
شكَّل مؤتمر حزب العدالة والتنمية المغربي، المنعقد يومي 26 و27 أبريل/نيسان 2025، حدثًا استثنائيًّا، كونه عبَّر عن محطة مهمة في مسار التعافي والخروج من أزمات متراكبة، هوت به من قمة المشهد الحزبي إلى أسفله. أزمات بدأت على إثر فوزه في الانتخابات البرلمانية لسنة 2016، بعد معركة قاسية ضد خصومه السياسيين، وهو الفوز الذي عُيِّن على إثره أمينه العام حينئذ، عبد الإله بنكيران، رئيسًا للحكومة لولاية ثانية، لكن ما لبث أن أُعفي بعد بضعة أشهر من "البلوكاج السياسي"(1)؛ ما فتح الطريق أمام خيار ثان تمثل في تعيين الرجل الثاني في الحزب، سعد الدين العثماني، رئيسًا للحكومة.
وقد قاد العثماني الحزب والحكومة معًا طيلة المرحلة ما بين 2017 و2021، لكن في ظروف سياسية صعبة؛ اتسمت، من جهة أولى، بانقسام داخلي حادٍّ أدخل حزب العدالة والتنمية في حالة أزمة على خلفية إعفاء بنكيران، تفاقمت وتعمقت مع بروز أزمات أخرى في تلك المرحلة؛ كما اتسمت تلك الظروف، من جهة ثانية، بضغوط سلطوية اضطر معها الحزب إلى الموافقة على تمرير قوانين واتفاقيات تتناقض مع عقيدته السياسية مما عمَّق من أزمته، منها التوقيع على الاتفاق الثلاثي بين المغرب وأميركا وإسرائيل، في ديسمبر/كانون الأول 2020، والذي قضى بالتطبيع مع الكيان الإسرائيلي. وقد انتهت تلك المرحلة بهزيمة مدوية لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية والجماعية، في 8 سبتمبر/أيلول 2021.
أفضت الهزيمة الانتخابية إلى استقالة جماعية للأمانة العامة للحزب، بعدما وصفت تلك النتائج في بيان رسمي بأنها "غير مفهومة وغير منطقة ولا تعكس حقيقة الخريطة السياسية"(2)، لكن دون أن تتجرأ على الطعن السياسي فيها. وقد ترتَّب على الاستقالة الجماعية لقيادة الحزب التوجه نحو عقد مؤتمر استثنائي، جرى تنظيمه في أكتوبر/تشرين الأول 2021، وشكَّل المحطة الأولى في مسار الحزب نحو التعافي والخروج من أزماته؛ إذ انتهى بانتخاب بنكيران أمينًا عامًّا، وبرهانات محددة لعل من أبرزها حفظ وحدة الحزب وطي مرحلة الانقسام الداخلي، والعمل في الوقت نفسه من أجل استعادته لمكانته السياسية في الحقل السياسي المغربي.
ومن خلال قراءة مركَّزة في مسار الحزب خلال المرحلة ما بين المؤتمر الاستثنائي، في أكتوبر/تشرين الأول 2021، والمؤتمر العادي، في أبريل/نيسان 2025، وكذا في مخرجات هذا الأخير، يبدو أن الحزب استطاع أن يعكس اتجاه مسار الأزمة من الانحدار والانقسام نحو التعافي والتجاوز. وهو إنجاز يدفع البعض إلى الحديث عن معالم دورة جديدة في عمله السياسي والإصلاحي. في ضوء ذلك، تحاول هذه الورقة أن تبحث في مسألتين: الأولى: طبيعة الأزمات المتراكبة للحزب وأسلوبه في إدارتها والخروج منها، أي المداخل التي اعتمدها للخروج من أزماته، في سياق مغربي يتميز بهيمنة منطق الصفقات التجارية في مقابل تراجع دور الأحزاب والمجتمع المدني. المسألة الثانية تتعلق بالإجابات التي قدمها الحزب في مؤتمره الوطني الأخير إزاء تحديات الديمقراطية والتنمية وحقوق الإنسان في سياق إقليمي وعالمي يتسم بالتراجع الديمقراطي في مقابل عودة سياسات القوة في العلاقات الدولية.
أولًا: أزمات الحزب المتراكبة
تتأسس الإجابة على الشق الأول من الإشكالية بأن حزب العدالة والتنمية واجه ما يسميه آدم توز، في سياق آخر، بـ"الأزمات المتراكبة" (Polycrisis)(3)، للدلالة على تعدد الأزمات وتوالي صدماتها، بحيث يكون تأثيرها مجمَّعًا أقوى بل مُضاعَفًا على الدول. وبتطبيق المفهوم نفسه على حالة حزب العدالة والتنمية، يمكن القول: إن الأزمات التي عانى منها كان تأثيرها مضاعفًا على توازناته وبنيته التنظيمية وعلى مواقفه السياسية، بحيث صار مع كل أزمة جديدة وكأنه يفقد إدراكه بالواقع.
وتمكن الإشارة في هذا الصدد إلى أربع أزمات على الأقل: الأولى سببها إعفاء الأمين العام للحزب، عبد الإله بنكيران، بموجب قرار ملكي من تشكيل الحكومة لولاية ثانية في ضوء نتائج الانتخابات التشريعية لسنة 2016، وهو قرار كانت له تداعيات سياسية وتنظيمية. سياسيًّا، حرص الملك على تعيين الشخص الثاني من الحزب نفسه المتصدر للانتخابات التشريعية، طبقًا للفصل 47 من دستور فاتح يوليو/تموز 2011. لكن رؤية العثماني لتشكيل الحكومة أفضت به إلى تقديم تنازلات كان بنكيران قد رفضها مما أدى إلى إبعاده. وحين أفرج العثماني عن حكومته في الخامس من أبريل/نيسان 2017، تفجر تقاطب حاد داخل الحزب بين مؤيدين لمخرجات التفاوض ومعارضين لها، أي بين ما سمي إعلاميًّا وحينئذ بـ"تيار الوزراء" و"تيار بنكيران".
تنظيميًّا، أفضى تعيين العثماني رئيسًا للحكومة إلى تمهيد الطريق أمامه نحو رئاسة الحزب في المؤتمر الثامن المنعقد في ديسمبر/كانون الأول 2017، لكن التيار المعارض له طرح عشية المؤتمر فكرة تعديل النظام الأساسي من أجل التمديد لبنكيران لولاية ثالثة، ورغم أن الأغلبية في المؤتمر صوَّتت ضد فكرة الولاية الثالثة، إلا أن الخلاف ظل مستحكمًا في الحزب، ومن أبرز تجلياته عدم تزكية بنكيران للمسار الذي تبلور بعد الإطاحة به(4)؛ ما يعني استمرار التقاطب داخل الحزب طيلة الفترة التي قاد فيها العثماني الحزب والحكومة معًا، بين أبريل/نيسان 2017 وأكتوبر/تشرين الأول 2021.
تبلورت الأزمة الثانية نتيجة المواقف المتناقضة للحزب من القانون الإطار المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي؛ إذ اختار الفريق الوزاري للحزب تأييد القانون المذكور داخل المجلس الحكومي، بناء على موقف للأمانة العامة للحزب مؤيد للقانون المذكور بذريعة الحفاظ على تماسك الأغلبية الحكومية. بينما عبَّر الفريق البرلماني للحزب داخل مجلس النواب عن مواقف متناقضة؛ إذ صوَّت بعض أعضائه على مستوى لجنة التعليم والاتصال بمجلس النواب بالامتناع، في حين صوت آخرون ضد القانون. أما الفريق البرلماني ككل فقد قرر التصويت لصالح مشروع القانون في الجلسة العامة بمجلس النواب(5).
وقد تكرر الانقسام مرة ثالثة بشكل حاد داخل الحزب بمناسبة التصويت على القانون المتعلق بالاستعمالات المشروعة للقنب الهندي، في مارس/آذار 2021؛ حيث أيد ممثلو الفريق الوزاري مشروع القانون على صعيد مجلس الحكومة، في حين تبنَّى الفريق البرلماني للحزب بمجلس النواب موقفًا معاكسًا ورافضًا. ولعل الخلاف في المواقف بين الفريق الوزاري والفريق البرلماني، يعكس وضعًا وسلوكًا سياسيًّا انقساميًّا في العمل المؤسساتي بالحزب. علمًا بأن الانقسام في الموقف الحزبي من القانون المذكور تعمق أكثر بسبب موقف بنكيران، الذي هدد في بيان مكتوب بـ"تجميد" عضويته في الحزب، في حالة وافقت الأمانة العامة للحزب على مشروع القانون في المجلس الحكومي، وبـ"مغادرة" الحزب نهائيًّا في حالة الموافقة عليه من لدن الفريق البرلماني(6).
الأزمة الرابعة التي كادت أن تفجر الحزب تتعلق بالموقف من الاتفاق الثلاثي بين المغرب وأميركا وإسرائيل، في ديسمبر/كانون الأول 2020؛ إذ شكَّل توقيع الأمين العام للحزب ورئيس الحكومة، سعد الدين العثماني، على الاتفاق المذكور، إلى جانب مستشار الأمن القومي الإسرائيلي ومستشار الرئيس الأميركي(7)، مفاجأة صادمة لقيادة الحزب وقواعده، أفضت إلى غضب عارم داخله، وحطمت صورته كحزب منحاز للمقاومة الفلسطينية ومناهض لخيار التطبيع مع الكيان الإسرائيلي؛ ما أدى إلى تعميق عزلته عن حاضنته الاجتماعية المحافظة.
من المرجح أن الأزمات الأربع قد أنهكت قوة الحزب وتماسكه الداخلي؛ إذ إن كل أزمة كانت تضعفه أكثر، إلى أن صار في آخرها مفككًا ومنقسمًا، وهو ما دفع بعدد من قادته إلى الصمت والتواري نحو الخلف، في حين اختار البعض منهم الاستقالة قبل نهاية الولاية الحكومية بأشهر عديدة(8). ولما وصل الحزب إلى محطة الانتخابات الجماعية والتشريعية، في 8 سبتمبر/أيلول 2021، كان أضعف من المتوقع، وقد عبَّرت نتائجه الانتخابية التي هوت به من رأس الهرم الحزبي إلى أسفله، أي من 125 مقعدًا برلمانيًّا في انتخابات 2016 إلى 13 مقعدًا برلمانيًّا في انتخابات 2021، عن مفعول الأزمات الأربع في بنيته الداخلية، ناهيك عن الضغوط السلطوية(9) التي تعرض لها واستهدفت عن سبق إصرار هزيمته في تلك المحطة الانتخابية لمنعه من الاستمرار في قيادة الحكومة لولاية ثالثة.
ثانيًا: عكس الاتجاه نحو مسار الخروج من الأزمات
إثر النتائج الانتخابية القاسية للحزب، تقدمت الأمانة العامة باستقالتها الجماعية، وبعد ثلاثة أشهر عقد الحزب مؤتمرًا استثنائيًّا، في أكتوبر/تشرين الأول 2021، انتهى بانتخاب عبد الإله بنكيران أمينًا عامًّا رفقة أمانة عامة جديدة. ويمكن القول: إن لحظة المؤتمر شكَّلت محطة تنظيمية لعكس الاتجاه نحو مسار الخروج من الأزمات، علمًا بأن الأزمة ليست معطى جامدًا، بل تعبيرًا عن دينامية متحولة تتفاعل في إطارها وحولها مواقف ومصالح وفرص وربما تهديدات. بناء على ذلك، فالتعاطي مع الأزمة داخل الحزب لم يكن وفق مسار واحد، بل وفق مسارات متعددة، سياسية وتنظيمية ونضالية، تلائم تداعيات "الأزمات المتراكبة".
وفق منطق المسارات المتعددة، اتبعت قيادة الحزب أسلوب الانغماس في معارك سياسية، صنعت منها فرصًا للحزب، وحققت من خلال الاشتباك معها نتائج إيجابية ولو جزئية، يجري البناء عليها من أجل الانتصار في معارك أخرى تُمثل بدورها فرصًا جديدة. وهكذا، بالانتقال من معركة إلى أخرى، ومن نصر سياسي جزئي إلى آخر، يتم تجاوز نفسية حالة الأزمة عبر الانخراط في وضع سياسي/نفسي جديد.
لنلاحظ في هذا الإطار كيف أن قيادة الحزب أصرَّت على الانخراط في معارك جزئية تعلم مسبقًا أن الحزب خاسر فيها، مثل المشاركة في الانتخابات الجزئية، التشريعية والجماعية، ليس من أجل الفوز الانتخابي بالضرورة، بل من أجل مغادرة المناخ النفسي لحالة الأزمة عبر الإصرار على التحدي والمواجهة.
وخلال مشاركته في الانتخابات الجزئية بجماعة الدخيسة نواحي مدينة مكناس أو في انتخابات الدائرة الجنوبية بفاس مثلًا، كان واضحًا تركيز القيادة على حجم الانخراط والتعبئة والفاعلية، من خلال مؤشرات بسيطة مثل عدد الحضور في الجموع العامة المحلية، أو حيوية وحافزية الأعضاء للمشاركة في الحملات الانتخابية، أو المساهمة في تحمل نفقاتها المالية، وهي الحيوية التي استثمرتها قيادة الحزب لبناء أمل جديد لاستنهاض قواعد الحزب، وفي الوقت نفسه توفير الغطاء السياسي من خلال فضح تجاوزات الإدارة المحلية أو المرشحين المنافسين(10). ويمكن القول: إنه من خلال المعارك السياسية الجزئية، أعاد الحزب بناء توازن نفسي جديد بين قواعده، وصناعة أمل جديد في انبعاث ثان تقوَّى مع بروز فرص جديدة مثلتها معارك سياسية أخرى مثل تعديل مدونة الأسرة، وضعف الأداء الحكومي، علاوة على قضية غزة والتطبيع مع إسرائيل.
شكَّلت المعركة حول تغيير مدونة الأسرة، والعدوان الإسرائيلي على غزة، فرصًا مثالية للحزب للتأكيد مجددًا على مرجعيته الإسلامية، وعلى مواقفه المبدئية، وفي الوقت نفسه تجديد الاتصال بحاضنته الاجتماعية المحافظة. ففي قضية مدونة الأسرة مثلًا، تصدر الحزب النقاش العمومي، فعبَّأ أنصاره وحلفاءه من التيار المحافظ بواسطة مذكرات، وندوات فكرية، ومهرجانات شعبية، بل حوَّل النقاش من قضية تقنية إلى قضية سياسية عامة في مواجهة بعض الأوساط العلمانية، مركزًا على مواقفها المثيرة للخلاف وللانقسام السياسي والمجتمعي حول قضايا حساسة مثل الإرث والتعصيب وزواج القاصرات(11).
أما في قضية العدوان الصهيوني على غزة بعد أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، فقد شكَّلت الفرصة الأكبر للحزب للتبرؤ من وصم التطبيع، الذي اقترن باسمه بعد التوقيع على الاتفاق الثلاثي بين المغرب وأميركا وإسرائيل، عبر تعبئة واسعة للاحتجاج ضد الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في غزة، وتجنيد قواعده الحزبية للمشاركة إلى جانب غيرهم من الهيئات المدنية والحزبية الرافضة للتطبيع، في مسعى للتأكيد على مبدئيته، ومن أجل المصالحة مع قواعده الاجتماعية التي تشكل قاعدته الصلبة على الأقل.
ولعل محدودية الأداء الحكومي إزاء تحدي ارتفاع الأسعار وتدهور القدرة الشرائية للمواطنين، واتساع نسبة الفقراء، وارتفاع نسبة البطالة نحو 14% لأول مرة منذ 20 عامًا في المغرب(12)، وكذا ملاحقة عشرات البرلمانيين ورؤساء جماعات محلية من أحزاب الأغلبية الحكومية على خلفية اتهامات بالفساد أو بسبب الاتجار في المخدرات(13)، قد شكَّل بدوره فرصة أخرى للحزب وظفها من أجل بناء تناقض سياسي جديد مع الحكومة، وخصوصًا الحزب الذي يقودها، أي التجمع الوطني للأحرار. وهو التناقض الذي منح حزب العدالة والتنمية أوراقًا سياسية للتفاوض العمومي، ومن أجل تعزيز حضوره في النقاش السياسي، خصوصًا بعدما وُجِّهت لرئيس الحكومة انتقادات حول التورط في تضارب المصالح واستغلال النفوذ، على إثر تفويت الحكومة لصفقة عمومية تتعلق بـ"تحلية مياه البحر" في جهة الدار البيضاء(14)، والتي فجرت جدلًا واسعًا تصدر فيه حزب العدالة والتنمية النقاش العمومي.
ولعل الحيوية التي أبان عنها الحزب من خلال الاشتباك مع القضايا الأساسية سالفة الذكر قد انعكست على وضعه الداخلي، مما تجلى بوضوح خلال مرحلة الإعداد لمؤتمره الوطني التاسع منذ يناير/كانون الثاني 2024، وفي حجم ومدى النقاش الداخلي حول مشاريع أوراق المؤتمر، التي جعلت منها قيادة الحزب أرضية للنقاش الداخلي في مؤتمرات انتدابية في الجهات والأقاليم، بحيث صارت أرضية لحوار داخلي غير معلن، وفرصة لتقييم مسار الحزب ومستقبله؛ إذ من الصعب الخوض في النقاش حول مستقبل الحزب بعد المؤتمر التاسع، دون تقييم واف لمساره السياسي والتنظيمي منذ إعادة تأسيسه سنة 1996 على الأقل.
وإذا كان النقاش حول المؤتمر ظل داخليًّا، ويصعب التكهن باتجاهات الرأي التي جرى التعبير عنها بين قواعده وقياداته، فإن الحزب استطاع أن يجعل من المؤتمر في حدِّ ذاته، ليس محطة تنظيمية لتجديد هياكله فقط، بل حدثًا سياسيًّا وحزبيًّا كبيرًا في المغرب، عبَّر من خلاله عن درجة كبيرة من التعافي. بحيث يمكن القول: إنه قلب الاتجاه من حالة التأزم والانحدار نحو دينامية الصعود والارتقاء، وهو وضع جديد لا شك أنه يتطلب إجابات جديدة حول دوره في المستقبل السياسي والحزبي المغربي.
ثالثًا: تحديات الحزب المستقبلية
في مسار صعوده الجديد، يواجه حزب العدالة والتنمية تحديات مترابطة، بعضها داخلي له صلة به كحزب سياسي، عاش تجربتي المعارضة والحكومة معًا، وبعضها خارجي مرتبط بالبيئة السياسية المحيطة به، سواء في شقها الوطني الداخلي أو في شقها الخارجي، الإقليمي والدولي. وهي تحديات تؤثر في بعضها البعض، بحيث لا يمكن الفصل أحيانًا بين الوطني والإقليمي والدولي، كما لا يمكن الفصل بين الحزبي والحكومي.
من بين أقوى التحديات التي تواجه الفعل الحزبي والسياسي، تراجع الطلب العالمي والإقليمي على الديمقراطية. وفق المؤشر العالمي للديمقراطية لسنة 2024، فقد انخفض المؤشر من 5.23 سنة 2023 إلى 5.17 سنة 2024، معززًا بذلك مسار التراجع في الطلب على الديمقراطية خلال العقد الأخير. وقد أوضح المؤشر أن 45% من سكان العالم يعيشون في ظل أنظمة ديمقراطية، في مقابل 39% يعيشون في طل أنظمة استبدادية، بينما يعيش 15% من سكان المعمورة في ظل أنظمة هجينة(15). ويصنَّف المغرب، وفق المؤشر نفسه، ضمن الأنظمة السياسية الهجينة، التي تجمع بين الديمقراطية الانتخابية والميول نحو السلطوية.
ولعل من نتائج مسار التراجع الديمقراطي تراجع جاذبية الانتخابات بشكل قد يضر بحريتها ونزاهتها بالتدريج، خصوصًا في سياق هجين مثل المغرب، حيث مستوى نزاهة وحرية الانتخابات يظل محدودًا حتى الآن؛ ما يجعلها لا تسهم في صنع التغيير السياسي، كونها تُفرز مؤسسات تمثيلية محدودة التأثير في صنع واتخاذ القرار السياسي. بينما تظل المؤسسة الملكية، بحكم الدستور وميزان القوى القائم، مركز القوة في النظام السياسي المغربي(16). ولعل من نتائج تراجع الطلب على الديمقراطية الانتخابية إضعافًا أكثر للأحزاب السياسية وللمجتمع المدني وكل القوى الوسيطة بين الدولة والمجتمع، في مقابل تحفيز الميول السلطوية لدى المؤسسات الصلبة في النظام السياسي؛ ما يجعل من تحدي التراجع الديمقراطي أحد التحديات الرئيسة التي تواجه حزب العدالة والتنمية وكل القوى الديمقراطية في المرحلة المقبلة.
واللافت أن التراجع الديمقراطي في المغرب، يسمح بصعود قوى محسوبة على قطاعات الرأسمال تسعى للسيطرة على القرار السياسي. والملاحظ أن السنوات الأخيرة تميزت باتساع دور وتأثير بعض رجال الأعمال في القرار السياسي المغربي؛ مما جرى التعبير عنه مغربيًّا بـ"تحالف السلطة والثروة"(17). ثمة فرضية ناقشها آرثر سي بروكس تحت عنوان "أزمة الفضيلة المدنية في أميركا"(18) تؤكد أن الدول الرأسمالية يمكن أن تصبح أقل ديمقراطية، وذلك حين تضعف قيم الفضيلة المدنية، باعتبارها مجمل القواعد ومعايير السلوك مثل النزاهة والشفافية والمحاسبة، وتشيع قيم الدناءة والجشع والفساد بفعل الرغبة الجامحة في الربح السريع بأي ثمن. إن مشكلة الديمقراطية لدى بروكس ليست في الرأسمالية، بل في تراجع فاعلية قواعد النزاهة العامة والاحتكام إلى معايير السلوك المدنية.
في السياق الغربي، تحققت الديمقراطية بعد إرساء الرأسمالية، لكن شاعت سردية تؤكد التلازم بينهما، وتؤكد أن الانخراط في نظام الاقتصاد الحر يفضي بالضرورة إلى نظام للحرية السياسية. لكن التجارب المقارنة اليوم تفيد العكس، ففي الصين جرى تبني نظام اقتصادي للسوق الحرة دون أن يؤدي ذلك إلى إقامة نظام ديمقراطي حتى الآن. وفي حالات أخرى، أدى تبني اقتصاد السوق بدون ديمقراطية إلى تهميش أكثر لقواعد ومعايير السلوك، مما انعكس سلبيًّا على مستوى الثقة العامة في المؤسسات السياسية. ومعلوم أن هذه النماذج تمارس نوعًا من الإغراء للنخب الحاكمة في الدول الصاعدة مثل المغرب، وهو ما يشكِّل تحديًا ضاغطًا، على القوى الطامحة في الديمقراطية، مثل العدالة والتنمية، ممن لا تزال ترفع أولوية الديمقراطية ومساءلة مصداقية الاختيار الديمقراطي.
وتعكس الأوراق السياسية التي صادق عليه المؤتمر الأخيرة للحزب، في أبريل/نيسان 2025، انشغاله بمثل هذه الإشكالات، غير أننا لا نعثر على تصورات واضحة حول ما ينبغي فعله لتجاوزها. بل نعثر على معالم تنازع بين رؤيتين/مقاربتين في شعار المرحلة: الأولى تركز على مصداقية الاختيار الديمقراطي، والثانية تطرح أولوية كرامة المواطن. ومعلوم أن المقاربة الأولى تلح على أولوية الديمقراطية، بينما تؤكد المقاربة الثانية على أولوية التنمية بلمسة حقوقية. تنازع في الرؤى انعكس على تحديد توجهات الحزب التي بدت مشتتة؛ إذ تؤكد على: تكريس المرجعية الإسلامية للحزب، وصيانة السيادة الوطنية، واستعادة مصداقية الاختيار الديمقراطي، وتصحيح مسار النموذج التنموي، وصيانة استقلال القرار الحزبي، وتوسيع دائرة التعاون. ومن خلال قراءة مضامين كل توجه، تبدو الوثيقة موزعة بين أربع أطروحات كبرى: الهوية، والسيادة، والديمقراطية، والتنمية، بدون حسم واضح بينها؛ إذ فات الورقة السياسية للحزب ترجيح القيمة السياسية العليا لديه بين مختلف القيم الأخرى، بحيث يمكن فهم وتحديد كل تلك القيم في ضوء الديمقراطية أو التنمية أو غيرهما.
وعمومًا، يبدو الحزب بحاجة إلى مزيد من النقاش حول المرحلة السابقة من تاريخه السياسي، وفي الوقت نفسه إلى إطلاق مبادرات جديدة، من شأنها أن تحدد مضامين خطه السياسي في المرحلة المقبلة، وبالتالي تطوير رؤى وأفكار بديلة من أجل أطروحة سياسية متماسكة تليق بما أسمته وثائق الحزب "الانطلاقة الجديدة". ولعل البيان الختامي للمؤتمر يشير إلى هذا الوعي لدى قيادة الحزب، خصوصًا دعوته إلى "مبادرة وطنية لمحاربة الفساد وتخليق الحياة العامة"؛ إذ كان يفترض أن تكون محاربة الفساد المحور الرئيسي للأطروحة السياسية للحزب، بعدما أصبح تنازع المصالح وزواج المال والسلطة والتعدي على المال العام عناوين رئيسة للمرحلة السياسية في المغرب بعد انتخابات 2021.
1- البلوكاج السياسي عبارة صكها الإعلام المغربي لوصف عملية عرقلة محاولات رئيس الحكومة المعين، عبد الإله بنكيران، من تشكيله حكومته بعد تعيينه عقب فوز حزبه في انتخابات 7 أكتوبر/تشرين الأول 2016، انتهت بإعفائه بقرار ملكي وتعيين خَلَفه في الحزب، سعد الدين العثماني، رئيسًا للحكومة.
2- بيان الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية، مؤرخ في 9 سبتمبر/أيلول 2021.
3- Adam Tooze, Welcome to the world of the polycrisis, Financial Times, Published on October 28,2022. At : https://shorturl.at/7o7Vx
4- عبد العالي حامي الدين، كيف تعذر تشكيل حكومة بنكيران الثانية لـ 2016؟: قراءة استرجاعية نقدية، عربي 21، 21 يناير/كانون الثاني 2025، تاريخ الدخول 20 مايو 2025: https://shorturl.at/CPSDX
5- "البيجيدي" يتجنب إسقاط "فرنسة التعليم" بعد تنبيهات مستشار ملكي، هسبريس، 17 يوليو/تموز 2019، تاريخ الدخول 19 مايو 2025: https://shorturl.at/seg7B
6- المغرب.. بنكيران يهدد بالانسحاب من "العدالة والتنمية"، وكالة الأناضول، 1 مارس/آذار 2021، تاريخ الدخول 20 مايو 2025: https://shorturl.at/7toaP
7- المغرب يوقع اتفاقًا للتعاون الثلاثي مع إسرائيل وأميركا، القدس العربي، 22 ديسمبر/كانون الأول 2020، تاريخ الدخول 18 مايو 2025: https://shorturl.at/lzSL4
8- المغرب: قيادة "العدالة والتنمية" ترفض استقالة وزيرها الرميد، الشرق الأوسط، 13 يونيو/حزيران 2021، تاريخ الدخول 20 مايو 2025: https://shorturl.at/wng9r
9- عبد السلام المساتي، القاسم الانتخابي.. الحل الأخير لهزيمة الإسلاميين؟، موقع لكم2، 7 مارس/آذار 2021، تاريخ الدخول 20 مايو 2025: https://shorturl.at/H6adf
10- بنكيران: خروقات بالجملة في الانتخابات الجزئية وبلاغ وزارة الداخلية غير لائق، موقع لكم2، 26 يوليو/تموز 2022، تاريخ الدخول 21 مايو 2025: https://shorturl.at/kphhD
11- "البيجيدي" متخوف من إشراف وهبي على مراجعة مدونة الأسرة، اليوم 24، 30 ديسمبر/كانون الأول 2024، تاريخ الدخول 20 مايو 2025: https://shorturl.at/4rptW
12- "حصاد 2024".. الفقر والبطالة يختبران جدية الحكومة لتنزيل الدولة الاجتماعية، العمق المغربي، 31 ديسمبر/كانون الأول 2024، تاريخ الدخول 17 مايو 2025: https://al3omk.com/1033089.html
13- أغلبهم من أكبر حزبين يقودان الحكومة.. تفاصيل حملة اعتقالات بين برلمانيين في المغرب بتهم فساد، عربي بوست، 12 فبراير/شباط 2024، تاريخ الدخول 20 مايو 2025: https://shorturl.at/kGTBS
14- بسبب "تضارب المصالح".. رئيس الحكومة المغربية أمام حرج كبير في البرلمان، القدس العربي، 17 ديسمبر/كانون الأول 2024، تاريخ الدخول 20 مايو 2025: https://shorturl.at/PAjB2
15- Democracy Index 2024, EIU report, Published on February 2025, at: https://www.eiu.com/n/campaigns/democracy-index-2024/
16- إدريس المغراوي (تنسيق)، دراسة نقدية للدستور المغربي للعام 2011، منشورات المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، 2012.
17- بنعبد الله: لا مستقبل دون ديمقراطية.. وتحالف "المال والسلطة" يهدد الاستقرار، هسبريس، 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، تاريخ الدخول 21 مايو 2025: https://shorturl.at/dpJO0
18- Arthur C. Brooks, America’s Crisis of Civic Virtue, Journal of Democracy, Johns Hopkins University Press, Volume 35, Number 2, April 2024, pp. 23-39.