
عُقِد في مدينة القامشلي، شمال شرقي سوريا، يوم السبت 26 أبريل/نيسان 2025، مؤتمر بعنوان "وحدة الموقف والصف الكردي". شارك فيه، كما ذكرت تقارير صحفية، زهاء 400 عضو، سواء من ممثلي التنظيمات الكردية السورية، السياسية وغير السياسية، أو الشخصيات المستقلة، وممثلون من حزب العمال الكردستاني التركي وعدد من الأكراد العراقيين. والأهم، كان مشاركة مندوب عن مسعود البارزاني، الرئيس السابق لإقليم كردستان العراق والشخصية الأبرز في الإقليم، وبمشاركة أحد المسؤولين الأميركيين. ولكن الواضح أن قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، أو بالأحرى العنصر الكردي المهيمن على قسد، كان المحرك الرئيس خلف المؤتمر. بدون قسد، التي تتمتع بسيطرة حصرية على شمال الشرق السوري، ما كان للمؤتمر أن يُعقد. والراجح أن بيان المؤتمر النهائي قد كُتب أيضًا باللغة التي أرادتها قسد، أو على الأقل التي وافقت عليها.
وكان فيصل يوسف، المتحدث الرسمي باسم المجلس الوطني الكردي، الذي كان طُرد من شمال شرقي سوريا عندما سيطرت قوات حزب الاتحاد الديمقراطي (المكوِّن الكردي لقسد) على المنطقة، قد أشار قبل انعقاد المؤتمر، إلى أن هدف المؤتمر هو مباركة الاتفاق الذي كان سبق التوصل إليه بين المجلس الوطني الكردي وحزب الاتحاد الديمقراطي، وطرحه بصفته رؤية كردية سورية جامعة. وقال يوسف: إن الرؤية الكردية التوافقية تسير باتجاه اللامركزية، "وإنْ كنَّا لم نحدد بعد ما إن كانت باتجاه لا مركزية إدارية أو لا مركزية سياسية".
في نهاية المؤتمر، ولتوكيد وحدة الصف الكردي، كان القيادي في المجلس الوطني الكردي، محمد إسماعيل، هو من قام بتلاوة البيان النهائي، الذي يفترض أنه استند إلى الرؤية السياسية الكردية المشتركة. تبنَّى البيان التوافقي للمؤتمر المطالبة ببناء "دولة ديمقراطية لا مركزية" في سوريا، يضمن دستورها حقوق الأكراد ومشاركة المرأة الفعالة في كافة المؤسسات السياسية والاجتماعية والعسكرية. كما تبنى الدعوة إلى أن تصبح اللغة الكردية لغة رسمية ثانية في سوريا، وإلى استحداث تقسيمات إدارية جديدة في البلاد، مثل تحويل القامشلي أو عفرين أو كوباني (عين العرب) إلى محافظات، لتكون هناك محافظات ذات غالبية كردية.
وقال محمد إسماعيل خلال تلاوته البيان الختامي: إن الرؤية المشتركة الكردية تشكل "وثيقة تأسيسية" في إطار "سوريا موحدة"، بهويتها المتعددة القوميات والأديان والثقافات. بمعنى أن المؤتمر لا يطالب بكينونة لا مركزية للأكراد وحسب، ولكنه ينادي بإقامة الجمهورية السورية عمومًا على أسس هوياتية تعددية. دعا البيان، إضافة إلى ذلك، إلى اعتماد الرؤية الكردية المشتركة "أساسًا للحوار الوطني" بين القوى الكردية المؤتلفة والإدارة الجديدة في دمشق، على أن يتم تشكيل وفد للتواصل مع الأطراف المعنية لترجمة مضامين الرؤية إلى اتفاق سياسي.
عمومًا، مهما كان الهدف خلف مؤتمر القامشلي، فإن ردَّ الإدارة السورية الجديدة لم يتأخر. ففي بيان لها، أكدت الرئاسة السورية أن حقوق الأكراد محفوظة في إطار الدولة السورية الواحدة على قاعدة المواطنة الكاملة والمساواة أمام القانون "دون الحاجة لأي تدخل خارجي أو وصاية أجنبية". كما أعرب البيان عن القلق من "الممارسات التي تشير إلى توجهات خطرة نحو تغيير ديمغرافي في بعض المناطق؛ مما يهدد التماسك الاجتماعي السوري ويضعف فرص الحل الوطني الشامل". وحذَّر البيان من تعطيل عمل مؤسسات الدولة في المناطق التي تسيطر عليها قسد واحتكار الموارد الوطنية، ومن محاولة قسد الاستئثار بالقرار في شمال شرقي سوريا حيث تتعايش مكونات أصيلة من العرب والمسيحيين والكرد.
في المجمل، أعرب البيان عن رفض الرئاسة السورية القاطع لأي محاولات "لفرض واقع تقسيمي أو إنشاء كيانات منفصلة بمسميات الفيدرالية أو الإدارة الذاتية دون توافق وطني شامل". وأشار إلى أن تحركات وتصريحات قيادة قسد تتعارض مع مضمون الاتفاق المبرم بين قسد والإدارة السورية (الاتفاق بين مظلوم عبدي والرئيس الشرع)، في 10 مارس/آذار 2025، وتهدد وحدة البلاد وسلامة ترابها.
فما الذي يعنيه عقد هذا المؤتمر لمسار المسألة الكردية في سوريا؟ لماذا لجأت قسد إلى عقد المؤتمر في هذا الوقت بالذات؟ ولماذا نظرت الرئاسة السورية إلى المؤتمر باعتباره تهديدًا لوحدة سوريا؟ وإلى أين يمكن للمؤتمر أن يأخذ المسألة الكردية في سوريا؟
حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي
لم يكن خافيًا، بالنظر إلى القوى الكردية الرئيسة التي ارتكز إليها تجمع القامشلي، أن منظمي المؤتمر عملوا على إظهار صورة لوحدة الصف الكردي السوري، وعلى طرح بيان المؤتمر باعتباره تجليًا للإجماع الكردي. لم يكن المؤتمر ممكنًا بالطبع بدون إرادة من قسد ورغبتها. تسيطر قسد بقبضة حديدية على معظم شمال شرقي سوريا، ولم تترد طوال سنوات في قمع كافة القوى الكردية السورية الأخرى. ولكن قسد حرصت هذه المرة على مشاركة خصمها السابق، المجلس الوطني الكردي، بل وقدمت قيادات المجلس الوطني للرأي العام الكردي ولوسائل الإعلام لتنطق باسم المؤتمر.
تعرف الساحة الكردية السورية بأنها أكثر الساحات الكردية السياسية تشظيًا. تعود قسد في جذورها إلى حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني(PYD) ، الذي أُسِّس في سبتمبر/أيلول 2003 باعتباره فرعًا لحزب العمال الكردستاني التركي(PKK). منذ سنوات عاش رئيس حزب العمال، عبد الله أوجلان، في رعاية نظام حافظ الأسد. وضع الحزب قدمًا له في أوساط أكراد شمال شرقي سوريا، الذين يعودون قي أغلبهم إلى أصول تركية لجأت إلى سوريا بعد فشل المواجهات المسلحة الكردية مع الجمهورية التركية الوليدة في منتصف عشرينات القرن العشرين. ولكن تأسيس حزب الاتحاد الديمقراطي لم يأت من توسع الالتفاف الشعبي الكردي حول حزب العمال الكردستاني، بل في سياق من الزلزال السياسي الهائل الذي أحدثه الغزو الأميركي للعراق، ومحاولة حزب العمال استغلال فوضى ما بعد الغزو لتعزيز وجوده ونشاطه في تركيا والعراق وسوريا.
في أواخر 2011، وبعد عدة شهور من اندلاع الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد، شكَّل حزب الاتحاد الديمقراطي فصائل مسلحة في مناطق الوجود الكردي في شمال شرقي سوريا باسم الهيئة الكردية العليا. وهذه الفصائل هي التي تحولت إلى وحدات حماية الشعب، في 2014، مع اندلاع المواجهات في العراق وسوريا ضد تنظيم الدولة الإسلامية. بدعم أميركي كبير، أحرزت وحدات حماية الشعب نصرًا كبيرًا على تنظيم الدولة الإسلامية في عين العرب (كوباني)، في أوائل 2015، وأسست بذلك تحالفًا وثيقًا وطويل الأمد مع القوات الأميركية التي تقدمت من شمال العراق لتقيم عدة قواعد لها في شرق وشمال شرقي سوريا. وكان الأميركيون هم الذين اقترحوا على القيادات الكردية في وحدات حماية الشعب توسيع إطارها، لتضم مسلحين عربًا ومسيحيين أشوريين، وتغيير اسمها إلى قوات سوريا الديمقراطية.
ولكن حزب الاتحاد الديمقراطي (وجناحه المسلح، قوات حماية الشعب)، على الرغم من صعوده السريع بعد المواجهة مع تنظيم الدولة والتحالف مع الأميركيين، لم يكن في الحقيقة القوة السياسية الرئيسة في شمال شرقي سوريا بعد اندلاع الثورة الشعبية ضد نظام الأسد. القوة الرئيسة كانت المجلس الوطني الكردي. أُعلن عن تأسيس المجلس في أربيل، في أكتوبر/تشرين الأول 2011، بعد أسابيع قليلة من إطلاق المجلس الوطني السوري، أول إطار سياسي للثورة السورية، والذي ضم قيادات ونشطين عربًا وأكرادًا، مسلمين ومسيحيين، وإسلاميين وعلمانيين.
تأسس المجلس الوطني الكردي برعاية الرئيس مسعود بارزاني، الذي كان يرأس إقليم كردستان العراق آنذاك ويعمل نحو إيجاد تجمع للقوى السياسية الكردية في سوريا، ليمثل المجتمع الكردي السوري ويشارك باسم قوى هذا المجتمع ليس في نشاطات الثورة وحسب، بل وفيما يمكن أن ينجم عنها من متغيرات في بنية الدولة السورية. ولأن البارزاني كان يخوض معركة مكتومة مع حزب العمال الكردستاني حول زعامة عموم الأكراد في المشرق، فقد سعى إلى أن يقف المجلس الوطني الكردي مانعًا أمام زحف حزب الاتحاد الديمقراطي، وثيق الصلة بحزب العمال الكردستاني، نحو المجتمعات الكردية السورية.
ضم المجلس الوطني الكردي عند تأسيسه زهاء 11 حزبًا كرديًّا، أبرزها الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي يكاد أن يكون فرعًا لنظيره العراقي الأقدم تاريخًا. في مايو/أيار 2012، التحق بالمجلس أربعة أحزاب أخرى؛ ولكن عدد مكونات المجلس تراجعت في 2018 إلى 13 حزبًا، إضافة إلى عدد من المنظمات الشبابية والنسوية والشخصيات المستقلة. وفي 2015، عندما كانت الثورة السورية قد تطورت إلى ثورة مسلحة، أنشأ المجلس ذراعًا مسلحة باسم بيشمركة روج آفا، التي تكاد أن تكون امتدادًا لبيشمركة كردستان العراق. شارك المجلس الوطني الكردي في الائتلاف الوطني السوري، وريث المجلس الوطني السوري، الذي سرعان ما برز ممثلًا للثورة السورية سواء على الصعيد الإقليمي أو الدولي، ولكن ممثلي المجلس الوطني الكردي لم يخفوا اختلافهم مع قيادات الائتلاف الأخرى حول مطلب اللامركزية لأكراد سوريا، وإمكانية أن تقتصر على اللامركزية الإدارية، أو أن تكون لا مركزية سياسية.
بيد أن المنافسة على تمثيل الأكراد السوريين لم تلبث أن حُسمت لصالح حزب الاتحاد الديمقراطي وقوات حماية الشعب، ومن ثم قوات سوريا الديمقراطية. ما ساعد على حسم المنافسة كان الدعم الكبير الذي قدمه الأميركيون، وبدون انقطاع، لقسد، إضافة إلى الموارد المالية التي حققتها من السيطرة على حقول النفط والغاز في شرق وشمالي شرق سوريا. كما كان الاتحاد الديمقراطي (بتجلياته المسلحة) أكثر تنظيمًا ومركزية، مستلهمًا تجربة حزب العمال الكردستاني، ومؤيدًا بعدد ملموس من قيادات وكوادر الأخير، التي انحدرت من جبال قنديل في العراق إلى شرق وشمال شرقي سوريا لتسهم في إقامة وقيادة التنظيم.
في أكثر من موقع، عقدت قوات حماية الشعب وقسد صفقات تعاون وإحلال مع قوات نظام الأسد التي لم تكن قد أُجليت كلية بعد في الشرق والشمال الشرقي. في 2018، أجرى وفد كردي برئاسة إلهام أحمد، المسؤولة عن الجناح السياسي لقسد، مفاوضات مع أركان النظام في دمشق لتنسيق العلاقة بين الطرفين. ولكن الأكثر وقعًا طوال عقد كامل من السيطرة أن قادة قسد، حسب تقارير موثقة مثل تقرير الأطفال والنزاعات المسلحة الصادر عن الأمم المتحدة في 2023، لم يترددوا مطلقًا في استخدام الإكراه، تمامًا كما هي تجربة حزب العمال الكردستاني، في تجنيد الشباب والفتيات، وفي السيطرة على المعارضين.
وحتى خريف 2024، قبل أشهر قليلة من سقوط نظام الأسد، ظلت قسد تطارد المعارضين الأكراد السوريين في مناطق سيطرتها وتشتبك مع الجماعات العشائرية العربية المسلحة المناهضة.
بذلت قيادات إقليم كردستان العراق جهودًا حثيثة لدفع الأطراف الكردية الرئيسية في سوريا للتوافق، ولكن إقامة قسد إدارة ذاتية في مناطق سيطرتها وعزمها على التفرد بإدارة مناطقها أفشل كافة محاولات التوافق. لم ينجم عن الضغوط الأميركية على قيادات قسد والمجلس الوطني الكردي إلى غاية 2020، أية نتائج فعلية. ولكن نجاح الثوار السوريين في إدلب في إطاحة نظام الأسد، في ديسمبر/كانون الأول 2024، وإقامة حكومة سورية جديدة في دمشق، فاجآ قسد كما كافة القوى الكردية الأخرى، وصنع ظروفًا موضوعية جديدة كلية للصراع على سوريا.
الأكراد والإدارة السورية الجديدة
لم تستطع قسد ولا المجلس الوطني الكردي تجاهل الانتصار الذي حققته قوى الثورة، وتحرير سوريا من نظام الأسد، الانتصار الذي وجد صدى إيجابيًّا واسعًا في سوريا، كما في النطاقين، الإقليمي والدولي. أطلقت قيادات قسد تصريحات ترحيبية حذرة بالسلطة السورية الجديدة، وتحدثت عن ضرورة بدء حوار مع دمشق حول المسألة الكردية. وأشارت تقارير، يصعب التيقن من صحتها، إلى أن ممثلين عن قسد زاروا دمشق وأجروا نوعًا من الحوار المبكر مع الرئيس الشرع في أوائل 2025، بدون نتائج ملموسة. ولكن عدة عوامل كانت تلتقي معًا لتدفع قيادة قسد إلى محاولة بناء إجماع كردي، من ناحية، وإلى التوصل إلى اتفاق ما مع دمشق الجديدة، من ناحية أخرى.
العامل الأول، يتعلق ببناء إجماع كردي ردًّا على السرعة الملموسة التي استطاعت بها هيئة تحرير الشام، التي مثَّلت القوة الرئيسة في عملية ردع العدوان، تثبيت أقدامها في دمشق، وبقبول شعبي واسع لقيادة الدولة الجديدة، وبالتأييد المعلن لهذه الدولة من تركيا، الطرف الأهم في تقرير مستقبل المسألة الكردية، ومن أغلب الدول العربية. أما العامل الثاني فهو إطلاق مسار تفاوضي مع القيادة السورية الجديدة لأنه بدا واضحًا أنه لا يوجد طرف مهما بلغ من قوة قادر على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء في سوريا.
في الوقت نفسه، كانت الاشتباكات المسلحة بين قوات قسد وقوات الجيش الوطني السوري، وثيقة الصلة بالجيش التركي، وبدعم من الأخير، تزداد احتدامًا في شرق حلب، وتجبر قوات قسد على التراجع عن مواقع لها. وقد صاحب تقدم قوات الجيش الوطني في شرق حلب تصريحات عسكرية رسمية تركية تنذر بعزم تركيا على حسم ما تصفه أنقرة بالتواجد الإرهابي على حدودها مع سوريا. كانت الأوضاع في تركيا، منذ أواخر العام الماضي 2024، تتجه إلى تحولات كبرى في علاقة الدولة التركية بحزب العمال الكردستاني، قد تنتهي بحل الحزب نهائيًّا والانضواء في الساحة السياسية التركية. وعلى الرغم من ادعاء قسد بأنها غير معنية بتطورات الساحة التركية، وأنها قوة كردية سورية مستقلة عن حزب العمال الكردستاني، فإن من الصعب تجاهل الأثر الذي يمكن أن يتركه التوصل إلى تسوية سياسية نهائية للمسألة الكردية في تركيا على وضع قسد ومصيرها.
ولكن العامل الأهم تعلق ببوادر متغيرات في سياسة إدارة ترامب تجاه سوريا والتواجد العسكري الأميركي في شرق وشمال شرق سوريا. فقد ذكرت مصادر مختلفة، منذ يناير/كانون الثاني 2025، أن مسؤولين أميركيين عسكريين في سوريا أبلغوا قيادة قسد بأن إدارة الرئيس الأميركي الجديد تتجه إلى الانسحاب من سوريا، وعلى الرغم من أنه لم يصدر قرار بعد بهذا الشأن فإن القيادة المركزية الأميركية ستقوم باستعدادات لتنفيذ مثل هذا القرار في حال صدوره، بما في ذلك التخلي عن بعض نقاط التواجد في الشرق السوري وخفض عدد القوات الأميركية المتواجدة في المنطقة. ويبدو أن الأميركيين وجهوا النصيحة لقيادة قسد بالتحرك للتوصل إلى اتفاقٍ ما مع دمشق وإدارة الرئيس الشرع.
على المستوى الكردي، كانت حكومة إقليم كردستان العراق بين أولى الحكومات التي رحبت بانتصار الشعب السوري وبالإدارة السورية الجديدة. ويبدو أن اتصالات بين الطرفين جرت بالفعل حتى قبل اللقاء الذي عُقد بين رئيس الإقليم الحالي، نيجرفان بارزاني، والرئيس الشرع على هامش مؤتمر أنطاليا، في منتصف أبريل/نيسان 2025. وكان طبيعيًّا أن يسارع المؤتمر الوطني الكردي، حليف حكومة الإقليم، إلى التعبير عن موقف إيجابي من حكومة الشرع. وهذا ما دفع المسؤول العسكري لقسد، مظلوم عبدي، إلى السفر إلى أربيل، في منتصف يناير/كانون الثاني، للقاء مسعود بارزاني، اللقاء الذي عُدَّ مؤشرًا على التصالح الكردي الداخلي.
مباشرة بعد اللقاء مع بارزاني، بدأت قسد خطوات متسارعة لمواجهة التحديات التي فرضتها تحولات الظروف المحيطة، كرديًّا وسوريًّا، إقليميًّا ودوليًّا.
أعلنت قسد عن خروج كافة عناصر حزب العمال الكردستاني التي تواجدت في مناطق سيطرتها السورية، كما أطلقت حوارًا مع المجلس الوطني الكردي، الذي بادر إلى توجيه التهنئة للرئيس أحمد الشرع، في أوائل فبراير/شباط، بتوليه رئاسة البلاد، والإعلان عن انسحابه من الائتلاف الوطني السوري لقوى المعارضة، على أساس أن مهمة الائتلاف قد انتهت وأن مرحلة جديدة قد بدأت في سوريا. ولم يلبث الحوار بين قسد والمجلس الوطني الكردي أن توصل إلى رؤية مشتركة للتباحث مع دمشق.
في 10 مارس/آذار، وفَّر الأميركيون وسيلة نقل وحراسة لتسهيل لقاء مظلوم عبدي بالرئيس الشرع، اللقاء الذي نجم عنه الاتفاق-الإطار بين الطرفين، الذي نص على ما يلي:
- ضمان حقوق جميع السوريين في المشاركة في العملية السياسية وكافة مؤسسات الدولة بناءً على الكفاءة، دون تمييز ديني أو عرقي.
- الاعتراف بالمجتمع الكردي جزءًا أصيلًا من الدولة السورية، وضمان حقوقه في المواطنة والحقوق الدستورية.
- وقف إطلاق النار على جميع الأراضي السورية لإنهاء النزاع المسلح.
- دمج المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سوريا ضمن إدارة الدولة السورية، بما يشمل المعابر الحدودية والمطارات وحقول النفط والغاز.
- تأمين عودة جميع المهجرين السوريين إلى مدنهم وقراهم، وضمان حمايتهم من قبل الدولة السورية.
- دعم الدولة السورية في مواجهة بقايا نظام الأسد وجميع التهديدات التي تستهدف أمن سوريا ووحدتها.
- رفض دعوات التقسيم وخطاب الكراهية ومحاولات بث الفرقة بين كافة مكونات المجتمع السوري.
- تعمل وتسعى اللجان التنفيذية لتطبيق الاتفاق بما لا يتجاوز نهاية العام الحالي.
عُدَّ الاتفاق، من زاوية نظر قسد، أنه وفر مركبة إنقاذ ضرورية لحمايتها من هجمات تركية وشيكة، وأنه حافظ على بقاء قسد آمنة في منطقتها لأطول زمن ممكن، ومنحها الدور الكردي الرئيس للحوار مع دمشق حول مستقبل المسألة الكردية السورية. وعُدَّ من زاوية نظر إدارة الرئيس الشرع أنه يوفر مناخًا سلميًّا لمسار إعادة توحيد سوريا الشاق والطويل، ويجنِّب الأطراف المعنية سفك الدماء، ويمنح دمشق زمنًا ضروريًّا لبناء الدولة السورية ومؤسستها الدفاعية. لم يطرح الاتفاق خطوات تنفيذية، ضمن جدول زمني محدد، وكان المفترض أن لجنة مشتركة من الطرفين ستتولى تنزيل بنوده الممكنة التحقق على أرض الواقع، وأن تترك المسائل الشائكة لمزيد من الحوار والزمن.
توصل الطرفان بالفعل إلى عدد من الإجراءات التنفيذية خلال الأسابيع القليلة التالية على توقيع اتفاق العاشر من مارس/آذار. فقد انسحبت قوات قسد من أحياء الأشرفية والشيخ مسكين ذات الأغلبية الكردية في شمال شرقي حلب، التي كانت مسرحًا دمويًّا للاشتباكات. كما شهدت حلب أكثر من عملية لتبادل الأسرى من الطرفين؛ وتم التوافق على تشكيل إدارة مشتركة لسد تشرين. ولكن قسد لم تتخذ أية خطوة ملموسة بعد لإعادة حقول النفط والغاز إلى سيطرة الدولة السورية، وهي خطوة بالغة الضرورة لسد حاجات البلاد من مصادر الطاقة. ثم جاء انعقاد مؤتمر القامشلي ليوحي بانعطاف كردي عن روح اتفاق عبدي-الشرع والآمال التي حملها لتسوية سلمية للمسألة الكردية السورية.
أفق مفتوح على الاحتمالات
يقول المدافعون عن مظلوم عبدي: إن قائد قسد لم يتراجع عن اتفاقه مع الشرع، حتى بعد المشاركة في مؤتمر القامشلي. كل ما في الأمر أن عبدي يعمل في بيئة كردية بالغة التشظي، وعلى الرغم من موقعه بالغ الأهمية والنفوذ، فإنه لا يستطيع السيطرة والتحكم في كافة أطراف المشهد الكردي السوري، ولا حتى في قرار قيادة حزب الاتحاد الديمقراطي. ويقول هؤلاء: إن مؤتمر القامشلي يجب ألا يثير كثيرًا من القلق، وإن بيانه لابد أن يُرى باعتباره سقف المطالب الكردية، السقف الذي كان ضروريًّا لتحقيق إجماع كردي. ولكن هذا السقف سيكون بالتأكيد معرضًا للنزول في المفاوضات النهائية مع دمشق.
وتقف قيادة إقليم كردستان العراق، ذات الصلة الوثيقة بالمجلس الوطني الكردي، إلى جانب المتفائلين في الإشارة إلى أنها أيدت عقد مؤتمر القامشلي وحرصت على دعمه وأرسلت ممثلًا إليه، بهدف الاحتفاظ بقدر من التأثير الإيجابي على مخرجاته، ومنع حزب العمال الكردستاني من التفرد بتوجيه أعماله. وتؤكد قيادة الإقليم أن الأمور، وبغض النظر عن لغة بيان المؤتمر، تمضي باتجاه المسار السياسي-التفاوضي بين الأكراد السوريين ودمشق، وليس إلى الصدام. ويقول المدافعون عن أربيل: إنه وعلى الرغم من تباطؤ عمل اللجنة المشتركة المكلفة بتطبيق اتفاق 10 مارس/آذار فإن اللجنة عادت بالفعل إلى الاجتماع في 5 مايو/أيار.
بيد أن واقع التشظي الكردي السوري (ومناخ المزايدات الناجم عنه)، الذي يُستخدم مسوِّغًا لتبرير التعثر في تطبيق اتفاق الشرع-عبدي، واللغة عالية السقف التي كُتب بها بيان القامشلي، قد تدفع من جهة أخرى إلى مزيد من استعصاء المسألة الكردية السورية. فما لم تذهب دمشق إلى التفاوض والاتفاق مع ممثلي كل طرف من أطراف الساحة الكردية، كبيرها وصغيرها، فمن الصعب القول: إن المسألة الكردية السورية في طريقها إلى التسوية. والواضح أن طرفًا ما، أو أطرافًا، في القامشلي رأت في انشغال القيادة السورية الجديدة بالوضع في السويداء فرصة لإعادة تشديد الضغط على دمشق ومحاولة تحقيق بعض المكاسب من الإدارة السورية الجديدة.
وتتعلق العقبة الكبرى الأخرى في طريق التسوية بأطروحة اللامركزية، إدارية كانت أو سياسية، التي تبدو أنها تسيطر على العقل السياسي الكردي السوري بمعسكريه الرئيسين: حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي. فالمؤكد أن الإدارة السورية الجديدة، ومهما بلغت الضغوط، لن تقبل بإقامة أي قدر من الحكم الفيدرالي، وترى أن التفاوض حول النظام الفيدرالي مع أي مجموعة أقلية يعنى الموافقة على تقسيم سوريا. في الجهة المقابلة، يدرك كافة دارسي الدولة الحديثة أن ليس ثمة تعريف مستقر ومجمع عليه للَّامركزية، وأن اللامركزية تبدأ من إقامة بلديات ذات صلاحيات محلية معتبرة، ولا تنتهي عند الحكم الذاتي. والمشكلة في بيان القامشلي أنه تحدث عن مطالب لا تخص الأكراد السوريين وحسب، بل إنه يتوقع من دمشق كذلك إعادة تصور الدولة السورية باعتبارها دولة متعددة الهويات وليست دولة مواطنة.
ولكنْ ثمة تطور إيجابي أيضًا في الساحة الكردية الأوسع، يمكن أن يترك أثرًا ما على الساحة الكردية السورية. تقول تقارير من أنقرة: إن مؤتمر حزب العمال الكردستاني، الذي يُتوقع أن ينتهي إلى حل حزب العمال الكردستاني والتخلي كلية عن العمل المسلح، ربما سيُعقد في النصف الأول من مايو/أيار 2025. يدعي قادة قسد وحزب الاتحاد الديمقراطي، بالطبع، أنهم غير معنيين بتطورات المسألة الكردية في تركيا، وأنهم ليسوا جزءًا من العمال الكردستاني وليسوا ملزمين بالتالي بخياراته. علاوة على أن هذا الادعاء غير قابل للتصديق، فالمؤكد أن الجهات الكردية التي تقود عملية التفاوض مع الدولة التركية ستكون حريصة على ألا يدفع التقدم نحو حل سياسي ونهائي للمسألة الكردية في تركيا إلى انفجار المسألة الكردية في سوريا، سيما أن اهتمام أنقره بتطورات الوضع الكردي في سوريا لا يقل عن اهتمامها بتطوراته في تركيا ذاتها.
ما تشير إليه هذه التعقيدات، باختصار، أن قدرًا من المبالغة قد أحاط بالتفاؤل الذي أطلقه توقيع الشرع وعبدي على اتفاق 10 مارس/آذار، وأن اشتباكَ ما هو كردي وما هو وطني سوري، وإقليمي، ودولي، سيجعل طريق حل المسألة الكردية في سوريا أكثر وعورة مما أوحت به لحظة الاتفاق. ولكن تسارع المتغيرات في الشرق الأوسط منذ سقوط النظام السوري السابق، في الوقت نفسه، قد تساعد فعلًا على تجاوز مطرد لكثير من عقبات هذا الطريق. ومهما كان الأمر، على أية حال، فإن الكثير من المراهنة سيظل معلقًا بتدابير القيادات الكردية السورية، ومدى إدراك هذه القيادات لمعنى التحول الكبير الذي أحدثه انتصار قوى ثورية في سوريا ذاتها، وفي الإقليم.