
لطالما اتصفت منطقة القرن الإفريقي بكونها مسرحًا للتغيرات السريعة والمعقدة. وتمثل الحالة الإثيوبية منذ اتفاقية السلام التي عقدتها مع إريتريا، عام 2018، حالة نموذجية شهدت بناءً لتحالفات داخلية وخارجية ثم تفكُّكَها وبناء تحالفات مضادة في مشهد يكشف عمق وتشابك المصالح الوطنية مع الصراعات العرقية والتاريخية.
وفي هذا السياق، برزت في الفترة الأخيرة تحالفات تكتيكية أو مرحلية لم يكن من الممكن تصورها قبل سنتين على سبيل المثال مع بروز توافقات بين كل من إريتريا وخصمين إثيوبيين متصارعين، هما: ميليشيات فانو الأمهرية وجناح من الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، وبينما يعتقد بعض المراقبين أن هذا التطور يمثل عامل قوة لأسمرة، فإن هذه الورقة تعد هذه الحالة تحديًا فريدًا للتحليل، لناحية كيفية إدارة إريتريا للعلاقة مع عدوين على حافة الحرب.
تسعى هذه الورقة إلى استجلاء هذا المشهد عبر رصد تطور علاقة أسمرة بالطرفين، وتتبع وشرح جذور الخلافات بين كل من الأمهرا والتيغراي، لتنتهي بالسيناريوهات المتوقعة لكيفية إدارة أسمرة لهذه العلاقة.
أسمرة والتقارب مع جناح من الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي
يؤكد العديد من المؤشرات أن الأشهر الأخيرة شهدت حدوث تطورات إيجابية غير متوقعة في العلاقة بين النظام الإريتري والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي (جناح ديبرصيون غبريميكئيل)، ويكفي لفهم المفاجأة التي ينطوي عليها هذا التحول النظر إلى مؤشرين على سبيل المثال:
أ- التاريخ الذي اتسم بالعداء الشديد بينن الطرفين والذي وصل ذروته إلى صراع صفري في حرب التيغراي 2020-2022.
ب- أن التواصل مع النظام الإريتري كان تهمة تتقاذفها أجنحة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي ويجهد كل طرف في إظهار براءته منها.
ويبدو أن الدوافع الكامنة وراء هذا التقارب تتجسد، أولًا، في الموقف العدائي من الحكومة الإثيوبية التي وصف الرئيس الإريتري، أسياس أفورقي، مؤخرًا خطاب رئيسها، آبي أحمد بالطفولي، وبدق طبول الحرب ضد إريتريا واستهداف بلاده(1). في حين نزعت الحكومة الإثيوبية الصفة القانونية عن الجبهة التي تتهمها بالتنصل من تنفيذ بنود اتفاقية بريتوريا المتعلقة بإخراج القوات غير الفيدرالية من أراضي غرب تيغراي ومنطقة رايا المتنازع عليها مع الأمهرا(2).
جانب آخر في هذا التقارب يتمثل في رغبة جناح ديبرصيون في تقوية موقفه ليس إزاء الحكومة الإثيوبية وحدها بل إزاء الفصائل التيغراوية الأخرى المتنازعة، ليلوح بورقة أسمرة التي ترى بدورها هذا النوع من التقارب استغلالًا لهذه الخلافات بما يزيد من إضعاف قوة التيغراي، وبالتالي تزايد قدرتها على استخدام حلفائها منهم بما يخدم إستراتيجيتها داخل إثيوبيا.
بالإضافة إلى ما سبق، قد يأمل جناح ديبرصيون في تفكيك تحالف أسمرة مع مجموعات فانو الأمهرية، أو على الأقل حماية ظهره بتحييد القوات الإريترية عن التدخل ضده في حال وقوع اشتباك بينه وبين الأمهرا أو محاولة استعادة السيطرة على غرب تيغراي ومنطقة رايا.
وبالنظر إلى طبيعة الصراعات الجيوسياسية في المنطقة والديناميات الإقليمية لها، فمن المرجح أن يأمل قادة تيغراي أن يؤدي تطوير العلاقة مع إريتريا إلى جعلها معبرًا للدعم اللوجستي من أطراف ذات مصلحة في تعقيد الأوضاع في إثيوبيا كمصر؛ حيث يعاني إقليم تيغراي حصارًا خانقًا داخل إثيوبيا ولا يملك أي منفذ إلى الدول المجاورة إلا عبر إريتريا نتيجة سيطرة ميليشيات الأمهرا على غربي تيغراي المجاور للسودان وإريتريا.
شكل العلاقة الحالي
منذ منتصف عام 2024، ظهرت مزاعم عقد سلسلة من الاجتماعات بين بعض السياسيين والعسكريين التيغرايين وممثلين عن الحكومة الإريترية، بما في ذلك جلسات عُقدت في أسمرة، وبرز من بينها تقرير نشرته "أفريكا إنتلجنس"، في فبراير/شباط الماضي، والذي يزعم أن كبار أعضاء القوات العسكرية التيغراية "يزيدون من اتصالاتهم مع الضباط الإريتريين".
ووفقًا للتقرير، بدأت هذه التفاعلات على أنها "اجتماعات غير رسمية على طول الحدود الممتدة لمسافة 1000 كيلومتر" وبلغت ذروتها في "اجتماع سري" في أسمرة، أواخر يناير/كانون الثاني 2025. وخلال ذلك الاجتماع، ورد أن الرئيس الإريتري، أسياس أفورقي، أكد للجانب التيغراي "حمايته في حالة نشوب صراع مع إثيوبيا"(3).
ونظرًا لحساسية العلاقة مع إريتريا(4) فقد نُفيت من قبل الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي(5)، وفي المقابل يتم إسباغ الطابع الشعبي على التقارب بين الطرفين حيث أعلن ديبرصيون غبريمكائيل في خطاب، في 22 يونيو/حزيران 2025، أن الحزب يعمل على ضمان "استمرار تعزيز العلاقات الشعبية التي تتطور بين شعبي تيغراي وإريتريا"، وأضاف أنه سيتم أيضًا بذل الجهود لإقامة "علاقات مماثلة" مع المجتمعات المجاورة الأخرى(6).
هذا التحول اتخذ شكل مبادرة شعبية تحت اسم "تسمدو"(7)؛ حيث تم فتح الحدود المغلقة منذ سنوات بجهود شعبية محلية و"بشكل غير رسمي" في منطقة زالامبيسا؛ حيث تبادلت المجتمعات المحلية الزيارة، ويؤكد العديد من المصادر أن هذه المبادرة تمت بموافقة من قيادة جناح ديبرصيون والنظام الإريتري اللذين يسيطران على جانبي الحدود في هذه المنطقة وأنها تمثل غطاء شعبيًّا للتقارب السياسي بين الطرفين ووسيلة لتسريع النشاط الاقتصادي المرتبط بتهريب الذهب عبر الحدود(8).
كما أشار العديد من التقارير إلى تحول إريتريا إلى معبر للذهب المهرب من تيغراي إلى الإمارات العربية المتحدة بشكل رئيسي، ضمن شبكات تورطت فيها فصائل مسلحة محلية عابرة للحدود ومتعاونة مع القوات الإريترية. وهذه الاتهامات بتهريب الذهب وانخراط أسمرة فيه ترددت في تصريحات مسؤولين سابقين في الإدارة المؤقتة للإقليم(9)، وهو ما نفته الحكومة الإريترية(10).
ما الذي جمع بين أسمرة والأمهرا؟
تعد العلاقة بين النظام الإريتري وميليشيات فانو الأمهرية من التحولات المهمة في مرحلة ما بعد حرب التيغراي، وترتكز هذه العلاقة على مجموعة من الدوافع يأتي على رأسها شعور الطرفين بخيانة الحكومة الإثيوبية لهما بتوقيعها اتفاق بريتوريا(11)؛ حيث كان كل من الجيش الإريتري والميليشيات الأمهرية حليفين رئيسيين للجيش الفيدرالي الإثيوبي منذ اليوم الأول للحرب حتى نهايتها، ولكنهما لم يكونا طرفًا في المفاوضات التي أدَّت إلى اتفاقية بريتوريا.
كما أن اتفاقية بريتوريا لم تحقق للأمهرا أهم أهداف مشاركتهم في الحرب، أي الاعتراف بتبعية غربي تيغراي ورايا لإقليمهم، وهو ما تم تجاهله في نص اتفاق بريتوريا الذي أكد على حل مسائل الأراضي المتنازع عليها وفق الدستور الإثيوبي؛ ما فُهم منه عودتها إلى سيطرة التيغراي(12)، في حين أن الاتفاق منح قبلة الحياة للجبهة الشعبية لتحرير تيغراي(13) وهو ما لم يكن مقبولًا على الإطلاق في أسمرة.
في مرحلة لاحقة دخلت هذه الأطراف حقبة أخرى أكثر تصعيدًا بعد قرار الحكومة الإثيوبية بدمج الميليشيات الأمهرية في الجيش الفيدرالي، ربيع العام 2023، في إطار خطة فيدرالية تضمنت كل الولايات، لكن الميليشيات الأمهرية اعتبرتها محاولة لإضعافها ما فجَّر تمردًا مسلحًا في إقليم أمهرا عجزت السلطات الفيدرالية عن القضاء عليه حتى الآن(14).
في المقابل، ازداد تأزم العلاقة الإريترية-الإثيوبية نتيجة مطالبة الأخيرة بميناء سيادي على البحر الأحمر وما رافقها من حديث المسؤولين الإثيوبيين عن "الظلم التاريخي" الواقع على بلادهم ووجوب العمل على تصحيحه؛ حيث فُهم منه الإشارة إلى استقلال إريتريا(15)، وما تبع ذلك من حملة إعلامية تستهدف إريتريا ومن تحركات عسكرية على حدود البلدين، فتلبدت سماء القرن الإفريقي مع وقوف الطرفين على حافة الحرب، وهو ما أدى آليًّا إلى التعاون الأمهري-الإريتري على قاعدة "عدو عدوي صديقي".
من جهة أخرى، اشتركت أسمرة والميليشيات الأمهرية في عداء طويل الأمد تجاه الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، وخلال حرب تيغراي 2020-2022، كان التدخل الإريتري النشط ودعمه لميليشيات الأمهرا يهدف إلى كسر شوكة تيغراي بشكل حاسم ونقل السلطة على مناطق غربي تيغراي ورايا المتنازع عليها بين التيغراي والأمهرا إلى يد الأخيرين(16).
كما كان لأسمرة مخاوفها من أن استعادة الجبهة التيغراوية لقوتها قد يُهدِّد الأمن الإريتري أو يعقِّد عملية استعادة الأراضي الحدودية التي أقرَّت اتفاقية الجزائر وقرارات المحكمة الدولية بتبعيتها لإريتريا، في حين وقفت الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، إبَّان سيطرتها على مقاليد الأمور في أديس أبابا، حجر عثرة في ترسيم الحدود.
ومن خلال دعمها للأمهرا هدفت إريتريا إلى البقاء لاعبًا رئيسيًّا في تحديد ديناميكات القوة المتغيرة داخل إثيوبيا، والحفاظ على ورقة ضغط قوية سواء على حكومة أديس أبابا من خلال تشتيت قوتها وتركيزها والحيلولة دون تمكنها من الدخول في نزاع مسلح مع إريتريا، أو على التيغراي الذين تنصب جهودهم على استعادة المناطق التي يسيطر عليها الأمهرا.
ومن جهة أخرى، فإن تقوية موقف الأمهرا وعجز الحكومة الفيدرالية عن إخماد تمردهم وتطبيق أحكام اتفاقية بريتوريا سيؤدي إلى تصدع أي احتمالات لتحالف التيغراي وأديس أبابا ضد إريتريا.
شكل العلاقة الحالي
يشير العديد من التقارير إلى أن العلاقة بين ميليشيات الأمهرا والحكومة الإريترية بدأت مبكرًا إبَّان الحرب على تيغراي؛ حيث نسقت قوات الطرفين حملات عسكرية، لاسيما في مناطق مثل غرب تيغراي، وسهَّل تبادل المعلومات الاستخباراتية والتخطيط العملياتي شنَّ حملات أكثر فعالية ضد قوات الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي.
ولم يقتصر الأمر على هذا النوع من التعاون حيث تشير بعض المعلومات إلى قيام القوات الإريترية بتدريب(17) وتقديم الدعم اللوجستي للميليشيات الأمهرية، وهو ما تطور بشكل كبير عقب توقيع اتفاقية بريتوريا وتعالي المطالب الإثيوبية بالحصول على ميناء سيادي على البحر الأحمر.
وتوضح دراسات ميدانية أجرتها "تشاتام هاوس" أن الميليشيات الأمهرية تستخدم السمسم ذا القيمة التصديرية العالية والذي يُزرع في مناطق غربي تيغراي كدفعات عينية لإريتريا مقابل الدعم والتدريب والحماية(18).
جذور خلافات الأمهرا والتيغراي
تمتد الخلافات بين كل من الأمهرا والتيغراي عميقًا في التاريخ والجغرافية والفلسفة السياسية لإدارة دولة بالغة التنوع كإثيوبيا، ورغم اشتراكهما في العديد من العوامل كسيادة المسيحية الأرثوذكسية والتقارب اللغوي والثقافي فإن النزاع بينهما "هو الأكثر مرارة"(19) بين النزاعات الإثيوبية، والذي يغذيه جزئيًّا تصاعد القومية العرقية في كلتا المنطقتين(20).
ويمكن إجمال هذه الخلافات في النقاط التالية:
المظالم التاريخية المتبادلة: يعد التيغراي أنفسهم ورثة المملكة الأكسومية القديمة (من القرن الأول إلى السابع الميلادي)، إحدى أعظم الحضارات الإفريقية وأول كيان سياسي مسيحي جنوب الصحراء الكبرى. ورغم الدور الكبير الذي لعبه إمبراطور من تيغراي كيوهانس في بلورة وتشكيل إثيوبيا الحديثة فإن الأباطرة الأمهرا، مثل منليك الثاني وهيلاسلاسي، سيطروا على الدولة وعملوا على أمهرة الدولة وتهميش باقي المجموعات العرقية في البلاد.
هذا الشعور العميق بالظلم من الهيمنة الأمهرية تجسد في ثورة الوياني الأولى، 1943، التي تحولت إلى أسطورة للمقاومة الشعبية ألهمت في مرحلة لاحقة وشكَّلت الهوية للجبهة الشعبية لتحرير تيغراي التي قامت بدورها بمواجهة هيمنة الأمهرا من خلال نظام الدرغ طارحة رؤى تصل إلى حدِّ الانفصال عن الدولة حتى انتصارها، عام 1991(21)، الذي عُدَّ إعادة تصحيح لمسار تاريخي ظالم، وتمكين المجموعات المهمشة من خلال الفيدرالية العرقية.
وفي تغير تاريخي للمواقع، برز خلال حكم الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي لإثيوبيا، عبر ائتلاف سياسي بين عامي 1991-2018، استياء الأمهرا مما عَدَّوْه تهميشًا لهم، وهو شعور تغذى على ما عَدَّوه معاملة قمعية وإهمالًا وتحميلهم خطايا المرحلة الإمبراطورية، ولذلك فقد كانوا من أبرز القوى التي شاركت في إسقاط حكم التيغراي أولًا، ثم في تحجيم نفوذهم السياسي والأمني عبر التحالف مع رئيس الوزراء، آبي أحمد، ثم في مواجهتهم عسكريًّا في حرب التيغراي.
الصراع على أراضٍ متنازع عليها: برز الصراع بين الأمهرا والتيغراي على منطقتي غربي تيغراي ورايا في جنوبي تيغراي مع إقرار الدستور الإثيوبي لعام 1995، إبان هيمنة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، على مقاليد السلطة في أديس أبابا، حيث تم اعتماد عوامل كالعرق واللغة أساسًا لتقسيم أقاليم البلاد.
ووفقًا لهذه الرؤية الجديدة، تم وضع منطقتي غربي تيغراي ورايا ضمن إقليم تيغراي اعتمادًا على تعداد 1994 الذي نَصَّ على أن 97% من سكان المنطقة ينتمون إلى التيغراي، في حين تعد شرائح واسعة من الأمهرا أن ما حدث كان ضمًّا واستيلاء على أراضيهم التاريخية، مستندين إلى بيان "تيغراي الكبرى" الصادر عن الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، عام 1975، الذي كشف عن طموحات لضم أراضٍ كولقايت وتيليمت، وهو ما يمثل -وفقًا لهؤلاء الأمهرا- مؤشرًا إلى هدف إستراتيجي طويل الأمد(22).
وقد اكتست قضية غربي تيغراي بُعدًا رمزيًّا لافتًا لدى الطرفين المتنازعين عليها؛ إذ تموضعت في قلب اهتمامات التيار السياسي القومي للأمهرا، حتى وصف مستشار شؤون النزاعات في مركز أبحاث السلام الإثيوبي التابع لمعهد "الوادي المتصدع" في أديس أبابا، تيزيرا تازيبيو، قضية ولقايت بأنها "انعكاس لظهور الأمهرا قوةً واعيةً سياسيًّا"، و"نقطة اشتعال لنسخة الأمهرا من الصحوة الوطنية"(23).
ومع سيطرة الميليشيات القومية الأمهرية على هذه المناطق ومطالبة التيغراي بخروج كل القوات غير الفيدرالية منها والعودة إلى الوضع ما قبل اندلاع الحرب في تيغراي واعتبار الطرفين مطالبه في هذه الأراضي خطًّا أحمر غير قابل للتنازل عنه أو التفاوض عليه تتكشف عمق الفجوة بينهما ويبدو الصراع بينهما صفريًّا.
المركزية والفيدرالية العرقية: تقع فلسفة إدارة دولة توصف بأنها "متحف الإثنيات" في قلب الرؤى السياسية المتعارضة لكل من الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي وأطياف سياسية واسعة من الأمهرا.
ومنذ صعودها للسلطة، عام 1991، تبنَّت الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي نموذج الفيدرالية العرقية، حيث تم تقسيم البلاد إلى أقاليم على أساس إثني، ولكل إقليم حكم ذاتي واسع وصلاحيات دستورية تشمل الحق في الانفصال، وسعت هذه الرؤية لترسيخ نظام فيدرالي يضمن تمثيل كل قومية ويدعم حماية الهوية المحلية أمام محاولات الهيمنة المركزية، ويمنح الأقاليم حق التحكم في مواردها وإدارتها بشكل شبه مستقل.
في المقابل، ارتبط الأمهرا تاريخيًّا بالمركز السياسي الإثيوبي، وينظر كثير من القوى السياسية الأمهرية بعين الريبة إلى النظام الفيدرالي العرقي باعتباره يُضعف الدولة ويهدد وحدتها، ويفتح الباب أمام التفكك والصراعات الانفصالية.
هذا الصراع بين النظام الفيدرالي والمركزية السياسية بلغ ذروته في عهد رئيس الوزراء، آبي أحمد، الذي يحمل رؤية أقرب إلى إعادة الاعتبار للمركزية السياسية؛ حيث دعم قطاع كبير من الأمهرا هذا التوجه، في مقابل معسكر مثَّل التيغراي نواته الصلبة؛ حيث اتخذ الخلاف بين هذه الرؤى أكثر أشكاله دموية في حرب التيغراي.
عسكرة الصراع في حرب التيغراي: مثَّلت حرب التيغراي نقطة بارزة في الصراعات الإثيوبية التي وصفها أحد المختصين بتاريخ البلاد بأنها حروب أبدية "تعود لتطارد كل جيل"(24).
وفيما يتعلق بالتيغراي والأمهرا فقد عمَّدت هذه الحرب الصراع بينهما بسيل من الدماء الغزيرة والانتهاكات المتبادلة؛ حيث يوثق تقريران صدرا عن منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش حملة منسقة شنَّتها القوات الخاصة الأمهرية والميليشيات المحلية (فانو) والسلطات الإقليمية للتطهير العرقي في غرب تيغراي، استهدفت الهجمات التهديدات والقتل غير القانوني والاحتجاز الجماعي والعنف الجنسي والنزوح القسري للمدنيين من تيغراي، وهو ما يرقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية(25).
كما يشير العديد من التقارير إلى ارتكاب قوات التيغراي مذابح وإعدامات جماعية في مناطق من إقليم أمهرا ككمبولتشا وتشينا وكوبو(26)، كما اتهم الطرفان باستخدام الاغتصاب سلاحًا والهجمات على القطاع الصحي وقوافل المساعدات.
هذه الفظائع المنهجية تركت ندوبًا من الصعب معالجتها بين أبناء المجموعتين، مع صعود الرغبة الثأرية التي تهدد بانفجار صراع عرقي بينهما مستقبلًا تحت لافتة الخلاف على الأراضي المتنازع عليها.
سيناريوهات علاقة إريتريا مع الطرفين
في ظل هذا المشهد المعقد تبرز مجموعة من السيناريوهات المحتملة لإستراتيجية إريتريا في إدارة علاقاتها مع ميليشيات فانو وجناح ديبرصيون من الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، وهذه أهم السيناريوهات المحتملة:
السيناريو الأول: إدارة التنافس بين الحليفين
وفق هذا السيناريو، ستواصل أسمرة تقديم دعمها لميليشيات فانو الأمهرية لتبقى شوكة في خاصرة حكومة آبي أحمد، في الوقت نفسه، ستستخدم التقارب مع جناح من الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي أداة ضغط إضافية على أديس أبابا، مع العمل على الحيلولة دون تورط الطرفين في اشتباك عسكري واسع النطاق، وسيضمن مثل هذا السيناريو تحقيق الآتي لأسمرة:
مواصلة الضغط على الحكومة الإثيوبية من خلال خلق حالة من عدم الاستقرار المستمر في إثيوبيا، وإشغال الحكومة الإثيوبية بصراعاتها الداخلية بدلًا من تهديد مصالح إريتريا، أو انخراطها في احتمالات خوض حرب واسعة النطاق مع إريتريا.
تحول أسمرة إلى قوة مؤثرة في إستراتيجيات الطرفين كمزود أو معبر للدعم اللوجستي.
تزايد نفوذ أسمرة في تشكيل موازنات القوة في الداخل الإثيوبي.
هذا السيناريو يتوافق مع نمط سياسات أسمرة القائم على المناورة بين القوى الداخلية الإثيوبية لتحقيق مكاسبها الخاصة. إن التناقض بين فانو وتيغراي على الأراضي المتنازع عليها يمنح إريتريا مساحة للمناورة ودعم الطرفين بشكل مباشر أو غير مباشر، كلٌّ ضد الآخر في أجزاء من الصراع، وضدهما معًا في أجزاء أخرى؛ ما يحفظ لأسمرة اليد العليا في نهاية المطاف، وإن كانت ستواجه صعوبة كبيرة في التحكم في الديناميات الداخلية المعقدة في إثيوبيا.
السيناريو الثاني: الوساطة بين الطرفين وخلق توافق بينهما
وفق هذا السيناريو، ستعمل أسمرة على التوسط بين كل من ميليشيات فانو وجناح ديبرصيون في الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي لخلق جبهة ثلاثية، وسيضمن هذا السيناريو لأسمرة تحقيق مجموعة من المكاسب، منها:
زيادة الضغط على الحكومة الفيدرالية وزيادة قوة الطرفين من خلال التنسيق بينهما.
شغل الحكومة الإثيوبية عن مهاجمة إريتريا للحصول على منفذ على البحر الأحمر.
زيادة قوة الدور الإريتري في الداخل الإثيوبي.
قد تكون المظلة الجامعة لمثل هذا الاتفاق قائمة على مواجهة "الأوروموما" أو "العداء الكوشي-السامي" وهما قضيتان يعتقد أفورقي أنهما مؤثرتان في إثيوبيا اليوم تحت حكم حزب الازدهار(27)؛ حيث تجمع كل من التيغراي والأمهرا العديد من المشتركات الدينية والثقافية، وتاريخيًّا كانوا هم حكام إثيوبيا الذين أخضعوا مناطق الجنوب في إطار بناء الإمبراطورية الإثيوبية الحديثة.
لكن يعوق هذا السيناريو عمق القضايا الخلافية بين كل من الأمهرا والتيغراي واتخاذها طابعًا صفريًّا في بعض الملفات كغربي تيغراي ورايا، كما أنه سيؤدي إلى استعداء العديد من المكونات الإثيوبية وعلى رأسها الأورومو، ولذلك فقد تقوم أسمرة بمثل هذه الوساطة لكن فرص نجاحها تظل ضعيفة.
السيناريو الثالث: التخلي عن أحد الحليفين
يقتضي هذا السيناريو اختيار إريتريا دعم أحد الطرفين في النهاية وتهميش أو التخلي الكامل عن الطرف الآخر في حال شعرت أن مصالحها على المدى الطويل مرتبطة بأحد الحليفين، أو في حال اصطدامهما بطريقة تجبرها على الاختيار بينهما.
هذا السيناريو هو الأقل رجحانًا لأنه يتطلب من أسمرة التخلي عن أحد أوراقها ضغطها المهمة، وعلى المدى الطويل لا يبدو أحد الطرفين حليفًا موثوقًا بما فيه الكفاية، فعلاقة أسمرة بالتيغراي مغرقة في العداوة وعدم الثقة وإن كان جناح ديبرصيون تواصل مع إريتريا فإن هذه العلاقة ليست ذات قاعدة شعبية وإنما هي أشبه باتفاق في مواجهة عدو مشترك، كما أن الأمهرا قد يكون لديهم مخاوفهم من الثقة بأفورقي بعد تقاربه مع خصومهم من التيغراي، وهذا رأي شريحة من الأمهرا وفقًا للعديد من المصادر.
1- Shabiat, INTERVIEW WITH PRESIDENT ISAIAS AFWERKI: ON GLOBAL AND REGIONAL ISSUES PART 1; Second Segment, 25/07/2025, (Accessed: 30/07/2025), https://n9.cl/25151
2- محمد علي، عبد القادر، ماذا يعني نزع القانونية عن جبهة تحرير تيغراي؟، الجزيرة، 20 مايو/أيار 2025، (تاريخ الدخول: 30 يوليو/تموز 2025)، https://n9.cl/yy035j
3- Africa Intelligence, Tigray leaders dangerously torn between Addis Ababa and Asmara, 24/02/2025, (Accessed: 30/07/2025), https://n9.cl/zidsr
4- يؤكد العديد من المصادر من داخل الإقليم مشاعر العداء الكبيرة تجاه الدور الإريتري في حرب التيغراي ودعمها لميليشيات الأمهرا في سيطرتها على غربي تيغراي ومنطقة رايا.
5- Addis Standard, News: TPLF rejects claims of "secret talks" with Eritrea, calls accusations “fabricated falsehoods”, 27/02/2025, (Accessed: 30/07/2025), https://n9.cl/9gici
6- Eritrea Focus, TPLF chairman vows to strengthen people-to-people ties with Eritrea; warns Pretoria deal facing “worsening” setbacks, 24/06/2025, (Accessed: 30/07/2025), https://n9.cl/zxmda
7- كلمة باللغة التغرينية المتداولة في إقليم تيغراي وفي الجزء المجاور له من إريتريا من معانيها الائتلاف أو التواصل.
8- Africa Press, Ethiopia–Eritrea Border Opening: Peace or Trap? 18/07/2025, (Accessed: 30/07/2025), https://n9.cl/wnaofw
9- Tekle, Abraham, Eritrea rejects TPLF’s gold smuggling allegations as “mendacious”, The Reporter, 28/12/2024, (Accessed: 30/07/2025), https://n9.cl/hb18w
11- International Crisis Group, Ethiopia’s Ominous New War in Amhara, 16/11/2023, (Accessed: 31/07/2025), https://n9.cl/jxboh
12- محمد علي، عبد القادر، القنبلة التي قد تعيد تفجير الصراع بإقليم تيغراي الإثيوبي، الجزيرة، 19 يوليو/تموز 2025، (تاريخ الدخول: 31 يوليو/تموز 2025)،https://n9.cl/1ukp9w
13- محمد علي، عبد القادر، اتفاقية وقف العدائيات في إثيوبيا: المكاسب والثغرات والسيناريوهات المستقبلية، مركز الجزيرة للدراسات، 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، (تاريخ الدخول: 31 يوليو/تموز 2025)، https://n9.cl/syupzr
14- محمد علي، عبد القادر، من التحالف إلى الصراع: ديناميات العلاقة بين الأمهرا وآبي أحمد، مركز الجزيرة للدراسات، 8 مايو/أيار 2024، (تاريخ الدخول: 31 يوليو/تموز 2025)،https://n9.cl/8wofi
15- International Crisis Group, Ethiopia and Eritrea Slide Closer to War amid Tigray Upheaval, 27/03/2025, (Accessed: 31/07/2025), https://n9.cl/zv9rb
16- تتمتع مناطق غربي تيغراي بأهمية إستراتيجية فائقة لمحاددتها للسودان حيث مثَّلت تاريخيًّا شريان الحياة الذي تدفق عبره الدعم اللوجستي والمالي لقوات التيغراي إبان تمردهم على نظام الدرغ الإثيوبي 1975-1991، كما أنه بتوفيره القدرة على الوصول إلى خارج إثيوبيا يمنح طموحات بعض نخب التيغراي في الاستقلال المعقولية والإمكانية أيضًا.
17- International Crisis Group, Ethiopia’s Ominous New War in Amhara, 16/11/2023, (Accessed: 31/07/2025), https://n9.cl/jxboh
18- Soliman, Ahmed & Demissie, Abel Abate, The ‘conflict economy’ of sesame in Ethiopia and Sudan, Chatham House, 20/05/2024, (Accessed: 31/07/2025), https://n9.cl/cmosw
19- International Crisis Group, Bridging the Divide in Ethiopia’s North, 12/06/2020, (Accessed: 01/08/2025), https://n9.cl/vfbs9
20- المصدر السابق.
21- Tronvoll, Kjetil, The Anatomy of Ethiopia’s Civil War, Current History, The Anatomy of Ethiopia’s Civil War, Volume 121, Issue 835, May 2022, p164.
22- محمد علي، عبد القادر، القنبلة التي قد تعيد تفجير الصراع بإقليم تيغراي الإثيوبي، مصدر سابق.
23- المصدر السابق.
24-Tronvoll, Kjetil, The Anatomy of Ethiopia’s Civil War, p164.
25- Human Rights Watch, “We Will Erase You from This Land” Crimes Against Humanity and Ethnic Cleansing in Ethiopia’s Western Tigray Zone, 06/04/2022, (Accessed: 01/08/2025), https://n9.cl/aallz
26- Goillandeau, Martin, Tigrayan forces summarily executed dozens of civilians in Ethiopia’s Amhara region, HRW says, CNN, 10/12/2021, (Accessed: 01/08/2025), https://n9.cl/kagdu
27- Ministry of Information, Keynote Address by President Isaias Afwerki on the Occasion of the 34th Independence Anniversary Asmara, 24 May 2025, 24/25/2025, (Accessed: 05/08/2025), https://n9.cl/i3qu0
هذا الطرح قوبل برد من السفير دينا مفتي، عضو مجلس النواب الإثيوبي والمتحدث السابق باسم وزارة الخارجية الإثيوبية، انظر:
Mufti, Dina, At 34, Time to Tend to Matters at Home?, Horn Review, 02/06/2025, (Accessed: 05/28/2025), https://n9.cl/rduih