الاقتصاد السوري: تحديات التحول نحو نظام السوق ومواجهة إرث النظام السابق

نجاح الرؤية الحكومية مرتبط جوهريًّا باستمرار قدرتها على توفير بيئة سياسية مستقرة وشفافة، وإجراء إصلاحات اقتصادية جذرية، وتوطيد علاقات دبلوماسية فعَّالة مع المجتمع الدولي والإقليمي، وإعادة تعريف هوية الاقتصاد السوري الحر.
1 يوليو 2025
تسلم الحكم الجديد بلدًا مُثقلًا بتركة اقتصادية ثقيلة ناتجة عن حرب ممتدة لأكثر من 13 عامًا (رويترز).

مقدمة

يشهد الاقتصاد السوري حالة تحول غير مسبوقة منذ أكثر من نصف قرن مع صعود القيادة الجديدة في سوريا، إثر عملية "ردع العدوان" التي أطاحت بنظام الرئيس بشار الأسد نهاية عام 2024.

كان النظام السابق في ظل حكم "حزب البعث" "اشتراكيًّا"، أو على الأقل كما جاء في دستور البلاد منذ عام 1969، واستخدم أدواتها لحد ما للحفاظ على رافعة "حزب البعث" وهيمنته السياسية على البلاد، وقد بقي هذا الوصف قائمًا، إلى أن حُذفت "الاشتراكية"، عام 2012، من الدستور. وفي عام 2005 انتهجت سوريا مبادئ ما أسمته "نموذج اقتصاد السوق الاجتماعي" الذي كان هدفه خلق كتلة من رجال الأعمال الخاصين به لمراكمة المزيد من الثروات(1). أما القيادة الجديدة للبلاد، فقد توجهت نحو نموذج "اقتصاد السوق" الحر بهدف مواكبة التطور الحاصل في الاقتصاد العالمي والقدرة على الاندماج فيه.

تبحث هذه الورقة الواقع الاقتصادي لسوريا في ظل الظروف السياسية الراهنة، وتناقش رؤية الحكم الجديد للبلاد والتحديات التي تواجهها، إضافة إلى المآلات التي تنتظر دمشق في ظل الظروف الجيوسياسية الإقليمية والدولية المتقلبة.

أولًا: الواقع الاقتصادي وجهود الحكومة

تسلمت القيادة الجديدة بلدًا مُثقلًا بتركة اقتصادية ثقيلة ناتجة عن حرب ممتدة لأكثر من 13 عامًا، كان من أبرز نتائجها تدهور شامل في مختلف القطاعات الإنتاجية، وانهيار واسع للبنى التحتية، فضلًا عن تفكك الروابط الاقتصادية الداخلية والخارجية. تتسم الحالة الاقتصادية الراهنة بالهشاشة البنيوية؛ إذ لا تزال آثار الحرب، التي اندلعت إبان سنوات الثورة (2011-2024)، من تدمير وتخريب وتهجير تلقي بثقلها على الاقتصاد والمجتمع معًا، بجانب وجود مجموعة من الأزمات المتراكمة الداخلية، من سوء إدارة اقتصادية سابقة، وتفشي الفساد، إلى جانب الأزمات الخارجية، لاسيما العقوبات الاقتصادية الشديدة التي فُرضت على البلاد؛ ما أدى لتعميق حجم المشكلات الاقتصادية وتعقيدها، وإحداث تشوهاتٍ هيكليةٍ عميقة في البنية الاقتصادية السورية.

يعمل النظام الجديد على استعادة الثقة تدريجيًّا في الاقتصاد الوطني، وتشير سياساته حتى اللحظة إلى أنه اتخذ من تغيير النموذج الاقتصادي والانفتاح الدولي أولويةً سياسيةً ملحَّة، وتستهدف إستراتيجيته الدبلوماسية الجديدة فكَّ العزلة الدولية والإقليمية، وتعزيز التعاون مع المحيط العربي والدولي، وتحقيق شعار "سوريا أولًا" و"صفر مشاكل خارجية" لجذب الاستثمارات وإعادة تفعيل الاقتصاد الوطني. وتعمل الإدارة الحالية على الخروج من الوضع الاقتصادي الحالي المعقد، باتخاذ إجراءات وسياسات تزاوج وتدمج بين إعادة إحياء القطاعات الإنتاجية، وإعادة إعمار البنية التحتية والمنازل المهدمة، ورفع العقوبات المفروضة على سوريا، مع السعي لتحسين المؤشرات الرئيسية للاقتصاد الكلي للبلاد. وهذا يحتاج إلى سياسات تعطي الأولوية للداخل، ويحتاج إلى أمن مستتب، وعدالة انتقالية، وسلم أهلي مستدام ورؤية اقتصادية واقعية تأخذ كل ذلك بعين الاعتبار.

ثانيًا: أهم التحديات

يعاني الاقتصاد السوري من تشوهات كبيرة في بنيته وقطاعاته، وهي تشكل تحديًا للحكومة السورية، من أهمها:

الحالة السياسية الهشة وعملية بناء الإطار السياسي للدولة: ورثت الحكومة السورية نظامًا سياسيًّا منهارًا إثر هروب بشار الأسد من البلاد إلى روسيا، بجانب وجود مطالبات باللامركزية الإدارية من قبل قوات سوريا الديمقراطية المتواجدة شرق الفرات، وبعض الفصائل الدرزية جنوب البلاد. وقد أصدر الرئيس السوري، أحمد الشرع، في 12 فبراير/شباط 2025، قرارًا يقضي بتشكيل لجنة تحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني، بهدف الاجتماع مع جميع أطياف السوريين من كل المحافظات والتركيز على قضايا البناء الدستوري والعدالة الانتقالية والاقتصاد؛ حيث انطلقت أعمال مؤتمر الحوار الوطني السوري، في 25 فبراير/شباط 2025، واستمرت يومين، وخرجت بتوصيات أُرسلت لرئيس الجمهورية(2)، ومن المفترض أنها تشكل الرؤية الأساسية للمرحلة الجديدة. ومن أهم التحولات التي تشهدها سوريا في هذه المرحلة، اعتماد نموذج السوق المفتوح، فهذا "النموذج" سيكون الأساس في بناء مستقبل سوريا؛ حيث يؤدي فيه القطاع الخاص دورًا محوريًّا بخلاف ما كان عليه سابقًا، وسيؤدي إلى انفتاح سوريا تجاه الدول الإقليمية والعالمية بشكل أكبر، ويعزز من اندماجها بالاقتصاد العالمي، ويعول عليه في إخراج البلاد من العزلة السياسية والاقتصادية التي شهدتها بوجه خاص خلال السنوات الأخيرة الماضية.  

المؤشرات الاقتصادية الكلية وجهود الحكومة لتحسينها: تشير التقديرات أن سوريا ستحتاج إلى أكثر من 50 عامًا لاستعادة اقتصادها إلى مستويات ما قبل الحرب إذا استمرت معدلات النمو الحالية. بلغ النمو الاقتصادي السنوي في المتوسط، على مدى السنوات السبع الماضي، ​​1.3%، مع العلم بأن الانكماش الاقتصادي وصل إلى أقل من نصف حجمه في عام 2011. أما على الصعيد المعيشي، فقد كان تسعة من كل عشرة سوريين يعيشون في حالة فقر، لاسيما وقد تضاعف معدل الفقر ثلاث مرات تقريبًا، من 33% قبل الحرب إلى 90% بعدها، كما تضاعف الفقر المدقع ستة أضعاف، من 11% إلى 66%، كما أن ربع السكان عاطلون عن العمل. كما تراجع الناتج المحلي الإجمالي الذي يقدر بنحو 800 مليار دولار أميركي على مدار 14 عامًا، وهناك ثلاثة من كل أربعة أشخاص يعتمدون على المساعدات الإنسانية ويحتاجون إلى دعم التنمية، وهناك ما يقرب من ثلث وحدات الإسكان تدمرت أو تضررت بشدة، مما ترك 5.7 ملايين شخص في سوريا في حاجة إلى دعم المأوى. وتضرر أكثر من نصف محطات معالجة المياه وأنظمة الصرف الصحي، وانخفض إنتاج الطاقة بنسبة 80%، مع تضرر أكثر من 70% من محطات الطاقة وخطوط النقل مما أدى إلى تقليص قدرة الشبكة الوطنية بأكثر من ثلاثة أرباع قدرتها(3). وضعت القيادة السورية تحدي العقوبات الاقتصادية على سلم أولوياتها لأنها تعيق كل سبل الخروج من الواقع المأزوم، وركزت جهودها منذ اليوم الأول لسقوط نظام الرئيس بشار الأسد، نحو الحصول على الشرعية السياسية ورفع العقوبات ودمج سوريا بالنظام العالمي وإعادة تفعيل القطاع التجاري، وقد تكللت هذه الجهود بالفعل باتخاذ معظم الدول قرار رفع العقوبات؛ من أهمها أن الولايات المتحدة أصدرت الرخصة رقم 25 في إطار تنفيذ إعلان الرئيس ترامب رفع العقوبات عن سوريا؛ وهي تسمح بالاستثمار والتعامل مع الحكومة السورية الجديدة، وهدفت واشنطن من ورائها دعم استقرار سوريا ومنع عودتها "مأوى للإرهاب"(4). بالتوازي مع ذلك، رفع الاتحاد الأوروبي، بتاريخ 28 مايو/أيار 2025، العقوبات، ليدعم عملية التحول السياسية والاقتصادية، لكنه أبقى على العقوبات الأمنية المرتبطة بالنظام السابق؛ وقد شمل القرار رفع القيود عن قطاعات رئيسية كالمصارف والطاقة(5). وهذا جميعًا سينعكس على تحسين المؤشرات الكلية تدريجيًّا.

القطاعات الإنتاجية المتراجعة وسبل إعادة إحيائها: تعرضت خلال سنوات الحرب القطاعات الإنتاجية الرئيسية لتدمير واسع، خصوصًا الزراعة والصناعة. وأدت لتهجير اليد العاملة الخبيرة وتدمير المنشآت الصناعية وحرق الأراضي الزراعية، وتعرضت رؤوس الأموال للضغط والابتزاز وغيرها من الإكراهات، دون أن تتلقى أي دعم أو تسهيلات تُذكر، باستثناء ما يغنمه المقربون من النظام السابق.

بعد سقوط النظام بدأت هذه القطاعات تسعى نحو تأمين الحد الأدنى من احتياجاتها الرئيسية التي تساعدها على الاستمرار فقط، ريثما تتأمن التمويلات اللازمة لها، لإعادة تنشيط مرافقها. مثلًا إعادة تنشيط الزراعة بإعادة الفلاحين إلى أراضيهم ودمج المساحات الزراعية تحت مظلة سياسية واحدة، باستثناء مناطق قسد التي لا تزال المفاوضات مستمرة معها، إضافة لتحفيز أصحاب رؤوس الأموال والأيدي العاملة الخبيرة للعودة إلى البلاد. وعلى صعيد إجراءات الحكومة، بدأت العمل على إصلاح القطاع الزراعي والصناعي لكونهما قطاعين رئيسيين لنهضة الاقتصاد السوري، لاسيما أن اليد العاملة السورية رخيصة وماهرة، وهناك رغبة محلية وعربية بضخ استثمارات في هذين القطاعين، عبر تقديم تسهيلات وإعفاءات ضريبية ومحاولة تأمين الطاقة اللازمة لتشغيل القطاعين.

البنية التحتية وإعادة الإعمار: تشير التقديرات الدولية إلى أن تكلفة إعادة الإعمار تقدر بـ400 مليار دولار(6). فالبنى التحتية مثل الكهرباء والماء والطرقات تحتاج لإعادة تهيئة وإصلاح، بل وإنشاء بنى جديدة لها. ويبدو أن الحكومة السورية تراهن على مزيج من التمويل الخليجي والدولي كخطة مشابهة لمشروع مارشال لإعادة إعمار البلاد، وتركز جهودها على جذب مشاريع استثمارية كبرى. بالفعل، بدأ العديد من الدول ضخ أمواله في استثمارات كبيرة مثل توقيع عقد لمدة 30 عامًا مع شركة "سي إم إيه سي جي إم" الفرنسية، لتطوير وتشغيل ميناء اللاذقية(7). كما تم توقيع مذكرة تفاهم بين الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية مع الشركة الصينية "فيدي" (Fidi) لاستثمار مناطق حرة في حسياء وعدرا بمساحة إجمالية 1.15 مليون متر مربع؛ حيث يهدف المشروع لإنشاء منطقة صناعية وتجارية متكاملة بعقد مدته 20 عامًا(8). كما جرى توقيع اتفاق بقيمة 7 مليارات دولار مع تحالف يضم شركات من قطر (UCC وأورباكون)، وأميركا (Power International)، وتركيا (جاليون وجنكيز إنيرجي) لتنفيذ أضخم مشروع طاقة في تاريخها. يشمل المشروع إنشاء 4 محطات كهرباء بتقنية الدورة المركبة في دير الزور وحماة وحمص، ومحطة طاقة شمسية جنوب البلاد، بهدف تعزيز البنية التحتية للطاقة وتحقيق الاكتفاء الذاتي وخلق أكثر من 300 ألف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة(9).

القطاع التجاري المترهل ومعالجة الاقتصاد الأسود: تأثرت خطوط الإمداد والنقل وسلاسل الإمداد والتوريد إلى حدٍّ كبير خلال الحرب في سوريا بسبب النشاط العسكري الذي حصل والانقسامات في الجغرافيا العسكرية والسياسية داخل البلاد وغياب القوانين الضابطة والناظمة للعمل التجاري بجانب فرض العقوبات التي صعَّبت من عملية الاستيراد والتصدير لحدٍّ كبير، وتراجع القطاع التجاري الرسمي أمام القطاع التجاري غير الرسمي الذي نمى خلال 14 عامًا بشكل كبير. وهذا أدى لعزوف التجار عن ضخِّ أموالهم والاستثمار بها؛ حيث انعكس ذلك أيضًا على غياب الكثير من المنتجات في الأسواق وارتفاع أسعارها. لذلك تعمل الحكومة السورية على العديد من الخطوات من أجل ضبط الاقتصاد غير الرسمي سواء على مستوى الفساد والتهريب وغيره، فعلى سبيل المثال، وقَّعت سوريا ولبنان، في 28 مارس/آذار 2025، اتفاقًا في جدة، يؤكد أهمية ترسيم الحدود المشتركة وتفعيل التنسيق الأمني(10). يشمل الاتفاق تشكيل لجان قانونية والتعاون لمواجهة التحديات الحدودية بشكل مشترك بما فيها عمليات تهريب السلع والمحروقات والبشر والأموال والكبتاغون وغيرها. وفي نفس الإطار، تعمل الحكومة السورية على ضبط الحدود السورية الأردنية وتعزيزها، وتفعيل اتفاقيات تجارة مشتركة مع دول الجوار خصوصًا الأردن وتركيا.

الحياة الاقتصادية اليومية: لا تزال الحياة المعيشية للمواطنين السوريين تعتمد إلى حدٍّ كبير على التحويلات الخارجية والمساعدات الإنسانية وبعض الأعمال الحرة في ظل وجود مؤشرات تضخم وبطالة مرتفعة، خاصة أن الإدارة الجديدة أعلنت التحول نحو اقتصاد السوق الحر(11)، في حين كان الاقتصاد إلى عهد قريب جدًّا يعتمد على الحكومة بشكل مركزي. وقد جعلت الحكومة الانتقالية، التي أعلنها الرئيس السوري، في 29 مارس/آذار 2025، من أهم أولوياتها محاربة الفساد، وإعادة بناء مؤسسات الدولة على أساس المساءلة والشفافية، وفتح آفاق جديدة في التعليم والصحة، والحفاظ على الموارد البشرية وتنميتها، والسعي لاستقطاب الموارد البشرية السورية من بلاد المهجر لتسريع التنمية، وتأهيل الصناعة والعمل على حماية المنتج الوطني، وإنشاء بيئة مشجعة للاستثمار في كل القطاعات، والسعي لإصلاح حالة النقد وتقوية العملة السورية ومنع التلاعب بها، والتركيز على حماية المواطنين وتعزيز الاستقرار(12). ولكن تحقيق نتائج على صعيد هذه الأولويات فضلًا عن أن تنعكس على حياة المواطنين اليومية، يحتاج لمسار ليس بالقصير.

فقدان الثقة بالعملة المحلية والقطاع المصرفي: تراجعت قيمة الليرة السورية أمام الدولار خلال سنوات الحرب ويجري اعتماد الدولار بدلًا من الليرة السورية مقياسًا ومعيارًا، وذلك نتيجة السياسات النقدية غير العقلانية والتي أدت لانتهاء الاحتياطي من العملات الأجنبية وطباعة كميات ضخمة من الليرة السورية، وغياب الثقة بالنظام المصرفي، بجانب العقوبات المفروضة على البنوك، خصوصًا البنك المركزي. وهذا الأخير فقد القدرة على التحكم بسعر الصرف لفقدانه القدرة على تطبيق السياسات النقدية الرئيسية، مثل سعر الفائدة ومعدل الاحتياطي النقدي والتحكم بالمعروض النقدي. لذلك عملت الحكومة على إعادة تفعيل القطاع المالي والنقدي وضخ الثقة به، فاستأنفت سوق دمشق للأوراق المالية التداول بعد 6 أشهر من التوقف؛ بما يؤشر إلى أن الاقتصاد السوري بدأ بعملية التعافي وأن سوريا تحولت من اقتصاد مركزي يديره القطاع العام واقتصاد الظل إلى اقتصاد قائم على الحرية الاقتصادية، وفي ذلك رسالة للمستثمرين السوريين والدوليين للاستثمار المباشر في البلاد(13).

على الرغم من التحديات التي تواجه الحكومة السورية في إعادة تدوير عجلة القطاع الاقتصادي، إلا أن الظروف السياسة الجديدة قدمت -ولا تزال تقدم- فرصًا حقيقية للبدء في مسار إصلاح اقتصادي وسياسي شامل وفعَّال يعيد هيكلة النموذج الاقتصادي السوري المنفتح على العالم الخارجي ويؤدي لتحسين المؤشرات الكلية للاقتصاد، المتمثلة بخفض معدلات البطالة والتضخم، وتحسين قيمة الليرة السورية، وتطوير القطاعات الإنتاجية خصوصًا الزراعية والصناعية. لكن قدرة الحكومة على النجاح في هذه المهمة تعتمد بشكل كبير على قدرتها على توفير بيئة سياسية مستقرة وشفافة، وإعادة بناء الثقة بين المواطنين والدولة من جهة، وبين سوريا والمجتمع الدولي من جهة أخرى، وضبط الأمن وتحقيق العدالة الانتقالية والسلم الأهلي. ولا شك أن مواجهة هذه التحديات الاقتصادية، تعتمد كثيرًا على توجهات الحكم الجديد وأداء الحكومة الجديدة، ومدى قدرتهما على تقديم سوريا جديدة مختلفة كليًّا عما عهده العالم خلال نصف القرن الفائت، سوريا مستقرة أمنيًّا وسياسيًّا وتريد أن تكون جزءًا من العالم.

ثالثًا: مآلات وآفاق

ترتبط رؤية الحكومة السورية تجاه الاقتصاد السوري بقدرتها على استعادة التوازن وتحقيق استقرار مستدام يتجاوز مرحلة التعافي الإسعافي ويحقق نهضة اقتصادية حقيقية ويعيد دور سوريا الإقليمي والدولي. وقد تحسنت العلاقات السورية-العربية سريعًا خاصة مع دول الخليج التي عادت لدعم سوريا بمختلف الوسائل، وهناك رغبة خليجية بإعادة سوريا إلى الحاضنة العربية، وإن كانت في بعضها مدفوعة بحسابات إقليمية تتعلق بإضعاف النفوذ الإيراني وموازنة الدور التركي. كما أن البيئة الإقليمية الحالية تتيح فرصًا مهمة، خصوصًا مع ارتفاع رغبة الدول الكبرى لإنشاء شرق أوسط جديد بعد عقد من النزاعات، وهو ما يظهر في انفتاح الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على تخفيف العقوبات تدريجيًّا والسماح بتدفق بعض رؤوس الأموال والمساعدات التقنية، ضمن شروط واضحة تتعلق بالحكم الرشيد وحقوق الإنسان. وعلى صعيد العلاقة مع لبنان، قد تشكِّل رافعة مهمة للحكم الجديد، سواء عبر التعاون التجاري أو الأمني.  لكن هذه العلاقة تحتاج إلى تنظيم قانوني يحفظ سيادة الطرفين ويمنع تكرار الانفلاتات السابقة، كتهريب السلع والوقود، أو التدخل الأمني غير المشروع.

بالنسبة لجهود الحكومة، تشير الخطوات الأولية لإعادة تفعيل القطاعين الزراعي والصناعي إلى إمكانية حدوث تحسن تدريجي ملحوظ، فمن المتوقع أن تشهد هذه القطاعات نموًّا متزايدًا خلال السنوات الثلاث المقبلة، وهذا سيسهم في الحد من البطالة ويحقق الأمن الغذائي بشكل جزئي، شرط الاستمرار في تبني سياسات واضحة ومستقرة لجذب الاستثمارات المحلية والدولية لهذه القطاعات.

ورغم الجهود المبذولة لجذب الاستثمارات الدولية خصوصًا من دول الخليج وتركيا كفاعلين رئيسيين، إلا أن ضخامة تكلفة إعادة الإعمار، التي تصل مبالغ كبيرة، والحالة الاقتصادية والسياسية الحالية تفرض تحديًا كبيرًا على الحكومة السورية بالرغم من توقع وزير الاقتصاد تضاعف حجم الاستثمارات مع نهاية صيف عام 2025(14). لكن النجاح مرهون بقدرة سوريا على ضمان بيئة سياسية وأمنية مستقرة وإجراءات شفافة تحظى بثقة المانحين الدوليين، إلى جانب الاستمرار في بناء علاقات دبلوماسية قوية تمكنها من تحقيق الدعم الدولي اللازم لإنجاز خطة إعادة الإعمار، وهذا الأمر مشابه لحدٍّ كبير لتجارب إعادة الإعمار في العراق وأفغانستان والبوسنة التي يمكن الاستفادة منها لتفادي هذه التحديات.

من المتوقع أن تؤدي إعادة فتح خطوط النقل وسلاسل الإمداد تدريجيًّا إلى تنشيط التجارة الداخلية والخارجية بشكل ملحوظ خلال العامين القادمين، خصوصًا مع رفع العقوبات وعودة سوريا التدريجية إلى النظام المالي العالمي؛ ما سيشجع عودة رجال الأعمال والمستثمرين لضخ أموالهم في السوق السورية، وبالتالي سيسهم في خفض تدريجي لأسعار السلع ووفرة توافرها في الأسواق. 

رغم استمرار الاعتماد الحالي على المساعدات الإنسانية والتحويلات المالية من الخارج، إلا أن التحسن التدريجي المتوقع في القطاعات الإنتاجية والتجارية سيؤدي إلى انخفاض ملموس في مستويات التضخم والبطالة على مدى 5 سنوات قادمة وفقًا لرؤية الحكومة(15)، وسيؤدي إلى بدء عملية الاكتفاء الذاتي بعيدًا عن المساعدات الإنسانية. يمكن تحقيق ذلك بالفعل شريطة تحسين القوة الشرائية للمواطنين وإعادة بناء الطبقة الوسطى التي تضررت بشدة خلال سنوات الحرب وتلاشت تقريبًا، وهو أمر يتطلب إصلاحات اقتصادية واجتماعية عميقة ومستمرة.

فيما يخص الجهود المبذولة حاليًّا لإعادة دمج سوريا في النظام المالي العالمي وإعادة فتح البنوك والسوق المالية يمكن أن تؤدي لتحسن تدريجي في الثقة بالليرة السورية والنظام المصرفي خلال عام واحد، لاسيما إذا ما توافر احتياطي نقدي أجنبي كافٍ لدعم العملة، وهو تحدٍّ أساسي أمام الحكومة خلال 3-5 سنوات قادمة.

من المتوقع أن يؤدي استمرار التوجه الحكومي نحو اقتصاد السوق الحر والابتعاد التدريجي عن نموذج الاقتصاد المركزي الذي كان سائدًا في فترة النظام السابق، إلى تحفيز النمو الاقتصادي عبر جذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية والمحلية، وإحداث نقلة نوعية في الاقتصاد السوري نحو مزيد من المرونة والتنافسية، وهو ما قد يسهم في اندماج سوريا بفاعلية في المنظومة الاقتصادية الإقليمية والدولية خلال عشر سنوات قادمة.

وعليه، فإن الرؤية الاقتصادية تبدو ممكنة من حيث المبدأ، وتستند إلى تحولات واقعية على الأرض، لكنها تحتاج إلى ضمانات واضحة في الجانب السياسي والأمني، وتحتاج إلى تمتين البنية الإدارية وتعزيز الإصلاحات في قطاع القضاء والمحاسبة، لأن غيابها قد يقوض فرص نجاح رؤية الحكومة الحالية.

خاتمة

تعتبر المرحلة الراهنة للاقتصاد السوري، والتي بدأت منذ سقوط نظام الأسد نقطة تحول تاريخية؛ حيث ستتم إعادة رسم خارطة البلاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لعقود قادمة. إن الظروف السياسية الجديدة التي صاحبت سقوط النظام السابق، وما أتاحته من فرص نادرة لفك العزلة الدولية وإعادة بناء الثقة المحلية، وضعت الحكومة السورية أمام اختبار حقيقي، يتمثل في ترجمة هذه الفرص إلى منجزات عملية ومستدامة على أرض الواقع. وبالرغم من أن الخطوات التي اتخذتها الحكومة السورية حتى الآن تبدو واعدة ومبشرة، لاسيما فيما يخص إعادة تأهيل القطاعات الإنتاجية واستقطاب الاستثمارات الكبرى ورفع العقوبات، إلا أن التحديات العميقة الموروثة من النموذج الاقتصادي المتبع لعقود، وآثار الحرب وأبرزها إعادة الإعمار، وبناء الثقة بالاقتصاد الوطني، لا تزال تتطلب عملًا وخططًا إستراتيجية طويلة الأجل. لذلك، فإن نجاح الرؤية الحكومية مرتبط جوهريًّا باستمرار توفيرها لبيئة سياسية مستقرة وشفافة، وإجراء إصلاحات اقتصادية جذرية، وتوطيد علاقات دبلوماسية فعَّالة مع المجتمع الدولي والإقليمي، وقدرتها على مواصلة الإصلاحات بوتيرة ثابتة، والاستفادة القصوى من التحولات الجيوسياسية الإقليمية والدولية، وإعادة تعريف هوية الاقتصاد السوري بما يحقق التنمية الشاملة والعادلة والمستدامة، ويضع البلاد على طريق التعافي الكامل والاندماج الفعَّال في المنظومة الاقتصادية العالمية.

نبذة عن الكاتب

مراجع
  1. خالد تركاوي، عبد العظيم المغربل، محمد سعيد المصري، "اقتصاد النظام السوري: المقاربات والسياسات 1970 – 2024"، جسور للدراسات، 28 أكتوبر/تشرين الأول 2024، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2025)، https://rb.gy/5habb3
  2. مؤتمر الحوار الوطني.. لقاءات لوضع أسس سوريا الجديدة، الجزيرة نت، 26 فبراير/شباط 2025، (تاريخ الدخول: 9 يونيو/حزيران 2025)، https://2u.pw/RbHd2
  3. ليس قبل 2080.. سوريا تحتاج إلى 5 عقود لتعافي الاقتصاد، CNBC عربي، 22 فبراير/شباط 2025، (تاريخ الدخول: 6 يونيو/حزيران 2025)، https://2u.pw/5rHMS
  4. وزارة الخزانة تصدر قرارًا بتخفيف العقوبات المفروضة على سوريا بشكل فوري، وزارة الخزانة الأميركية، مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (أوفاك)، 23 مايو/أيار 2025، (تاريخ الدخول: 6 يونيو/حزيران، 2025)، https://2u.pw/irVMD
  5. الاتحاد الأوروبي يرفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا، الجزيرة نت، 28 مايو/أيار 2025، (تاريخ الدخول: 7 يونيو/ حزيران 2025)، https://2u.pw/T5d6v
  6. حسن الشاغل، "تمويل إعادة إعمار سوريا.. مقدرات وطنية ومنح عربية"، الجزيرة نت، 27 يناير/كانون الثاني 2025، (تاريخ الدخول: 5 يونيو/حزيران 2025)، https://2u.pw/v84ki
  7. سوريا توقِّع عقدًا لتطوير ميناء اللاذقية مع شركة فرنسية، الجزيرة نت، 1 مايو/أيار 2025، (تاريخ الدخول: 7 يونيو/حزيران 2025)، https://2u.pw/0zbr0
  8. الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية توقع مذكرة تفاهم مع شركة صينية لاستثمار مناطق حرة بمساحة تتجاوز المليون متر مربع، سانا، 22 مايو/أيار 2025، (تاريخ الدخول: 8 يونيو/حزيران 2025)، https://2u.pw/CdZxz
  9. سوريا توقع اتفاقًا بـ7 مليارات دولار مع تحالف شركات لتوليد الكهرباء، الجزيرة نت، 29 مايو/أيار 2025، (تاريخ الدخول: 8 يونيو/حزيران 2025)، https://2u.pw/wMluf
  10. Dilara Afıfı، السعودية، وزيرا دفاع سوريا ولبنان يتفقان على أهمية ترسيم الحدود، الأناضول، 28 مايو/أيار 2025، (تاريخ الدخول: 8 يونيو/حزيران 2025)، https://2u.pw/gqqtW
  11. الحكومة السورية الجديدة تبلغ رجال الأعمال بأنها ستتبنى نموذج السوق الحرة وستعمل على إدماج البلاد في الاقتصاد العالمي، القدس العربي، 11 ديسمبر/كانون الأول 2024، (تاريخ الدخول: 9 يونيو/حزيران 2025)، https://2u.pw/zKwqz
  12. الشرع يعلن تشكيلة الحكومة السورية الجديدة، الجزيرة نت، 29 مارس/آذار 2025، (تاريخ الدخول: 9 يونيو/حزيران 2025) https://2u.pw/NqKEy
  13. إعادة التداول في سوق دمشق للأوراق المالية، سانا، 2 يونيو/حزيران 2025، (تاريخ الدخول: 7 يونيو/حزيران 2025)، https://2u.pw/R4x7J.
  14. الشعَّار: نتوقع تضاعف حجم الاستثمارات نهاية الصيف، الأخبار، 2 يونيو/حزيران 2025، (تاريخ الدخول: 10 يونيو/حزيران 2025)، https://2u.pw/3408a
  15. قبوات: نريد سوريا بلا سلال غذائية ولا خيام خلال خمس سنوات، شبكة شام الإخبارية، 30 مايو/أيار 2025، (تاريخ الدخول: 10 يونيو/حزيران 2025)، https://2u.pw/2Yyo4