حل حزب العمال الكردستاني: تقوية تركيا داخليًّا وخارجيًّا

أعلن حزب العمال الكردستاني التخلي عن العمل المسلح وحل نفسه، فمهَّد السبيل لتصدعات بداخله لكنه فتح الباب في نفس الوقت أمام تعزيز مشاركة الأكراد في النشاط السياسي التركي، وزيادة المبالغ التي سترصدها الدولة التركية للتنمية، وتقوية علاقة تركيا بالعراق والشريك الأوروبي.
أوجلان ينهي مرحلة العمل المسلح (رويترز).

أعلن حزب العمال الكردستاني، الذي يقود نشاطًا مسلحًا ضد الدولة التركية منذ ثمانينات القرن الماضي، في 12 مايو/أيار 2025، رسميًّا عن قرار بحل تنظيماته ونهاية العمل المسلح. القرار، الذي وُصف في تركيا وجوارها المشرقي بالتاريخي، جاء عقب عقد المؤتمر العام الثاني عشر للحزب في شمال العراق، من 5 -7 مايو/أيار، واستجابة لنداء عبد الله أوجلان، زعيم الحزب وقائده المؤسس، الذي يقضي عقوبة بالسجن منذ 1999 في جزيرة إمرالي ببحر مرمرة. برَّر الحزب قراره باللغة نفسها التي استخدمها أوجلان في ندائه، أي بالإشارة إلى أن المسألة الكردية لم تعد مغيَّبة في تركيا، وأن من الممكن اليوم مواصلة النضال من أجل الحقوق الكردية عبر الوسائل الديمقراطية.

لم يأت قرار حزب العمال الكردستاني بالحل مفاجئًا، لا للمجتمع الكردي في تركيا وجوارها المشرقي، ولا للحكومة وأجهزة الدولة التركية. فقد كان دولت بهتشلي، رئيس حزب الحركة القومية وحليف حزب العدالة والتنمية الحاكم، أطلق مبادرة لتسوية المسألة الكردية ووضع نهاية للقتال في تركيا، في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي. وعلى الرغم من أن المبادرة تقدمت ببطء، فقد أصبح واضحًا، منذ سمحت الدولة التركية لوفد من قيادات حزب مساواة وديمقراطية الشعب، الحزب الكردي الممثل في البرلمان التركي، ووثيق الصلة بحزب العمال الكردستاني المحظور، بعدة زيارات لأوجلان، أن الأمور تسير باتجاه تسوية سياسية ما.

فكيف يُقرأ قرار حزب العمال الكردستاني في سياق التاريخ العنيف والمؤلم للحزب وللأكراد ولعموم تركيا؟ وهل يعني القرار بالفعل نهاية قاطعة لعمل الحزب المسلح؟ ما الذي يعنيه القرار لتركيا، وللأكراد، ولمستقبل الدولة التركية؟ وما الذي يعنيه القرار للمسألة الكردية في الجوار التركي، سيما في العراق وسوريا؟   

 

تاريخ مفعم بالعنف والدماء

وُلد حزب العمال الكردستاني، في 1978، على يد مجموعة من الشبان الأكراد الأتراك، كان أبرزهم عبد الله أوجلان. أغلب المؤسسين كانوا من طلاب الجامعات، وجميعهم في العشرينات من عمرهم. حمل الحزب منذ لحظة تشكله الأولى توجهات أيديولوجية قومية -كردية وماركسية- لينينية، ولكن تبني الحزب للعمل المسلح ضد الدولة التركية لم يبدأ إلا في 1984، بعد ست سنوات على التأسيس، عندما قامت مجموعة مسلحة من أعضاء الحزب بقتل ضابط صف تركي في منطقة سيرت. وليس من الواضح ما إن كان قرار اللجوء إلى العمل المسلح قد وُلِد من سياسات دولة ما بعد انقلاب 1980 العسكري في تركيا، أو بتشجيع من الأجهزة السوفيتية التي كان الحزب قد أسس لصلات معها بصفته حزبًا ماركسيًّا-لينينيًّا ينشط في دولة عضو في حلف الناتو.

ثمة تقارير تشير إلى أن علاقاتٍ ما ربطت بين حزب العمال الكردستاني ومنظمة فلسطينية يسارية في لبنان، قبل مغادرة منظمة التحرير الفلسطينية لبنان، في 1982. ولكن المؤكد أن الحزب أقام صلات مع نظام حافظ الأسد في سوريا قبل انقلاب 1980 في تركيا، وأن أوجلان انتقل إلى دمشق قبل انطلاق العمل المسلح في 1984. أصبح نظام الأسد الأب، بالتالي، مصدر دعم سياسي وعسكري لحزب العمال، الذي اتخذ قواعد له في منطقة البقاع اللبنانية، تحت حماية الجيش السوري، بل وقاعدة واحدة أخرى على الأقل في سوريا نفسها. بذلك، لم تعد دمشق مقرًّا آمنًا لعبد الله أوجلان وحسب، بل ومركز قيادة للحزب ككل، ومنها كان بإمكان أوجلان التحرك إلى شمال العراق للقاء قيادات كردية، أو عناصر حزبه التي بدأت بالتمركز هناك بعد أن فقد نظام صدام السيطرة على كردستان العراق عقب هزيمته في حرب الكويت. وفي مقابل الدعم والحماية السورية، امتنع حزب العمال الكردستاني كلية عن العمل في أوساط الأكراد السوريين.

تمركزت نشاطات الحزب المسلحة في البداية في الجنوب وجنوب شرق تركيا؛ حيث يمثل الأكراد أغلبية السكان، ولكن هجمات الحزب سرعان ما اتسعت إلى محافظات غرب البلاد وإلى أنقرة وإسطنبول. كما أن هذه الهجمات لم تعد تقتصر على أهداف عسكرية وأمنية تركية رسمية. لم تستطع كوادر وعناصر الحزب، الماركسية الحداثوية، تحقيق التفاف شعبي كردي في جنوب شرق البلاد المحافظ، بسبب إستراتيجياته العسكرية والصراع المستمر مع الدولة التركية؛ مما أدى إلى نزوح مئات الآلاف من الأكراد وتدمير آلاف القرى الكردية.

في 1998، عندما وصلت المواجهة بين حزب العمال والدولة التركية إحدى ذرواتها، هددت حكومة مسعود يلماز بغزو سوريا وملاحقة مجموعات الحزب في معاقلها؛ وهذا ما دفع الرئيس المصري، حسني مبارك، للتوسط بين أنقرة ودمشق. أسفرت وساطة مبارك عن توقيع اتفاق أضنة بين تركيا وسوريا، الذي سمح للجيش التركي بمطاردة العناصر المسلحة بعمق عدة كيلومترات داخل الأراضي السورية، وعن طرد عبد الله أوجلان ومساعديه من سوريا، وإغلاق قواعد حزب العمال. بذلك، انتقلت قيادة الحزب إلى جبال قنديل في شمال العراق. أما أوجلان، فقد غادر دمشق إلى أثينا؛ حيث فشل في الحصول على اللجوء السياسي. وبعد توقف في بلد إفريقي أو اثنين، وصل أخيرًا إلى مطار نيروبي؛ حيث نجحت وحدة من القوات الخاصة التركية في القبض عليه ونقله إلى تركيا. وقد ذُكِر يومها أن الأميركيين قدموا مساعدة معلوماتية، على الأقل، لحلفائهم الأتراك لتحديد موقع أوجلان وتأمين عملية القبض عليه وإعادته إلى تركيا.

حوكم أوجلان في 1999 وصدر عليه حكم بالإعدام؛ ولكن الحُكم خُفِّف إلى السجن مدى الحياة في 2002، عندما قامت الحكومة التركية بإلغاء عقوبة الإعدام، أسوة بدول الاتحاد الأوروبي. أدى خروج أوجلان من المسرح القيادي، وخسارة الحاضنة السورية، إلى تراجع ملموس في مقدرات حزب العمال وفاعليته. كما أن صعود حزب العدالة والتنمية إلى حكم تركيا، مسلحًا بخطاب وحدوي ودعم واسع النطاق من الصوت الكردي، عمل على تعميق أزمة الحزب. وتكاد عمليات الحزب في تركيا في عشرين سنةً الماضية تقتصر على أهداف مدنية، وإن استهدفت العديد من المدن التركية، لتخلِّف نتائج مأساوية في أغلب الحالات.

سيطر على قيادة الحزب في الحقبة بعد أوجلان مجموعة الخمسة: دوران كولكان، ومراد قرايلان، وجميل بايق، والسيدة بيسي هوزات، وباهوز إردال (سوري الجنسية). وتقول تقارير: إن اثنين من هؤلاء على الأقل، هما من العلويين الأكراد اليساريين، الذين يبدو أنهم عبَّروا دائمًا عن مواقف أكثر راديكالية وحملوا ضغينة مزدوجة تجاه الدولة التركية؛ مما جعلهم أميل إلى العنف الأهوج ضد المدنيين والأهداف المدنية، طالما كان هذا النوع من الأعمال يحافظ على وجود الحزب وموقعه في حسابات مستقبل تركيا وشعبها.

 

طريق المصالحة ومواريثها

بدأت محاولات إيجاد حل سياسي للمسألة الكردية ووضع نهاية لأعمال حزب العمال الكردستاني القتالية منذ عهد تورغوت أوزال في التسعينات، قبل تولي العدالة والتنمية مقاليد الحكم. خلال الفترة من أوائل التسعينات وحتى 2010، أُجريت اتصالات غير مباشرة بين أجهزة الدولة التركية وحزب العمال، أدت إلى وقف لإطلاق النار لفترات محدودة ولكن مسار المصالحة لم يشهد تقدمًا ملحوظًا. لكن بدأت اتصالات مباشرة بين ممثلين عن الحكومة وحزب العمال، في 2010، في عواصم أوروبية وعن طريق سياسيين أكراد عُرفوا بعلاقاتهم مع حزب العمال داخل تركيا، بل ومع عبد الله أوجلان نفسه في سجنه بجزيرة إمرالي، فأفضت إلى وضع أسس مسار سياسي تصالحي، وتم الاتفاق على وقف طويل لإطلاق النار في 2012.

تضمن المسار الجديد مفاوضات في تركيا بين ممثلين عن حكومة العدالة والتنمية، التي كانت تتمتع آنذاك بأغلبية برلمانية مريحة، وممثلين عن حزب الشعوب الديمقراطية (السابق على حزب مساواة وديمقراطية الشعوب الحالي)، الذين عُدُّوا ضمنًا ممثلين عن حزب العمال كذلك. وكان من المفترض طبقًا لاتفاق وقف إطلاق النار أن يقوم حزب العمال الكردستاني بسحب مجموعاته المسلحة وسلاحها خارج تركيا كلية، تمهيدًا لإيجاد حل نهائي لوضع الحزب عند توصل المفاوضات إلى تسوية شاملة للمسألة الكردية. ولكن، ونظرًا لسقف مطالب الممثلين الأكراد المرتفع، حسب القيادة التركية، يبدو أن المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود في النصف الأول من 2015.

في يوليو/تموز 2015، قام عنصر من تنظيم الدولة الإسلامية بتفجير في تجمع لاتحاد الشباب الاشتراكي، القريب من حزب العمال الكردستاني، في مدينة سروج بمنطقة شانلي أورفه، على خلفية من الصراع المحتدم في عين العرب، كوباني، بين تنظيم الدولة وقوات حماية الشعب السورية، ذراع حزب العمال في سوريا. أوقع التفجير الهائل والمأساوي 32 ضحية من بين المجتمعين. ولكن حزب العمال لم يتوجه برده على التفجير إلى تنظيم الدولة، بل بسلسلة هجمات على مواقع للجيش والشرطة التركية، بدأت بقتل اثنين من رجال الشرطة. وفي الشهر التالي، نظم الحزب حركة تمرد مسلحة واسعة النطاق في الجنوب الشرقي، شملت أحياء من ديار بكر، وشرناق، وماردين، وجزيرة ابن عمر؛ حيث خاض مسلحو الحزب مواجهات طاحنة مع القوى الأمنية التركية، أوقعت دمارًا بالغًا بهذه المدن والأحياء، قبل أن تنجح وحدات الشرطة والجندرمة في إخماد التمرد.

بذلك، كُسر وقف إطلاق النار وانتهت عملية المصالحة الأكثر طموحًا في تاريخ الصراع. ولم يكن كسر وقف إطلاق النار، وحسب، ما أدى إلى قطع مسار المصالحة، ولكن أيضًا اعتبار أجهزة الدولة التركية المفاجيء أن حزب العمال لم يلتزم أصلًا باتفاقية وقف النار والمسار التفاوضي، وأنه بدلًا من سحب السلاح والمسلحين من البلاد، كان في الحقيقة يعمل على تخزين المزيد من السلاح والمتفجرات في كافة أنحاء تركيا ويعيد بناء تنظيماته المسلحة.

خلال السنوات التالية، طوَّرت أجهزة الدولة التركية وسائل وأدوات مكافحة الحزب ونشاطاته، وجهدها الاستخباراتي لاختراق صفوفه وأذرعه داخل تركيا، وفي سوريا، وفي شمال العراق. كما شنَّ الجيش التركي ثلاث عمليات عسكرية، انتهت إلى إبعاد الجماعات الكردية المسلحة عن الحدود السورية-التركية في أكثر من قطاع من الحدود. وبعد أن كانت أعداد مسلحي الحزب النشطين داخل تركيا تقدر بالآلاف، أصبحت في السنوات الأخيرة تقدر بالعشرات. ويكاد معظم الهجمات التي نفذها الحزب داخل تركيا في السنوات القليلة الماضية قد شنَّتها عناصر أُدخلت إلى تركيا من سوريا بصورة غير شرعية. بكلمة أخرى، يمكن القول: إن الدولة التركية نجحت أخيرًا في إيقاع هزيمة بالغة بالحزب، بدون أن تستطيع اقتلاعه كليًّا. وهذا، على أية حال، ما ساعد على إحراز تقدم سريع في جهود المصالحة الثانية، والأخيرة، منذ أطلق دولت بهتشلي مبادرته، في أكتوبر/تشرين الأول 2024.

بهتشلي هو، بالطبع، رئيس حزب الحركة القومية، الحزب الذي يمثل التيار الأكثر حدة في المواجهة المستمرة مع حزب العمال الكردستاني طوال نصف القرن الماضي. مهد السياسي التركي العجوز لمبادرته بمصافحة مفاجئة لأعضاء البرلمان من حزب مساواة وديمقراطية الشعب. وفي كلمة له أمام كتلة حزبه البرلمانية، 22 أكتوبر/تشرين الأول 2024، اقترح بهتشلي السماح لعبد الله أوجلان بالحديث أمام البرلمان التركي لدعوة حزب العمال الكردستاني إلى إلقاء السلاح وحل نفسه. فاجأت المبادرة كافة الدوائر السياسية في تركيا، وأطلقت جدلًا متعدد الأطراف حول ما إن كان بهتشلي يتحدث بصفته الشخصية أو بالاتفاق مع حليفه، الرئيس طيب أردوغان، وحول ما إن كانت المبادرة وليدة أفكار بهتشلي أو أن اتصالات ما قد سبقتها.

على الرغم من أن مبادرة بهتشلي بدت للوهلة الأولى وكأنها طلقة في الهواء، فسرعان ما وجدت ترحيبًا من أردوغان، الذي أطلق عليها اسم "مبادرة تركيا خالية من الإرهاب"، كما من قيادات حزب مساواة وديمقراطية الشعب، بمن في ذلك رئيس الحزب المشارك السابق، صلاح الدين دمرتاش، الذي يقضي عقوبة بالسجن بعد إدانته بالترويج للإرهاب. كما سمحت الحكومة التركية لوفد من حزب مساواة وديمقراطية الشعب بالقيام بعدة زيارات لأوجلان وبدء حوار معه حول كيفية الاستجابة لمبادرة بهتشلي. والأرجح، أن أوجلان استقبل أيضًا مسؤولًا تركيًّا كبيرًا للتباحث حول الدور الذي يمكن أن يقوم به لدفع مبادرة بهتشلي إلى الأمام.

ولم تلبث الاتصالات ودورات الحوار مع أوجلان أن أفضت إلى قيامه بإطلاق نداء 27 فبراير/شباط 2025، الذي دعا فيه إلى حل حزب العمال الكردستاني وإلقاء السلاح، مشيرًا إلى الحزب وُلِد في ظروف تاريخية مختلفة كلية، وأن نضال الحزب قد حقق بالفعل الاعتراف بالمسألة الكردية، وأن الأوضاع التركية الحالية تسمح باستمرار النضال من أجل حقوق الشعب الكردي بوسائل مدنية وديمقراطية. نداء أوجلان، بالطبع، هو ما وفر الأرضية لعقد مؤتمر حزب العمال الكردستاني العام الثاني عشر في شمال العراق، 5-7 مايو/أيار، والإعلان عن تبني المؤتمر قرار الحل وإلقاء السلاح.

 

الطريق نحو المستقبل

بيد أن من الضروري ملاحظة أن قرار حزب العمال بالحل وإلقاء السلاح لم يأت استجابة لنداء أوجلان وحسب. الحقيقة، أنه مهما كان الوزن الرمزي لأوجلان، فإن تأثير زعيم الحزب السابق ومؤسسه قد انقطع وغاب منذ أكثر من ربع قرن، وخلال هذه السنوات الطويلة تقدم إلى قيادة الحزب وصفوف كوادره الأولى عناصر لم تُحسب على رفاق أوجلان الأوائل، كما أن الحزب مرَّ بمنعطفات لم تكن في حسبان أيٍّ من مؤسسيه.

ثمة عدد من العوامل التي تصادف أن تقاطعت مع نداء أوجلان وجعلت الاستجابة له ممكنة؛ الأول: أن الحزب في ساحته التركية قد تلقى ضربات موجعة في السنوات التالية على تمرد صيف 2015. الثاني: أن عددًا من قيادات الحزب كانت أصلًا بدأت تدرك، منذ تسعينات القرن الماضي، عندما تخلى الحزب عن مطلب الدولة الكردية المستقلة، أن النضال المسلح ربما فقد فاعليته وضرورته. والثالث: كان عجز الحزب، بعد كل هذه السنوات، عن تحقيق التفاف شعبي كردي واسع النطاق، حتى في المجتمعات الكردية التي تعطي أولوية لمسألة الهوية الثقافية.

أما السبب الرابع فيتصل بمجمل المتغيرات الإستراتيجية في المشرق في العامين الماضيين، سيما في أعقاب اندلاع الحرب على غزة. فبعد أن نجحت أنقرة في تعزيز علاقاتها مع بغداد وأربيل، وأسست لوجود عسكري مديد في شمال سوريا، لم يعد لحزب العمال الكردستاني من صديق إقليمي سوى إيران. أما في سوريا، فلم تستطع قوات حماية الشعب، قصة النجاح الوحيدة لحزب العمال، تعزيز مواقعها في شمال-شرقي البلاد بدون الدعم الأميركي. ما أظهرته متغيرات ما بعد حرب غزة، كان التراجع الإيراني الإستراتيجي الملموس في الإقليم، وسقوط نظام الأسد، والتفاف أغلبية الشعب السوري حول النظام الجديد واستقبال الغرب الإيجابي للنظام، وتزايد المؤشرات على قرب الانسحاب الأميركي من الشرق السوري.

بيد أن ذلك لا يعني بالضرورة أن التقدم باتجاه الحل وإلقاء السلاح سيمضي بصورة سلسة وبلا عقبات. ثمة تقارير تشير إلى أن جميل بايق، الذي يتمتع بعلاقات جيدة مع إيران، كان الوحيد بين قيادات حزب العمال الرئيسة الخمس الذي أعرب عن تحفظه على الحل وإلقاء السلاح، ولكن ليس بالضرورة المعارضة الصريحة للقرار. ولا يستبعد، عندما تبدأ إجراءات تسليم السلاح وحل البنى التنظيمية ومغادرة جبال قنديل، أن تعلن مجموعة صغيرة من الحزب الانشقاق ومواصلة العمل المسلح، تمامًا كما حدث في أيرلندا الشمالية في التسعينات، عندما عارض جناح من الجيش الجمهوري الأيرلندي اتفاق المصالحة والسلم. وقد برزت مؤشرات عديدة في الأسابيع القليلة التالية على مؤتمر الحزب على أن الأصوات المعارضة لقرار الحل وإلقاء السلاح انحصرت أغلبها في الأوساط الكردية-العلوية، سيما تلك النشطة في الدول الأوروبية؛ مما يعني أن التمرد على القرار، إن وقع، فسيأخذ صبغة طائفية أكثر منها قومية، ولن يكون له من أثر كبير على مستقبل العلاقة بين الدولة التركية والمجتمع الكردي، أو على مستقبل المسألة الكردية في تركيا.

 

وعود السلم والحل في تركيا وجوارها الإقليمي

طبقًا لتقرير الإدارة التركية للأمن العام، بلغت تكاليف مكافحة حزب العمال وإعادة البناء في تركيا، خلال الحقبة من 1984 إلى 2019، ما يزيد عن تريليونات ثلاثة من الليرات التركية. أما على الصعيد البشري، فقد زادت حصيلة المواجهة بين الدولة وحزب العمال عن الأربعين ألفًا من الضحايا. وربما تقدم هذه الأرقام وجهًا واحدًا فقط لما يمكن أن تحمله نهاية الصراع من وعود لتركيا وشعبها. انتقال التدافع حول المسألة الكردية إلى الصعيد السياسي، يعني في النهاية رفع عبء ثقيل من على كاهل الدولة التركية، ماليًّا-اقتصاديًّا، وأمنيًّا واجتماعيًّا. كما سيوفر فرصة هائلة لتنمية جنوب البلاد الشرقي، الشاب، والذي يحتل موقعًا وسيطًا بين العراق وسوريا وإيران، وتحوله إلى رافد إضافي لنهضة تركيا الاقتصادية.

المفترض، أيضًا، أن تدفع نهاية المواجهة بين الدولة وحزب العمال الكردستاني إلى تعزيز المسار الديمقراطي في تركيا وإلى تخفيف قبضة الدولة على المجال العام. طوال عقود من المواجهة شَرَعت الحكومات التركية المتعاقبة، بقبول ضمني من أغلبية الشعب، سلسلةً من القوانين التي استهدفت مكافحة الجماعات المسلحة، أو تأييد ودعم هذه الجماعات؛ فعززت مركزية الحكم، أو قيدت مجالات الحياة السياسية. بحل حزب العمال ونزع سلاحه، يمكن تدريجيًّا مراجعة هذه القوانين، وتوسيع نطاق ساحة العمل السياسي، بل وتعهد المزيد من الإجراءات الكفيلة بالاستجابة لمطالب الجماعة الكردية الثقافية.

أما على صعيد العلاقات الخارجية، فقد كانت نشاطات حزب العمال الكردستاني في عدة دول أوروبية، على الرغم من تصنيف الحزب منظمة إرهابية في دول الاتحاد الأوروبي، مصدر توتر مستمر بين تركيا وهذه الدول. كما أن عددًا من القوانين التركية، التي توصف أوروبيًا بالتضييق على الحريات، كانت تُحسب دائمًا باعتبارها إحدى العقبات أمام سعي تركيا إلى إنجاز مزيد من التقدم في العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، سيما في الجانب الاقتصادي من هذه العلاقات. نهاية المواجهة بين الدولة وحزب العمال، ستضع حدًّا للتوتر المديد في علاقات تركيا بأوروبا، كما يمكن أن يعمل التحرك نحو إصلاح تشريعي على توسيع نطاق التعاون بين تركيا والاتحاد الأوروبي.

إقليميًّا، وعلى الرغم من ادعاء وحدات حماية الشعب وحزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي في سوريا أنها تنظيمات سورية بحتة ولا يجب أن تعد طرفًا في الصراع بين حزب العمال الكردستاني والدولة التركية، يرجِّح عدد واسع من الدارسين للوضع السوري أن هذه التنظيمات ليست سوى أذرع للحزب، وأن سلطة باهوز إردال، القيادي السوري في الحزب، تفوق سلطة أي من القيادات الكردية السورية مثل صالح مسلم ومظلوم عبدي. ولذا، فإن قرار حل حزب العمال لابد أن ينعكس على وضع التنظيمات الحليفة في سوريا، سيما إن رافق الحل ونزع السلاح انسحاب أميركي من الشرق السوري. أعلنت القوى الكردية السورية قائمة من المطالب عالية السقف في مؤتمر القامشلي الأخير، ولكن هذه المطالب لابد أن تعد بداية التفاوض مع دمشق وليست آخر الطرق. والمؤكد، في حال تم التوصل إلى تسوية للمسألة الكردية في شمال-شرقي سوريا، تسوية قابلة للاستمرار ومرضية لكافة أطراف الإقليم، أن يُفتح المجال واسعًا لمزيد من التعاون السوري-التركي.

أما في العراق، فلابد أن يفسح إخلاء حزب العمال الكردستاني قواعده في شمال العراق ونهاية نشاطاته العسكرية المجال لعودة السلم إلى كافة المناطق محل النزاع وإلى عودة المهجرين على جانبي الحدود العراقية-التركية إلى قراهم، وربما حتى إلى انسحاب القوات التركية في المستقبل من نقاط تمركزها في كردستان العراق. والأرجح أن يفضي خروج حزب العمال الكردستاني من شمال العراق إلى تعزيز قوة وسيطرة حكومة الإقليم في أربيل على الشأن الكردي، على حساب إدارة الاتحاد الوطني في السليمانية، التي تربطها بحزب العمال الكردستاني علاقة تحالف غير معلنة. ولابد أن تفضي مثل هذه التطورات إلى توفير مناخ أكثر أمنًا وأمانًا لمشاريع التعاون والترابط الاقتصادي والتجاري بين العراق وتركيا، وفي مقدمتها مشروع طريق التنمية.