
مقدمة
اندلعت مواجهات في 13 يوليو/تموز 2025، بين الدروز والبدو في محافظة السويداء، إثر اعتداء مسلحين يُعتقد أنهم من البدو على شاحنة خضار على طريق دمشق السويداء، فتوسعت إلى اشتباكات دامية بلغت ذروتها بتدخل عسكري إسرائيلي استهدف دمشق نفسها، تحت عنوان حماية الدروز، ودفع الجيش السوري للخروج من محافظة السويداء. يأتي التصعيد الإسرائيلي رغم جنوح النظام الجديد في سوريا إلى عدم المواجهة مع إسرائيل، ورغم وقوف واشنطن المعلن مع سوريا الجديدة، بعد أن رفعت عنها العقوبات، وسعت لدمجها في "اتفاقات السلام" في المنطقة.
أفضى الحراك السياسي الإقليمي والدولي بخصوص مواجهات السويداء إلى اتفاق حظي بدعم الأردن وواشنطن، يتضمن تثبيت وقف إطلاق النار، ونشر قوات الأمن السورية في محافظة السويداء، وإطلاق سراح المحتجزين لدى كل الأطراف ضمن جهود المصالحة في المحافظة، وإدخال المساعدات الإنسانية. لكنه يبقى اتفاقًا هشًّا، مع تدخل إسرائيل في الشأن الداخلي السوري، واحتفاظها بما تدعيه من حق في نصرة دروز سوريا.
يركز هذا التعليق على فهم السياق الذي يمكن وفقه فهم التصعيد الإسرائيلي، والاتجاه الذي ينحو إليه.
سياقات
لا يمكن تأكيد تراجع التصعيد أو عدم تكراره بين البدو والدروز في محافظة السويداء، لأن أصل النزاع ليس مع الدولة السورية، بل منشؤه خلافات تاريخية تتجدد من حين إلى آخر بين عشائر البدو والدروز. ويحتاج دائمًا إلى تدخل ورعاية الدولة السورية لتحول دون تفاقمه، بوصفها الحاضنة لكل فئات الشعب السوري، بغضِّ النظر عن أي موقف من أي مكون سوري من الحكم الجديد.
من جهة، لا يمكن تجاهل أن هناك من التفت من دروز السويداء إلى إسرائيل بوصفها الراعي الممكن، وقد تشكل بديلًا عن سلطة الحكم الحالي، ما ينقل الأزمة إلى مستوى أكثر تعقيدًا بدل حلها ويؤسس لانعدام الثقة بين فئات من دروز السويداء وباقي المكونات الوطنية. ومن جهة أخرى، يغذي هذا النزاع التوتر المحلي بين الدروز وجيرانهم، وقد يتجاوز سوريا إلى بقية أماكن انتشارهم في العالم العربي.
أما التصعيد الإسرائيلي العسكري ضد دمشق فيمكن إدراجه في سياقين اثنين.
الأول: وهو أكثر ارتباطًا بسياق الأحداث، تعلَّلت إسرائيل فيه بأنها تتعرض لضغوط من المجتمع الدرزي المحلي، وأرسلت ما يفيد بهذا الخصوص إلى مسؤولين سوريين. فجاء تدخلها العسكري تحت ذريعة حماية الدروز في سوريا، لأنهم يشكلون امتدادًا اجتماعيًّا ودينيًّا لـ"أقلية روحية" في إسرائيل، وهذه الأقلية جزء من مكونات السلطة السياسية، وكذلك من الجيش الإسرائيلي الذي يخوض حربًا في غزة والضفة وعلى الحدود مع لبنان. وكان اشتداد الحرب على حزب الله في لبنان بذريعة "استهداف" الحزب، في 27 يوليو/تموز 2024، لقرية مجدل شمس "الدرزية" ووقوع مجزرة هناك. وقد رفض حزب الله يومها هذه الاتهامات ووصفها بالادعاءات الكاذبة.
من الواضح أن إسرائيل تريد الحفاظ على استمرار موقف التيار الرئيسي الدرزي إلى جانبها، لاسيما في حربها الراهنة. وهذا التيار يمثله موفق طريف، "الرئيس الروحي للطائفة الدرزية في إسرائيل"، الذي يرى أن "ما حدث في 7 أكتوبر يحدث الآن في السويداء"، وطالب إسرائيل بالتدخل في سوريا. يمثل هذا النهج استمرارًا وتعزيزًا لما عُرف تاريخيًّا بـ"تحالف الدم"، ويقوم على مشاركة الدروز الواسعة في الجيش الإسرائيلي مقابل تعزيز دورهم كأقلية في إسرائيل. ولا تخلو تداعياته من طابع إستراتيجي يتعلق بطموحات إسرائيل التوسعية. فهو يمكِّن إسرائيل من الادعاء بأنها تملك حق التدخل في دول عربية من أجل حماية الدروز. ويعطيها مبررًا للتوسع في المناطق الحدودية مع سوريا ولبنان حيث يشكِّل الدروز، خاصة في جبل الشيخ ومحيطه، مكونًا مهمًّا. وقد أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ذلك بالقول: إن تدخل إسرائيل في السويداء أسس لمنطقة "منزوعة السلاح" تمتد من الجولان إلى "جبل الدروز". وهو هدف كانت تسعى إليه إسرائيل منذ سقوط نظام الرئيس بشار الأسد، وسعت لتوسعة المنطقة العازلة في جنوب سوريا، وتأسيس منطقة منزوعة السلاح.
الثاني: له طابع إستراتيجي إسرائيلي أكبر تجاه سوريا، وهو سابق على الحكم السوري الحالي. فقد كانت إستراتيجية "الحملة بين الحروب" العسكرية الإسرائيلية، إبان الثورة السورية (2011-2024)، تركز على استهداف الجماعات المسلحة المؤيدة لإيران، وتسعى إلى إضعاف سوريا بشكل مستمر ومطَّرد، بالتوازي مع جهد سياسي لإدامة ضعف سوريا وانقسامها ومحاصرتها ومنعها من التعافي. كما حرصت حينها أيضًا على إضعاف المعارضة السورية، وفضَّلت بقاء نظام الرئيس الأسد ضعيفًا ومعزولًا بدل قيام أي حكم بديل.
وقد أسفرت تطورات المنطقة بعد "عملية طوفان الأقصى" والحرب الإسرائيلية على لبنان، عن حكم جديد في دمشق أبدت إسرائيل قبولها به، لأن من مصلحتها استقرار حكم معادٍ لمحور إيران أو مستقلٍ عنه. وكان من المفترض أن تتخلى عن إستراتيجية إضعاف سوريا وتمضي لعقد اتفاق مع النظام الجديد، بغضِّ النظر عن طبيعته ومستواه، سواء أكانت ترتيبات أمنية بناء على هدنة 1974، أم كان أكثر من ذلك. لكن بقيت لدى إسرائيل هواجس تجاه الرئيس السوري أحمد الشرع بسبب خلفيته الإسلامية، ومن تداعيات ذلك، أنها مع سقوط نظام الرئيس بشار الأسد، وجَّهت ضربة واسعة لسوريا استهدفت مخازن الأسلحة والعتاد العسكري والقواعد العسكرية التي خلَّفها النظام السابق، كي لا تقع بيد الحكم الجديد. كما وسَّعت من مجال المنطقة العازلة الحدودية مع سوريا، بما في ذلك السيطرة على قمة جبل الشيخ.
وبالنظر إلى ما جرى في السويداء من تدخل إسرائيلي عسكري، وعلى مستوى عال من الحدة، استهدف وزارة الدفاع ومحيط القصر الجمهوري، لا يمكن التأكد من أن إسرائيل تخلَّت عن إستراتيجية إضعاف سوريا بالفعل. ربما لا تزال تلتزم بها كما شأنها مع النظام السابق وإن بوسائل وادعاءات مختلفة، أي إنها لا تزال تعمل على إضعاف النظام الجديد أيضًا وقد تفضِّل إسقاطه واستبداله.
لا شك أن المضي بهذه الإستراتيجية هو تخلٍّ عن مكاسب لإسرائيل بحكم الواقع، ويتناقض مع السعي الأميركي والعربي لاستقطاب سوريا إلى "محور الاعتدال" وإشراكها مع إسرائيل في ترتيبات أمنية على الأقل، فضلًا عن "عملية سلام" محتملة. وتتناقض أيضًا مع سياسة "قطع الطريق" على نفوذ إيران ومحورها في المنطقة، لاسيما أن سوريا الأسد كانت تشكِّل الحلقة الرئيسية فيه، وهي التي سمحت لحزب الله، كما يؤكد، بمراكمة ترسانته من الأسلحة الثقيلة، وربطت طهران ببيروت.
تبدو إسرائيل كأنها تطلب الشيء ونقيضه، ولا يمكن الجزم بموقفها على المدى البعيد والنهائي: ما إذا كانت ستقبل بالحكم الجديد في سوريا أم أنها ستحاربه. وقطعًا تبدو الحكومة الإسرائيلية الحالية غير جاهزة لاتخاذ قرار بهذا الصدد.
على صعيد إقليمي أوسع، لا يخلو الموقف الإسرائيلي من استهداف لتركيا، لاسيما أنها الراعي الأساسي للحكم الجديد في دمشق، وقد حالت إسرائيل سابقًا دون أن يكون لتركيا قواعد عسكرية أساسية في سوريا. لذلك، لن تكتفي إسرائيل بإضعاف إيران في الإقليم، بل ستسعى لإضعاف تركيا أيضًا وستعمل ضد سياسات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على وجه التحديد في المنطقة، لأنها تعده خصمًا لها. وقد أعلن هو مرارًا رفضه لسياسات إسرائيل وحكومتها المتطرفة. يمكن فهم ذلك باعتباره جزءًا من سياق الحرب على غزة، لأن إسرائيل تسعى لاستعادة قوة الردع على مستوى الإقليم بعدما تصدعت داخليًّا جرَّاء عملية "طوفان الأقصى". وعلى الأغلب يستمر نتنياهو في المرواحة بين الجبهات لتصدير أزماته للخارج، لأن الخروج من حالة الحرب دون أن يحقق إنجازات كبيرة أو أن يحظى بضمانات تحول دون إسقاط حكومته، سيعرِّضه للمساءلة والمحاكمة، وستنهي مسيرته الشخصية والسياسية معًا.
اتجاهات
هناك ثلاثة مفاتيح تسهم في تحديد وجهة التطورات الحالية في السويداء وفي عموم سوريا.
أولًا: لا شك أن العامل الإسرائيلي في مقدمة العوامل المؤثرة سلبيًّا في سوريا. كلما انحسر تدخل إسرائيل في سوريا فإن أملها في التعافي سيتحسن، وكلما زاد تدخلها فيها فإن انفجار الأوضاع وفرص انقسام سوريا أرضًا وشعبًا يتعزز. وما دامت الحرب في غزة مستمرة، وعودتها إلى لبنان محتملة، فإن تداعيات ذلك على سوريا مستمرة. ويمكن الاستنتاج بسهولة أن الحكم الجديد في سوريا لا يعتبر الحكومة الإسرائيلية الحالية مؤهلة لأي اتفاق جدي لأنها حكومة حرب، ولن تلتزم بأي اتفاق معه.
ثانيًا: اتجاه علاقة سوريا مع الولايات المتحدة الأميركية، فهي تنعكس على سوريا سلبيًّا وإيجابيًّا، سواء على موقع سوريا الإقليمي أو دورها في عملية السلام أو الترتيبات الأمنية مع إسرائيل. يحرص الرئيس الأميركي دونالد ترامب على مراكمة إنجازاته، وتعد سوريا الجديدة من أهمها، فقد عادت للتقارب مع الخليج العربي، وهي لا تمانع الانخراط في عملية سلام عربية.
ثالثًا: سياسات الحكومة السورية، سواء على صعيد إداراتها أو في علاقتها بمواطنيها بمختلف انتماءاتهم الطائفية والسياسية. فقد أعطت الحكومة السورية الأولوية لرفع العقوبات وتأمين العلاقة مع الجوار، وحظيت بمساعدة متفاوتة من تركيا ودول الخليج بوجه خاص وتجاوبت معها واشنطن. فمصلحة هؤلاء جميعًا تقتضي وحدة سوريا واستقرارها. لكن على الصعيد الداخلي، يواجه الحكم الجديد تحديات صعبة، أهمها ما يسمى "ملف الأقليات" وبسط سلطة الدولة على كامل الأراضي السورية، وإعادة توحيد أجهزة الدولة العسكرية والأمنية وضبطها. فضلًا عن ذلك، أسهم تأخر تعافي سوريا اقتصاديًّا، مع وجود شكوك لدى فئات من الشعب السوري وبعض الدول بشأن خلفية الحكم الجديد ونواياه، في عدم تحقيق إنجاز كبير على هذا الصعيد. وهذه الشكوك تبرز كلما واجهت دمشق صعوبات أو ضعفت أمام استحقاق، فقد واجه الحكم الجديد مثلًا عند بسط سلطته على دمشق أسئلة حول تطبيقه للشريعة وإبعاده للمتطرفين والمقاتلين الأجانب.
رابعًا: الموقف العربي والتركي، وقد صدر على هذا الصعيد بيان مشترك عن دول الخليج، إضافة إلى مصر ولبنان وتركيا، أكدت فيه رفضها كل التدخلات الخارجية في سوريا. ولا شك أن تعاضد مواقف هذه الدول إضافة إلى الأردن، المحاذي للجنوب السوري، سيعزز من مناعة سوريا وقوتها؛ لأن هذه الدول تتشارك النفوذ والتأثير في سوريا بمستويات متفاوتة. مع العلم بأن الأردن أدى دورًا أساسيًّا في التوصل لوقف إطلاق النار في السويداء.
خاتمة
يمكن لأحداث السويداء أن تُفهم في سياق الأحداث الطائفية المؤسفة في منطقة المشرق، خاصة عند غياب الدولة أو ضعفها مع تغول الجماعات الطائفية وترسخ خطابها. وبالنظر إلى السياق الحالي، فإن سوريا والدول العربية المعنية تملك القدرة على التعامل معها وتجاوزها، خاصة إذا كان هناك إجماع عربي على حلها، كما تبدو عليه الحال في الأزمة الراهنة. إلا أن التدخل الإسرائيلي من شأنه أن يخرجها عن إطارها الطائفي المحلي ليربطها بترتيبات المنطقة ونظامها الإقليمي. وقد يفتح هذا التدخل على المدى المتوسط على تدخلات أكبر للمسِّ بالحدود، خاصة في سوريا ولبنان، بهدف توسيع نفوذ إسرائيل المباشر في منطقة المشرق العربي.
هذا لا ينفي أن إسرائيل تواجه معضلة بهذا الخصوص، لأن تغيير المعادلة في سوريا سينعكس تغييرًا في معادلة المنطقة برمتها. وقد يزيد ذلك من الإضرار بإسرائيل بدلًا من زيادة مكاسبها. إن انسحاب الجيش السوري من السويداء قد يكون ألحق ضررًا كبيرًا بسمعة الحكم الجديد، وقد يؤثر على إدارته السياسية والأمنية في دمشق، وسينعكس على محاولات توحيد سوريا ومن أهمها المفاوضات مع "قسد". لكن إضعاف النظام الجديد بقدر ما يؤثر على استقرار سوريا فإنه يؤثر على استقرار المنطقة، سواء على المدى القصير أو المتوسط والبعيد. فعدم الاستقرار سيضعف قدرة النظام على ضبط الحدود وقد تصبح سوريا فريسة للفوضى، وفي كلتا الحالتين ستزيد احتمالات عودة الفاعلين الإقليميين إلى سوريا، ومنهم إيران والجماعات المسلحة، وهو الأمر الذي تحذره إسرائيل.
إن كانت إسرائيل تريد المضي في إستراتيجية إضعاف سوريا وبنفس الوقت تريد من السلطة السورية الإمساك بحدودها، فإنها تطلب أمرًا بعيد المنال إلا إذا كانت ستمضي بحروبها إلى النهاية لإخضاع عموم الإقليم وكل الفاعلين فيه.