بنين على تخوم الاستقرار: محاولة الانقلاب وأسئلة الديمقراطية والشرعية

تُظهر محاولة الانقلاب الفاشلة في بنين مفارقة نموذج ديمقراطي مستقر ظاهريًّا واحتقان سياسي عميق. يكشف الحدث عن صراع نفوذ إقليمي ودولي، وتحول في دور الإيكواس وفرنسا، وسط اقتراب انتخابات 2026، وأسئلة الشرعية، والتناوب، ومستقبل الاستقرار بغرب إفريقيا، والأمن الإقليمي، والديمقراطية الهشة، والتحالفات الجديدة المتصارعة.
انتشار الجيش في بنين إثر إحباطه لمحاولة الانقلاب في السابع من ديسمبر 2025. (رويترز)

في السابع من ديسمبر/كانون الأول 2025، استيقظ سكان كوتونو، كبرى حواضر بنين وعاصمتها الاقتصادية، على أصوات الرصاص وإعلان في التليفزيون الرسمي ظهر فيه عسكريون أعلنوا عزل الرئيس، باتريس تالون، وعدَّدوا جملة أسباب دفعتهم إلى ذلك تبدأ بما سموه السياسات القمعية للنظام، والتهديد الأمني القادم من الساحل الإفريقي، وتنتهي بتدهور الأوضاع المعيشية، مرورًا بالفساد المالي والإداري وهيمنة دوائر اجتماعية مقرَّبة من الرئيس على اقتصاد البلاد(1). بعد ساعات قليلة، أعلنت السلطات إفشال المحاولة واعتقال عدد من المشاركين فيها، وفرار آخرين خارج البلاد.

ألقت المحاولة الانقلابية ببنين، وهي البلد الصغير المحصور بين خليج غينيا ومنطقة الساحل، إلى واجهة الأحداث بعد خمسة عقود من النسيان، تجد أسبابها في حالة الاستقرار السياسي التي دخلتها البلاد منذ 1972، ثم التناوب المطَّرد على السلطة منذ اعتماد التعددية السياسية، عام 1990.

احتقان سياسي في أنموذج ديمقراطي راسخ

رغم فشلها، فإن المحاولة الانقلابية ألقت الضوء على واقع محتقن في بنين لا تعكسه صورتها على المستوى الإقليمي بصفتها أحد النماذج الديمقراطية الراسخة في إفريقيا الغربية، بفضل عقود طويلة من الاستقرار في ظل التعددية السياسية والتناوب الهادئ على السلطة. وتُذْكَر بنين في هذا الباب إلى جانب السنغال وجزر الرأس الأخضر، وهما أكثر النماذج الديمقراطية التعددية رسوخًا ونجاحًا في هذه المنطقة التي تشهد اضطرابات أمنية شديدة، وعرف بعض بلدانها حروبًا أهلية دموية في أواخر القرن الماضي ومطالع الحالي(2).

لم تعرف بنين انقلابًا عسكريًّا منذ ذلك الذي قاده العقيد، ماتيو كيريكو، في 26 أكتوبر/تشرين الأول 1972، لتدخل البلاد عهدًا طويلًا من الاستقرار السياسي، في ظل نظام الرئيس كيريكو ذي الخلفية الماركسية والقبضة الأمنية القوية، قبل أن يتم اعتماد التعددية السياسية والنظام الليبرالي بناءً على مقررات مؤتمر لابول بفرنسا، وفي نهاية الثنائية القطبية بانهيار الاتحاد السوفيتي(3).

ورغم عثرات التحول ونزوع بعض الرؤساء إلى كسر قواعد التناوب من خلال السعي إلى تعديل المواد الدستورية المتعلقة بعدد الولايات الرئاسية، فإن الاستقرار كان السمة البارزة لمسار بنين منذ مطلع سبعينات القرن الماضي.

وقد شهدت أواخر فترة حكم الرئيس السابق، توماس بوني يايي، حالة من الاحتقان السياسي بسبب رفضه القطع بالامتناع عن الترشح لولاية رئاسية ثالثة، لينتهي به الأمر إلى الانصياع لقواعد التناوب بعد وساطة من الإيكواس والاتحاد الإفريقي(4). والواقع أن حالة الرئيس بوني ليست استثناءً، فقد انقلب قادة أفارقة عديدون على قواعد التناوب السياسي التي مكَّنتهم هم أنفسهم من الوصول إلى السلطة. ومن أولئك رئيس غينيا السابق، ألفا كوندي، ورئيس كوت ديفوار الحالي، الحسن وتارا(5). وسعى آخرون إلى البقاء في السلطة من خلال تعديلات دستورية تتناوش الخصومات شرعيتها، مثل عبد الله واد في السنغال، وأولوسيغون أوباسانجو في نيجيريا. وفي هذه الحالات كلها، فإن هذا النزوع للبقاء في السلطة لم يؤثر في البناء الديمقراطي لهذه البلدان إلا في الحالات التي بقي فيها الرئيس في السلطة بعد انقضاء ولايتيه الرئاسيتين. وفي الحالات الأخرى، شكَّلت هذه العثرات مصدر قوة للتجارب الديمقراطية وعامل ردع لرؤساء لاحقين.

وفي حالة بنين، فإن الجدل والاحتقان الذي صاحب نهاية حكم الرئيس السابق، توماس بوني يايي، دفع الرئيس الحالي، باتريس تالون، إلى التصريح بأنه لن يترشح لرئاسيات أبريل/نيسان المقبل، بل إنه عيَّن أحد مقربيه مرشحًا لحزبه. لكن انتخابات أبريل/نيسان ستُجرى في غياب مرشح حزب الديمقراطيين، أبرز أحزاب المعارضة وحزب الرئيس السابق، بوني يايي، بعد رفض اللجنة الانتخابية ملف ترشحه بذريعة أنه لم يتمكن من الحصول على العدد المطلوب من تزكيات النواب والعمد. ويرد الحزب بأن استبعاد الأستاذ، رينو آغبودجو، دافعه سياسي، ويستظهرون بتعديل قانون الانتخابات قبل أشهر، ورفع عدد التزكيات المطلوبة من 16 إلى 28، وهو تحديدًا عدد نواب الحزب في البرلمان؛ ما يعني أن هامش المناورة واسع أمام النظام لاستمالة نائب أو اثنين لإقصاء المرشح، وهو ما حدث بالفعل، حسب ما تقول قيادة الحزب المعارض(6).

تتجه بنين إلى انتخابات أبريل/نيسان 2026 في ظل اتهامات للرئيس بالنزوع أكثر إلى السلطوية والقمع، خصوصًا بعد اعتقال ثلاثة من مقرَّبيه بينهم رجل الأعمال، أوليفيه بوكو، بتهمة تدبير محاولة انقلابية عام 2024، وإدانتهم بالسجن 20 سنة(7). ترى المعارضة في حالة هؤلاء المقربين دليلًا قاطعًا على ما تسميه النهج القمعي للرئيس، والذي ترى أنه بدأ مع نهاية ولايته الأولى؛ إذ عدَّل النظام الانتخابي ليضمن أغلبية مطلقة في البرلمان، ويضيِّق على منافسيه في رئاسيات 2021. فقد اشترط التعديل أن يحصل المرشح على تزكية 10% من نواب البرلمان الذي يسيطر الحزب الرئاسي على أغلبية مقاعده. ومما عقَّد مهمة المرشحين أكثر اشتراط القانون الحصول على تزكية عدد من عمد المدن والبلدات التي يسيطر الحزب الحاكم على 77 منها من مجموع 83.

وبعد أن اقتصرت المنافسة في تشريعيات 2019 على حزب الرئيس وحزب آخر مقرب منه، لم يلق باتريس تالون أي منافسة تُذكر في رئاسيات 2021(8). ودانت المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان، ومقرها آروشا، انحرافات سلطوية تُبعد ببنين عن حكم القانون(9). في هذا السياق المحلي المحتقن، بدأ العد العكسي باتجاه انتخابات إبريل/نيسان 2026 الرئاسية التي سبق للرئيس، تالون، أن أعلن أنه لن يترشح لها، وإن كانت المعارضة لا تُعير أهمية لهذا التعهد، وترى في اختيار الرجل أحد مقربيه مرشحًا للاستحقاق القادم نيةً في مواصلة ممارسة السلطة والتأثير في القرار، ولو من خارج موقع الرئاسة.

فشل الانقلاب وسابقة التدخل: الإيكواس بإسناد فرنسي

رغم توتر الأوضاع السياسية في بنين، فإن المحاولة الانقلابية الفاشلة، في السابع من ديسمبر/كانون الأول 2025، كانت مفاجئة للمهتمين؛ ذلك أن الانقلابات تأتي عادة ردًّا على انسداد الأفق السياسي أو تنفيسًا لواقع اجتماعي واقتصادي متردٍّ. وبالتالي، يعسر تفهُّم انقلاب عسكري قبل أربعة أشهر من انتخابات رئاسية أعلن الرئيس المنصرف أنه لا ينوي التقدم لها! وربما تفسر هذه المفارقة تمكُّن النظام، طيلة اليوم الأول، من التقليل من أهمية الانقلاب وتقديمه على أنه تمرد محدود في ثكنة عسكرية والإيحاء بأنه لا يعبِّر عن تذمر في دوائر السلطة والمؤسسة العسكرية خصوصًا(10).

لكنَّ وجه الاستثناء الحقيقي في محاولة السابع من ديسمبر/كانون الأول هو سرعة التدخل الإقليمي لإفشالها. فرغم الغياب التام لأي إشارة إلى هذا التدخل في بيان الانقلابيين وفي بيانات الحكومة وتصريحات مسؤولي النظام خلال اليوم الأول، فإن الأيام التالية كشفت عن تدخل إقليمي واسع النطاق لإفشال المحاولة الانقلابية. ففي مساء اليوم الذي جرت فيه المحاولة الانقلابية في صباحه الباكر، حمل بيان للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا أن حكومة بنين تلقت دعمًا عسكريًّا أسهمت المنظمة في تنسيقه، وقُدِّم من أربع دول، هي: نيجيريا، وكوت ديفوار، وغانا، وسيراليون. وأكدت أن قوة عسكرية من هذه البلدان الأربعة انتشرت في كوتونو مساء ذلك اليوم. وفي نفس الليلة، أعلن المتحدث باسم الجيش النيجيري أن سلاح الجو شَنَّ عمليات عسكرية في كوتونو دعمًا للقوات النظامية، مؤكدًا أن هذا التدخل يتسق مع مقررات الإيكواس بشأن القوة الإقليمية للمنظمة(11).

وجاء الكشف الأهم في هذا التدخل بعد ثلاثة أيام من الانقلاب، وعلى لسان قائد الحرس الرئاسي، الذي كشف لإذاعة فرنسا الدولية عن تدخل فرنسي في العمليات منذ الساعات الأولى للمحاولة؛ إذ ساعدت طائرة استطلاع فرنسية في تقديم معلومات للقوات النظامية عن مواقع المتمردين، وفي مساء نفس اليوم وصل جنود من القوات الخاصة الفرنسية قَدِموا من كوت ديفوار وشاركوا في عمليات البحث عن فلول القوات الانقلابية والقضاء على آخر جيوب المقاومة(12).

ويعد تدخل الإيكواس بهذه السرعة والفعالية تحولًا مهمًا في تعاطيها مع الانقلابات العسكرية في دول المنظمة خلال العقد الأخير، الذي شهد انقلابات عسكرية تواترت في السنوات الخمس الماضية، وكان لبعضها تداعيات مؤثرة على وحدة وانسجام المنظمة نفسها. ففي السنوات الثماني الأخيرة، اتسم تحرك الإيكواس في مواجهة الانقلابات بالعجز والاكتفاء ببيانات تدين تغيير نظام الحكم بالطرق غير الدستورية، وكانت الحالة الوحيدة التي لوَّحت فيها المنظمة بالتدخل هي حالة النيجر بعد الانقلاب الذي أطاح بالرئيس المدني، محمد بازوم، في يوليو/تموز 2023(13).

ويعود آخر تدخل عسكري تقوم به المنظمة لاستعادة النظام الدستوري إلى عام 2017، حين أرسلت قوة عسكرية، سنغالية في معظمها، لإجبار رئيس غامبيا السابق، يحيى جامي، على قبول نتائج الانتخابات الرئاسية والإقرار بهزيمته، وهو ما تم بالفعل تحت ضغط المنظمة وبوساطة من الرئيسين السابقين، الموريتاني محمد ولد عبد العزيز، والغيني ألفا كوندي. قَبِلَ الرئيس الغامبي الاستجابة لها وترك السلطة وغادر بلاده إلى منفاه في غينيا الاستوائية(14).

اصطفاف إقليمي تغذِّيه طموحات النفوذ الدولية

والواقع أن هذا التحفز والحسم في حالة بنين تجدر قراءته في سياق إقليمي يتسم بالاستقطاب بين مجموعة الإيكواس وتحالف دول الساحل المؤلَّف من النيجر ومالي وبوركينا فاسو، وهي دول كانت أعضاء في المنظمة وخرجت منها تباعًا بعد الانقلابات العسكرية التي شهدتها بين 2020 و2023. وارتبطت هذه الانقلابات بتعاظم النفوذ السياسي والوجود العسكري في إفريقيا الغربية. فقد تبع هذه الانقلابات جميعًا تحول جذري في علاقات هذه الدول مع فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة وصاحبة النفوذ القوي بالمنطقة منذ الاستقلال، قاد إلى شبه قطيعة كاملة مع باريس وإنهاء الوجود العسكري الفرنسي في الساحل بشكل مطلق(15).

وفي المقابل، تقاربت هذه الدول مع روسيا واستعاضت، في حربها ضد المجموعات المسلحة الجهادية وذات الدوافع السياسية على السواء وعصابات الجريمة، عن القوات الفرنسية بشركة فاغنر الأمنية الروسية الخاصة، التي أُدمجت لاحقًا، بعد مصرع مؤسسها، يفغيني بروغوجين، في "الفيلق إفريقيا" الذي استحدثته وزارة الدفاع الروسية لضمان استمرار النفوذ العسكري والإستراتيجي لموسكو في إفريقيا، وإضفاء صبغة رسمية عليه(16).

ويمكن قراءة هذا التدخل السريع والحاسم لنيجيريا وكوت ديفوار، تحت المظلة الدبلوماسية للإيكواس بإسناد ومشاركة مباشرة ونشطة من فرنسا -سواء على المستوى الميداني أو اللوجستي والاستخباراتي- ضمن هذا الاستقطاب الإقليمي الذي تصطف خلفه قوى دولية غربية، على رأسها فرنسا القوة الاستعمارية السابقة، في مقابل روسيا القادمة حديثًا إلى المنطقة، وإن كان حضورها العسكري أخذ يتنامى بوتيرة متسارعة جدًّا. فخلال خمس سنوات، صار لروسيا وجود عسكري في دول تحالف الساحل الثلاث، فضلًا عن وجودها في جمهورية وسط إفريقيا، وهو وجود يعود إلى عام 2017، وكان نواة الحضور الروسي في المنطقة ضمن إستراتيجية الكرملين الرامية إلى استعادة ما أمكن من النفوذ السوفيتي عبر العالم، خصوصًا في إفريقيا(17).

بدا التدخل الفرنسي لإجهاض الانقلاب في بنين وكأنه تحول في مقاربة فرنسا اتجاه الساحل في ضوء تقهقرها في السنوات الخمس الأخيرة في مواجهة التمدد الروسي، لاسيما إذا أخذنا في الاعتبار أن بنين دولة مطلَّة على خليج غينيا، وفي حال تحولها إلى معسكر دول الساحل، فإن ذلك سيكون نجاحًا حاسمًا بالنسبة لروسيا في تعزيز نفوذها، الذي ظل حبيس جغرافيا الساحل المعزولة عن المسطحات المائية ذات الأهمية الكبرى في تأمين الجوانب اللوجستية في أي مشروع إستراتيجي من هذا النوع.

فالوجود الروسي في الساحل ظل إلى الآن محدودًا لأسباب لوجستية أساسًا، فكل طرق إمداده الأساسية القادمة من البحر تمر عبر دول (غينيا كوناكري، السنغال، كوت ديفوار، بنين، توغو..) ليست حليفة لروسيا، وتحتفظ فرنسا فيها بوجود عسكري وأمني وازن؛ ما يجعل النشاط اللوجستي الروسي كله مرصودًا ومعروفًا(18).

أرادت فرنسا من هذا التدخل التأكيد على أنها لن تترك دولة حليفة أخرى في الساحل تقع تحت النفوذ الروسي. وهنا لا بد من التذكير بأن الأنظمة السياسية الثلاثة التي أسقطتها انقلابات عسكرية في ما سيكون لاحقًا تحالف الساحل كانت أنظمة حليفة لفرنسا، وشكّل ذلك وقودًا لدعاية السلطات الانقلابية التي أسست شرعيتها في الحالات الثلاث (مالي، النيجر، وبوركينا فاسو) على التحرر من الهيمنة الفرنسية والقطيعة مع التبعية للغرب. وفضلًا عن ذلك، تشكّل بنين آخر موطئ قدم لفرنسا لمراقبة منطقة الساحل ورصد ما يقع فيها. فقد أقام الجيش الفرنسي نقاطًا عسكرية متقدمة في شمال شرقي البلاد لمراقبة الأوضاع في منطقة الساحل. وقد أثار هذا الحضور مخاوف سلطات النيجر، التي ما انفكت تتهم فرنسا وبنين بالسعي لزعزعة استقرارها(19).

أما منظمة الإيكواس فتنظر إلى الانقلابات العسكرية التي شهدتها المنطقة في السنوات الخمس الماضية على أنها تهديد وجودي لا ينفك يتعاظم؛ فالبلدان الثلاثة التي شكَّلت تحالف الساحل غادرت المنظمة بحجة أنها أداة للهيمنة الفرنسية على المنطقة، وقد لقي هذا الخطاب قبولًا لدى فئات مهمة من الرأي العام الإفريقي، خصوصًا في إفريقيا الناطقة بالفرنسية، مدفوعًا بنشاط دؤوب على المنصات الرقمية وتطبيقات التواصل الفوري لمؤثرين يتبنون الأفكار التحررية "البانافريقانية"، ويعلنون انتسابهم إلى ميراث الأجيال التحررية والوحدوية الإفريقية التي ناهضت الإمبريالية الغربية وقاومت الاستعمار، واعتنقت -في أغلبها- الأفكار اليسارية، وحاولت إخراج القارة من فلك المعسكر الغربي الليبرالي الذي ظلت فرنسا لعقود حاملةَ لوائِه والمدافعة عن مصالحه في إفريقيا الغربية والوسطى.

ومثلما سعى قادة التحرر الأفارقة، في ستينات وسبعينات القرن العشرين، إلى توطيد الصلات بالمعسكر الشرقي الاشتراكي وبحركة عدم الانحياز وزعمائها في أميركا اللاتينية وآسيا في سياق الحرب الباردة، وجد دعاة التحرر الإفريقي الجدد ضالَّتهم في طموحات روسيا لإيجاد موطئ قدم في إفريقيا، فصاروا يقدمونها على أنها شريك يمكن أن تجد إفريقيا عن طريقه خلاصها من مواريث علاقتها مع أوروبا الممتدة قرونًا، توزعت بين تجارة الرقيق والاستعمار، ثم الهيمنة بعد انتهاء الحقبة الاستعمارية.

ويدفع هؤلاء في طرحهم هذا أن روسيا ليس لها تاريخ استعماري، وأنه في ضوء ذلك بإمكان إفريقيا والأفارقة أن يقيموا معها علاقات سياسية واقتصادية تقوم على قدر أكبر من التوازن والاحترام، وتنأى عن الاشتراطات الكلاسيكية في السياسة الأوروبية إزاء القارة، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الإعلام، وهي اشتراطات باتت الأجيال الجديدة من الأفارقة تشكِّك في موضوعيتها، بل وتعدها أداة مسلَّطة على دول القارة للتحكم في سياساتها وضمان تبعيتها واستغلال ثرواتها في صمت مطبق.

وما يسعف هذا الطرح هو أن ماضي وحاضر العلاقات الغربية-الإفريقية يحتفظ بحالات كثيرة غضَّ الغرب فيها الطرف عن السجل الحقوقي لأنظمة بعينها، بينما اتخذ من غياب الديمقراطية أو تزوير الانتخابات أو إجراءات غير دستورية ذريعة للتخلص من أنظمة أخرى لا ينظر إليها بعين الرضا. ويعد التدخل الفرنسي في كوت ديفوار، ربيع 2011، لإزاحة الرئيس، لوران غباغبو، من السلطة بعد انتخابات ديسمبر/كانون الأول 2010 التي أعلن منافسه، الحسن وتارا، فوزه بها واعترفت به القوى الغربية، أسطع مثال في هذا الباب(20).

وهكذا، تجد أغلب هؤلاء المؤثرين يواظبون على حضور منتدى سوتشي السنوي الذي يقيمه الكرملين لتعزيز الإشعاع الدبلوماسي والإستراتيجي لروسيا، ولا يغيبون أبدًا عن منتدى روسيا-إفريقيا الذي جعلت موسكو منه موعدًا سنويًا قارًا لتعزيز علاقاتها بإفريقيا. وهي خطوة جاءت متأخرة، وسعت إلى تدارك التقدم الصيني والياباني في هذا المجال، ومنافسة التوجه الأوروبي إلى الشراكة مع إفريقيا الحديث هو أيضًا.

ويرى أبرز قادة الإيكواس، وأغلبهم موالون لفرنسا والغرب أو ليسوا معادين لهما على الأقل، في تحالف الساحل نواة لخطر وجودي لا يهدد المنظمة بل يستجلب معه نفوذًا روسيًّا لا ينفك يتعاظم، وربما يُغير، في حال تبلوره في مشروع إقليمي سياسي ودبلوماسي واقتصادي، الواقع الإستراتيجي في المنطقة بأسرها، ويحولها إلى بؤرة للاستقطاب بين القوى الكبرى، مع ما يعنيه ذلك من تفاقم عدم الاستقرار الذي ظل يعصف بالمنطقة منذ الاستقلال، وتعاظم في العقدين الأخيرين مع قدوم التنظيمات الجهادية وازدهار شبكات التهريب والجريمة(21).

كانت الإيكواس، في السنوات الأولى، تأخذ على الأنظمة العسكرية في تحالف الساحل استمرارها في الحكم دون أفق زمني للعودة إلى النظام الدستوري وتسليم السلطة للمدنيين. ومع إلغاء هذه الأنظمة تباعًا أجندات العودة للنظام الدستوري وبقاء قادتها في السلطة باسم "التفويض الشعبي"، بات قادة الإيكواس يخشون من انتشار عدوى الانقلابات إلى بلدانهم. وهنا تتقاطع رؤية هؤلاء القادة المدفوعين، قبل كل شيء، بهاجس استمرارهم في الحكم، مع قناعات فئات واسعة من المثقفين الأفارقة ترى في هذا الصنف الجديد من الانقلابات التي لا تؤدي إلى عودة سريعة للنظام الدستوري والحكم المدني انتكاسة للبناء الديمقراطي في القارة، وسيرًا عكس تطلعات شعوبها إلى الديمقراطية والتناوب السياسي السلمي(22).

خاتمة

لم تكن محاولة السابع من ديسمبر/كانون الأول 2025 رجَّةً أمنية عابرة، بل لحظة كشف كثيف أعادت بنين إلى شرطها التاريخي الحقيقي: دولة صغيرة ذات تقليد طويل من الاستقرار، لكنها ليست محصَّنة ضد تآكل السياسة ولا معزولة عن عدوى الإقليم. فحين يُختزل الاستقرار في انتظام المواعيد الانتخابية، يمكن أن يُخفي تحته اقتصادًا هشًّا، ومجالًا عامًّا يضيق تدريجيًّا، وإحساسًا متناميًا بأن قواعد التنافس تُعاد صياغتها خارج المجال العمومي لا داخل صناديق الاقتراع.

وفي هذا المنعطف، ظهرت السيادة بوصفها شبكة علاقات قوة متداخلة لا شعارًا سياديًّا مجردًا: تدخل إقليمي عاجل، وإسناد فرنسي مباشر، ورسالة ردع حازمة إلى من قد يفكِّر في استنساخ سيناريوهات الساحل على سواحل خليج غينيا. غير أن الردع، مهما بلغ حسمه، لا يعالج وحده جذور التوتر، ولا يعوِّض السياسة حين يضيق أفقها؛ فالاختبار الحقيقي يبدأ بعد فشل الانقلاب لا عنده. هل تنجح الدولة في إعادة الاعتبار للمعنى السياسي نفسه: منافسة عادلة، ومعارضة ممكنة، وقانون انتخابي لا يتحول إلى أداة إقصاء، ودولة تتسع للاختلاف بدل أن تُجرِّمه؟ 

هنا يتجاوز درس بنين حدودها الوطنية، ليضع منطقة غرب إفريقيا كلها أمام سؤال نضج مؤسساتها: إمَّا ديمقراطية تُحَصَّن بقواعد عادلة وتداول فعلي يعيد إنتاج الشرعية من الداخل، وإمَّا استقرار يُدار بالقوة فيُؤجِّل الانفجار ولا يمنعه ويُرحِّله ولا يحول دونه. وعند هذا الحدِّ الفاصل فقط يمكن لفشل الانقلاب أن يكون بداية ترميم عميق لا مجرد عودة صامتة إلى ما قبل الصدمة.

نبذة عن الكاتب

مراجع

1)- Bénin BJ: des militaires annoncent un coup d’État. Patrice Talon est tombé, Youtube du 07 décembre 2025, (Vu le 19/12/2025): https://shorturl.at/VWZlh

2)- Le Bénin est-il encore un pays démocratique? TV5 Monde du 27 Jul. 2022, (Vu le 19/12/2025): https://shorturl.at/DWsxs

3)- France-Afrique : l’intégralité du discours de François Mitterrand à La Baule, Jeune Afrique du 19 juin 1990, (Vu le 19/12/2025): https://shorturl.at/v8hbB

4)- Bénin: pas de troisième mandat pour Boni Yayi, RFI du 28/11/2014, (Vu le 19/12/2025): https://shorturl.at/X98tW

5)- Côte d’Ivoire : le président Alassane Ouattara officiellement candidat à un troisième mandate, Le Monde du 07 août 2020, (Vu le 19/12/2025):https://shorturl.at/lLreV

6)- Bénin: le retrait d’un parrainage compromet la candidature des Démocrates à la présidentielle, RFI du 17/10/2025, (Vu le 19/12/2025): https://2cm.es/1lwNU

7)- Au Bénin, deux anciens alliés du président Patrice Talon condamnés à vingt ans de prison, Le Monde du 4 octobre 2024, (Vu le 18/12/2025): https://2cm.es/1lwO2

8)- Présidentielle au Bénin : seuls deux candidats retenus face à Patrice Talon, TV5 Monde du 17 Fév. 2021, (Vu le 18/12/2025): https://2cm.es/1gCIE

9)- Le Bénin dans le viseur de la Cour africaine des droits de l’homme, Le Monde du 07 décembre 2020, (Vu le 18/12/2025): https://2cm.es/1lwOl

10)- BENIN LE MINISTRE DE L'INTERIEUR ANNONCE L'ECHEC DU COUP D'ETAT CE DIMANCHE, Lens Media Production sur Youtube, 07 décembre 2025, (Vu le 18/12/2025): https://2cm.es/1lwOw

11)- ’intervention du Nigeria au Bénin, la « victoire » dont la Cedeao avait besoin? Jeune Afrique du 14 décembre 2025, (Vu le 18/12/2025): https://2cm.es/1gCJ6

12)- Bénin : "Des Forces spéciales françaises venues d'Abidjan nous ont aidés", RFI Youtub du 11/12/2025, (Vu le 18/12/2025): https://2cm.es/1lwOX

13)- iger : la Cedeao ordonne l’« activation immédiate » de sa force d’intervention, mais dit toujours privilégier une résolution pacifique de la crise, Le Monde avec AFP et Reuters du 10 août 2023, (Vu le 18/12/2025): https://2cm.es/1lwPi

14- En Gambie, dernier pays où la Cédéao est intervenue, l’option militaire au Niger fait débat, RFI du 17/08/2023, (Vu le 18/12/2025): https://2cm.es/1gCJS

15)- Défense : la France met fin à sa présence permanente en Afrique de l’ouest et amorce « une nouvelle forme de cooperation, Public Senat du  18/07/2025, (Vu le 18/12/2025): https://2cm.es/1gCK4

16)- Wagner se retire du Mali : qu'est-ce que l'Africa Corps, le groupe paramilitaire qui prend son relais? l'Express du 07/06/2025, (Vu le 14/12/2025): https://2cm.es/1gCKm

17)- Mali : l’Africa Corps, nouvelle vitrine militaire russe en Afrique, France Info du 18/11/2025, (Vu le 14/12/2025): https://2cm.es/1gCKt

18)- Russie en Afrique: Conakry, porte d'entrée de l’armement russe au Sahel (1/2), RFI du 18/06/2025, (Vu le 14/12/2025): https://2cm.es/1gCKI

19)- Niger : le président Tiani accuse la France de vouloir "déstabiliser" son pays et de soutenir le terrorisme, Anadolu Agency du 08.08.2024, (Vu le 14/12/2025): https://2cm.es/1gCKV

20)- Le «coup de main» des soldats français à la démocratie, Le Figaro du 5 avril 2011, (Vu le 20/12/2025): https://2cm.es/1gCL5

21)- La menace terroriste s’étend au Sahel, SITES WEB DE L’UNION EUROPÉENNE du  19.08.2022, (Vu le 20/12/2025): https://2cm.es/1gCLi

22)- Quel sort pour la démocratie dans l’AES? Deutsch vele du 01/05/20251 mai 2025, (Vu le 20/12/2025): https://2cm.es/1gCLD

Et aussi: Deux ans après la création de l'AES, quel bilan retenir? BBC du 19 septembre 2025, (Vu le 20/12/2025): https://2cm.es/1lwRq