
يعيش العراق حالة انتظار لما يمكن أن تقود إليه الأوضاع المتوترة في المنطقة، وحصة العراق من التغييرات المحتملة في الوضع الجيوسياسي في المنطقة واحتمالات استئناف الحرب بين إيران وإسرائيل بشكل أكبر وأكثر قوة وامتدادًا.
توزعت قناعات العراقيين خلال موجات الأحداث منذ (طوفان الأقصى) على أقل تقدير بين تيارين رئيسين: تيار يرى فيما حدث مؤامرة أميركية-إسرائيلية ضد (محور المقاومة) الذي تقوده إيران، وهو جزء من تداعيات الحرب على غزة، وامتداد لأهدافها، وتيار آخر يرى فيما حدث (فرصة) لتصحيح أوضاع يعتقد أنها كانت انحرافًا تاريخيًّا في مقادير العراق ومصائر أهله، تسبب بها الغزو الأميركي والنفوذ الإيراني الذي تلاه، ووقوع العراق فريسة للإرهاب و(الميليشيات) المسلحة.
بين التيارين فارق شاسع، وأحيانًا صراع مختبئ خلف القناعات المعلنة والأمنيات، لكنه لم يتسبب بصراع مباشر أو انهيار أمني أو حوادث عنف بين أصحاب المواقف المتضادة، رغم أن ذلك يمكن أن يتغير في حال بلغت صراعات المنطقة مرحلة حاسمة.
واشنطن بين انسحاب وتدخل بالتفاصيل
في الحادي والعشرين من أغسطس/آب 2025، بدأت القوات الأميركية الانسحاب من قاعدة عين الأسد غربي العراق، واستكملت الانسحاب قبل نهاية الشهر ذاته. يتواجد في القاعدة نحو 2000 جندي أميركي، وهي أكبر ثلاث قواعد يتواجد فيها الأميركيون إلى جانب قاعدة (النصر) في مطار بغداد، وقاعدة حرير في أربيل. هذا الانسحاب جرى تنفيذًا لاتفاق مع الحكومة العراقية يعود إلى سبتمبر/أيلول 2024، ويقضي بانتهاء مهمة القوات الأميركية لدعم العراق في مواجهة تنظيم داعش أو ما يُعرف بعملية (العزم الصلب)، وأن تتحول العلاقة بين بغداد وواشنطن إلى علاقة أمنية ثنائية تقليدية.
عمليات الإخلاء شملت قاعدة النصر في مطار بغداد وكذلك مقر قيادة العلميات المشتركة في المنطقة الخضراء، وقد انتقل جزء من القوات الأميركية إلى قاعدة حرير في أربيل حسب الاتفاق فيما غادر الجزء الآخر الذي يتجاوز الحد المسموح به من الجنود والمعدات إلى خارج الأراضي العراقية ومنها سوريا. وحسب الاتفاق، ستغادر القوات الأميركية جميع الأرضي العراقية ومنها أربيل مع نهاية العام القادم، 2026.
كان من المقرر أن يكون هذا الإخلاء المتوقع طبيعيًّا ولا يثير أي التباس أو تكهنات، وربما مخاوف، لكن سياقه الإقليمي والمحلي، وانخراط الولايات المتحدة في الأحداث الراهنة في المنطقة، أكسب هذا التطور بُعدًا مختلفًا، قد لا يكون حقيقيًّا، لكنه مهم لاسيما أن الانسحاب الأميركي كان سريعًا وسبق الموعد المحدد حسب الاتفاق، في الخامس عشر من سبتمبر/أيلول بنحو أسبوعين.
أبرز التكهنات التي شاعت حول الانسحاب الأميركي أنه قد يكون جزءًا من التحضيرات الأميركية لبدء هجمات جديدة ضد إيران، وأنه -أي الانسحاب- يستهدف حرمان الفصائل الحليفة لإيران في العراق من ميزة وجود أهداف محتملة تقوم بقصفها ضمن حملة عسكرية مشتركة مع إيران. ورغم أنه لم يصدر من الولايات المتحدة أو من الفصائل العراقية أي تلميح يمكن أن يقود إلى مثل هذا التحليل، إلا أن طبيعة الظروف المحيطة، ومنها التدخل الأميركي المباشر في سياسات داخلية عراقية، جعلت الانسحابات الأميركية المجدولة جزءًا من الجدل الراهن في العراق المتعلق بدوره ومصيره في الصراع المتصاعد في المنطقة.
تَمَثَّل هذا التدخل بموقف مباشر من واشنطن لمنع البرلمان العراقي من إقرار (قانون الحشد الشعبي). وقد كان من المحرج لبغداد أن الضغط كان علنيًّا خلال مكالمة هاتفية جرت، في 22 يوليو/تموز 2025، بين وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، ورئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، حاول فيه الأخير توضيح (أهمية) القانون لتنظيم الحشد وضبطه عسكريًّا، إلا أن روبيو أصرَّ على أن مشروع قانون "قوات الحشد الشعبي" "سيُرسِّخ نفوذ إيران والجماعات الإرهابية المسلحة التي تقوِّض سيادة العراق". أما السفير البريطاني في العراق، عرفان صديق، فقد قال في تصريح متلفز، في 8 أغسطس/آب 2025: إن العراق لم يعد بحاجة لإقرار قانون الحشد الشعبي بعد أن انتهت المهمة التي تأسس الحشد من أجلها، ودافع عن موقف لندن الداعم لواشنطن في معارضة تشريع القانون.
وترى الولايات المتحدة أن الحشد الشعبي يضم عددًا من الفصائل المسلحة التي تضعها واشنطن ضمن لائحة الإرهاب، وتعدها وكيلة لإيران في العراق، وتتهم بعض قادتها بالمسؤولية عن مقتل 3 جنود أميركيين وإصابة العشرات بجروح في قصف تعرضت له قاعدة أميركية في منطقة الركبان شمال شرقي الأردن، في يناير/كانون الثاني 2024. ويركز الموقف الأميركي على علاقات أمنية وسياسية جيدة مع الحكومة العراقية، لكنه يعتبر أن النفوذ الإيراني يشكِّل خطورة على هذه العلاقات، وبشكل خاص الحشد الشعبي الذي تسيطر عليه الفصائل (الولائية) المؤيدة لإيران وتستفيد من موازنتها في دفع مرتبات عناصرها المتوزعين ضمن ألوية خاصة بكل فصيل، فيما تحتفظ باستقلاليتها في عملياتها المسلحة وأنشطتها الأخرى.
رفضت الفصائل العراقية المسلحة ومؤيدوها من السياسيين الضغوط الأميركية على السلطات العراقية، واعتبرت أنه تدخل غير مقبول ينبغي الرد عليه بتسريع البرلمان إصدار القانون والتصويت عليه بعدما استكمل كل مساراته التشريعية، وشهدت الأوساط السياسية والإعلامية في بغداد جدلًا محتدمًا بين المطالبين بالقانون والرافضين له أو الداعين لتأجيله. في نهاية الأمر سحبت حكومة السوداني مشروع القانون من البرلمان بدعوى مراجعته، وأعلنت رئاسة البرلمان أن القانون لن يكون جزءًا من خطة التصويت حتى نهاية الدورة البرلمانية الحالية مع الانتخابات النيابية المقبلة في الحادي عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 2025.
اعتبر مؤيدو المشروع، أن سحبه، لا يعني التخلي عنه بل تأجيل التصويت عليه فحسب إلى مجلس النواب الجديد المقبل، على أمل انتهاء الظروف المتوترة في المنطقة وتراجع الاهتمام الأميركي بالقانون، ويعتقد هؤلاء ومنهم قادة الإطار التنسيقي من الزعامات الشيعية التقليدية، أن (تأجيل) القانون يجنب العراق استعداء الولايات المتحدة في هذا الظرف المتوتر، وأن ذلك يمكن أن يتضمن فرض عقوبات اقتصادية تكون لها آثار فورية على العراق وتهدد عمليًّا بانهيار نظامه الحاكم.
لا يضر (تأجيل) قانون الحشد الشعبي مصالح الفصائل العراقية المسلحة أو أجنداتها، فهي تتمتع بتنظيم وهرم قيادي خاص لا يتبع الدولة العراقية، والجزء الفاعل والقوي منها يعتبر نفسه جزءًا من (محور المقاومة) بقيادة إيران، وفي نفس الوقت فإن عناصرها هم جزء من الحشد الشعبي ويتلقون رواتبهم من موازنة الدولة، إلا أن توجيهاتهم ترد من قياداتهم الفصائلية. هذا الخلط بين ما هو خارج الدولة وما هو جزء منها، عزَّز من اتهام الحشد الشعبي بأنه تشكيل رسمي من جماعات خارج الدولة، تستفيد منه كغطاء قانوني وسياسي دون الالتزام بأوامر قيادته السياسية المتمثلة برئيس الوزراء.
وبغضِّ النظر عما إن كان هذا الخلط يشمل كل عناصر الحشد أم جزءًا منه، فذلك كان سببًا في الإصرار الأميركي على اعتبار أن الحشد يمثل مصالح إيران في العراق، وأن أبرز فصائله وحتى قياداته هي مما يسمى بالعناصر (الولائية) التي أعلنت الولاء العقائدي للمرشد الإيراني الأعلى، السيد علي خامنئي، وتعتبرها الولايات المتحدة منظمات إرهابية.
بين الحياد والانخراط
حاولت حكومة السوداني التعامل مع الحرب على غزة منذ بدايتها بطريقة تقليدية يقف فيها العراق كالعادة مع الشعب الفلسطيني، لكن من دون دعوة أو مشاركة في الفعل العسكري. تصرف السوداني سياسيًّا مثل سائر الدول العربية، واضعًا في حساباته علاقة العراق مع الولايات المتحدة والنفوذ الأمني والاقتصادي القوي لواشنطن على العراق، لكنه في نفس الوقت كان مضطرًّا لعدم الوقوف في خندق معادٍ لإيران التي لها بدورها نفوذ أمني وسياسي مؤثر بقوة في العراق، والأهم في كل ذلك، محاولته السيطرة على الفصائل المسلحة القريبة من إيران، والتي لن تهتم كثيرًا بدواعيه السياسية لو قررت المشاركة في الحرب ضمن (محور المقاومة) ووحدة الساحات.
كان ذلك هو ما حصل بعد بدء الحرب؛ حيث شاركت الفصائل العراقية خلال الحرب على غزة بشنِّ العشرات من عمليات إطلاق الصواريخ والطائرات المسيرة تجاه إسرائيل، وقد تسببت واحدة منها على الأقل في مقتل جنديين إسرائيليين وإصابة 24 بجروح عندما استهدفت موقعًا للواء جولاني في هضبة الجولان المحتلة، في أكتوبر/تشرين الأول 2024، وتبنَّت هذه العمليات جماعة تُدعى "المقاومة الإسلامية في العراق"، وهو تعبير فضفاض ظهر بعد بدء الحرب على غزة، واستخدمته بعض الفصائل العراقية لخلق اضطراب في تحديد ماهية الجهة التي قامت بالقصف. وحسب معهد الحرب الأميركي ومنتدى الشرق الأوسط، فإن هذه الجماعة تضم على الأرجح أربع فصائل أساسية، هي: أنصار الله الأوفياء، وحركة النجباء، وكتائب سيد الشهداء، وكتائب حزب الله.
منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2024، توقفت عمليات الفصائل العراقية ضد إسرائيل من دون إعلان رسمي، وقد تزامن ذلك مع وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله اللبناني. وفي 15 يناير/كانون الثاني 2025، أعلن أمين عام حركة النجباء، أكرم الكعبي، وقف العمليات ضد إسرائيل تزامنًا مع الهدنة المؤقتة بين إسرائيل وحركة حماس، لكن الفصائل العراقية لم تستأنف عملياتها عندما عادت إسرائيل إلى الحرب على غزة بعد انتهاء الهدنة، في مارس/آذار 2025.
بعد أسبوعين من الإعلان عن وقف العمليات ضد إسرائيل، أعلن حزب الله العراقي، في 30 يناير/كانون الثاني 2025، عن تعليق العمليات ضد القوات الأميركية، جاء ذلك إثر الهجوم الدامي ضد قاعدة البرج 22 في الركبان، وذلك بداعي "منع إحراج" الحكومة العراقية.
تسبَّب تعليق العمليات العسكرية للفصائل المسلحة بتخفيف الضغوط على حكومة السوداني، وسمح بدخول العراق في مرحلة التنافس التقليدي الحاد للانتخابات العامة، في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، وزاد في حالة الاسترخاء النسبي عدم مشاركة الفصائل في دعم إيران خلال حرب الـ12 يوم مع إسرائيل. لكن كل ذلك لم يكن كافيًا للثقة في إمكانية تجنيب العراق اعتداءات إسرائيلية محتملة بدواعي الثأر والانتقام أو لتصفية الميليشيات المؤيدة أو الحليفة لإيران كما هو معلن من السياسات الإسرائيلية وحتى الأميركية.
كان على السوداني أن يبذل جهودًا كبيرة مع الفصائل أو مع إيران ذاتها كي يتمكن من تحييد العراق في الصراع بالمنطقة، ويبدو أنه حظي بدعم إيراني لوقف هجمات الفصائل ضد الأهداف الأميركية والإسرائيلية، أو عدم مشاركة إيران حربها الأخيرة ضد إسرائيل، وهو الأمر ذاته الذي حصل مع حزب الله اللبناني، لكن رئيس الوزراء العراقي سيكون مضطرًّا للتعامل من ناحية مع تبعات مشاركة الفصائل في الحرب لأكثر من عام، أو احتمال مشاركتها هذه المرة في صراع جديد محتمل بين إيران وإسرائيل، قال الطرفان: إنها قد تكون قريبة. وما يقلق السوداني بشكل خاص، هو طبيعة المشاركة والأهداف التي يمكن أن تقوم الفصائل العراقية بضربها في عملياتها المحتملة لدعم إيران.
نزع السلاح ونزع الشرعية
راجت دعوات (حصر السلاح بيد الدولة) في البرامج الحكومية في العراق مع حكومة مصطفى الكاظمي الذي تولى منصبه، في مايو/أيار 2020، ثم في حكومة السوداني، في أكتوبر/تشرين الأول 2022، وكلاهما اعتبرا أن حصر السلاح ومنع انتشاره شرط لهيبة الدولة وقوتها.
بطبيعة الحال لم تتمكن أي من الحكومتين من تحقيق هذا الهدف، رغم أن المرجع الشيعي الأعلى، آية الله علي السيستاني، دعا أكثر من مرة إلى (حصر السلاح)، وفي بعض الأحيان كان ممثلو الفصائل المسلحة يرون أن السيستاني لم يكن يعنيهم بدعواته هذه.
واجهت محاولات الكاظمي للسيطرة على الفصائل ردود فعل حادة وصلت إلى حدِّ محاولة اغتياله بطائرة مسيَّرة، ومحاصرة مقره في المنطقة الخضراء، فضلًا عن تحديه العلني والإساءة المستمرة له، وكان السوداني أكثر حظًّا، ربما لأنه تجنب الصدام المباشر مع الفصائل، وفي المرة النادرة التي حدث فيها ذلك، في يوليو/تموز 2025، تعرض لتوبيخ علني ودعوة مباشرة إلى (الحجر) عليه ومنعه من إصدار أي قرار إستراتيجي حتى انتهاء ولايته مع الانتخابات العامة القريبة.
تصر الفصائل المسلحة والأطراف السياسية والإعلامية المؤيدة لها، أنها تمثل حاجزًا عقائديًّا للدفاع عن العراق بوجه الإرهاب، وفي بعض الأحيان كان الجدل يذهب إلى أن الجيش العراقي غير مؤهل لتأدية هذا الدور، على أساس ما حدث في عام 2014 في مواجهة داعش حينما هرب الجيش أمام مئات المسلحين قبل أن يتصدى لهم (الحشد الشعبي) الذي تشكَّل حينها بفتوى المرجعية الشيعية.
هذه السردية هي إحدى السرديات التي ترد بها الفصائل على دعاوى (حصر السلاح)، وهناك من يقول: إن سلاح الفصائل هو لحماية (الشيعة)، في مواجهة الإرهابيين. ويتعمد هذا التيار إطلاق أوصاف الإرهاب على السلطة الجديدة في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، واعتبارها تهديدًا مباشرًا للحكم (الشيعي) في العراق يستوجب وجود سلاح الفصائل لمواجهته. وبطبيعة الحال، هناك فئة ثالثة تستخدم سردية مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة، وقد تراجعت هذه الفئة بشكل واضح منذ جرى تعليق العمليات العسكرية ضد الطرفين، وبكل الحالات، فقد جرى رفض مجرد مناقشة موضوع حصر السلاح.
لم تستخدم الحكومة العراقية عبارة (نزع السلاح) تجنبًا لخلق انطباع سلبي وربما ردود فعل تحرج الحكومة التي لا تريد أو ربما لا تستطيع الرد عليها، لكن استخدام العبارة بشكل واسع ورسمي في لبنان تجاه حزب الله، أشاع استخدامها إعلاميًّا في العراق، وساوى بين الحالتين بوصفهما يتعلقان بسياق واحد، ويشملان حلفاء مترابطين فكريًّا واستخباريًّا وعسكريًّا، ويتعرضون في الوقت ذاته لحملة تصفية تقوم بها الحكومتان في بغداد وبيروت بدفع مباشر وعلني من قبل الولايات المتحدة، لكن ما يميز الحالة العراقية أن مفهوم (نزع السلاح) يشمل بشكل أساسي حل هذه الفصائل تمامًا أو تحويلها إن شاءت إلى أحزاب سياسية بدون أجنحة عسكرية.
حاول السوداني استثمار تورط عناصر مسلحة تنتمي إلى كتائب حزب الله العراقي في حادث مؤسسة حكومية ببغداد ليعزز موقفه بضرورة حل المجموعات خارج الدولة، والإبقاء على الحشد الشعبي وحده بدون سيطرة فصائلية من أي نوع، وكان ربط كتائب حزب الله، وتحديدًا من خلال تسمية الألوية التي تسيطر عليها في الحشد الشعبي، كان ذلك انتقادًا نادرًا، رَدَّ عليه الحزب ببيان قوي قال فيه إنه طالَبَ الإطار التنسيقي بالحَجْر على السوداني ومنعه من اتخاذ أي قرار مهم حتى انتهاء الانتخابات ومغادرته منصبه، مع تلميح واضح بأن هذه الفصائل لن تسمح بتوليه المنصب لولاية ثانية.
كان الحادث المذكور قد أسفر عن مقتل رجل أمن وشخص مدني حينما جرى تبادل إطلاق نار بين القوات الأمنية وعناصر من كتائب حزب الله ينتمون أيضًا للحشد الشعبي قاموا بالسيطرة على مبنى مديرية زراعة بغداد/الكرخ ليمنعوا بالقوة إقالة المدير السابق المقرب من الحزب، والمتهم بمنح قادته أراضي زراعية واسعة في محيط بغداد بعد الاستيلاء عليها من أصحابها.
ومن غير المتوقع أن يقوم السوداني خلال الفترة القصيرة المقبلة حتى الانتخابات بأي محاولات تتعلق بحل الفصائل أو السيطرة على تحركاتها، لاسيما أنه محاط بطائفة واسعة من المعيقات الميدانية والسياسية، لكن هناك تحليلات قوية بأنه ربما يقوم بذلك إن تمكن من تحقيق فوز صريح وواسع في الانتخابات وحصل على ولاية ثانية بقوته النيابية التي يأمل بتحقيقها خلال الانتخابات، وليس بقوة الزعماء الشيعة التقليديين الذين اختاروه من قيادات (الصف الثاني) مرشحَ تسوية، قبل أن يتحولوا لخصوم له بعدما بدأ بمنافستهم على الجمهور الشيعي وحظي بقبول خارجي.
الحرب المحتملة والتداعيات على العراق
ليس معروفًا بشكل دقيق مواقف الفصائل العراقية المسلحة الموالية لإيران، في حال خوض الأخيرة حربًا جديدة مع إسرائيل، فهذه الفصائل لم تفصح عن إستراتيجياتها في مثل هذا الموقف، والجولة السابقة من الحرب لم تشهد أي انخراط لها في الحرب، وهي ما زالت تحافظ على تعليق هجماتها ضد القواعد الأميركية والإسرائيلية منذ بداية العام 2025، لكن الخطاب الإعلامي لهذه الفصائل، مختلف هذه المرة، وفيه إشارات واضحة إلى استهداف محتمل للعراق و(مقاومته)، وهو ما يستوجب منهم الدفاع ضده. ورغم أنه لم يصدر من أي طرف ما يتحدث صراحة عن دعم إيران في حربها المحتملة القادمة، إلا أن بيانًا نادرًا صدر باسم الأمين العام لكتائب حزب الله، أبو حسين الحميداوي، في الخامس عشر من أغسطس/آب 2025، كان يتضمن بشكل مباشر قضيتين: الأولى هي رفض فكرة (نزع سلاح المقاومة)، والثانية الاستعداد لـ(مقاومة المحتلين وردع المعتدين). أبرز ما يمكن ملاحظته حول البيان أنه لم يصدر باسم (كتائب حزب الله) بل باسم أمينها العام، وهو أيضًا صدر بلا مناسبة محددة، ومن دون سوابق كثيرة تجعل منه خطابًا إعلاميًّا متوقعًا وطبيعيًّا. وأخيرًا، فقد صدر بيان الحميداوي بعد بضعة أيام فقط من زيارة الأمين العام لمجلس الأمن القومي الإيراني، علي لاريجاني، إلى بغداد. ولم يكن صعبًا ملاحظة أن حزب الله اللبناني اعتمد بالتزامن نفس النمط من التشدد إزاء دعوات نزع سلاحه بعد زيارة لاريجاني إلى بيروت التي وصلها بعد العراق مباشرة.
هل يمكن الافتراض أن علي لاريجاني كان يحمل معه للحلفاء من الجماعات والفصائل في البلدين إستراتيجية إيران في المواجهة المرتقبة؟ ذلك أمر ممكن، لاسيما أن جولة لاريجاني بحدِّ ذاتها تثير تكهنات كثيرة؛ حيث قام بها بعد نحو أسبوع واحد على تعيينه أمينًا للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، فضلًا عن موقعه كبيرًا لمستشاري المرشد الأعلى، علي خامنئي، وهو ما منحه سلطة جوهرية في تحديد إستراتيجية إيران للمواجهة المقبلة، وسيكون من الصعب إغفال علاقتها بجولته التي شملت العراق ولبنان.
تلك الافتراضات عززها بعد ذلك بأيام رئيس مجلس الشورى الإيراني (البرلمان)، محمد باقر قاليباف، حينما قال أمام المجلس: إن الرد الإيراني في أي مواجهة محتملة سيشمل فضاءات ومجالات جديدة قد تمتد إلى ميادين اقتصادية وسياسية، بما يوسع نطاق أي حرب محتملة إلى مناطق أخرى. ويعتقد مركز كارنيغي للشرق الأوسط أن (إحياء محور المقاومة) هو أحد المسارات التي يمكن أن تنتهجها إيران في حال تجدد الحرب.
ولا يبتعد هذا الافتراض عن الواقعية، فمن ناحية ما زال هذا المحور يحتفظ بقدراته العسكرية التي قد تكون مؤثرة، وسيكون من غير المفهوم عدم استخدام كل هذه القدرات في حال نشوب حرب جديدة تستهدف مستقبل النظام ذاته في إيران.
يمتلك الحشد الشعبي إمكانات بشرية ضخمة بلغت نحو 240 ألف مقاتل، وميزانية حكومية سنوية ارتفعت إلى 3.4 مليارات دولار خلال العام 2024، وهو يتوزع على عشرات الفصائل، وينتشر في معظم أنحاء العراق، ويضم بين عناصره نحو 15 بالمئة مما يسمى (الحشد العشائري) السُّنِّي وهناك حشود مسيحية وأيزيدية ومن مكونات أخرى، لكن الغالبية العددية المطلقة هي للشيعة، ولذلك يُعبَّر عنه بوصفه (جيشًا عقائديًّا).
يمتلك الحشد أسلحة متطورة، ومن بين ذلك أسلحة أميركية منها دبابات ومدرعات، لكن ما يسترعي الانتباه هو نمط الأسلحة التي يمكن استخدامها في ضرب أهداف بعيدة، وتحديدًا الصواريخ والطائرات المسيرة. لقد سبق وقامت (المقاومة الإسلامية في العراق) بهجمات صاروخية وبالطائرات المسيرة على أهداف أميركية وإسرائيلية كان من بينها صاروخ (الأرقب) إيراني الصنع وهو صاروخ موجه يبلغ مداه 1000 كيلومتر، وقد استُخدم في ضرب (هدف حيوي) في حيفا مطلع العام 2024، كما جرى استخدام طائرات مسيرة إيرانية الصنع من طراز شاهد 101 أكس تايل وكاس 4 وشاهد 136.
ليس معروفًا كمية الصواريخ والمسيرات التي تملكها (المقاومة الإسلامية في العراق) وما إن كانت تمتلك أنواعًا أخرى من هذه الأسلحة، لكن الجوار الجغرافي مع إيران، وطول الحدود يسمح تمامًا بدخول الأسلحة والتجهيزات والخبراء الذين يمكن أن يساعدوا في استخدام هذه الأسلحة.
وفي حال مشاركة جماعات (محور المقاومة) إلى جانب إيران في الحرب المقبلة، فلن تكون أدوارها سواء في العراق أو لبنان أو اليمن معروفة، لكن يمكن توقع أن يكون دور الفصائل العراقية متعلقًا بالقواعد الأميركية في عموم المنطقة بما فيها دول الخليج، ولن يكون مستبعدًا أيضًا في حال تعرضت المواقع النفطية والاقتصادية الإيرانية إلى هجمات أن ترُدَّ الفصائل العراقية بضربات مماثلة تستهدف المواقع النفطية في منطقة الخليج، على غرار ما حدث ضد منشآت أرامكو في السعودية، في سبتمبر/أيلول 2019، حينما تعرضت لهجوم بطائرات مسيرة وصواريخ، وفي حينه تبنَّى الحوثيون في اليمن تلك الضربة، لكن وزارة الدفاع السعودية قالت: إن 25 من الطائرات المسيَّرة والصواريخ الجوَّالة الإيرانية استُخدمت في الهجمات التي انطلقت من الشمالي السعودي (إمَّا من الأراضي الإيرانية أو العراقية) وليس من اليمن.
مثل هذا الهجوم لن يكون مستبعدًا في حال بلغت الحرب المحتملة حدودًا (وجودية) لا مجال بعدها للعودة، فحينها، كما قال رئيس مجلس الشورى الإيراني، سيكون لضبط النفس حدود، وستستخدم إيران كل قدراتها واستثمارها الطويل والمكلف في المنطقة ومن بينها القوى المسلحة في العراق، وعند هذا الخيار سيكون مصير الوضع السياسي والميداني في العراق متعلقًا بنتيجة الحرب وتداعياتها.