مقدمة
لم يكن تهديد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بـ"عمل عسكري سريع" في نيجيريا دفاعًا عن "مسيحيين يبادون" سوى ذروة صوتية لخطاب قديم يعيد تدوير نفسه كلما احتاجت السياسة الأميركية إلى غطاء أخلاقي لغايات أكثر برودة. فالادعاء، كما صيغ، يفترض أن ثمة حملةً ممنهجة تستهدف المسيحيين لأنهم مسيحيون. لكنه، حين يوضع على خرائط العنف، وتقرأ أرقامه في سياقها، ويتقاطع مع الجغرافيا الداخلية للبلد ومع صراعات النفوذ حوله، سرعان ما يتبين أنه سردية انتقائية؛ سردية تلغي التعقيد لصناعة ضجيج، أو بتعبير أشد صراحة، هي أكذوبة مصطنعة من أيديولوجية يمينية متطرفة.
وقد بلغ خطاب الرئيس ترامب ذروته حين صنَّف نيجيريا ضمن قائمة "الدول المثيرة للقلق بشكل خاص"، زاعمًا أن البلاد تواجه "تهديدًا وجوديًّا وملحًّا للمسيحية"، ومطالبًا الحكومة النيجيرية بإجراء تحقيقات عاجلة حول ما وصفه بـ"الاضطهاد الديني"، مع التهديد بفرض عقوبات وتعليق المساعدات العسكرية والإنسانية إن لم تتخذ أبوجا "إجراءات حاسمة"(1). ولم تكن هذه المرة الأولى التي تضع فيها إدارة ترامب نيجيريا ضمن دائرة الاتهام؛ إذ سبق أن أُدرجت في القائمة ذاتها، في ديسمبر/كانون الأول 2020، خلال الولاية الأولى لترامب وفي عهد الرئيس النيجيري السابق، محمد بخاري. غير أن إدارة جو بايدن سارعت، في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، إلى إزالة نيجيريا من هذه القائمة؛ حيث أوضح وزير الخارجية الأميركي -حينها-، أنتوني بلينكن، أن القرار استند إلى مراجعة للوقائع على الأرض، وأن نيجيريا "لم تستوفِ المعايير" التي استندت إليها الإدارة السابقة في تصنيفها(2). يُبرز هذا التباين بين الإدارتين البُعد السياسي في توظيف ملف الحريات الدينية بوصفه أداة ضغط ظرفية لا تستند إلى أسس موضوعية بقدر ما تعبِّر عن تحولات في المزاج السياسي الأميركي تجاه إفريقيا.
المحور الأول: نسيج نيجيريا الديني والإثني: تعايش متجذر
تبدأ الحقيقة من الجغرافيا؛ فنيجيريا جمهورية فيدرالية، مع 36 ولاية، بالإضافة إلى منطقة العاصمة الفيدرالية "أبوجا". يتركز المسلمون في شمال نيجيريا، خاصة بين قوميتي الهوسا والفولاني في ولايات مثل كانو وسوكوتو وبورنو؛ حيث يشكِّل الإسلام المكون الثقافي والسياسي الأبرز(3). أما الجنوب، فيمكن القول: إنه يتساوى فيه كل من المسيحية والإسلام بجانب الديانات الوثنية، خصوصًا في مناطق إثنية اليوروبا، مثل ولايات لاغوس وأويو وأوندو. أما في الجنوب الشرقي، حيث إثنية الإيغبو، فيغلب فيه الطابع المسيحي مع ديانات أخرى تمثل الأقلية، ويمكن ذكر خمس ولايات أساسية، هي: إيمو (Imo)، وأنامبرا (Anambra)، وإيبوني (Ebonyi)، وإنوغو (Enugu)، وأبيا (Abia)؛ حيث تشكل اللغة الإيغبوية العنصر الثقافي الغالب. وتعد هذه الولايات موطنًا لأكثر من تسعين في المئة من أبناء الإيغبو. كما تمتد الكثافة السكانية للإيغبو جزئيًّا إلى ولايات مجاورة في الجنوب مثل دلتا (Delta) وريفرز (Rivers)، ولاسيما في مدن كـ"أونيتشا" و"بورت هاركورت". وبين المنطقتين يمتد "الحزام الأوسط" الذي يضم مزيجًا من المسلمين والمسيحيين وأصحاب المعتقدات التقليدية؛ ما يجعله منطقة تداخل وصراع ديني وإثني(4). وبذلك يصح القول: إن المسلمين يتركزون في الشمال، أما الجنوب فتتقارب النسب بين المسيحيين والمسلمين، مع وجود تداخل ديني ملحوظ بين المنطقتين.
وبطبيعة الحال، نيجيريا ليست جغرافيا فحسب؛ إنها نسيج اجتماعي قلَّ نظيره. تضم نيجيريا اليوم أكثر من 230 مليون نسمة موزعين على نحو 400 مجموعة إثنية، ونسيجًا دينيًّا قائمًا أساسًا على الإسلام والمسيحية مع بقايا معتقدات تقليدية، كما سلف ذكره(5). الصورة الصلبة اجتماعيًّا أن الانقسام المسلم/المسيحي ليس خط تماسٍّ صارمًا، بل تتخلله مساحات تعايش كثيفة، خصوصًا لدى إثنية اليوروبا العريقة في الجنوب الغربي حيث تتعايش الأديان داخل العائلة الواحدة (أخ مسلم وأخت مسيحية، عم مسلم وخال مسيحي)، وهي خبرة موثقة حتى في أدبيات مجلس العلاقات الخارجية (CFR) الأميركية، في دراساتها الأكاديمية الميدانية(6). وكانت هذه الخصوصية الاجتماعية دائمًا صمام أمان ضد الحرب الدينية الشاملة رغم موجات الإرهاب والجريمة.
ومن المفارقات الدالة على زيف الرواية الأميركية-الإسرائيلية حول "اضطهاد المسيحيين" في نيجيريا، أن سيدة البلاد الأولى نفسها، أولوريمي تينوبو، مسيحية وقسيسة مرسمة في الكنيسة الإنجيلية Redeemed Christian Church of God، إحدى كبرى الكنائس في نيجيريا، وقد تم تنصيبها قسيسة في تلك الكنيسة عام 2018(7). فهي تتجاوز كونها رمزية دينية داخل مؤسسة الرئاسة، لتعكس طبيعة التعايش السياسي والديني في قمة هرم الدولة النيجيرية؛ حيث يعيش المسلم والمسيحي في توازن دقيق ضمن بنية الحكم نفسها؛ ما يفنِّد تلقائيًّا المزاعم التي تسوِّقها الدوائر الغربية بأن "الإسلاميين المتطرفين" يضطهدون المسيحيين في ظل لا مبالاة تامة للحكومة.
تأسيسًا على ما سبق، وفي الميدان الأهلي، نشأت هياكل دفاع مدني مختلطة دينيًّا، أبرزها القوة المشتركة للمهام المدنية (CJTF) التي أسهمت في إسناد الجيش ضد المتطرفين في الشمال الشرقي(8)، فيما تتولى القيادات الدينية (المسيحية والإسلامية) وساطات محلية في الوسط والشمال الغربي لاحتواء اصطدامات رعاة/مزارعين وجرائم الخطف. هذه الظواهر تسجلها تقارير حقوقية محلية ودراسات أممية متخصصة في عنف اللصوصية– Banditry الصاعد في الشمال الغربي (مثل دراسة معهد الأمم المتحدة لبحوث نزع السلاح– UNIDIR، يوليو/تموز 2024)(9)، والتي تشير إلى دوافع اقتصادية إجرامية لا عقائدية في الأساس. هذا التلاحم لا ينفي التوترات بين الأديان، لكنه يقوِّض ادعاء "اضطهاد" عام كاسح ضد معتنقي معتقد معين.
المحور الثاني: أنماط العنف وفاعلوه: قراءة في المصادر المرجعية
أشارت قواعد بيانات الصراع (مثل مشروع مواقع وأحداث النزاعات المسلحة ACLED - Armed Conflict Location & Event Data Project- التي ترصد الحوادث ميدانيًّا ويوميًّا) إلى أن ولايات الشمال الشرقي والشمال الغربي من نيجيريا -بورنو، يوبي، أداماوا، زامفارا، سوكوتو، كادونا- هي بؤر العنف الأكثر كثافة منذ عام 2009(10). فهناك تمددت حركة "بوكو حرام" الموالية لتنظيم القاعدة، والتي انشقت عنها "الدولة الإسلامية ولاية غرب إفريقيا" الموالية لداعش المعروفة بـ(ISWAP)، وهناك أيضًا ترعرعت عصابات الخطف لأجل الفدية و"اللصوصية المسلحة" التي تبتز القرى والممرات الريفية. هذه الرقعة ذات أغلبية مسلمة، والضحايا فيها -بحكم الديمغرافيا والمسرح- غالبيتهم مسلمون. هذا ليس انطباعًا؛ بل اتجاه تؤكده أيضًا تقارير وكالات الأمم المتحدة (OCHA) التي تضع ولايات (بورنو-أداماوا-يوبي) في رأس الهرم الإنساني من حيث شدة المخاطر وحجم النزوح(11). ومع ذلك، لا تُستثنى الكنائس من الاستهداف، ولا ينجو الأئمة من الاغتيال؛ فالعنف الأعمى يضرب المدنيين بلا فرز طائفي صارم، لكنه يتركز حيث الحرب والنشاط الإرهابي قائم في الشمال المسلم.
كما أن المركز العالمي لمسؤولية الحماية (GCR2P) يصنف نيجيريا في "أزمة جارية" بسبب تصاعد هجمات اللصوص المسلحين في الشمال الغربي وتحور عنف بوكو حرام/داعش ولاية غرب إفريقيا، وكلها تضع المدنيين في مرمى "جرائم فظيعة محتملة" بلا تمييز ديني مسبق(12).
وهكذا، توضح البيانات أعلاه أن الكتلة الكبرى من الضحايا تقع في الأقاليم ذات الأغلبية المسلمة. وحتى أخبار الوكالات اليومية -بعيدًا عن التحليل الإستراتيجي- تعكس ذلك. ففي الأسابيع والأشهر الأخيرة، وثَّقت أسوشيتد برس (AP) مجازر متعددة في بورنو ويوبي ومارتي وسوكوتو، ذُبِح فيها عشرات من المدنيين أثناء الصلاة أو في المزارع من قبل مقاتلي بوكو حرام بولايات الشمال(13). هذه النماذج الخبرية، وإن كانت لقطات متفرقة، فإنها تتماهى مع اتجاه إحصائي أوسع تثبته قواعد بيانات ACLED ومراجعات وكالات الأمم المتحدة.
بل وحتى من الناحية العملياتية، فإن مناطق نشاط التنظيمات الإرهابية في شمال نيجيريا -كما سبق ذكره- تتركز في ولايات بورنو (Borno) ويوبي (Yobe) وأداماوا (Adamawa)، وهي جميعها تقع في أقصى شمال شرق البلاد على تخوم بحيرة تشاد، قرب الحدود مع النيجر وتشاد والكاميرون. في المقابل، أقرب ولاية جنوبية إلى هذه المناطق هي ولاية تارابا (Taraba)، ثم تليها ولاية بينوي (Benue) في الوسط. تتجاوز المسافة الفاصلة بين مدينة مايدوغوري، عاصمة ولاية بورنو (التي تعد المركز اللوجستي لتنظيم بوكو حرام)، ومدينة ماكوردي، عاصمة ولاية بينوي الجنوبية، 700 كيلومتر عبر طرق وعرة تمر بعدة مناطق عسكرية وأمنية. أما المسافة بين داماتورو (يوبي) أو ميدوغوري ومدينة أبوجا، العاصمة الفيدرالية، فتتراوح بين 850 و900 كيلومتر(14). واستخلاصًا مما سبق، من غير الممكن عمليًّا أو عسكريًّا أن تقوم الجماعات المتطرفة بعمليات يومية على مثل هذه المسافات الطويلة التي تتطلب عبور ولايات مراقبة ومناطق كثيفة السكان دون أن تكتشف؛ ما يعني أن أنشطتها اليومية مركزة في نطاق عملياتها الطبيعية، أي في ولايات الشمال الشرقي والشمال الغربي، حيث البيئة الجغرافية الحاضنة: طرق صحراوية مفتوحة، وقرى نائية، وضعف الدولة.
ومن هذا المنطلق العملياتي والمنطقي، فإن القول بأن ضحايا الإرهاب تتركز على المسيحيين الذين يعيشون جنوب البلاد، فقط لحكم انتمائهم الديني، يتعارض مع الواقع الميداني. فالجماعات الجهادية تنفذ عملياتها حيث تتمتع بالملاذات والقدرات اللوجستية، أي في الشمال المسلم. بينما العنف في الجنوب ذو طابع مختلف تمامًا؛ تُستهدَف كنائس كما تستهدف مساجد ومقار تقليدية، غير أن المحرك الغالب في الجنوب ليس "الدين" بقدر ما هو اقتصاد الجريمة والسياسة المحلية(15). هذا التفريق الجغرافي أيضًا كاف لإسقاط أطروحة "الإبادة المسيحية"، فالبلد ليس مسرحًا واحدًا، والفاعل ليس واحدًا، والدوافع ليست واحدة. وهذا ما يفسر لماذا المستشار الرئاسي الخاص بترامب، اللبناني-الأميركي الذي كوَّن ثروته في نيجيريا، ويُدعى مسعد بولس، قال لشبكة "سي إن إن": "من المؤسف أن الهجمات الإرهابية تستهدف الجميع من كل الأديان والقبائل، بل لدينا بيانات تؤكد أن ضحايا هجمات بوكو حرام تكثر في المسلمين أكثر من المسيحيين، والناس يعانون أيًّا كان انتماؤهم الديني أو الاجتماعي"(16).
المحور الثالث: لماذا إذن تشتغل ماكينة كبرى على سردية "اضطهاد المسيحيين" الآن؟
الجواب له ثلاث طبقات جيوستراتيجية تتمحور حول أيديولوجيا انتخابية أميركية، ولوبيات متقاطعة، وجغرافيا نفوذ تتشكل حول مستقبل نيجيريا.
أولًا: الطبقة الانتخابية-الأيديولوجية
منذ صعود ترامب، ظهر نمط ثابت لديه وهو الظهور بمظهر "المنقذ المسيحي الأبيض"، الذي يتخطى الحدود لنصرة "المضطهدين البيض والمسيحيين"(17). وهي النسخة ذاتها حين روَّجت أوساط يمينية في أميركا لأسطورة "إبادة البيض" في جنوب إفريقيا. لم يتورع الخطاب، يومها، عن استخدام صور خارج سياقها -بل من بلد آخر، كصور عن مجازر جمهورية الكونغو الديمقراطية- لتغذية الجمهور الإنجيلي الذي يستجيب تلقائيًّا لفكرة "حماية شعب أبيض مسيحي في خطر". الوسيط الذي يصنع به هذا "التزييف الأيديولوجي" ليس الجهل نفسه؛ بل هو تسييس الجهل، حيث يعلم ترامب أن جمهوره لا يميز بين الكونغو وجنوب إفريقيا، فيغذِّيه بصور تثير الغريزة الأخلاقية وتستدعي "الفارس الأبيض الذي يأتي لينقذهم".
وفي حالة نيجيريا، كان الخطاب نفسه: "مسيحيون يُقتلون على يد إرهابيين إسلاميين"، مع تهديد بـ"عمل عسكري سريع"(18). أما دقة الوقائع، وتفاصيل الجغرافيا، ونِسَب الضحايا؛ فهي كلها ثانوية ما دام الهدف تعبئة الرأي الأميركي. ولذا، وعلى الضفة الأوسع من اليمين الديني الأميركي، نشطت شخصيات ومنظمات إنجيلية نافذة -من توني بيركنز (الرئيس الحالي لـFamily Research Council والمفوض/الرئيس السابق في اللجنة الأميركية للحريات الدينية الدولية (USCIRF)) إلى فرانكلين غراهام- في الدفع بسردية "المسيحيين تحت الإبادة في نيجيريا" عبر جلسات في الكونغرس(19)، ومقالات رأي، وظهورات إعلامية مؤثرة. كما شاركت مراكز بحثية محافظة مثل Hudson Institute في تكريس هذا الإطار الخطابي، فيما ظهر زخم دعائي مواكب في منصات موالية لإسرائيل ومدونات رأي مثل (Times of Israel)(20)، بما يربط أمن المسيحيين في نيجيريا بملفات أوسع تخص "الدفاع عن الحلفاء" و"ردع الإسلاميين"(21)، ويسقط التعقيد الإثني-الجغرافي-الاقتصادي للصراع لصالح سردية تبسيطية قابلة للتسويق السياسي والإعلامي.
ولأن الرواية الانتقائية وتزييف السرديات تحتاج دومًا إلى "إكسسوار سينمائي"، أظهرت إدارة ترامب والناشطون الداعمون لها صورًا ومقاطع تُنسب إلى نيجيريا وهي من مسارح أخرى (دارفور، الكونغو، شمال موزمبيق)(22) كتقنيات مجربة في الحروب الإعلامية الأميركية، التي تبدأ باصطناع صدمة بصرية لإغلاق باب التفكير المركب. وفي الخلفية، جهل أميركي واسع بالجغرافيا لا لأن الأميركيين أقل ذكاءً، بل لأن منظومة الإعلام والسياسة تجنح إلى اختزال العالم في ثنائيات سهلة: مسلم ضد مسيحي، خير ضد شر، من يستحق التدخل ومن لا يستحقه(23). هكذا تنفذ سردية "الإبادة المسيحية بنيجيريا" إلى جمهور لا يميز بين ولايات نيجيريا الشمالية والجنوبية، ولا يعرف أن منصب الرئاسة في نيجيريا نفسها يدار، تقليديًّا، ضمن توازن اتحادي يتعاقب فيه شمال وجنوب، ومسلم ومسيحي، لتفادي الاحتكاك الطائفي في قمة الدولة.
ثانيًا: الطبقة اللوبية
بما أن السردية لا تأتي من فراغ؛ فثمة تحالف وظيفي بين قطاع واسع من اليمين الإنجيلي في الولايات المتحدة وجماعات ضغط مؤيدة لإسرائيل، ممن تأذوا سياسيًّا وأخلاقيًّا من انكشاف حرب غزة وما راكمته من نقمة عالمية على إسرائيل، فيستحضرون مسرحًا إفريقيًّا ملائمًا لصناعة مقارنة مضللة: "انظروا إلى ما يفعله المسلمون بالمسيحيين في نيجيريا، أليس أبشع مما تتهمون به إسرائيل؟!"(24). وتشتغل ماكينة التواصل على تحويل أي مجزرة في شمال نيجيريا إلى برهان على "إبادة مسيحية"، ولو وقعت في قرية مسلمة.
ويعزَّز هذا الخطاب، محليًّا، بأصوات من جنوب شرق نيجيريا، حيث إثنية "الإيغبو" (IGBO) التي يحمل جزء من نشطائها ذاكرة حرب بيافرا التي وقعت في الستينات رغبةً في الانفصال عن جمهورية نيجيريا الفيدرالية، وارتباطهم المزعوم بـ"اليهودية" ودولة إسرائيل، باعتبار أنفسهم جزءًا من "يهود الشتات"(25). فبعض كنائس قومية الإيغبو رفعت علم إسرائيل في مواكب دينية، وبعض القساوسة باركوا حرب غزة باعتبارها "معركة مقدسة"، وبضع نخب قومية استعادت رواية أن إسرائيل دعمت إثنية الإيغبو وبيافرا سرًّا بالسلاح أواخر الستينات في حرب الانفصال التي انتصرت فيها الحكومة النيجيرية(26). ولئن كانت هذه الوقائع محدودة التمثيل داخل الطيف المسيحي النيجيري الأوسع، فإنها تمنح رواية "الاضطهاد" شهادةً محلية مزيفة، بالقول: "حتى المسيحيون في نيجيريا يقولون إنهم مضطهدون". لكن المؤسسات الكنسية الكبرى في نيجيريا -الكاثوليك والبروتستانت- لم تتبن، في بياناتها العامة، مقولة: "إبادة مسيحية" وطنية؛ بل كررت أن العنف عام وعابر لجميع المعتقدات(27).
ولتبسيط "اللوحة الدعائية" أكثر، برزت في الأسابيع الأخيرة حسابات ومنافذ موالية لإسرائيل أو متعاطفة مع خطابها وهي تعيد تدوير سردية "إنقاذ مسيحيي نيجيريا" على نحو تعبوي؛ فموقع Visegrád24 الإسرائيلي نشر مرارًا على فيسبوك وإنستغرام/إكس عبارات من قبيل: "نحن نقف إلى جانب مسيحيي نيجيريا الذين يواجهون إبادة صامتة على يد الإسلاميين"، مصحوبة بمقاطع من داخل الكنائس وصور ضحايا لإسناد خطاب "الإبادة" الدينية، وهو ما ينسجم مع موجة وسمية أوسع (#ChristianGenocide) -إبادة المسيحيين- تضخِّم أرقامًا غير متحقق منها على نحو كاف(28). إضافيًّا، انخرطت منابر إسرائيلية نافذة في تضخيم القصة -من جيروزاليم بوست التي غطت تهديد ترامب ومرَّرت اتهامات "الاضطهاد" بوصفها مسلَّمات، ونشرت مقالات رأي تسوِّغ جعل "اضطهاد المسيحيين"(29) قضية يهودية-إسرائيلية أيضًا- بما يعيد تسييس الملف الديني في إفريقيا لخدمة صورة إسرائيل بعد حرب غزة. بل وثقت تحليلات نقدية أن هذا الدفع المنسق -بمشاركة أطراف يمينية غربية ومؤيدة لإسرائيل- يعيد تأطير انعدام الأمن في نيجيريا كـ"إبادة مسيحية" لصرف الانتباه عن فلسطين(30).
وحري بنا التطرق إلى تقاطع جهود جماعة شعب بيافرا الأصلي (IPOB)، بقيادة ناندي كانو، مع لوبيات أميركية استعين بها رسميًّا في واشنطن؛ إذ تُظهر إفصاحات قانون تسجيل الوكلاء الأجانب (FARA) تعاقد قيادة الحركة مع شركات ضغط مثل Mercury Public Affairs لتأمين تواصل منظم مع صانعي القرار في واشنطن(31). وفي المشهد السياسي الراهن، برز السيناتور الجمهوري "تيد كروز" كأعلى الأصوات في الكونغرس لتبني رواية "اضطهاد المسيحيين" وربطها بنيجيريا عبر بيانات ومشروعات قوانين ودعوات لتصنيفات عقابية، وهو ما فسره مسؤولون في رئاسة نيجيريا بأنه "تشبيك مدفوع"(32) يخدم أجندة جماعة (IPOB) ويعيد إحياء ملف بيافرا بصيغة إنسانية-دينية مموهة، تعيد تركيب العنف المركب في نيجيريا كقضية اضطهاد ديني أحادي البعد، تمهيدًا لتسويغ عقوبات أو اصطفافات سياسية ضد أبوجا(33).
ثالثًا: الطبقة الجيوبوليتيكية
نيجيريا ليست بلدًا هامشيًّا في حسابات واشنطن؛ إنها أكبر اقتصاد وسكان في إفريقيا جنوب الصحراء، وأكبر منتج للنفط والغاز بالقارة، وعضو مؤثر في منظمة "أوبك"، ومن هنا تسميتها بالعملاق الإفريقي(34). وهي، تاريخيًّا، حليف اقتصادي وسياسي قديم للولايات المتحدة. ما الذي تغير؟
الذي تغير أنه في المجال المالي، شكَّل تجديد اتفاق مبادلة العملات بين البنكين المركزيين في الصين ونيجيريا نقطة تحول مهمة في ديسمبر/كانون الأول 2024، بقيمة 15 مليار يوان (نحو ملياري دولار أميركي) ولمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد(35). يهدف الاتفاق إلى تعزيز التجارة الثنائية وتخفيف الاعتماد على الدولار في التسويات التجارية؛ ما يمنح أبوجا قدرةً أكبر على المناورة النقدية في ظل تقلبات سعر صرف العملة النيجيرية، النايرا. تزامن ذلك مع إصلاحات في سوق الصرف الأجنبي النيجيرية لتعزيز الشفافية والسيولة؛ مما سمح باستخدام أدوات تسوية باليوان الصيني وفتح مسارات مالية أكثر استقرارًا. بالنسبة لنيجيريا، يمثل هذا الترتيب المالي آلية لحماية احتياطياتها من النقد الأجنبي ودعم الواردات من الصين، لاسيما في قطاعات البنية التحتية والطاقة. بذلك، أصبحت العلاقات النقدية بين البلدين الركيزة الأساسية لشبكة اقتصادية أوسع ترتكز عليها استثمارات ومشاريع إستراتيجية تتجاوز الإطار التجاري التقليدي.
في قطاع البنية التحتية، دشنت نيجيريا، في أبريل/نيسان 2023، ميناء ليكي العميق بطاقة استيعابية تبلغ 1.2 مليون حاوية سنويًّا، كأول ميناء عميق في البلاد وأحد أضخم موانئ غرب إفريقيا، وهو مشروع نفذته شركة China Harbour Engineering Company ضمن شراكة تشغيلية طويلة الأمد(36). كما موَّل بنك التنمية الصيني، مطلع عام 2025، مبلغًا قدره 254.7 مليون دولار لتطوير سكة حديد كانو-كادونا، في حين أقرَّت الحكومة النيجيرية، في مايو/أيار 2025، حزمة تمويل جديدة بقيمة 652 مليون دولار من بنك إكسيم الصيني لإنشاء طريق إستراتيجي يربط الميناء بمصفاة دانغوتي العملاقة التي تنتج نحو 650 ألف برميل يوميًّا(37). تمتد هذه المشاريع إلى منطقة ليكي الحرة التي تشهد توسعًا سريعًا لتصبح مركزًا صناعيًّا متكاملًا يربط الساحل بالمناطق الداخلية. وهو ما يكرس الحضور الصيني فاعلًا رئيسيًّا في إعادة تشكيل البنية الاقتصادية لنيجيريا.
وعلى المستوى الجيوستراتيجي، تُوِّج هذا التقارب بإعلان قبول نيجيريا "دولة شريكة" في مجموعة "البريكس بلاس"، عام 2025(38)، وهو تطور يفتح الباب أمام انضمامها إلى قنوات تمويل بديلة وممرات تجارة جنوب-جنوب، ويعزز موقعها محورًا إقليميًّا في غرب إفريقيا. ومنح هذا الانضمام أبوجا أدوات تنويع جديدة، تشمل أنظمة مدفوعات متعددة العملات، وشبكات لوجستية عابرة للحدود، ومشاريع للطاقة والغاز تسعى لتقليص الكلفة الصناعية وتعزيز الإنتاج المحلي. بعبارة صريحة، باتت نيجيريا أهم حجر زاوية إفريقي على خط مشروع "الحزام والطريق" الصيني.
وفي قلب هذا التحول الجيواقتصادي المتسارع بين البلدين، برز عنصر بالغ الحساسية يتمثل في المعادن الأرضية النادرة الإستراتيجية التي تزخر بها نيجيريا، والتي باتت اليوم إحدى ساحات الصراع الهادئ بين بيجين وواشنطن. فإلى جانب النفط والغاز، تمتلك نيجيريا احتياطيات ضخمة من المعادن الأرضية النادرة، مثل المونازيت والكولومبيت والتنتالوم، وهي عناصر حيوية تدخل في الصناعات التكنولوجية المتقدمة، من البطاريات الكهربائية إلى أنظمة الطاقة المتجددة والأسلحة الذكية(39). وتتركز هذه الثروات في ولايات بلاتو، وبينوي، وناساراوا، وكروس ريفر، وهي، بمحض المصادفة، مناطق يغلب عليها الطابع المسيحي(40)؛ مما يمنحها قيمة إضافية في سردية ترامب وإسرائيل. وفي هذا المجال أيضًا، وخلال الأعوام الأخيرة، بدأت أبوجا زيادة جذب استثمارات لإنشاء مرافق معالجة محلية بدل الاكتفاء بتصدير الخام، في محاولة لامتلاك سلاسل القيمة داخل حدودها(41). أثار هذا المسار قلقًا أميركيًّا عميقًا مضاعفًا؛ فالصين كانت قد علَّقت تصدير المعادن الأرضية النادرة التي تستحوذ على 90% من إنتاجها، إلى الولايات المتحدة في خضم حربها التجارية، ما هزَّ سلاسل الإنتاج الأميركية في سباق السيطرة على التكنولوجيا المتقدمة(42). ومن ثم، فإن تقارب نيجيريا مع الصين في قطاع المعادن بالتحديد يعد بالنسبة لواشنطن تجاوزًا لخط أحمر إستراتيجي.
ولا مناص من القول: إن في حسابات النفوذ الأميركي، نيجيريا ليست دولة عادية، إنها أكبر اقتصاد في إفريقيا جنوب الصحراء، وقاعدة تقليدية للقوة الناعمة الأميركية في غرب إفريقيا عبر التعليم "الأميركي الطابع" والمؤسسات الشريكة مثل (American University of Nigeria)، وشبكات الأعمال الكثيفة التي تنسقها شراكات رسمية كـ"مجلس الأعمال الأميركي-النيجيري" و"شراكة التجارة والاستثمار الأميركية-النيجيرية" (CIP)(43)، إضافة إلى جالية نيجيرية كبيرة ونخب نيجيرية-أميركية فاعلة في البلديات والكونغرس؛ ما يعزز التشابك الاجتماعي-الاقتصادي عبر الأطلسي(44). في هذا السياق، ترى واشنطن أن انزياح نيجيريا نحو الصين ومظلة "البريكس"، ينذر بنكسة نوعية في ميزان النفوذ الأميركي بالقارة. لذا يصبح الضغط السياسي-الإعلامي "أداة ضبط" لإبقاء نيجيريا ضمن المدار الغربي، فمسرح التنافس في القرن الحادي والعشرين هو سلاسل القيمة والمعادن الإستراتيجية والبوابات الديمغرافية، ونيجيريا تمثل عقدة مركزية في هذا المشهد.
إذن، من منظور أميركي، فبلد مثل نيجيريا، يجمع بين ثقل ديمغرافي هائل وموارد معدنية ومعسكر ثقافي ناعم لصالح أميركا، مجرد الاحتمال أن يميل نحو القطب الصيني أمر يصعب احتماله، ويجب العمل على وأده منذ البداية. لذلك، يُقرأ كل اتفاق اقتصادي أو صناعي بين أبوجا وبيجين أو مجموعة "بريكس بلاس" على أنه إشارة انحراف عن محور التحالف الغربي. وهنا يصبح استدعاء "حماية المسيحيين" أداة ضغط، كرسالة لصُنَّاع القرار في أبوجا.
وحتى الصين قرأت التصعيد الأميركي إزاء نيجيريا من زاوية "تسييس الدين"، ولذلك وجهت وزارة الخارجية الصينية تحذيرًا صريحًا برفض أي تدخل في الشؤون الداخلية لنيجيريا تحت لافتة "حقوق الإنسان أو الدين"، مؤكدة أن نيجيريا "شريك إستراتيجي شامل، وأن استعمال ورقة الاضطهاد الديني لفرض عقوبات أو التلويح بالقوة يعد انتهاكًا لسيادة دولة ذات قرار مستقل"(45).
ومن هذا المنطلق بالتحديد، رأت كل من منظمة إيكواس والاتحاد الإفريقي أن حملة ترامب ضد أبوجا تمثل تسييسًا واضحًا للدين وتدخلًا في الشؤون الداخلية لدولة ذات سيادة. ففي بيان الاتحاد الإفريقي الصادر في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، أكد أن "نيجيريا دولة عضو فاعلة في الاتحاد، وتتمتع بالحق الكامل في إدارة شؤونها الداخلية دون أي تدخل خارجي تحت أي ذريعة"(46). كما جاء في بيان إيكواس رفض صريح لما سمته "الادعاءات الزائفة حول اضطهاد المسيحيين"، معتبرةً أن العنف في المنطقة يستهدف المدنيين من جميع الأديان، وأن استخدام الدين مبررًا للتصعيد الأميركي "يهدد التعايش ويقوض السلم الإقليمي"(47).
المحور الرابع: النتائج
أولًا: تفكك التوازن الإثني وإحياء الشعور بالمظلومية
كشفت حملة ترامب الدعائية ضد نيجيريا عن هشاشة التوازن الإثني الذي سعت الحكومة الفيدرالية إلى ترميمه على مدى ثلاثة عقود؛ إذ أعادت هذه الحملة إحياء الإحساس التاريخي لدى إثنية الإيغبو بأنهم مستهدفون من الدولة، ليس فقط بسبب ماضيهم الانفصالي في حرب بيافرا، بل لكونهم يمثلون جماعة ينظر إليها من بعض النخب السياسية كمعارضة دائمة للسلطة المركزية. وقد أدى ذلك إلى تصاعد خطاب المظلومية والتمييز، خصوصًا بعد اتهام فصائل من الإيغبو بدعم الحملة الأميركية، في مقابل خطاب مضاد من نخب إثنية اليوروبا التي رأت في ذلك طعنًا في شرعية الرئيس الحالي، بولا أحمد تينوبو، المنتمي لليوروبا. وعمَّقت هذه التوترات الانقسام الأفقي بين الجماعات الكبرى في البلاد، وأعادت الهوية الإثنية إلى صدارة المشهد السياسي بعد أن تراجعت أمام الهوية الوطنية لعقود.
ثانيًا: تسييس الدين وعودة الاستقطاب بين المسلمين والمسيحيين
أعادت الحملة الأميركية فتح جروح دينية كادت تُطوى منذ مطلع الألفية؛ إذ تحول الخطاب الداخلي إلى جدل حول تطبيق الشريعة الإسلامية في الولايات الشمالية، بعد أن كان يُنظر إليه بوصفه شأنًا محليًّا لا يمس الدولة الفيدرالية. ومع تصاعد المزاعم الأميركية حول "اضطهاد المسيحيين"، أعادت بعض الجماعات الكنسية المطالبة بإلغائها، وبدأت حملات تشكك في شرعية استمرارها. هذا النقاش لم يثر فقط البعد الديني، بل مَسَّ جوهر النظام الفيدرالي الذي يقوم على استقلال الولايات في تشريعاتها، كما هي الحال في النظام الأميركي ذاته. وبموازاة ذلك، برزت ظاهرة جديدة في المشهد المسيحي النيجيري؛ حيث تعرض القساوسة المنتقدون لتصريحات ترامب لحملات تخوين واسعة صُوِّر فيها كلُّ صوت معتدل على أنه "خائن للإيمان المسيحي". وبهذا المعنى، نجحت الحملة في نقل الانقسام من بُعد سياسي إلى استقطاب عَقَدي وأخلاقي يهدد النسيج المجتمعي.
ثالثًا: إعادة إحياء ملف بيافرا وتعزيز شرعية الانفصال
أحد أخطر النتائج غير المباشرة للحملة هو إعادة إحياء ملف انفصال بيافرا؛ إذ قدمت وسائل الإعلام الأميركية زعيم حركة IPOB على أنه "سجين ديني" لا "متمرد انفصالي"؛ ما منح الحركة شرعية رمزية أمام الرأي العام الدولي. تجاهل هذا التصوير السطحي تعقيدات المشهد الداخلي، لكنه أسهم في تعزيز التعاطف الشعبي مع الانفصاليين داخل نيجيريا وخارجها. ومن منظور أمني، فإن هذا الانزياح في الإدراك يُضعف شرعية الدولة الفيدرالية ويحرجها أمام شركائها، ويمنح الحركة منفذًا دبلوماسيًّا وإعلاميًّا لم تكن تمتلكه من قبل.
رابعًا: ديناميكيات "النبوءة ذاتية التحقق" وإزاحة احتكار استخدام القوة
تُظهر المؤشرات الميدانية أن حشد السردية الدينية الخارجية يحفز سلوكًا وقائيًّا مسلحًا: حيث تتجه جماعات مسيحية محلية إلى التسلح بدافع الحماية، فترد جماعات مسلمة بخيارات موازية؛ ما يخلق سباقَ تسلح أهليًّا منخفض الحدة يقوِّض أصل مبدأ احتكار الدولة للعنف المشروع. وقد تحوِّل هذه الديناميكية -إذا تُرِكت دون احتواء سريع- نقاط الاشتعال المحلية إلى شبكات ميليشياوية متداخلة تستهلك قدرات الأجهزة النظامية وتربك سلسلة القيادة والسيطرة.
خامسًا: أثر رد الفعل الجهادي واحتمالات "عقاب الكنائس"
إن أي تدخل عسكري أميركي -ولو محدودًا حتى بالتنسيق مع نيجيريا- يرجح أن يُستخدم دعائيًّا بواسطة الجماعات الجهادية لتبرير هجمات انتقائية على الكنائس ورموز مسيحية، تحت عنوان "الرد على الصليبية الجديدة". ورغم أن المدخل العملياتي يظن أن الدعم الأميركي سيرفع الكفاءة التكتيكية للجيش، فإن الأثر الإستراتيجي العكسي قد يكون توسيع بنك الأهداف الطائفية وإضفاء شرعية مقاومة إقليمية لتلك الجماعات في الفضاءات الدعائية العابرة للحدود.
سادسًا: محدودية الضغوط الأميركية أمام الشراكة الصينية/النيجيرية
رغم تصاعد ضغوط واشنطن، تبقى نيجيريا أقل ميلًا للتراجع عن شراكتها مع الصين، التي ترى فيها أكثر من 200 مليون مستهلك محتمل وركيزة رئيسية ضمن مبادرة الحزام والطريق عبر موانئها الأطلسية. وقد تجاوز عدد الشركات الصينية في البلاد الألف شركة؛ ما جعل استثماراتها رافعة حقيقية للتعافي الاقتصادي الذي بدأ يظهر منذ مطلع 2025. وتشير توقعات بنك "غولدمان ساكس" إلى أن الاقتصاد النيجيري سيبلغ نحو 13.1 تريليون دولار بحلول 2075، ليصبح بين أكبر عشرة اقتصادات عالميًّا(48). ولذلك، فإن ضغوطات إدارة ترامب تأتي بنتائج عكسية؛ إذ تدفع بنيجيريا أكثر فأكثر نحو أحضان الصين لا إلى الابتعاد عنها؛ ما يجعل أي سياسة أميركية مبنية على التهديد أو الابتزاز الاقتصادي غير مجدية في المدى البعيد.
خاتمة
يشاع خبر عن نية الرئيس النيجيري، بولا أحمد تينوبو، زيارة البيت الأبيض خلال الأسابيع المقبلة، لتوضيح الالتباس الناشب حول رواية "اضطهاد المسيحيين". لكن ما لا يقال هو أن ترامب ليس في وارد استماع نزيه، بل سيمضي -كما فعل مع رئيس جنوب إفريقيا- نحو "فخ إعلامي-دبلوماسي" محض، بصور قد تعرض لاستهدافات قديمة لمناطق مسيحية إلى جانب مشاهد مقابر جماعية تُنسب إلى المسيحيين، كلها لصنع "ضحية مسيحية" صالحة لخطاب 2025. وفي الاجتماعات المغلقة، غالبًا سيطلب من الرئيس تينوبو أن يبدي ميلًا "أميركيًّا" بإعادة توجيه نيجيريا في السياسة الدولية، وضمان بقائها في صف واشنطن، وإلا فإن ماكينة الضغط الإعلامي والدبلوماسي -وربما الاقتصادي- ستقابِل أبوجا ببدائل أقل رحمة.
واستخلاصًا لما سبق، يتضح لنا أن الادعاء بوجود استهداف منهجي للمسيحيين كفئة بعينها لا يجد سندًا في منصات الرصد المنهجية، ولا في الصحافة المرجعية. المعركة إذن ليست فقط بين سرديتين، لكنها اختبار لحنكة القيادة النيجيرية: هل تفضِّل الانحناء أمام عاصفة ترامب حفاظًا على علاقات خارجية هشة، أم يختار المواجهة ويصر على أن تكون نيجيريا شريكًا مستقلًا بدل بيدق في رقعة شطرنج واشنطن؟ فالواقع أن ترامب -رغم الضجة عن "مسيحيين أفارقة"- لن يضحي من أجلهم، فاهتمامه لا يتعدى حسابات الأيديولوجية والجيوبوليتيك لكسب شعبية أمام ناخبيه.
1) حكيم نجم الدين، "ماذا وراء مزاعم ترامب حول "الإبادة الجماعية" لمسيحيي نيجيريا؟"، الجزيرة نت، 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، https://shorturl.at/qxHQ3
(أين تاريخ الدخول؟)
2) المصدر السابق.
3) United Nations High Commissioner for Refugees (UNHCR), Nigeria Situation Report: Displacement and Violence in the North-East, Geneva: UNHCR, 2024, https://www.unhcr.org
4) "Nigeria: Religious and Ethnic Composition," BBC News Africa, April 2023, https://www.bbc.com/africa.
5) The Conversation Africa, "Why Nigeria’s Religious Violence Is More Complex Than Muslims vs Christians," December 2024, https://theconversation.com/africa.
6) Human Rights Watch (HRW), Nigeria: Mass Atrocities and Displacement in the North East, New York: HRW, 2024, https://www.hrw.org.
7) "Remi Tinubu: Nigeria’s First Lady and Pastor in the Redeemed Christian Church of God," Premium Times Nigeria, July 2023, https://www.premiumtimesng.com.
8) United States Department of State, 2024 Report on International Religious Freedom – Nigeria Section, Washington, DC, 2024.
9) John Campbell and Matthew T. Page, Nigeria: What Everyone Needs to Know, Oxford: Oxford University Press, 2021.
10) Armed Conflict Location & Event Data Project (ACLED), Nigeria: Conflict Trends and Patterns 2024, Washington, DC: ACLED, 2024, https://acleddata.com.
11) United Nations Office for the Coordination of Humanitarian Affairs (OCHA), Humanitarian Needs Overview: Nigeria 2024, Geneva: United Nations, 2024, https://www.unocha.org.
12) United Nations High Commissioner for Refugees (UNHCR), Nigeria Situation Report: Displacement and Violence in the North-East, Geneva: UNHCR, 2024, https://www.unhcr.org.
13) Associated Press, "Boko Haram, Islamic State group and Nigerian military clash in Borno State," apnews.com/article/nigeria-boko-haram-islamic-state-group-military-borno.
14) International Crisis Group (ICG), Facing the Challenge of the Islamic State in West Africa Province, Africa Report no. 273, Dakar/Brussels: ICG, May 16, 2019, crisisgroup.org/report/273.
15) المصدر نفسه.
16) "U.S. Presidential Advisor Massad Boulos Dismisses Religious Persecution Claims in Nigeria," Voice of Nigeria, October 17, 2025, von.gov.ng/nigeria-religious-claims.
17) United States Department of Justice. Foreign Agents Registration Act (FARA) eFile Public Documents. Washington, DC, 2020–2025. https://efile.fara.gov
18) Reuters, "Nigeria Rejects US Religious Freedom Designation, Says It Is Based on ‘Faulty Data’," November 5, 2025, reuters.com/world/africa/nigeria-rejects-us-religious-freedom-designation.
19) Family Research Council, Statements and Publications on Religious Freedom and Nigeria, Washington, DC, 2024–2025, frc.org/nigeria.
20) The Times of Israel (Blogs), "Nigeria Can’t Hide Behind the Pretense of Sovereignty," November 4, 2025, blogs.timesofisrael.com/nigeria-cant-hide-behind-the-pretense-of-sovereignty.
21) Hudson Institute, "A Shocking Reversal: The US Officially Turns a Blind Eye to Nigeria’s Endangered Christians," Washington, DC, 2021, hudson.org/nigeria-christians.
22) "Ted Cruz Blames Nigeria for ‘Mass Murder’ of Christians: What’s the Truth?," 8 October 2025, aljazeera.com/news/2025/10/8/ted-cruz-nigeria-christians.
23) United States Department of Justice, Foreign Agents Registration Act (FARA) eFile Public Documents, Washington, DC, 2020–2025, efile.fara.gov.
24) Franklin Graham, Media Statements and Public Remarks on Nigeria and Christian Persecution, Samaritan’s Purse, 2018–2025, samaritanspurse.org.
25) "EXCLUSIVE: IPOB Hires Another Lobbying Firm in Fresh ₦300m Deal," Premium Times Nigeria, May 25, 2021, premiumtimesng.com/news/headlines/463466.
26) The Jerusalem Post, "Is genocide threatening Nigeria’s Christians?", October 4, 2018, jpost.com/opinion/is-genocide-threatening-nigerias-christians-568695.
27) Africa Is a Country, "The Myth of Christian Genocide," October 29, 2025, https://africasacountry.com/2025/10/the-myth-of-christian-genocide.
28) François Mabille, "Géopolitique des religions en Afrique : mutations, pouvoirs et territorialités (2000–2025)," IRIS, November 7, 2025, iris-france.org/geopolitique-des-religions-en-afrique.
29) مصدر سابق.
30) المصدر نفسه.
31) United States Department of Justice, Report of the Attorney General under the Foreign Agents Registration Act, Washington, DC, 2019, justice.gov/nsd-fara.
32) United States Senator Ted Cruz, "Sen. Cruz Introduces Bill Against Persecution of Nigerian Christians," October 8, 2025, cruz.senate.gov/nigerian-christians-bill.
33) Office of Senator Ted Cruz, "Statement on President Trump Action Against Nigeria for Christian Persecution," Washington, DC, October 31, 2025, cruz.senate.gov/statement-nigeria-persecution.
34) مصدر سابق.
35) People’s Bank of China, "PBOC and CBN Renew Bilateral Currency Swap Agreement," December 27, 2024, pbc.gov.cn/swap-agreement.
36) Reuters, "China Development Bank Releases $255 mln for Nigeria Rail Project," January 8, 2025, reuters.com/nigeria-rail-255mln.
37) Xinhua, "China-built Port and Free Trade Zone Drive Economic Growth in Nigeria," December 2, 2024, news.cn/africa/20241202/port-free-trade-zone-nigeria.
38) Associated Press, "Nigeria Is Admitted as a Partner Country of the BRICS Bloc," 2025, apnews.com/article/f6c45439.
39) Brookings Institution, "US–China engagement in Africa: A crossroads," March 3, 2025, brookings.edu/us-china-engagement-africa.
40) مصدر سابق.
41) Reuters, "China, Nigeria Push Regional Monetary & Financial Cooperation," September 3, 2024, reuters.com/china-nigeria-cooperation.
42) China, "China Tightens Export Controls on Rare-Earth Metals: Why This Matters," Al Jazeera English, October 10, 2025, aljazeera.com/china-rare-earths.
43) Small Wars Journal, "Capitalizing on Non-alignment Policy of Nigeria to Balance Economic Relations with the United States of America and the People’s Republic of China," January 13, 2023, smallwarsjournal.com/nigeria-nonalignment.
44) مصدر سابق.
45) Punch Newspapers, "China Backs Nigeria, Warns Against Foreign Interference," premiumtimesng.com/china-backs-nigeria-warns-against-foreign-interference.
46) African Union Commission, African Union Reaffirms Nigeria’s Sovereignty and Rejects Foreign Interference, November 7, 2025, au.int/nigeria-sovereignty.
47) Economic Community of West African States (ECOWAS), Statement on Respect for Nigeria’s Sovereignty amid U.S. Remarks, November 2025, ecowas.int/newsroom/nigeria-sovereignty.
48) Goldman Sachs, The Path to 2075: Slower Global Growth, But Convergence Remains Intact, New York: Goldman Sachs Research, 2024, shorturl.at/hqOQ9.