التحدي الإسرائيلي: سوريا بين استكمال الرؤية الإستراتيجية وتفادي الصدام

ليست هناك خطة سورية جاهزة ومتكاملة لمواجهة التحدي الإسرائيلي؛ بسبب الانشغال في الملفات الداخلية واستعادة العلاقات الدولية، لكن لدى دمشق توجه واضح لتفادي الصدام مع إسرائيل، لأن أي تصعيد مع إسرائيل سيعرقل تقدم سوريا نحو التعافي.
6 يوليو 2025
لا يقف التهديد الإسرائيلي عند تقويضه لاتفاق فك الاشتباك بل يتعداه إلى مخاوف من استمرار التوغل لكامل الجنوب السوري (الفرنسية).

مقدمة

تواجه سوريا تحديًا إسرائيليًّا كبيرًا منذ سقوط نظام الأسد، في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، وبات هذا التحدي أكثر صعوبة بعد اندلاع الحرب المباشرة بين إسرائيل وإيران، في 13 يونيو/حزيران 2025، فقد ورثت سوريا وضعية معقدة على الحدود مع الجولان المحتل، وكانت الهجمات الإسرائيلية تتوالى عليها وتستهدفها بل وتستهدف أكثر حلفاء نظام الأسد هناك. ورغم تغير الحكم استمرت إسرائيل بضرباتها الجوية، وتوغلت لأول مرة خارج مناطق اتفاق فك الاشتباك (1974)، وتدخلت في الشأن الداخلي لاسيما فيما يتعلق بمحاولة احتضان "الدروز".

استلمت المعارضة السورية المسلحة، بقيادة هيئة تحرير الشام، دولة منهارة القوى الاقتصادية والعسكرية والأمنية، وأعلنت أنها لا تريد أي مواجهة مع إسرائيل، ولا تريد أن تكون جزءًا من أي تهديد عسكري وأمني ضدها؛ ومع ذلك سارعت إسرائيل لتنفيذ عملية عسكرية هي الأوسع بتاريخها في سوريا حملت اسم "سهم باشان"، وشملت 350 غارة جوية، نتج عنها تدمير 80% من البِنْية التحتية العسكرية الإستراتيجية في سوريا. وسارع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ليعلن انهيار اتفاق فك الاشتباك، وأعطى أوامر للسيطرة على المنطقة العازلة؛ حيث توغل فيها جيش الاحتلال بغضون 6 أشهر وأقام فيها 12 نقطة عسكرية، 10 منها في المنطقة الفاصلة و2 في محيط خط برافو، وبين هذه النقاط قمة الحرمون، أعلى قمة في جبل الشيخ، المشرفة على العاصمة دمشق.

أولًا: الإجراءات السورية بمواجهة التحدي الإسرائيلي

تُسيطر إسرائيل في الوقت الراهن، وبحكم الأمر الواقع، على محافظة القنيطرة، إحدى المحافظات السورية الثلاث (درعا والسويداء) المحاذية لإسرائيل، بعدما توغل جيش الاحتلال في كامل منطقة فك الاشتباك، وبدأ يتمدد خارجها، وصرَّح وزير الدفاع، إسرائيل كاتس، أكثر من مرة بأن الاحتلال سيبقى في المنطقة العازلة إلى أجل غير مسمى، فيما يبدو أن إسرائيل تتصرف كما لو أن اتفاق 1974 لم يعد قائمًا؛ مما يضع الحكومة السورية أمام تحدي استعادة الشرعية الدولية للاتفاق، لاسيما أن البعثة الأممية المسؤولة عن مراقبة وقف إطلاق النار، "إندوف"، (UNDOF) تبدو حاليًّا ضعيفة فلا يمتلك عناصرها الخبرة الاحترافية الكافية كما كانت عليه من قبل؛ مما سهَّل على القوات الإسرائيلية تجاوز القوة الأممية والتعامل معها كأنها غير موجودة.

لا يقف التهديد الإسرائيلي عند تقويضه لاتفاق فك الاشتباك بل يتعداه إلى مخاوف من استمرار التوغل لكامل الجنوب السوري، لاسيما أن نتنياهو دعا لجعل هذه المنطقة خالية من السلاح ومن هيئة تحرير الشام، بالتوازي مع بدء قوات الاحتلال التوغل فعلًا في مناطق متقدمة من محافظتي درعا وريف دمشق، وإحداثها مواقع قيادية عسكرية في 12 نقطة تمكِّنها من السيطرة النارية على عمق 70 كم في الجنوب ومنع أي طرف من كشف المواقع الإسرائيلية. وقد تزداد هذه الأخطار ما بعد الحرب مع إيران، لاسيما إن لم تستجب الحكومة السورية لشروطها، فتوسِّع إسرائيل وتزيد من نشاطها في المناطق الحدودية ومن تدخلها في الشأن السوري. تبدو إسرائيل مستعدة لهذا السيناريو حيث نشرت في المواقع المتقدمة التي أنشأتها وحدات عسكرية للاضطلاع بمهام جديدة على الحدود مع سوريا أبرزها: الفرقة فارا، والوحدة الاستخباراتية التابعة للواء الجولان 474، ولواء هحاريم (لواء الجبال)، فضلًا عن نشرها لوحدة الكوماندوز (شلداغ). ثمّة تحدٍّ آخر يواجه الحكومة السورية، بسيطرة إسرائيل أثناء توغلها العسكري جنوبي سوريا على أبرز المسطحات المائية والسدود مثل المطرة والشيح حسين وسحم والوحدة وكودنا ورويحينة وبريقة؛ حيث باتت تُهدد فعليًّا الأمن المائي والغذائي السوري، وقد اتهمت دمشق، في جلسة مجلس الأمن بتاريخ 10 أبريل/نيسان 2025، إسرائيل بسرقة الموارد المائية وتحويل مسارات الأنهار(1).

تُواجه سوريا أيضًا مشكلة غياب الردع؛ فإسرائيل دمَّرت معظم الأصول العسكرية السورية في عملية سهم باشان، والحكومة الجديدة استلمت بنية تحتية عسكرية دمَّرتها الحرب خلال 14 عامًا، وقد تعرضت لضربات إسرائيلية متوالية؛ حيث شنَّت قرابة 80 غارة جوية وبرية خلال النصف الأول من عام 2025، وهو رقم يبلغ ضعف عدد الغارات تقريبًا التي كانت قد شنَّتها على سوريا خلال النصف الأول من عام 2024 إبَّان حكم نظام الأسد. كما أنَّ دمشق باتت مهددة ناريًّا بعد سيطرة جيش الاحتلال على أعلى قمة في جبل الشيخ، وقد يصبح هذا التهديد أكثر جدية ما بعد الحرب على إيران، لاسيما إن لم تستجب الحكومة السورية لشروطها، فتوسِّع إسرائيل وتزيد من نشاطها في المناطق الحدودية ومن تدخلها في الشأن السوري(2). لقد أبدت سوريا قلقًا أيضًا من حديث إسرائيل المتكرر عن دعم الدروز، والذي فضلًا عن كونه تدخلًا في الشأن الداخلي للبلاد حمل تهديدًا بالتقسيم، فوزير الخارجية، جدعون ساعر، قال، في فبراير/شباط: إن سوريا لا يُمكن أن تكون إلا فيدرالية تشمل حكمًا ذاتيًّا مختلفًا. ويبدو أن مساعي إسرائيل في هذا الصدد ترتبط بمخاوف من هوية الحكم الجديد في سوريا الذي تَعُدُّه إسلاميًّا، ومرتبطًا بتركيا، فهي لا تريد أن يتجدد التهديد على حدودها بصيغة أخرى بعدما كان مصدره "نظام الأسد" المرتبط بإيران.

بموازاة ذلك، ليست هناك خطة سورية متكاملة وواضحة المعالم لمواجهة التحدي الإسرائيلي؛ بسبب الانشغال في الملفات الداخلية واستعادة العلاقات الدولية ورفع العقوبات الاقتصادية ومحاولة تحسين الوضع المعيشي والخدمي وضبط الواقع الأمني في البلاد. لكن اتخذت السلطات السورية بعض الخطوات لمنع أي تصعيد محتمل مع إسرائيل؛ كونه سيؤثر على تثبيت الحكم الجديد. وقد شملت تلك الإجراءات سحب السلاح الثقيل التزامًا باتفاقية فصل القوات بعدما قام "نظام الأسد" بإعادة نشره على الحدود ضمن خط برافو من المنطقة العازلة بدعوى محاربة المعارضة المسلحة، دون أن تبدي إسرائيل حينها أي رد فعل تجاه ذلك الخرق، كما قامت السلطات السورية الجديدة بسحب السلاح الثقيل الموجود في العمق أيضًا، وأعادت إنشاء نقاط وحواجز للشرطة على عمق 10 كم من خط وقف إطلاق النار لتكون مسؤولة عن عمليات التفتيش وجمع السلاح غير المنضبط الموجود مع السكان المحليين وضمان عدم وقوع أي أنشطة عسكرية في المنطقة، فضلًا عن تنفيذ عمليات أمنية بهدف ملاحقة قادة المجموعات المسلحة الذين كانوا مرتبطين بالنظام وإيران وحزب الله(3).

لم تنشر الحكومة السورية قواتها العسكرية جنوب سوريا بالقوام الذي كان موجودًا سابقًا؛ حيث أسست فقط الفرقة 40، ووزعت قواتها ضمن بعض المعسكرات الموجودة سابقًا، باستثناء معسكرات اللواء 90 التي انتشرت فيها إسرائيل خلال توغلاتها لتستفيد منها كونها مُعَدَّة على شكل مفارز حراسة. إن قيام سوريا بهذه الخطوة يعود لأسباب مختلفة منها عدم كفاية التسليح ونوعيته ولتدمير إسرائيل كافة الأصول العسكرية للنظام السابق في المنطقة، ولأن الحكومة الجديدة لا تريد أن تظهر بأنها تعمل على تأسيس تجمع عسكري في الجنوب وهو ما قد يدحض ادعاءاتها بعدم وجود نوايا لاستعداء أي دولة، لاسيما إسرائيل(4). بالمقابل، قامت الحكومة بإلحاق قوات حرس الحدود إلى وزارة الداخلية، وهو إجراء غير اعتيادي في تاريخ سوريا، ويبدو أنه يهدف لتعويض خطوة الحكومة بشأن عدم نشر قواتها العسكرية بالقوام الكامل جنوب البلاد، رغم أن قوات حرس الحدود لم تُنشَر إلى الآن على الحدود مع الجولان المحتل أو على خطوط التَّماس مع جيش الاحتلال بالمناطق التي توغَّل فيها.

من جانب آخر، حافظت سوريا على الإجراء الاعتيادي الذي كان قائمًا قبل سقوط النظام بإرسال شكاوى وتنديد إلى مجلس الأمن بشأن استمرار الغارات الإسرائيلية على سوريا والتوغلات البرية الجديدة وتهديدها للأمن المائي في البلاد، فضلًا عن إصدار بيانات إدانة مكررة من الخارجية والرئاسة أبرزها ما جاء بعد قصف إسرائيل للقصر الرئاسي، مطلع مايو/أيار 2025، والذي عدَّته دمشق انتهاكًا لسيادة البلاد وتصعيدًا خطيرًا يهدف إلى زعزعة الاستقرار فيها، وتدخلًا في الشأن الداخلي. وقد جاءت الضربة بعد توترات في ضواحي دمشق التي تسكنها "الطائفة الدرزية" مثل جرمانا وصحنايا، وأصدرت إسرائيل حينها بيانًا قالت فيه إن الضربة كانت رسالة واضحة إلى دمشق بأنها لن تسمح بأي تهديد للطائفة الدرزية التي تتعهد بحمايتها(5).

يبدو أن خطة الحكومة لمنع تدخل إسرائيل في الشأن الداخلي تقوم على احتواء "الأقليات" والحرص على عدم حصول أي تصعيد معهم سواءً كان ذلك تجاه الدروز أو الأكراد، دون منحهم امتيازات خاصة تقود إلى المحاصصة في البلاد، وذلك إلى حين التوصل إلى اتفاق مع إسرائيل. تشترط الحكومة السورية أن تكون أي مفاوضات مع إسرائيل قائمة على ضمان عدم التدخل في شؤونها الداخلية ومنع أي مساعٍ لتقسيم سوريا. إن تدخُّل إسرائيل في الشأن الداخلي لم يقتصر على التواصل مع الأقليات ومحاولة احتضانهم، بل شمل التواصل مع المجتمع المحلي في محافظتي القنيطرة ودرعا؛ مما دفع الحكومة إلى تشكيل وفد عسكري والدخول في "مفاوضات مباشرة" مع إسرائيل تهدف إلى حماية المجتمع المحلي، وإدخال قوات الأمم المتحدة لتكون وسيطًا في المفاوضات الميدانية التي تهدف إلى ثني إسرائيل عن قطع الطرقات وتنفيذ الاعتقالات وتضييق الخدمات على السكان والتواصل معهم(6).

ثانيًا: تصور الحكم الجديد للتحدي الإسرائيلي

تحدَّث الشرع منذ سقوط نظام الأسد أكثر من مرة عن طبيعة العلاقة مع إسرائيل، مقدِّمًا تصور الحكم الجديد بشأن ذلك؛ حيث صرَّح، في 14 ديسمبر/كانون الأول 2024، بأن سوريا ليست بصدد الخوض في صراع مع إسرائيل(7). وفي 14 مارس/آذار، دعا خلال حضوره القمة العربية الطارئة إلى العودة لاتفاقية فض الاشتباك لعام 1974(8)، وفي أول زيارة رسمية له إلى أوروبا بعد تولِّيه الرئاسة، أعلن في لقائه مع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في 7 مايو/أيار، عن وجود مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل عبر وسطاء بهدف تهدئة الأوضاع وعدم خروجها عن السيطرة(9).

تقوم رؤية الشرع تجاه إسرائيل على تجنُّب خوض صراع معها، والالتزام بالدبلوماسية، والدفع باتجاه العودة لاتفاقية فض الاشتباك، أو حتى الانخراط المشروط في توقيع اتفاقية سلام؛ فقد أخبر الشرع عضوًا في الكونغرس الأميركي لدى زيارته دمشق، في 24 أبريل/نيسان، بأنَّ سوريا مهتمة بالانضمام لاتفاقيات أبراهام حين تتوافر الظروف المناسبة لذلك(10)، وهو خيار تدفع نحوه الولايات المتحدة؛ حيث صرَّح الرئيس دونالد ترامب بأنَّه أخبر الشرع أثناء اللقاء الذي جمعهم في العاصمة، الرياض، في 14 مايو/أيار، برغبته في انضمام سوريا إلى اتفاقيات أبراهام(11).

لا يوجد بعدُ التزامٌ صريح من دمشق بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، باستثناء أنها تجاوزت المفاوضات غير المباشرة معها، والتي جرت عبر وسطاء، منهم الإمارات وتركيا وأذربيجان، لتدخل في مفاوضات مباشرة تقول إسرائيل إن هدفها التوصُّل إلى نموذج "الاتفاقيات الإبراهيمية"(12)، لكن يبدو أنها لا تزال في إطار مساعي الوصول لاتفاقية أمنية جديدة، باعتبار أنَّ نتنياهو طلب من الولايات المتحدة التدخل في وساطة مع سوريا من أجل العمل للتوصل إلى اتفاق سلام شامل(13).

لتجنب خوض صراع مع إسرائيل، يعمل الشرع خطوة بخطوة على خلق بيئة خالية من النزاع، من خلال الالتزام بالقانون الدولي وعدم إظهار أي خرق لاتفاق فض الاشتباك، إضافة إلى خفض الوجود السوري العسكري جنوبًا، مع زيادة النشاط الرسمي الأمني في المنطقة، لجمع السلاح "غير المنضبط" كي لا يتم استغلاله لتوريط سوريا، لاسيما من قبل قادة المجموعات المسلحة التابعين لحزب الله وإيران ونظام الأسد الذين تلاحقهم الحكومة السورية، وما زالوا يُشكِّلون تهديدًا لمساعيها في التهدئة مع إسرائيل، مثلما حصل في 3 يونيو/حزيران؛ حين أطلقت مجموعة سمت نفسها "كتائب الشهيد محمد الضيف" صاروخين من درعا باتجاه الجولان. ومن بين الخطوات التي تعمل عليها سوريا لنزع فتيل الاشتباك مع إسرائيل سياسيًّا وعسكريًّا محاولة عدم إثارة مخاوفها من تكرار سيناريو 7 أكتوبر/تشرين الأول عبر الجبهة الجنوبية، ليس فقط من خلال الإجراءات الميدانية المتبعة، بل بالتأكيد على أن سوريا لن تكون لأول مرة منذ عقود مساحة لإيران تستخدمها في مواجهة إسرائيل لمصالحها. أظهرت سوريا بعد الحرب بين إيران وإسرائيل، في 13 يونيو/حزيران، أنها مستعدة لقطع العلاقة مع إيران ومشروعها، وكانت الغائب الوحيد عن الاجتماع الوزاري العربي الذي عُقد في 20 من الشهر ذاته، لمناقشة تداعيات الحرب على إيران وأمن المنطقة.

الانفتاح على الحلول الدبلوماسية يبدو جزءًا من رؤية الشرع للتعامل مع تحديات الوضع القائم مع إسرائيل، فلدى تنصيبه رئيسًا للبلاد، في 29 يناير/كانون الثاني 2025، تحدَّث عن سياسة خارجية تركِّز على إعادة الثقة مع المجتمع الدولي، وبالفعل حرص على إعادة التموضع إقليميًّا وإعادة بناء علاقات جيدة مع دول الخليج العربي، لاسيما السعودية وقطر، لاعتبارات عديدة، بينها وقوف هذه الدول -وإن بدرجات متفاوتة- مع المعارضة السورية سابقًا في مواجهة نظام الأسد وإيران، إضافة لقدرة هذه الدول على الوساطة في رفع العقوبات الاقتصادية ودمج سوريا في المنظومة الدولية(14). وغالبًا، يهدف الشرع إلى وضع ملف أي سلام مع إسرائيل ضمن اتفاق عربي شامل، سواءً كان توجه العرب إلى "الاتفاقيات الإبراهيمية" أم إلى إعادة تفعيل المبادرة العربية للسلام (2002).

كذلك تُراهن سوريا على الدبلوماسية والانفتاح على الدول الغربية في تشكيل ضغط على إسرائيل من أجل ثنيها عن التدخل في الشأن الداخلي السوري، بما في ذلك وقوفها إلى جانب بعض الأصوات الداخلية التي تَعُدُّ الحكم الجديد "إسلاميًّا متطرفًا"، خصوصًا أنه لم يجد بعد حلًّا أو خطة شاملة للتعامل مع قضية المقاتلين الأجانب، وأنه يُحافظ على مواقفه الأيديولوجية ضد إسرائيل دون تغيير، لاسيما أن له تصريحًا سابقًا، عام 2014، يقول فيه إنه بعد الوصول إلى دمشق يهدف للوصول إلى القدس. أما ما يخص العلاقة مع تركيا التي يُعَدُّ وجودها في سوريا بالنسبة لإسرائيل خطرًا مماثلًا لإيران، بزعم حصول تحالف إستراتيجي للحكم الجديد معها، فيبدو أن الشرع يُحاول أن يُحيل هذه القضية للمفاوضات المباشرة بين إسرائيل وتركيا، رغم أن نتائجها يُمكن أن تُقيد قدرة الحكومة السورية على التعامل مع الوجود الروسي في البلاد؛ فهناك أصوات في إسرائيل تريد بقاء القواعد الروسية في سوريا طالما بقيت القواعد التركية فيها(15).

ثالثًا: توقعات ومآلات

لم تطرح إسرائيل، حتى اللحظة، إستراتيجية نهائية للتعامل مع سوريا، وتركز على إجراءات عسكرية "استباقية"، كما تصفها، وعلى خطة ردع تقوم على إظهار القوة، ليس فقط أمام سوريا بل أمام جميع الأطراف في الإقليم، وتصب جهودها على إدامة ضعف سوريا عسكريًّا وحرمانها من أي تحالفات على هذا الصعيد، حتى إنها تصر على منع تركيا من إقامة قواعد عسكرية لها جنوب ووسط سوريا، مع استمرارها في إجراء مفاوضات مع الحكومة السورية بشكل غير مباشر ثم مباشر، بانتظار أن تنضج الظروف لاتفاق نهائي.

لن تتنازل إسرائيل -مثلما تُصرِّح- عن خطة الردع الجديدة في سوريا؛ مما يعني أنها ستحافظ على بقائها في المواقع الاثني عشر التي أقامتها في سوريا إضافة إلى حرية الحركة التي تنتهجها سواء في منطقة الفصل أو في عمق الجنوب السوري، دون أن يعني ذلك تخلِّيها عن اتفاق فض الاشتباك لعام 1974، خصوصًا أن الأمين العام لم يُشِر في تقريره، الصادر في 20 يونيو/حزيران 2025، إلى تغير ولاية البعثة الأممية (UNDOF) أو حجمها أو هيكلها وجنسيات العاملين فيها، وهي مطالب سبق ووردت في بعض تصريحات المسؤولين الإسرائيليين.

يتيح عدم تخلي إسرائيل الضمني عن اتفاق فض الاشتباك استمرار مساحة للتفاوض لا قطعها، على الأقل خلال فترة 6 أشهر وهي مدة ولاية قوات الأندوف القادمة، مع الحكومة السورية التي تُطالب بالعودة لاتفاق 1974 ورفض الوضع القائم الذي فرضته إسرائيل وبات يُهدد الأمن الغذائي والمائي لسكان جنوب سوريا، لاسيما أهالي محافظة القنيطرة، الذين اجتمع معهم الشرع، في 25 يونيو/حزيران 2025، وأكد لهم أن سوريا تعمل على إنهاء معاناتهم جرَّاء الاعتداءات الإسرائيلية عبر وسطاء دوليين. يفاوض الشرع غالبًا عبر البعثة الأممية، إلى حين تحقيق تقدم في المفاوضات مع إسرائيل؛ إذ تُطالب سوريا قوات الأندوف بالتدخل لإيقاف قطع الطرقات من قبل الدوريات الإسرائيلية، والتوقف عن تضييق الخدمات على السكان ووقف حملات الاعتقال وتخريب الأراضي الزراعية. ولو تعثرت المفاوضات المباشرة مع إسرائيل ليس من المتوقع من سوريا أن تتجه إلى مفاوضات مع تركيا من أجل إقامة قواعد جديدة لها وسط وجنوب سوريا من أجل تحقيق توازن في الردع الإقليمي، لأنَّ مثل هذه الخطوة قد تؤدي لمزيد من استفزاز إسرائيل وتظهر سوريا بأنها باتت تُشكِّل تهديدًا لها، وهذا يخالف ما صرَّح به الشرع بعد أيام من سقوط النظام؛ حيث يُتوقَّع أن يستمر على النهج الذي تحدث به في مواجهة إسرائيل، أي بالضغط الدولي عليها وعبر الأمم المتحدة(16)، فضلًا عن الحرص على الانخراط في الدبلوماسية الخليجية إزاء التعامل مع إسرائيل في المنطقة عمومًا وليس سوريا فحسب، وبما لا يتعارض مع الرؤية الأميركية للسلام في الشرق الأوسط.

تأمل سوريا من هذا النهج أن يجنِّبها مزيدًا من الأخطار الخارجية والداخلية، لأن أي تصعيد مع إسرائيل أو الإصرار على ما قد يؤجِّجه سيدفعها لمزيد من التدخل في الشأن الداخلي، ولن تكتفي بدعم الدروز، بل بتوسيع التواصل مع الأكراد؛ مما قد يؤثر على موقف "قسد" من المفاوضات مع الحكومة السورية، ويُسهم في عرقلة التقدم الذي تسعى الحكومة لتحقيقه في الاستقرار الهش وإعادة التعافي. يبدو هذا النهج أيضًا جزءًا من خطة الحكومة خلال الفترة الانتقالية، للتفرغ للقضايا الداخلية، بما في ذلك مواجهة التحديات الأمنية المرتبطة بنشاط الفلول و"مكافحة الإرهاب" ومنع "الميليشيات الإيرانية" من إعادة التموضع في سوريا، وزعزعة الاستقرار الهش. في غضون ذلك، يُتوقَّع أن تحافظ الحكومة على الوضع المبدئي مع إسرائيل، أي بإظهار الالتزام باتفاقية فصل القوات واعتبار الجولان أرضًا سورية تقع تحت الاحتلال الإسرائيلي، مع المطالبة بانسحاب جيشها من المناطق التي توغل فيها واعتبارها انتهاكات، هذا إلى حين حصول اتفاق مع إسرائيل في الإطار العربي وليس السوري فحسب.

خاتمة

تُعَدُّ العلاقة مع إسرائيل أحد أبرز التحديات بالنسبة للحكم السوري الجديد، بعدما تجاوز تحدي الاعتراف به وإزالة هيئة تحرير الشام من قوائم "الإرهاب". يعرقل التحدي الإسرائيلي أي خطط أو مساعٍ حكومية للتعامل مع التحديات الداخلية خلال المرحلة الانتقالية، ويقلِّل من القدرة على فرض الاستقرار الأمني ومعالجة العلاقة مع الأقليات التي لا تمتلك دمشق بعد رؤية واضحة للتعامل معها.

بشكل عام، يسير الشرع في التعامل مع إسرائيل على نهج الخطوة خطوة، مع رؤية تقوم على نزع فتيل الاشتباك وخفض التصعيد معها، والاستعداد للانخراط في الجهود الإقليمية العربية والغربية، التي تسعى لنقل سوريا من حالة "المواجهة" إلى حالة "السلام" القائم على الدبلوماسية. مع ذلك، فهو لا يضمن أي ردِّ فعل أو تحرك من قبل إسرائيل ونتنياهو؛ الذي خرج أقوى إقليميًّا بعد الحرب على إيران، ولا يُفوِّت فرصة لتصدير مشاكله الداخلية إلى الخارج، بما فيه سوريا.

نبذة عن الكاتب

مراجع
  1. سوريا أمام مجلس الأمن: إسرائيل تسرق مياهنا وحوَّلت مسارات الأنهار، الجزيرة نت، 10 أبريل/نيسان 2025، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2025)، https://goo.su/3kcAhRe
  2. Sudarsan Raghavan and Dov Lieber, Israel Sees Growing Threat in Islamists Trying to Unify Syria, 4 March 2025, (accessed 15 June 2025): https://goo.su/UJu685l
  3. مقابلة مع مدير مديرية الإعلام في القنيطرة، محمد السعيد، 15 يونيو/حزيران 2025.
  4. مقابلة مع الخبير العسكري السوري، رشيد حوراني، 15 يونيو/حزيران 2025.
  5. إسرائيل تقصف محيط القصر الرئاسي بدمشق وتوجه رسالة تهديد، الجزيرة نت، 2 مايو/أيار 2025 (تاريخ الدخول: 20 يونيو/حزيران 2025)، https://goo.su/lhq069c
  6. مقابلة مع مسؤول العلاقات الإعلامية في محافظة القنيطرة، منصور محمد طرشان، 15 يونيو/حزيران 2025.
  7. الشرع يتحدث عن انتخابات ودستور جديد وحل الفصائل، الجزيرة نت، 14 ديسمبر/كانون الأول 2024 (تاريخ الدخول: 22 يونيو/حزيران 2025)، https://goo.su/VP7EQB
  8. كلمة الرئيس السوري أحمد الشرع في القمة العربية الطارئة بالقاهرة، قناة الجزيرة، 4 مارس/آذار 2025 (تاريخ الدخول: 22 يونيو/حزيران 2025)، https://goo.su/P3UAOlU
  9. الرئيسان ماكرون والشرع يجيبان عن أسئلة الصحافيين، قناة فرنسا 24، 8 مايو/أيار 2025 (تاريخ الدخول: 22 يونيو/حزيران 2025)، https://goo.su/gpZzl
  10. نائب أميركي عن الشرع: مهتمون بالانضمام لاتفاقيات أبراهام إذا سنحت الظروف، الجزيرة نت، 24 أبريل/نيسان 2025 (تاريخ الدخول: 22 يونيو/حزيران 2025)، https://goo.su/EuK4W
  11. ترامب يتحدث عن إسرائيل وبوتين وملابسات قراره بشأن سوريا، الجزيرة نت، 14 مايو/أيار 2025 (تاريخ الدخول: 22 يونيو/حزيران 2025)، https://goo.su/YtMjVlR
  12. Israel's National Security Council chief confirms direct Israel-Syria talks, Israel Hayom, 24 June 2025 (accessed 22 June 2025): https://rb.gy/juymc6
  13. Netanyahu asks U.S. to broker Israel-Syria negotiations, Axios, 11 June 2025 (accessed 15 June 2025): https://rb.gy/9kw2ss
  14. فراس فحَّام، سوريا الجديدة: تموضعها الإقليمي وعلاقاتها الخارجية، مركز الجزيرة للدراسات، 4 مارس/آذار 2025 (تاريخ الدخول: 23 يونيو/حزيران 2025)، https://goo.su/doFSjj
  15. مقابلة مع شادي مارتيني، رئيس منظمة تحالف الأديان، وهو رجل أعمال سوري مطَّلع على سير المفاوضات الإسرائيلية السورية، 15 يونيو/حزيران 2025.
  16. الشرع: سوريا منهكة من الحروب ولا تشكل تهديدًا لأي دولة في العالم، بي بي سي عربي، 19 ديسمبر/كانون الأول 2024 (تاريخ الدخول: 10 يونيو/حزيران 2025)، https://goo.su/0lJRdL