
عقد مجلس الوزراء اللبناني يوم 5 أغسطس/آب 2025، جلسة برئاسة رئيس الجمهورية جوزاف عون، كان أبرز بنود جدول أعمالها ملف "حصر السلاح"، في إشارة مباشرة إلى سلاح حزب الله. وقد امتدت الجلسة على مدى خمس ساعات، انسحب خلالها وزيرا "الثنائي الشيعي" (حزب الله وحركة أمل)، إلا أن ذلك لم يحل دون صدور قرار رسمي يقضي بـ"حصر السلاح" بيد الدولة اللبنانية وأجهزتها الأمنية، مع تحديد جدول زمني واضح لتنفيذه. وحدّدت الحكومة نهاية العام الجاري 2025 موعدًا نهائيًا لإنجاز هذا المسار، على أن يتولى الجيش اللبناني إعداد خطة تنفيذية ترفع إلى الحكومة في نهاية أغسطس/آب الحالي لدراستها وإقرارها. وقد رفض الثنائي هذا القرار، واعتبره حزب الله "غيرَ ميثاقي" رغم مشاركة أحد الوزراء الشيعة في الجلسة، وهو فادي مكي.
وأقرت الحكومة في جلسة ثانية يوم 7 أغسطس/آب 2025، أهداف الورقة الأميركية المقترحة "لضمان ديمومة وقف الأعمال العدائية"، دون مناقشة بقية بنودها عن آليات تنفيذها، بانتظار أن تتسلم الحكومة تقرير الجيش اللبناني حول الخطة التنفيذية المتعلقة بهذا الشأن. وقد انسحب كل الوزراء الشيعة من الجلسة قبل موافقة مجلس الوزراء على الورقة، وقد رفضها الثنائي أمل وحزب الله واعتبراها أيضا "غير ميثاقية"، خاصة وقد انسحب منها كل وزراء المكون الشيعي.
"تهدف" الورقة الأميركية أو ورقة المبعوث الأميركي توم باراك، إلى "ضمان ديمومة" اتفاق وقف الأعمال العدائية بين لبنان وإسرائيل، الذي دخل حيز التنفيذ في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024. تتضمّن الورقة أهدافا وآلية بجدول زمني للطرف اللبناني لنزع سلاح الحزب بالاعتماد على اتفاق الطائف اللبناني وعلى القرار الأممي 1701 الذي أنهى الأعمال القتالية بعد حرب 2006. كما تتضمن خطوات أخرى يُفترض أن تلتزم بها إسرائيل، مثل انسحابها من النقاط الخمس التي لا تزال تحتلها، ووقف الانتهاكات البرية والجوية، إضافة إلى بنود أخرى تتعلق بمساعدة المجتمع الدولي وأصدقاء للبنان، مثل ترسيم الحدود ودعم لبنان وقواه العسكرية والأمنية.
يهدف هذا التعليق، إلى توصيف وظيفة سلاح حزب الله ومآله بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، وذلك من خلال الإجابة على أربعة أسئلة أساسية: ماذا يعني القرار الحكومي اللبناني الأخير بخصوصه؟ ما هو سياقه؟ وماذا يريد حزب الله من معادلة السلاح؟ وكيف يسعى للحفاظ عليها؟ إضافة إلى تداعيات هذه المسألة على المستقبل اللبناني.
سياق القرار وماذا يعني
جاء قرار مجلس الوزراء اللبناني بحصر السلاح في يد الدولة في ظل سياق داخلي وإقليمي ضاغط، لا سيما من الجانب الأميركي. فقد كشفت وكالة رويترز في تقريرها الصادر في 29 يوليو/تموز 2025، أن واشنطن اشترطت صدور قرار رسمي من مجلس الوزراء اللبناني يتعهد بنزع سلاح حزب الله، كشرط مسبق لاستئناف أي مفاوضات أو جهود وساطة جديدة تقوم بها واشنطن بين لبنان وإسرائيل. وبدا أن الحكومة اللبنانية سارعت إلى إصدار هذا القرار تفاديًا لعزلة سياسية ودبلوماسية، مع الإبقاء على مسار المطالبة بتنفيذ بقية بنود اتفاق وقف الأعمال العدائية من الجانب الإسرائيلي، عبر القنوات الدبلوماسية والوساطة الأميركية.
ويؤكد القرار في مدلوله المباشر، أن الدولة اللبنانية اختارت المضي في مسار "حصر السلاح" بأجهزتها الرسمية، مع مراعاة حسابات الداخل والخارج على حدٍّ سواء. فالجدول الزمني الذي حُدد لنهاية العام 2025 يعكس إدراكًا بأن تنفيذ القرار لا يمكن أن يتم من دون الحد الأدنى من التنسيق مع حزب الله، الفاعل العسكري الأقوى على الساحة اللبنانية، والذي لا تزال بنيته العسكرية والأمنية والشعبية متماسكة. ففرض القرار بالقوة دون تفاهم مع الحزب، قد يفتح على فوضى أمنية تهدد استقرار البلاد.
رغم أن توقيت القرار يعكس استجابة للضغط الأميركي، فإن المهلة الممنوحة حتى نهاية العام 2025، وإقرار أهداف الورقة الأميركية دون مناقشة بقية الآليات الواردة فيها، تترك نافذة مفتوحة أمام حزب الله للتأقلم مع القرار، أو محاولة التأثير في مساره ومضامينه، انسجامًا مع ما قد تفرزه التطورات الإقليمية من تغيرات.
كما أخذ القرار بالحسبان الواقعَ الإقليمي، لا سيما أن إيران -الداعم الأساسي لحزب الله- ما تزال تحتفظ بقدرة نسبية على التأثير في ملفات الإقليم، رغم الأضرار التي لحقت بها خلال حرب 12 يومًا الأخيرة. وتشير تصريحات بعض المسؤولين الإيرانيين بوضوح، إلى اعتماد طهران استراتيجية ترميم نفوذها الإقليمي، بالتوازي مع التزامها بمسار التفاوض مع واشنطن حول ملفها النووي. وإذا ما أفضت تلك المفاوضات إلى نتائج إيجابية، فقد تكون لها انعكاسات مباشرة على وضع حزب الله في لبنان وموقعه في المشهد السياسي وفي معادلة الحكم.
كما تتيح هذه المهلة فرصة إضافية للقوى الإقليمية للتأثير في المشهد السياسي اللبناني، لا سيما أن بعض الأطراف تتوقع أن تشكل الانتخابات النيابية المقبلة، المقررة في مايو/أيار 2026، محطة مفصلية لإحداث تغيير في توازنات القوى السياسية اللبنانية، وإضعاف نفوذ حزب الله داخل مؤسسات الدولة. وإذا ما تعزز هذا الاحتمال، فإنه من المرجح أن يتزايد التدخل الخارجي عقب هذا القرار الحكومي، سعياً للتأثير في مسار الانتخابات وفي موقع القوى السياسية ضمن النظام اللبناني. ولا يُستبعد في هذا السياق أن تقدم إسرائيل على استهداف "بيئة" حزب الله في الضاحية الجنوبية والجنوب والبقاع، باعتبارها الحاضنة الاجتماعية والسياسية للحزب، إذا ما رفض الحزب الاستجابة لقرار تسليم سلاحه.
ماذا يريد حزب الله
قوبل قرار الحكومة اللبنانية بحصر السلاح برفض صريح من حزب الله، عبّر عنه بمزيج من التصعيد الشعبي المحسوب والمواقف السياسية المباشرة. فبالتزامن مع انعقاد الجلسة الأولى لمجلس الوزراء، ألقى نعيم قاسم، نائب الأمين العام للحزب، كلمة خلال فعالية إحياء ذكرى اللواء محمد سعيد إزدي (الحاج رمضان)، المسؤول عن ملف فلسطين في قوة القدس التابعة للحرس الثوري الإيراني، أكد فيها أن "المقاومة جزء من دستور الطائف"، مشدداً على أن مسألة السلاح "لا تُناقش بالتصويت". وبعد صدور القرار، أصدر الحزب بياناً رسمياً اعتبر فيه أن القرار "كأنه غير موجود"، وأكد في الوقت نفسه على الانفتاح على الحوار، في إشارة ضمنية إلى الرغبة في إبقاء هامش للتفاوض وتفادي مواجهة مباشرة مع الدولة. وبعد الجلسة الثانية خرجت مظاهرات كبيرة ولكن منضبطة جدا، في مناطق نفوذ حزب الله وحركة أمل.
ورغم هذا الموقف، لا يبدو أن حزب الله في موقع يتيح له رفض القرار بالقوة أو الدخول في مواجهة مفتوحة، لا داخلياً ولا إقليمياً. في المقابل، فإن الجدول الزمني الذي وضعته الحكومة لتسليم السلاح، والمحدد بنهاية العام 2025، يُضيق هامش المناورة أمام الحزب، ويضعه في موقف حرج، خاصة أنه لا يزال يرفض أي صيغة تطرح "نزع السلاح" خارج إطار ما يسميه "الاستراتيجية الدفاعية" أو "استراتيجية الأمن الوطني"، التي يفترض أن يُتفق عليها على مستوى الدولة، بما يحفظ للحزب دوره العسكري في مواجهة إسرائيل، أو على الأقل يضمن ربط مسألة السلاح بملف الدفاع الوطني.
ويرفض الحزب مناقشة "الورقة الأميركية" المقترحة، معتبراً أنها تتعدى اتفاق وقف إطلاق النار الموقع عام 2006، والقرار 1701 المشار إليه في اتفاق وقف الأعمال العدائية الأخير، الذي -كما يؤكد الحزب- ينص فقط على تسليم سلاحه في جنوب لبنان وجنوب نهر الليطاني، أما شمال الليطاني فهذا شأن لبناني. ويؤكد أنه نفّذ ما طُلب منه وفق هذا الاتفاق، في حين لم تلتزم إسرائيل بأي من التزاماتها، حيث لا تزال تحتل خمسة مواقع حدودية جنوبي البلاد، كان يُفترض أن تنسحب منها خلال 60 يوماً من بدء تنفيذ الاتفاق. كما لا تزال تواصل الانتهاكات المتكررة، وتنفذ عمليات اغتيال عبر طائرات مسيّرة تستهدف ما تعتبرهم عناصر من حزب الله، في مناطق عدة من لبنان، بما فيها العاصمة بيروت. ويذهب نعيم قاسم أبعد من ذلك، ويرى أن إسرائيل ندمت على هذا الاتفاق بعد تغيّر المعادلات الإقليمية، خصوصاً بعد تطورات المشهد السوري، وتسعى اليوم إلى إعادة صياغته بما يخدم مصالحها، رغم أنها لم تلتزم به أصلًا.
في المدى القصير، يبدو أن حزب الله يسعى إلى كسب الوقت قدر الإمكان، مستفيدًا من واقع إقليمي هش ومفتوح على التحولات، في محاولة لتأجيل أي استحقاق حاسم يتعلق بسلاحه. فالجدول الزمني الذي حددته الحكومة اللبنانية، يُعد عامل ضغط سياسي، لكنه لا يعكس ميزان قوى فعليًا يُمكّن الدولة من فرض القرار على الحزب دون تفاهم أو تسوية معه.
أضف إلى ذلك أن أوضاع الإقليم لم تستقر بعد، وقد تمنح حزب الله هامشا للمناورة. فحرب غزة لم تنتهِ بعد، ولا تزال تُشغل إسرائيل وحلفاءها. والوضع الجديد في سوريا لا يزال هشًّا ومفتوحًا على سيناريوهات قد تصب في مصلحة الحزب. أما إيران، ورغم تراجع حضورها في بعض الساحات، فإنها لم تغادر الإقليم، وتسعى حاليًا إلى ترميم نفوذها من خلال أدوات دبلوماسية وأمنية، وهذا يشمل حزب الله بالضرورة.
بعبارة أشمل، لم يُغلق بعدُ قوس تداعيات "طوفان الأقصى" في الإقليم، ويخشى حزب الله أن يكون لبنان، ومن بوابة تسليم سلاحه تحديدًا، نقطة الانطلاق لإعادة ترتيب موازين القوى في المنطقة. لذلك، يبدو حريصًا على إبقاء الصراع السياسي عبر الحوار وضمن الإطار المؤسساتي، مع السعي لحماية موقعه ومكتسباته العسكرية قدر الإمكان، ريثما تتغير المعادلات.
على الأمد الأبعد، يريد حزب الله، إذا ما اضطر إلى تسليم سلاحه، أن يحصره بشكل أساسي في تسليم السلاح الثقيل والهجومي منه، مثل الصواريخ الدقيقة والمسيرات النوعية، مقابل الاحتفاظ بقدرة ردع محدودة، تكفل له البقاء كقوة عسكرية كامنة يمكن استدعاؤها إذا ما تغيرت الظروف. في هذا السياق، نقف على بعدين في خطاب الحزب: بعد أول يستحضر دور "المقاومة" في حماية لبنان من التهديدات الإسرائيلية و"التيارات التكفيرية"، ويؤطر السلاح كضرورة وطنية. وبعد آخر يركز على كون الشيعة أقلية إقليمية مهددة، وأنها تخشى -مثل بقية الأقليات- ما قد ينعكس عليها أو يستهدفها من أخطار، مستندا إلى تجارب العشرية الماضية التي تمددت فيها "التنظيمات المتشددة" في المنطقة. وساعده على تعزيز هذا الخطاب، أحداث الساحل والسويداء في سوريا الجديدة. ويدرك حزب الله أن هذا البعد، قد يسهم في تأجيج الخطاب المذهبي واستحضار تاريخ الانقسامات الإسلامية في لبنان والمنطقة، لكن هذا الخطاب بالمنطق الطائفي اللبناني والإقليمي، يوفر غطاء لسلاح الحزب بوصفه "درعًا وجوديًا".
في المحصلة، يسعى حزب الله إلى الإبقاء على معادلة سلاحه حاضرة في الكيان اللبناني، وإذا اضطر إلى تقديم تنازلات بخصوص حجمه أو نوعه أو بعضه، فهو يدرك أن الظروف قد تتغير مجددًا، وأن قدرته على إعادة تفعيل قوته العسكرية والسياسية مشروطة بمرونة التموضع لا بالتخلي الكامل. وفي ظل استمرار موقعه العقائدي المتقدم داخل استراتيجية إيران الإقليمية، حتى وإن تراجع الاعتماد على أدائه العسكري في الوقت الراهن، فإن الحزب يعمل على ضمان بقائه كفاعل حاضر، وإن بصيغة دفاعية مؤقتة، لا تلغي إمكانية النهوض مجددًا.
ولا يمكن إنكار أن مقاربة حزب الله للسلاح كضمانة لوجود الطائفة الشيعية في لبنان آخذة في التوسّع، بغضّ النظر عن مدى وجاهة هذا التصوّر أو دقّته. فالحزب لا يضع نفسه في معادلة إسلامية حزبية مثل بقية التيارات الإسلامية، بل تزايد -منذ تأسيسه في الثمانينيات- وعيه بهويته المذهبية الشيعية وبخصوصيات محيطه اللبناني. من هذا المنطلق، يسعى إلى ترسيخ معادلة لا تعتبر السلاح فقط أداة مقاومة أو نفوذ، بل ضمانة وجودية للطائفة الشيعية، وبالتالي ضمانة لاستمراريته السياسية والعقائدية. وهو في ذلك يسهم -عن وعي أو تصميم- في بلورة "شيعية سياسية لبنانية جديدة"، يحاول أن يُدمج نفسه في بنيتها، وأن يكون أحد مؤسسيها داخل الكيان اللبناني.
ملامح المستقبل
يرى حزب الله أنه لا يمكن الركون إلى مطالب إسرائيل المعلنة بأنها تريد نزع سلاحه وحسب، إذ لا ضمانة في حال "ضعف لبنان" بتسليم الحزب لسلاحه، أنها لن تقدم على الاقتطاع من أرضه أو تستمر في استهدافها للجنوبيين وغيرهم. ويخشى الحزب من تغير الظروف في سوريا ومن الحكم الجديد هناك، لاسيما أنه لعب دورا في الحرب السورية إلى جانب الرئيس السابق المخلوع بشار الأسد، وهي الحرب التي شهدت أهوالا استثنائية في تاريخ سوريا الحديث. وهذا يعني بالحد الأدنى تمسك الحزب بسلاح دفاعي، مع قبوله بضمانات لإسرائيل بعدم الهجوم عليها، وهو ما ترفضه إسرائيل راهنا وبشكل قاطع.
بالمقابل، فإن تجربة الداخل اللبناني مع سلاح حزب الله لم تكن جيدة، وكان جزءا أساسيا من أزمات لبنان وخلافاته، خاصة منذ مقتل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري عام 2005. وهناك رفض من كل المكونات اللبنانية الأخرى له، في مقابل تمسك "شيعي" به.
وبعد الحرب الأخيرة، استطاعت إسرائيل أن تحوّل "السلاح" إلى عبء على لبنان وعلى كافة الطوائف والقوى اللبنانية الأخرى، حتى إن بعض حلفاء حزب الله السابقين، مثل التيار الوطني الحر، أصبحوا مع تسليم السلاح. ويبدو أن إسرائيل تريد من استهدافها لبيئة حزب الله وطائفته أن تجعله عبئا عليها.
ومن الواضح أن لا رغبة لدى الدول العربية، خاصة الخليجية، في استمرار سلاح حزب الله في المشهد السياسي اللبناني. وقد عزز من هذا الموقف، دورُ الحزب في الإقليم خلال فترة التمدد الإيراني، وليس واردا أن تقدم هذه الدول دعما كافيا للبنان للخروج من أزماته المالية والسياسية فضلا عن إعادة البناء، ما لم يتخذ لبنان موقفا حاسما بهذا الخصوص.
يتمثل المأزق اللبناني من جهة؛ في كيفية تحقيق الأمن والسيادة، خاصة في الجنوب، مع نزع سلاح حزب الله، ومن جهة ثانية، في مدى إمكانية نزع سلاح الحزب دون التزام إسرائيل باتفاق وقف إطلاق النار والانسحاب من جنوب لبنان، وضمان عدم اعتدائها عليه. كما يتمثل من جهة ثالثة، في مدى إمكانية استيعاب حزب الله وسلاحه في الداخل اللبناني دون الانخراط في مواجهات داخلية، أو خسارة الاحتضان العربي، لاسيما أن لبنان بحاجة ماسة للدعم، خاصة بعد انهياره المالي عام 2019.
تضع هذه التحديات -بخصوص السلاح وفي سياق المواجهة مع إسرائيل- لبنان أمام عدة احتمالات، ثلاثة منها أقرب إلى السياق الراهن:
الأول- الاستمرار في الحالة الراهنة، أي بقاء سلاح حزب الله، وبقاء إسرائيل في النقاط الخمس داخل الأراضي اللبنانية وانتهاك الأراضي اللبنانية متى دعت الحاجة لذلك وفق تقديرها، والاستمرار في استهداف أي خطر تقدره داخل الأراضي اللبنانية. ويبدو ذلك مرجحا على المدى القريب، خاصة إذا تأخر الحوار الإيراني الأميركي.
الثاني- أن تعود إسرائيل للتصعيد مرة أخرى لتفرض على لبنان عموما وعلى حزب الله خصوصا، القبول بكل شروطها أو أهمها، خاصة تلك المتعلقة بنزع سلاحه، إضافة إلى فرض ترتيبات أمنية سواء في سياق ترسيم الحدود بين البلدين أو بمعزل عنها. وهذا الاحتمال يعتمد إلى حد كبير على تطورات الإقليم، خاصة إذا ما تراجع دور إيران أو تعرضت لانتكاسة عسكرية أو سياسية جديدة.
الثالث- يجمع بعضا من الأول وبعضا من الثاني، للوصول إلى تسوية تحدّ من حجم سلاح حزب الله وقوته، وتحديدا فيما يتعلق بالمسيرات والصواريخ، خاصة إذا ما تعزز بترتيبات أمنية. حينها قد تنفك بعض مفاعيل أزمة لبنان عن المواجهة مع إسرائيل، وقد تستمر أزمات لبنان الداخلية مع تحجيم دور حزب الله "المقاوم"، واستمرار سلاحه بالداخل بانتظار التوصل إلى تسوية داخلية بين القوى اللبنانية. هذا الاحتمال يشبه أزمات لبنان التقليدية، وهو مرجح إذا تعافى حزب الله، واستطاع الصمود في مواجهة الضغوط الخارجية، خاصة إذا دخلت الولايات المتحدة أجواء انتخابات الكونغرس النصفية.
خاتمة
تقوم المقاربة الإسرائيلية لمسألة سلاح حزب الله على أساس أن اللحظة الراهنة تمثل فرصة استراتيجية "لاقتناص هزيمته"، انطلاقًا من قناعة بأن قدراته العسكرية قد استُنزفت إلى حدّ كبير، وأن التفوق التكنولوجي الإسرائيلي لا يزال حاسمًا، وأن الحزب غير قادر على استعادة توازنه أو بناء قدرة ردع فاعلة في المدى المنظور. بناءً عليه، تطرح إسرائيل شروطًا قصوى لنزع سلاح حزب الله، دون تقديم أي ضمانات مقابلة للدولة اللبنانية، بل ترفض صراحة مبدأ "الخطوة مقابل خطوة" الذي يطالب به لبنان.
تُعدّ المقاربة الأميركية الأكثرَ تأثيرًا في ملف سلاح حزب الله، إذ تتوافق في أقصى أهدافها مع الرؤية الإسرائيلية، لكنها تفترق عنها تبعًا لاعتبارات الواقع وتوازناته. ويمكن القول إن الحد الأدنى الذي قد تقبل به واشنطن، إذا تعذّر على إسرائيل فرض مقاربتها، هو حرمان حزب الله من القدرات العسكرية التي تمكّنه من مهاجمة أو تهديد إسرائيل، وإضعاف هيمنته على القرارين السياسي والأمني في لبنان، وحصرُ تمثيله وتطلعاته في نطاق طائفته وحقوقها ضمن الإطار اللبناني.
في المقابل، لا يقرّ حزب الله بالهزيمة الكاملة، وإن كان يعترف بتعرّضه لانتكاسة. فهو يؤكد أنه ما زال يمتلك القدرة على ردع إسرائيل إذا فكّرت في اجتياح لبنان، مشددًا على أن تل أبيب لا ترغب في حرب واسعة، لما قد تسببه من كلفة باهظة ولعدم توافقها مع مصالحها. ومن هذا المنطلق، يدعو الحزب إلى الصمود، مستندًا داخليًا إلى حاضنته "المذهبية" وموقعها في البنية الطائفية اللبنانية بشكل خاص، وإلى "جمهور المقاومة" بشكل عام، وإقليميًا إلى استمرار الدعم الإيراني، في مسعى لاستعادة توازنه وترميم موقعه وتغيير المعادلة تدريجيًا، على المستوى المحلي وفي مواجهة إسرائيل.
مع ذلك، لا يمتلك الحزب القدرة على قلب المعادلة أو التمسك المطلق بسلاحه في وجه الضغوط، أو في مواجهة الدولة اللبنانية، دون أن يُعرّض البلاد لانهيار داخلي أو فوضى محتملة. لذلك، فإن أي مكسب تحققه الدولة اللبنانية على هذا الصعيد، سيُنظر إليه من وجهة نظر لحزب الله، أو بصورة أوضح من وجهة نظر رئيس مجلس النواب نبيه بري، الحليف الأساسي للحزب، كخطوة لبنانية يجب أن تُقابلها إسرائيل بخطوة مماثلة، بغض النظر عن المآلات النهائية. فميزان القوة هو العامل الحاسم في هذا المسار: إما تنازل لبناني تدريجي بلا مقابل، أو تقدم لبناني تُقابله خطوة -وربما خطوات- إسرائيلية، وفقًا لمعادلة القوة بين حزب الله وإسرائيل.