دستور دائم لسوريا من الأولويات الملحَّة؛ إذ إن صياغة دستور يعكس تطلعات مختلف المكونات السورية، خصوصًا فيما يتعلق بشكل نظام الحكم والحقوق الثقافية والسياسية، ستُسهم بدرجة كبيرة في تعزيز الاستقرار الداخلي وتقليص احتمالات الصدامات المسلحة مستقبلًا.
كما تمثل هذه الخطوة مؤشرًا على الانتقال من المرحلة الانتقالية إلى مرحلة الاستقرار السياسي في إطار دستوري واضح، في حين أن تأجيلها أو تعطيلها قد يُغذِّي الشكوك حول نوايا الحكومة الانتقالية بالاحتفاظ بالسلطة لأَجَل غير محدد.
قانون الأحزاب: تترقب القوى السياسية السورية صدور قانون الأحزاب عن المجلس التشريعي، بوصفه خطوة أساسية تتيح لها الانخراط في الحياة السياسية والعمل على بناء قواعد جماهيرية تمكِّنها من المشاركة الفاعلة في إدارة الشأن العام. وسينظر العديد من القوى السياسية إلى إقرار القانون أو تعطيله بوصفه مؤشرًا على التوجه الذي تعتزم الحكومة السورية الانتقالية اتباعه مستقبلًا: وما إذا كانت ستفتح المجال أمام التعددية والحرية السياسية، أم أنها ستتبنَّى نهجًا إقصائيًّا يُعيد إنتاج المشهد السياسي الأحادي بصورة جديدة؟
تشريعات العدالة الانتقالية: يعد من أبرز الملفات التي جلبت للحكومة السورية انتقادات واسعة، نتيجة غياب المحددات الواضحة للنهج المتبع في التعاطي معه. وقد شهدت بعض المناطق السورية، مثل مدينة حلب، عمليات تصفية استهدفت شخصيات أمنية كانت تعمل سابقًا لدى نظام الأسد؛ ما يُنذر بإمكانية اتساع نطاق الحوادث الأمنية ذات الطابع الانتقامي في ظل غياب إطار قانوني وزمني واضح لتطبيق العدالة الانتقالية. لذلك، سيكون المجلس التشريعي أمام مهمة أساسية تتمثل في صياغة قوانين واضحة تنظم هذا المسار.
تشريعات استثمارية لدعم عملية إعادة الإعمار: تركز سوريا اهتمامها في المرحلة الراهنة على جذب الاستثمارات الخارجية، وهو ما يتطلب إعادة النظر في قوانين الاستثمار السارية، إلى جانب دراسة إصدار تشريعات جديدة تُسهِم في تيسير بيئة الأعمال وتحفيز المستثمرين، بما يمنح زخمًا لعملية إعادة الإعمار، ويُسهم في توفير فرص عمل وتحسين الأداء الاقتصادي العام. ومن المتوقع أن يضطلع مجلس النواب الجديد بدور مهم في إقرار التعديلات التي أُجريت على قوانين الاستثمار قبل الانتخابات؛ حيث تم، في يوليو/تموز 2025، اعتماد تعديلات على قانون الاستثمار رقم 18 لعام 2021، هدفت إلى منح مزايا إضافية للمستثمرين.
المعاهدات والاتفاقيات ومذكرات التفاهم الدولية: يُنتَظر من المجلس التشريعي أن ينظر في قانونية بعض التفاهمات والاتفاقيات التي أبرمتها الحكومة السورية مع جهات دولية في ظل غياب سلطة تشريعية آنذاك، وذلك بهدف إجازتها أو تعديلها بما يتوافق مع الأطر الدستورية. كما سيكون المجلس معنيًّا بممارسة دوره الرقابي والتشريعي على أي اتفاقيات أمنية أو سياسية جديدة قد تعقدها الحكومة، ولاسيما الاتفاقية الأمنية المحتمل توقيعها مع إسرائيل في حال تجاوز الخلافات بين الجانبين.
وفي سياق مواز، كانت الحكومة السورية قد أجرت خلال المرحلة السابقة لقاءات ومباحثات أمنية وعسكرية مع عدد من الدول، على رأسها تركيا وروسيا، لاستكشاف إمكانية إبرام اتفاقيات تعزز قدرات الجيش السوري، بما في ذلك الإبقاء على بعض القواعد العسكرية مقابل خدمات تدريب. ومن المنتظر أن يقوم المجلس النيابي بمناقشة هذه الاتفاقيات مع السلطة التنفيذية قبل المصادقة عليها؛ الأمر الذي ينطبق أيضًا على الاتفاقيات المحتملة لترسيم الحدود البحرية مع كل من تركيا ولبنان.
قوانين داخلية: تواجه سوريا جملة من المشكلات الداخلية المعقدة التي تتطلب إصدار تشريعات جديدة لتنظيم الأوضاع الداخلية. فعلى سبيل المثال، فإن قانون العقوبات الذي وُضع في ظل نظام الأسد يتضمن العديد من الثغرات ويحتاج إلى مراجعة شاملة وتعديل موسع، ليشمل توصيف جرائم لم تكن مدرجة فيه سابقًا، مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بما ينسجم مع المعايير القانونية الدولية. كذلك، كان نظام الأسد قد أصدر قوانين استملاك حرمت العديد من أصحاب العقارات من ممتلكاتهم، خصوصًا في مناطق ريف دمشق. وبعد سقوط النظام، تعالت الأصوات المطالِبة بـتشكيل لجان متخصصة تتولى مراجعة عمليات الاستملاك السابقة، والبَتَّ في الأوضاع القانونية للممتلكات التي وضع النظام السابق يده عليها أو نقل ملكيتها إلى موالين له.
خاتمة
كان من المتوقع ألا تحظى الانتخابات التشريعية في سوريا برضا جميع مكونات المجتمع السوري، في ظل التقديرات المسبقة بأن نتائجها ستكون انعكاسًا للوضع السياسي الراهن، الذي تتصدره القوى التي واجهت نظام الأسد سابقًا وتتحكم حاليًّا في المشهد السوري. وبالتالي، لم يكن مستغربًا أن يفتقر المجلس النيابي الجديد إلى تمثيل شامل لكل شرائح المجتمع، بما في ذلك الفئات التي التزمت الحياد خلال سنوات الصراع أو تلك التي كانت أقرب إلى النظام السابق.
كما أن نتائج الانتخابات يصعب أن تكون مرضية بالنسبة للقوميات والطوائف السورية، نظرًا لشعورها بعدم التوازن في التمثيل، وحرمان الأحزاب والتيارات السياسية من المشاركة الفعلية، وهو ما عزز لدى بعض المكونات الانطباع بأن المجلس الجديد قد يخلو من ممثلين حقيقيين عنها.
ومن الواضح أن الحكومة السورية تعمل على إضفاء المزيد من الشرعية على حكمها، سواء عبر توسيع قاعدة المشاركة الشعبية في صنع القرار قدر الإمكان، أو إيجاد مجلس تشريعي يمنحها الغطاء القانوني في الاستحقاقات المقبلة، على أن يكون هذا المجلس متجانسًا إلى حدٍّ كبير لأن أي شقاق أو انقسامات بداخله بعد انطلاق أعماله من شأنه أن يؤدي لتقويض المرحلة الانتقالية والتشكيك بقدرة الحكومة على الاستمرار.
وعلى العموم، فإن تأسيس السلطة التشريعية سيساعد الحكومة على تقويض شرعية الكيانات الرافضة للاندماج في الدولة السورية الجديدة؛ إذ إن استمرار هذه الكيانات في رفض القوانين الصادرة عن مجلس منتخب من غالبية السوريين، سيجعلها تبدو أقرب إلى "جهات متمردة" خارج الإجماع الوطني.
وفي نهاية المطاف، ستواجه الحكومة السورية اختبارًا حقيقيًّا مع انطلاق جلسات المجلس التشريعي: فإن اضطلع المجلس بدور تشريعي فعلي ومستقل عن السلطة التنفيذية، ستكسب الحكومة قدرًا من الثقة الداخلية والدولية، أما إذا اقتصر دوره على الوظيفة الشكلية التجميلية، فمن المرجح أن تتعمق أزمة الثقة، وتتعزز الشكوك بشأن نيات الحكومة في تكريس الجمع بين السلطات، بما يجعلها سلطة غير خاضعة للرقابة والمساءلة.
- باراك بعد لقائه الشرع: يجب أن يتم تمثيل جميع المكونات لتكون سوريا موحدة، روسيا اليوم، 25 أغسطس/آب 2025 (تاريخ الدخول: 22 أكتوبر/تشرين الأول 2025)، https://h7.cl/1dxwP
- انتخابات مجلس الشعب السوري.. تحليل النتائج وتوقعات الاستكمال، مركز جسور للدراسات، 8 أكتوبر/تشرين الأول 2025 (تاريخ الدخول: 21 أكتوبر/تشرين الأول 2025)، https://h7.cl/1ieqs
- هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي: الانتخابات لا تعبر عن الإجماع الوطني السوري، 7 أكتوبر/تشرين الأول 2025 (تاريخ الدخول: 21 أكتوبر/تشرين الأول 2025)، https://h7.cl/1ieqU
- وثيقة التعايش المشترك، الموقع الرسمي لجماعة الإخوان المسلمين السورية، 18 أكتوبر/تشرين الأول 2025 (تاريخ الدخول: 21 أكتوبر/تشرين الأول 2025)، https://h7.cl/1iern
- مسد ترفض تشكيل مجلس الشعب السوري، 6 أكتوبر/تشرين الأول 2025 (تاريخ الدخول: 22 أكتوبر/تشرين الأول 2025)، https://h7.cl/1ies4
- هل اتفقت قسد مع الحكومة السورية على طريقة الاندماج؟، الجزيرة نت، 19 أكتوبر/تشرين الأول 2025 (تاريخ الدخول: 22 أكتوبر/تشرين الأول 2025)، https://h7.cl/1iesz
- 216 مليار دولار التكلفة التقديرية لإعادة إعمار سوريا عقب الصراع، مجموعة البنك الدولي، 21 أكتوبر/تشرين الأول 2025 (تاريخ الدخول: 23 أكتوبر/تشرين الأول 2025)، https://h7.cl/1dtPv
- الهجري: رؤيتنا تقوم على الاستقلال التام للسويداء، مقابلة مع قناة سكاي نيوز عربية، 27 أكتوبر/تشرين الأول 2025 (تاريخ الدخول: 27 أكتوبر/تشرين الأول 2025)، https://h7.cl/1iiqu