جمهورية الجبل الأسود في بؤرة التحولات الجيوسياسية في البلقان

تحتل جمهورية الجبل الأسود موقعًا إستراتيجيًّا حساسا على الساحل الأدرياتيكي، تتقاطع فيه دوائر نفوذ إقليمية ودولية متشابكة. كما تعاني من انقسامات داخلية حادة حول الهوية الوطنية والانتماء الديني والموقع الجيوسياسي بين الشرق والغرب. لذلك، تُعدّ هذه الحالة نموذجًا لفهم ديناميات الصراع والتوازن في عموم البلقان.
(الجزيرة)

مقدمة

شهدت منطقة البلقان في العقد الأخير تحولات متسارعة في بنيتها السياسية والأمنية، تغذيها هشاشة الدول الناشئة، وامتداد صراعات الهوية القومية، وتنافس القوى الكبرى على مناطق النفوذ. غير أن اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، في فبراير/شباط 2022، مثَّل لحظة مفصلية دفعت بهذه التوترات نحو نقطة غليان جديدة، وأعادت تسليط الضوء على هشاشة الاستقرار في دول جنوب غرب البلقان، وعلى رأسها جمهورية الجبل الأسود.

تُعدُّ الجبل الأسود (مونتينيغرو) إحدى أصغر دول أوروبا من حيث المساحة والسكان، لكنها تحتل موقعًا إستراتيجيًّا بالغ الحساسية على الساحل الأدرياتيكي، وتشكِّل تقاطعًا لثلاث دوائر نفوذ متشابكة: الدائرة الغربية التي تقودها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والدائرة الروسية-الصربية ذات البعد الثقافي والديني القومي، والدائرة الإقليمية التي تشمل تركيا والصين وقوى شرق أوسطية صاعدة تبحث عن موطئ قدم في جنوب شرق أوروبا.

ورغم استقلال الجبل الأسود عن صربيا، عام 2006، وانضمامها إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، عام 2017، إلا أنها لا تزال تعاني من انقسامات داخلية حادة حول الهوية الوطنية، والانتماء الديني، والموقع الجيوسياسي. فالأقلية الصربية في البلاد، التي تتمتع بوزن ثقافي وإعلامي ومالي كبير، لا تُخفي ولاءها لبلغراد، وتحتفظ بعلاقات دينية وثيقة مع الكنيسة الأرثوذكسية الصربية. في المقابل، تسعى النخب المونتينيغرية إلى ترسيخ هوية قومية مستقلة وتدعيم مسار الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وسط مقاومة متزايدة من قوى قومية محافظة مدعومة من موسكو وبلغراد(1).

لم تكن الحرب الروسية-الأوكرانية حدثًا خارجيًّا معزولًا عن الفضاء البلقاني، بل كان لها وقع واضح على الداخل المونتينيغري. فقد تصاعدت حدة الخطاب الاستقطابي، وازداد نشاط القوى الموالية لروسيا، بالتوازي مع ضغوط اقتصادية وتهديدات سيبرانية وتدخلات انتخابية موثقة؛ الأمر الذي أعاد رسم خطوط التَّماس بين القوى الداخلية وعمَّق هشاشة البنية السياسية والأمنية للدولة(2).

في هذا السياق المتأزم، تسلِّط هذه الورقة الضوء على حالة جمهورية الجبل الأسود باعتبارها نموذجًا مميزًا لفهم ديناميات الصراع والتوازن في البلقان، وتحاول الإجابة على الأسئلة الجوهرية التالية:

- إلى أي مدى يمكن لدولة صغيرة، مثل الجبل الأسود، أن تحافظ على استقلال قرارها في بيئة متداخلة النفوذ؟

- هل تستطيع الهوية الوطنية المونتينيغرية الصمود أمام ضغوط الانقسام القومي والديني؟

ما السيناريوهات التي تنتظر البلاد في ظل استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية، وتصاعد التوترات في صربيا وكوسوفو، وركود عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي؟

تعتمد الدراسة، في مقاربتها للوضع الحالي والمستقبلي للجبل الأسود، على منهج بنيوي تحليلي يربط بين المتغيرات الداخلية والخارجية، وتستفيد من أطر نظرية مثل "الدولة الصغيرة في النظام الدولي"، و"التحالفات الانقسامية"، و"الهوية الهشة"، لتحليل ديناميات الصراع في الحالة. إلى جانب ذلك، تتتبع الدراسة السياقات التاريخية لتشكل الهوية المونتينيغرية، وتشرِّح البنية السياسية والأمنية، وتحلِّل النفوذ الخارجي، وتطرح ثلاثة سيناريوهات لمستقبل البلاد في المدى المتوسط، مع ربطها بما يجري على مستوى الإقليم الأوروبي والبلقاني الأشمل.

الإطار النظري والمنهجي: بين مقاربات الدولة الصغيرة وتفكيك الهويات الهشة في البلقان

لا يمكن فهم التحولات العميقة التي تشهدها جمهورية الجبل الأسود بمعزل عن الإطار النظري الأوسع الذي يحكم علاقة الدول الصغيرة بالتحولات الجيوسياسية الكبرى. ففي عالم ما بعد الحرب الباردة، أضحى مصير الدول الصغيرة، لاسيما في مناطق الاحتكاك الجغرافي، كمنطقة البلقان، رهينًا بقدرتها على المناورة بين مراكز النفوذ المتنافسة، وعلى إنتاج سردية وطنية جامعة قادرة على الصمود أمام ضغوط الاستقطاب الخارجي والانقسام الداخلي.

في هذا السياق، سنستند إلى عدد من المقاربات النظرية التي تُسهم في تأطير وتحليل الحالة المونتينيغرية. أولها مقاربة الدولة الصغيرة في النظام الدولي، التي ترى أن هذه الدول، بحكم ضعفها البنيوي وقلَّة مواردها الإستراتيجية، تميل إلى تبني سلوك موازنة مرنة، سواء من خلال التحالفات مع قوى كبرى، أو عبر تبنِّي سياسات حياد انتقائي. غير أن جمهورية الجبل الأسود، بعد انضمامها إلى الناتو وسعيها للالتحاق بالاتحاد الأوروبي، وجدت نفسها أقرب إلى الاصطفاف الغربي؛ ما زاد من حدة التوتر مع المحور الروسي-الصربي الذي يرى في ذلك انحرافًا عن الهوية السلافية-الأرثوذكسية التقليدية للبلاد.

أما المقاربة الثانية فهي مقاربة "الهوية الهشة"، التي تبرز بوضوح في المجتمعات الخارجة حديثًا من اتحادات سياسية كبرى (مثل يوغسلافيا)، وتواجه صعوبات في تأسيس خطاب وطني موحَّد. ففي الجبل الأسود، لا تزال مسألة الهوية القومية والدينية محلَّ نزاع داخلي واسع. فجزء معتبر من السكان يعرِّفون أنفسهم "صِربًا"، ويرفضون الاعتراف بوجود أمة مونتينيغرية مستقلة، بينما تسعى الدولة، رسميًّا، إلى بناء هوية "مونتينيغرية" ذات ملامح لغوية وثقافية متميزة، وهو ما أدى إلى صدامات متكررة في الفضاء العام وداخل المؤسسات.

إلى جانب هاتين المقاربتين، تستفيد الدراسة من نظرية "التحالفات الانقسامية"، التي تفترض أن الانقسامات الداخلية في الدول الضعيفة كثيرًا ما تتغذَّى من الخارج؛ حيث تلعب القوى الإقليمية والدولية دورًا محوريًّا في دعم طرف دون آخر، سواء لأسباب أيديولوجية أو جيوسياسية أو دينية. وتبدو هذه الفرضية ملائمة لتحليل الدور الذي تلعبه موسكو وبلغراد في دعم القوى السياسية والدينية المحافظة في الجبل الأسود، مقابل دعم أوروبي-أطلسي للنخب الليبرالية والعلمانية التي تقود مؤسسات الدولة.

من الناحية المنهجية، تعتمد هذه الدراسة منهجًا بنيويًّا تحليليًّا، ينطلق من تحليل البنى الداخلية للدولة المونتينيغرية (السياسية، والهوياتية، والاقتصادية، والأمنية)، ويفكِّك تفاعلها مع المحيط الإقليمي والدولي، في ضوء الحرب الروسية-الأوكرانية. وتستند الدراسة، أيضًا، إلى مجموعة من المصادر، تشمل تقارير الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وتحليلات مراكز أبحاث أوروبية وبلقانية، ودراسات أكاديمية متخصصة حول البنية السياسية للبلقان وهوية الجبل الأسود.

ويُكمِّل المنهجَ التحليلي بُعدٌ استشرافي مؤسَّس على تحليل السيناريوهات المستقبلية الممكنة، انطلاقًا من قراءة واقعية لعوامل التأثير الداخلية، كالانقسام السياسي والتحديات الاقتصادية، والخارجية، كالنفوذ الروسي، ومسار الحرب في أوكرانيا، وإستراتيجية الاتحاد الأوروبي في البلقان الغربية.

فالدراسة لا تكتفي بوصف الحالة الراهنة لجمهورية الجبل الأسود، بل تحاول الذهاب أبعد من ذلك، نحو فهم ديناميات التحول، واستشراف مستقبل البلاد ضمن بيئة إقليمية مضطربة وأفق دولي يتسم بإعادة رسم الخرائط والتحالفات.

أولًا: الجبل الأسود بين الإرث التاريخي وإشكالية الهوية: من الهيمنة العثمانية إلى الاستقلال عن صربيا (2006)

يُمثِّل التاريخ السياسي لجمهورية الجبل الأسود مفتاحًا أساسيًّا لفهم واقعها المعاصر؛ إذ لا يمكن فصل الهياكل السياسية والهوياتية الراهنة عن الجذور التاريخية المعقدة التي صاغت تجربة هذه الدولة الصغيرة على مدى قرون. فمنذ القرون الوسطى، مثَّلت الجبل الأسود موقعًا جغرافيًّا شديد الحساسية بين الإمبراطوريات، وكانت دومًا منطقة تماسٍّ وصراع بين النفوذين، العثماني والروسي، ثم لاحقًا بين التطلعات القومية الصربية والهوية المونتينيغرية المستقلة(3).

تمتعت جمهورية الجبل الأسود، طيلة الحقبة العثمانية، بهامش نسبي من الحكم الذاتي، رغم تبعيتها الشكلية للباب العالي، بفضل طبيعتها الجغرافية الجبلية الصعبة، وشبكة القيادات المحلية التي قاومت التتريك واحتفظت بنوع من الاستقلال العسكري والإداري(4). وقد شكَّل هذا التاريخ أساسًا لتطور خطاب قومي خاص بالجبل الأسود، يرى في نفسه امتدادًا للملكية السلافية الأرثوذكسية، ويستلهم رموزه من مقاومة الهيمنة العثمانية والهوية الشرقية الإسلامية.

في المقابل، ظل النفوذ الروسي حاضرًا بقوة في المجالين السياسي والديني، لاسيما عبر الكنيسة الأرثوذكسية التي لعبت دورًا محوريًّا في تشكيل الوعي القومي المونتينيغري، وكانت في الوقت ذاته قناة رئيسية للتأثير الروسي في المنطقة. وقد تعزز هذا الارتباط في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حين وفَّرت موسكو دعمًا عسكريًّا وسياسيًّا لزعماء الجبل الأسود في مواجهاتهم مع العثمانيين، وكرَّست بذلك نوعًا من "الحماية الرمزية" استمر تأثيرها حتى اليوم(5).

مع تفكك الإمبراطورية العثمانية وبروز الحركات القومية في البلقان، انخرطت الجبل الأسود في مشروع يوغسلافيا الكبرى، فتوحدت مع صربيا ومناطق أخرى لتشكيل مملكة الصرب والكروات والسلوفينيين، عام 1918، ثم جمهورية يوغسلافيا الاشتراكية بعد الحرب العالمية الثانية. خلال هذه الحقبة، طُمست إلى حدٍّ كبير الخصوصية المونتينيغرية لصالح سردية قومية صربية-يوغوسلافية موحدة، وهو ما زرع بذور التوترات اللاحقة، خاصة مع انبعاث الحس القومي بعد انهيار الشيوعية(6).

في أعقاب تفكك يوغسلافيا في التسعينات من القرن العشرين، شكَّلت الجبل الأسود آخر حليف اتحادي لصربيا، ضمن ما سُمي بـ"جمهورية يوغسلافيا الجديدة" ثم "اتحاد صربيا والجبل الأسود"، لكن هذا الاتحاد كان هشًّا منذ بدايته. ومع صعود تيار قومي مستقل بقيادة ميلو دجوكانوفيتش، بدأت النخبة السياسية في بودغوريتسا بتوجيه البلاد نحو خيار الاستقلال الكامل. وقد تُوِّج ذلك باستفتاء عام 2006؛ حيث صوَّت حوالي55.5 % من السكان لصالح الاستقلال عن صربيا(7).

ورغم الطابع السلمي الذي صاحب العملية، إلا أن مسألة الهوية الوطنية ظلت نقطة توتر رئيسية بعد الاستقلال. فقد رفضت قطاعات واسعة من السكان الصرب الاعتراف بالهوية المونتينيغرية كيانًا مستقلًّا، وأصرَّت على اعتبار الجبل الأسود جزءًا طبيعيًّا من "الأمة الصربية الكبرى". وعلى الجانب الآخر، سعت الدولة الجديدة إلى تكريس سردية وطنية خاصة بها، من خلال إعادة تعريف اللغة الرسمية، واستحداث رموز وطنية جديدة، وإعادة النظر في موقع الكنيسة الأرثوذكسية الصربية في حياة البلاد والسكان(8).

أمام هذا الإرث التاريخي المتشابك، تجد الجبل الأسود نفسها اليوم في وضع دقيق. فهي دولة فتية من حيث الاستقلال، لكنها ذات تاريخ عريق في مقاومة الاحتلال الأجنبي، وفي الوقت نفسه هي حبيسة انقسامات الهوية والموروثات السياسية التي لم تُحسَم بعد. ويمثل هذا التعقيد التاريخي والرمزي خلفية لا غنى عنها لفهم تحديات الحاضر والمستقبل، خاصة في ظل اشتداد الاستقطاب الإقليمي والدولي بفعل الحرب الروسية-الأوكرانية.

ثانيًا: البنية السياسية والأمنية للجبل الأسود بين الانضمام الغربي والاختراق الشرقي

دخلت جمهورية الجبل الأسود بعد الاستقلال الرسمي عن صربيا، عام 2006، مرحلة جديدة من إعادة التأسيس المؤسساتي والسياسي، سعت من خلالها إلى تثبيت دعائم الدولة الوطنية، والانفتاح على الغرب خيارًا إستراتيجيًّا، وقطع ما أمكن من روابط التبعية التاريخية لبلغراد وموسكو. لكن هذه المسارات لم تكن سهلة أو مستقرة، بل جرت في سياق داخلي مأزوم، وخارج إقليمي مضطرب؛ ما جعل من تشكيل البنية السياسية والأمنية الجديدة عملية هشَّة، محفوفة بالتجاذبات والاختراقات.

تشكَّلت النخبة الحاكمة في مرحلة ما بعد الاستقلال من تحالف يقوده "الحزب الديمقراطي الاشتراكي" برئاسة ميلو دجوكانوفيتش، وهو شخصية سياسية مركزية في تاريخ البلاد الحديث لعبت دورًا مزدوجًا في كل من النظام اليوغسلافي السابق ومسيرة الاستقلال والانفتاح الغربي. تبنَّى دجوكانوفيتش، منذ بداية الألفية، خيارًا إستراتيجيًّا بالانفصال التدريجي عن بلغراد وتوجيه البلاد نحو عضوية الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، رغم معارضة قوية من قوى قومية-دينية داخلية مدعومة خارجيًّا.

في السنوات التالية، شهدت البلاد تحولًا مؤسساتيًّا تدريجيًّا، تَمَثَّل في إصلاح النظام الانتخابي، وتحديث الجهاز القضائي، وتوسيع هامش الحريات السياسية. غير أن هذه العملية ظلت مثقلة باتهامات الفساد والمحسوبية وتسييس القضاء؛ ما حدَّ من مصداقية نخبة الحكم الجديدة أمام مواطنيها وأمام المؤسسات الأوروبية، على حدٍّ سواء. ورغم هذه التحديات، تمكَّنت الجبل الأسود من تحقيق إنجاز دبلوماسي كبير بانضمامها إلى حلف الناتو، في يونيو/حزيران 2017، وهو ما عُدَّ نقطة تحول حاسمة في تموضع البلاد ضمن الفلك الغربي(9).

أثارت هذه الخطوة غضب روسيا وامتعاض صربيا. وتزامنت مع محاولات اختراق أمني مكشوفة، أبرزها محاولة الانقلاب الفاشلة، عام 2016، التي اتُّهمت فيها عناصر موالية لموسكو وبلغراد بالتخطيط لإسقاط الحكومة عشية الانتخابات ومنع انضمامها إلى الحلف. ورغم إحالة القضية إلى القضاء وإدانة عدد من المتورطين، إلا أن الجدل حول تغلغل الأجهزة الاستخبارية الخارجية في الحياة السياسية المونتينيغرية لم يتوقف، وظل حاضرًا في كل الاستحقاقات الانتخابية اللاحقة.

على المستوى الأمني، سعت الدولة إلى بناء جيش محترف صغير الحجم متوافق مع معايير حلف الناتو. وأولت أهمية متزايدة لمكافحة التهديدات السيبرانية والإعلامية التي يُعتقد أن مصدرها روسيا أو وكلاؤها المحليون. كما تعاونت مع الوكالات الأمنية الأوروبية والأميركية لتعزيز قدرات المراقبة والمواجهة، خصوصًا في ظل تصاعد حملات التضليل الإعلامي والتدخل في الانتخابات عبر الفضاء الرقمي. ورغم ذلك، تبقى القدرات الأمنية محدودة الحجم والتأثير، وتعاني من ضعف التمويل والاعتماد النسبي على الدعم الخارجي(10).

أما على صعيد العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، فقد كانت الجبل الأسود من الدول المرشحة الأبرز للانضمام منذ عام 2010، وفتحت مفاوضات رسمية في 2012، وتقدمت في العديد من الفصول التقنية، خصوصًا في مجالات الأمن والطاقة والبيئة. إلا أن عملية الانضمام شهدت تباطؤًا واضحًا منذ 2019 بسبب التوترات السياسية الداخلية، وتعثر الإصلاحات المؤسسية، وموجة عدم المبالاة الأوروبية تجاه توسع الاتحاد في البلقان. وقد أدى ذلك إلى إحباط شعبي متزايد، خاصة في ظل الركود الاقتصادي والهجرة المتواصلة للكفاءات نح و أوروبا الغربية(11).

في المجمل، تُبيِّن تجربة الجبل الأسود بعد الاستقلال مدى صعوبة بناء دولة حديثة في بيئة بلقانية محفوفة بالتجاذبات الجيو-ثقافية. فالدولة التي حاولت أن تتموضع كقصة نجاح غربية في منطقة البلقان، لم تنجُ من اختراقات موسكو وبلغراد، ولم تحسم خلافاتها الداخلية حول الهوية. ولا تزال مهدَّدة بانقسام سياسي واجتماعي عميق، تعمَّق أكثر بفعل الحرب في أوكرانيا وارتداداتها الإقليمية.

ثالثًا: حرب أوكرانيا في مرآة البلقان

أحدثت الحرب الروسية على أوكرانيا زلزالًا جيوسياسيًّا تجاوز حدود أوروبا الشرقية ليعيد تشكيل ملامح التوازنات في مناطق أخرى من القارة، وعلى رأسها منطقة البلقان. وبالنسبة إلى جمهورية الجبل الأسود، لم تكن هذه الحرب حدثًا بعيدًا أو رمزيًّا، بل تحولت إلى مصدر مباشر لهزِّ الاستقرار الداخلي، وتعزيز الانقسام السياسي-الهوياتي، وإحياء الأدوار الخفية للنفوذ الروسي-الصربي في الداخل، مقابل تفعيل يقظ للارتباطات الغربية الأمنية والاقتصادية.

كان من أبرز التداعيات المباشرة للحرب اختلال ميزان الردع الإقليمي، الذي لطالما اعتمد على افتراض استقرار الوضع الأمني في أوروبا الوسطى والشرقية، وتحييد البلقان ضمن منظومة توسع الناتو والاتحاد الأوروبي. غير أن الغزو الروسي أعاد رسم خريطة التهديدات، وأدخل دول غرب البلقان، بما فيها الجبل الأسود، في حالة استنفار سياسي وأمني. وقد سارعت بودغوريتسا إلى الاصطفاف مع الغرب، وأدانت العدوان الروسي، وانضمت إلى حزمة العقوبات الأوروبية المفروضة على موسكو، رغم ما لذلك من تداعيات على قطاعات اقتصادية وشبكات تجارية تقليدية(12).  

لكن هذا الموقف الرسمي لم يكن محل إجماع داخلي، بل فجَّر خلافًا عميقًا بين النخب السياسية، وأعاد إلى الواجهة خطابًا شعبويًّا مواليًا لروسيا، يتم ترويجه عبر وسائل إعلام محلية ومواقع إلكترونية محسوبة على الصرب، يتهم الحكومة بخيانة "الهوية السلافية الأرثوذكسية" و"التبعية العمياء للغرب". وقد تغذَّى هذا الخطاب على مشاعر تاريخية ترى في موسكو الحامي التقليدي للمنطقة، وتعكس رغبة لدى جزء من السكان في رفض ما يعتبرونه نموذجًا غربيًّا مفروضًا لا يراعي الخصوصيات الثقافية والاجتماعية للمجتمع المونتينيغري.

ترافقت هذه المواقف مع تصاعد التدخلات الروسية غير التقليدية، لاسيما على المستوى السيبراني؛ إذ تعرضت مؤسسات حكومية حساسة في الجبل الأسود خلال عامي 2022 و2023 إلى سلسلة هجمات إلكترونية منسقة استهدفت أنظمة الاتصالات ومراكز البيانات، يُعتقد أنها نُفِّذت من قبل مجموعات قرصنة مرتبطة بالاستخبارات الروسية. ورغم التصدي التقني لهذه الهجمات بدعم من الناتو وشركاء أوروبيين، إلا أنها كشفت هشاشة البنية التحتية الرقمية للدولة، وعززت شعورًا عامًّا بالخطر(13).

في السياق ذاته، شهدت البلاد تدخلات سياسية واضحة خلال الاستحقاقات الانتخابية (2020-2023)، عبر تمويل حملات إعلامية مضادة للناتو والاتحاد الأوروبي، وتوجيه الرأي العام من خلال الشبكات الاجتماعية والمنابر الدينية، في محاولة لخلق اصطفاف انتخابي جديد يُضعف من ثقل النخب المؤيدة للغرب. وقد انعكس ذلك في نتائج متذبذبة للانتخابات البلدية والتشريعية، وفي حالة الاستقطاب الحاد داخل البرلمان؛ ما أعاق تشكُّل حكومات مستقرة، وأدى إلى أزمات متتالية في السلطة التنفيذية(14).

اقتصاديًّا، مثَّلت العقوبات المفروضة على روسيا، والانقطاع الجزئي عن بعض الأسواق التقليدية، تحديًا اقتصاديًّا مزدوجًا للجبل الأسود، التي تعتمد بشكل كبير على السياحة والتحويلات والاستثمارات الخارجية. فقد تراجعت أعداد السياح الروس، وتقلصت التدفقات المالية، وارتفعت أسعار الطاقة والمواد الأساسية؛ ما أسهم في تفاقم الأزمة المعيشية لدى شريحة واسعة من المواطنين. وجاء هذا الانكماش الاقتصادي في وقت تصاعدت فيه مطالب العدالة الاجتماعية ومكافحة الفساد؛ ما زاد من هشاشة المشهد الداخلي.

في المحصِّلة، لم تكن الحرب في أوكرانيا مجرد أزمة أوروبية خارجية بالنسبة إلى الجبل الأسود، بل تحولت إلى عامل مضاعِف للأزمات الكامنة في بنية الدولة. فبين الولاء التاريخي لروسيا والانخراط الواقعي في المؤسسات الغربية، وبين الهشاشة الاقتصادية والاستقطاب السياسي، وجدت الجبل الأسود نفسها في مواجهة اختبار وجودي صامت، يُعيد طرح الأسئلة الجوهرية حول الهوية والانتماء ووجهة المستقبل.

رابعًا: العلاقة بين الجبل الأسود وصربيا بين التداخل الجيوثقافي والتجاذب السياسي والديني

تُعد العلاقة بين الجبل الأسود وصربيا إحدى أكثر العلاقات تعقيدًا وتشابكًا في الفضاء البلقاني؛ إذ تتداخل فيها المعطيات التاريخية والروابط العائلية والدينية والثقافية، مع اعتبارات السيادة والهوية والانتماء الجيوسياسي. فمنذ استقلال البلاد، لم تُحسم هذه العلاقة على نحو نهائي، بل ظلت تتحرك بين مدٍّ وجزر، بين التنسيق المشروط والعداء الصامت. ويتغذى كل ذلك على ثنائية مستمرة: هل الجبل الأسود دولة مستقلة عن صربيا، أم امتداد تاريخي لأمتها الكبرى؟

فقد حافظت بلغراد، رغم الاعتراف الرسمي المتبادل بعد الاستقلال، على نفوذ ثقافي وديني وإعلامي قوي داخل الجبل الأسود، مستندةً إلى وجود أقلية صربية واسعة، ترى في نفسها جزءًا من الأمة الصربية، وترفض في كثير من الأحيان رموز الدولة المونتينيغرية الوليدة. لم يكن هذا النفوذ رمزيًا فقط، بل اتخذ أشكالًا مؤسسية عبر الكنيسة الأرثوذكسية الصربية، التي لا تزال تحتفظ بهيمنة دينية واسعة، وتُعد أحد أكثر الفاعلين تأثيرًا في الفضاء العام، خاصة في المناطق الشمالية والشرقية من البلاد(15).

وقد شكلت الكنيسة، منذ سنوات ما بعد الاستقلال، بؤرة صراع محوري بين الهويتين المتنافستين. فمن جهة، تسعى الدولة إلى الاعتراف بـ"الكنيسة الأرثوذكسية المونتينيغرية" كيانًا مستقلًّا يُجسِّد السيادة الوطنية الدينية. ومن جهة أخرى، تدافع الكنيسة الصربية عن شرعيتها التاريخية وامتدادها الكنسي الذي يعود إلى قرون، وتتهم السلطات بمحاولة تفكيك الروح الأرثوذكسية الجامعة بين الشعبين. بلغ هذا الصراع ذروته في أزمة قانون "الحرية الدينية"، عام 2019، الذي منح الدولة الحق في الاستحواذ على ممتلكات دينية لم تُسجَّل قانونيًّا، واعتُبر حينها محاولة لاستهداف الكنيسة الصربية، وأثار موجة احتجاجات شعبية واسعة(16).

إلى جانب البُعد الديني، تلعب وسائل الإعلام الصربية دورًا مركزيًّا في توجيه الرأي العام داخل الجبل الأسود؛ حيث تنتشر قنوات ومحطات وإذاعات وصحف موالية لصربيا بشكل كبير، وتُستخدم أداةً لتقويض خطاب الدولة الوطنية، وترويج السردية القومية الصربية. وتؤدي هذه الوسائل دورًا محوريًّا في تغذية الانقسام المجتمعي، والتشكيك في مشروعية السياسات الحكومية، وخلق حالة من التماهي الثقافي المتواصل مع بلغراد، خاصة في صفوف الشباب(17).

لا ينفصل هذا التداخل الإعلامي-الديني عن البُعد السياسي؛ حيث توجد قوى حزبية داخل الجبل الأسود ذات ولاء مباشر وغير مباشر لصربيا، وتعارض عضوية الناتو، وتدعو في برامجها السياسية إلى مراجعة العلاقات مع الغرب والانفتاح أكثر على موسكو وبلغراد. وقد شهدت الانتخابات العامة خلال السنوات الأخيرة حضورًا قويًّا لهذه الأحزاب؛ ما قاد إلى تشكيل حكومات ائتلافية هشة، وعرقل مسار الإصلاح، وأدَّى إلى تعطيل قرارات إستراتيجية، مثل تعديل القوانين الأمنية، وتسريع مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

أما العلاقة بين القيادتين السياسيتين، فقد سادها قدر من التوتر والانفصال الخطابي. ففي حين يتمسَّك التيار القومي المونتينيغري بمبدأ السيادة والانتماء الأوروبي، لا تُخفي النخبة السياسية في بلغراد ميلها إلى اعتبار الجبل الأسود "شقيقًا ضالًّا" حادَ عن مساره التاريخي، وتتوجب استعادته -معنويًّا على الأقل- إلى المجال الصربي. وقد انعكس هذا الموقف في مواقف بلغراد غير المتحمسة لعقوبات الاتحاد الأوروبي ضد روسيا، وفي دعمها الضمني للخطابات المناوئة للناتو داخل الجبل الأسود.

رغم ذلك، تبقى العلاقة معقدة ومفتوحة على احتمالات متعددة؛ فهي ليست علاقة عداء تقليدي ولا تحالف معلن، بل هي مزيج متقلب من التنافس والتداخل والانقسام الداخلي. وتكمن خطورتها في قدرتها على التأثير العميق على الاستقرار السياسي والاجتماعي للجبل الأسود، وعلى تشكيل توجهات الجيل الجديد. وهذا ما يهدِّد بجرِّ البلاد إلى محاور استقطاب إقليمي لا تزال مشتعلة، لاسيما في ظل تطورات كوسوفو، وأزمة البوسنة، واستمرار الحرب في أوكرانيا.

خامسًا: الجبل الأسود في مرمى التنافس الجيوسياسي

لم يعد موقع الجبل الأسود على الخريطة مجرد سمة جغرافية، بل تحول إلى موقع إستراتيجي متنازع عليه في الخريطة الجيوسياسية للبقاء والتأثير في البلقان. فالدولة الصغيرة المطلَّة على البحر الأدرياتيكي تمثل، من وجهة نظر القوى الكبرى، إما بوابة إلى أوروبا الوسطى، أو جسرًا نحو الهيمنة الإقليمية، أو ورقة ضغط في سياقات التفاوض والمساومة الجيوسياسية. وهذا ما جعلها منذ استقلالها هدفًا رئيسيًّا لتنافس حادٍّ بين مشاريع النفوذ الروسية والغربية، مع بروز أدوار جديدة لقوى شرق أوسطية وآسيوية تسعى لملء الفراغات.

النفوذ الروسي: الأرثوذكسية والطاقة والتضليل

ترى موسكو في الجبل الأسود امتدادًا طبيعيًّا لنفوذها التاريخي والديني في البلقان، وتسعى إلى إبقاء البلاد ضمن المدار السلافي الأرثوذكسي المناهض للغرب. وقد سخَّرت لتحقيق ذلك شبكة معقدة من الأدوات الناعمة والصلبة، تشمل الكنيسة الأرثوذكسية الصربية، ووسائل الإعلام الموجَّهة، ومؤسسات ثقافية واقتصادية، بالإضافة إلى عمليات تدخل سياسي واستخباراتي.

كان من أبرز تجليات هذا النفوذ محاولة الانقلاب عام 2016، التي سعت إلى إفشال مسار الانضمام للناتو. وقد وُجِّهت حينها أصابع الاتهام إلى ضباط استخبارات روس؛ ما شكَّل تحولًا نوعيًّا في فهم موسكو للعلاقة مع بودغوريتسا: من حليف سابق إلى "منشق إستراتيجي". كما استخدمت روسيا الطاقة والاقتصاد وسيلتي ضغط، عبر استثمارات في قطاعات النقل والعقارات، وتحفيز النخب السياسية المناوئة للغرب. وفي السنوات الأخيرة، كثَّفت روسيا من نشاطها السيبراني والإعلامي، لترويج سرديات بديلة حول الهوية والغرب والناتو؛ ما أسهم في توسيع قاعدة الأحزاب الموالية لها داخل البرلمان، واستدامة حالة الشك والانقسام المجتمعي.

الاتحاد الأوروبي: الشريك المتردد

منذ إطلاق مفاوضات الانضمام عام 2012، كان يُفترض أن تكون الجبل الأسود في موقع الشريك الأقرب من بوابة عضوية الاتحاد الأوروبي. لكن الواقع أظهر أن بروكسل عاجزة عن حسم التزامها نحو البلقان. فقد تباطأت وتيرة المفاوضات، وتراجعت حوافز الإصلاح، بينما تزايد التشكيك الشعبي في جدوى الانضمام، خاصة في ظل غياب أفق زمني واضح، وتضارب مواقف بعض الدول الأعضاء بشأن سياسة التوسيع(18).

ورغم دعم الاتحاد لمشاريع بنية تحتية، وإشرافه على برامج إصلاح قضائي وإداري، فقد ظل حضوره تقنيًّا وبيروقراطيًّا، لا يرقى إلى حجم التحدي الذي تمثِّله التدخلات الروسية، أو الحضور الصيني والتركي المتنامي. وهو ما دفع مراقبين إلى وصف موقف الاتحاد بأنه "إدارة أزمة بدل قيادتها"، في منطقة تُعدُّ من أكثر النقاط هشاشة في القارة الأوروبية.

الولايات المتحدة: الناتو أولًا

أَوْلَت الولايات المتحدة اهتمامًا خاصًّا بالجبل الأسود من بوابة حلف شمال الأطلسي، إذ شكّل انضمام بودغوريتسا إلى الناتو عام 2017 إنجازًا جيوسياسيًّا مهمًّا لواشنطن في وجه موسكو، التي كانت تعتبر البلقان إحدى مناطق نفوذها التاريخية. وقد واصلت الولايات المتحدة منذ ذلك الحين دعمها للمؤسسات الأمنية والعسكرية المونتينيغرية، وشاركت في تمويل برامج لتعزيز الأمن السيبراني ومكافحة الفساد. إلا أن الدور الأميركي ظل عسكريًّا-أمنيًّا بالدرجة الأولى، ولم يمتد إلى بناء شراكات اقتصادية أو دعم عمليات إصلاح سياسي عميق. وهذا ما أضعف من تأثيره مقارنةً بالتغلغل الثقافي والديني الروسي، أو حتى بالاستثمارات الصينية التي تقدم نفسها بلا شروط سياسية.

الصين وتركيا: اللاعبان الصاعدان

تمكنت الصين من التسلل بهدوء إلى البنية الاقتصادية للجبل الأسود، من خلال مبادرة "الحزام والطريق". فموَّلت مشاريع بنية تحتية ضخمة أبرزها الطريق السريع بار-بوليار، الذي تسبب في أزمة ديون حادة بعد عجز الحكومة عن سداد القرض الصيني. وقد أثار هذا المشروع جدلًا واسعًا؛ إذ اعتُبر مثالًا على "دبلوماسية المديونية"، التي تستخدمها بيجين لتوسيع نفوذها بهدوء في مناطق تغيب عنها الاستثمارات الغربية(19).

أما تركيا، فقد كثَّفت حضورها في مجالات التعليم والثقافة والدين، مستفيدة من العلاقات التاريخية التي تعود إلى الحقبة العثمانية. في هذا السياق، أنشأت مؤسسات تعليمية، وموَّلت ترميم مساجد وأوقاف؛ ما منحها موطئ قدم في المناطق ذات الأغلبية المسلمة، خاصة في الجنوب. وتحرص أنقرة على عدم الدخول في صراعات صريحة، بل تبني نفوذها بهدوء كفاعل ثالث مرن بين الغرب وروسيا(20).

تفاعل القوى الكبرى: صراع ناعم على النفوذ

يُظهر التفاعل بين هذه القوى أن الجبل الأسود ليس مجرد ساحة صراع جيوسياسي تقليدي، بل هو فضاء معقد لتقاطع المصالح والمشاريع المتضاربة. فبين الضغوط الغربية نحو الإصلاح، والتدخلات الروسية في الهوية والسيادة، والتوسُّع الصيني الاقتصادي، والتغلغل التركي الثقافي والديني، تبدو البلاد محاصرة بشبكة من النفوذ المتداخل؛ ما يجعل قرارها السيادي هشًّا، ويزيد من صعوبة رسم مسار إستراتيجي مستقل وواضح.

سادسًا: تحديات الهوية والهجرة والاقتصاد والتعددية الطائفية

تُشكِّل التحديات الداخلية التي تواجه جمهورية الجبل الأسود قلب المعضلات التي تعوق تقدمها واستقرارها. فهي ليست دولة صغيرة جغرافيًّا مع عدد سكان محدود وحسب، بل تعيش واقعًا مركبًا من الانقسامات العرقية والدينية، وتواجه أزمات اقتصادية مستمرة، مع تدفق هجرات خارجية تؤثر على نسيجها الاجتماعي. وهذا الواقع يطرح أسئلة عميقة حول قدرة الدولة على بناء هوية وطنية جامعة وقادرة على الصمود أمام الضغوط الإقليمية والدولية.

أول وأبرز هذه التحديات هو الانقسامات العرقية والدينية التي تتوزع بين صرب ومونتينيغريين وأقليات أخرى مثل الألبان والبوشناق والكروات، إضافة إلى التعددية الطائفية والدينية التي تشمل الأرثوذكس والمسلمين والكاثوليك. تشكِّل هذه التنوعات ثراءً ثقافيًّا بلا شك، لكنها في الوقت ذاته، تشكِّل مصدرًا للصراعات والاحتجاجات المتكررة، خصوصًا حينما تتداخل مع السياسة وتُستغل لتغذية الخطاب القومي الضيق أو المناهض للدولة المركزية. في ضوء هذا الواقع، تبقى فكرة بناء هوية وطنية جامعة ذات أولوية، لكنها تواجه صعوبات جمة بسبب الإرث التاريخي المتشابك، والإرث الأيديولوجي المتناقض الذي ينهل منه مختلف الفاعلين.

على الجانب الاقتصادي، تعاني البلاد من أزمة هيكلية تتسم ببطء النمو، وارتفاع معدلات البطالة، خصوصًا بين الشباب، واعتماد كبير على قطاعات متقلبة مثل السياحة والتحويلات المالية من الخارج. وقد تفاقمت هذه الأوضاع مع تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية، التي أثَّرت على تدفق الاستثمارات والأسواق التقليدية. كما يُشكِّل هروب الكفاءات والهجرة الخارجية تحديًا جوهريًّا؛ حيث يختار الكثير من الشباب المؤهلين مغادرة البلاد بحثًا عن فرص أفضل؛ ما يُضعف من القدرة على تطوير القطاعات الحيوية، ويهدد الاستدامة الاجتماعية والاقتصادية.

يُضاف إلى كل ذلك، ضعف البنية التحتية الاجتماعية والخدمية، وارتفاع معدلات الفقر في بعض المناطق الريفية؛ ما يؤدي إلى زيادة الاحتقان الشعبي، ويغذي مزاجًا سياسيًّا متقلبًا ومستعدًّا للتصعيد في وجه المؤسسات. ويُبرز هذا الواقع ضعف دور الدولة في توفير الخدمات الأساسية، والحاجة إلى إصلاحات جذرية تشمل مكافحة الفساد وتحسين الإدارة العامة.

في هذا السياق، يُعد التعدد الديني والطائفي في الجبل الأسود عاملًا مركزيًّا في دينامية تشكُّل الهوية الوطنية. فالكنائس والمساجد، وكذلك الجمعيات الدينية، تشكل أقطابًا مهمة في التفاعل الاجتماعي والسياسي. غير أن التنافس بين الكنيسة الأرثوذكسية الصربية والجهات الدينية المحلية، إضافة إلى العلاقة المعقدة بين الجماعات الدينية المختلفة، يُلقي بظلاله على جهود التقارب الوطني، ويُهيئ الأرضية لحركات احتجاجية أحيانًا، وتوترات متكررة يمكن أن تتحول إلى أزمات سياسية.

في النهاية، لن يكون نجاح الجبل الأسود في تجاوز هذه التحديات الداخلية ممكنًا إلا من خلال تبني إستراتيجية شاملة تدمج بين بناء مؤسسات قوية، وتعزيز المواطنة الجامعة، وتطوير الاقتصاد الوطني بقطاعات مستدامة، إضافة إلى إدارة حوار داخلي فعَّال بين المكونات العرقية والدينية، في ظل دعم دولي وإقليمي متوازن يعزز استقلالية القرار الوطني.

سيناريوهات المستقبل: خيارات الجبل الأسود في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية

استنادًا إلى المعطيات الراهنة، واستقراء للمتغيرات الداخلية والخارجية التي تؤثر على مسار الدولة في السنوات القادمة، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات مستقبلية تعكس توازن القوى والخيارات السياسية المختلفة.

السيناريو الأول: تعميق الاندماج الغربي

يرتكز هذا السيناريو على فرضية نجاح النخبة السياسية المونتينيغرية في توحيد الصفوف واستكمال الإصلاحات السياسية والاقتصادية، على نحو يسرِّع انضمام الجبل الأسود إلى الاتحاد الأوروبي. ويُتوقَّع في هذه الحالة تعزيز المؤسسات الوطنية، وتحسين المناخ الاستثماري، والحد من التدخلات الروسية والصربية عبر تقوية الارتباطات الأمنية والسياسية مع الناتو والغرب. وسيساعد هذا المسار على تشكيل هوية وطنية جامعة تعتمد المواطنة والقيم الديمقراطية، مع تقليل حدة الانقسامات العرقية والدينية. رغم ذلك، يظل هذا السيناريو معتمدًا على دعم خارجي مستمر، وقد يواجه مقاومة من الفئات المحافظة والأحزاب الموالية لموسكو.

السيناريو الثاني: الانزلاق نحو الاضطراب الداخلي

يفترض هذا السيناريو تفاقم الانقسامات السياسية والاجتماعية، وتصاعد التدخلات الخارجية، خاصة الروسية والصربية، بما يؤدي إلى حالة من الاضطراب الداخلي قد تتطور إلى أزمات سياسية أو أمنية شديدة.

قد يشهد هذا المسار تجددًا لصراعات الهوية والدين، وتفاقمًا لأزمات الفساد والتراجع الاقتصادي، مع احتمالية زيادة حدة الاحتجاجات الشعبية والفوضى. وفي هذا الإطار، قد تتعرض الجبل الأسود لمحاولات تقويض سيادتها، وربما إعادة إنتاج نماذج الصراعات العرقية الطائفية التي شهدها الإقليم سابقًا، مع مخاطر انتقال العدوى من نزاعات كوسوفو أو البوسنة.

السيناريو الثالث: التجميد والحفاظ على وضع هش

يرتكز هذا السيناريو على استمرار حالة "الاستقرار الهش"، فتحافظ الجبل الأسود على وضعها الراهن دون تحقيق اختراقات كبيرة؛ ما يؤدي إلى دوام حالة من الانقسام الداخلي غير القابل للحل، واستمرار التدخلات الخارجية، مع تذبذب الأداء السياسي وضعف التنمية الاقتصادية. قد يشهد هذا السيناريو احتواءً نسبيًّا للصراعات عبر موازنات قوى داخلية وخارجية. لكنه في الوقت نفسه يُبقي البلاد في حالة ضعف واستنزاف مستمر، مع غياب رؤية واضحة لمستقبل مستقل ومستقر.

عوامل الحسم

تتحدد إمكانية تحقق أي من هذه السيناريوهات بعدة عوامل، أبرزها: الإرادة السياسية المحلية، ومدى تقبل المجتمع لتجديد الهوية الوطنية الجامعة، والدعم الدولي والإقليمي، وخاصة موقف الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. يضاف إلى ذلك تطورات الحرب الروسية-الأوكرانية، واستقرار دول الجوار الحيوية مثل كوسوفو وصربيا والبوسنة.

خاتمة: الجبل الأسود مرآة لمستقبل البلقان

تجسد تجربة جمهورية الجبل الأسود اليوم نموذجًا مصغرًا للتحديات الكبرى التي تواجه منطقة البلقان بأسرها. فالدولة الصغيرة التي تناضل من أجل بناء هويتها الوطنية المستقلة وسط ضغوط جيوسياسية معقدة، تعكس الصراعات العميقة بين الإرث التاريخي والتطلعات المستقبلية، بين النفوذ الروسي الغربي، والتحولات السريعة في موازين القوة الدولية. كما تكشف حالة الجبل الأسود عن هشاشة الدولة الحديثة في منطقة ما زالت تُعاني من أزمات الهوية والتعددية، حيث تُختبر كل محاولات بناء السلام والاستقرار أمام مخاطر الانقسامات الجديدة التي قد تعيد إنتاج "البلقنة". لكنها في الوقت ذاته تُظهر إرادة محلية وجهودًا متجددة للتماسك والاندماج في المنظومة الأوروبية، التي تبقى أملًا قائمًا رغم الإحباطات والتحديات.

وتلعب القوى الكبرى دورًا مزدوجًا في هذه المعادلة. فبينما يحاول الغرب فرض نموذج دولي قائم على سيادة القانون والديمقراطية، تسعى روسيا وتركيا وأحيانًا الصين إلى استثمار نقاط الضعف وتعزيز نفوذها عبر أدوات متنوعة؛ ما يُعقِّد فرص الحل ويطيل أمد الأزمات. وهكذا، تبقى الجبل الأسود في مفترق طرق حاسم، بين الاستمرار في رحلة بناء دولة مستقلة وقوية، أو الانزلاق في دوامة صراعات قد تُعيد المنطقة إلى فصول من العنف والانقسام. والخيار أمام صنَّاع القرار والمجتمع الدولي هو دعم كلِّ ما من شأنه تعزيز السلام والاندماج، وتجنب العزلة والمواجهة التي قد تؤدي إلى تفكك جديد في قلب أوروبا.

نبذة عن الكاتب

مراجع

(1) The New Union Post: Montenegro’s Path to the EU is Not All Smooth Sailing, 30 May 2025, (Accessed on 24 September 2025):

https://newunionpost.eu/2025/05/30/montenegro-eu-accession-negotiations/

(2) Seth G. Jones, Russia’s Shadow War Against the West, Center for Strategic & International Studies, 18 March 2025, (Accessed on 24 September 2025):

https://www.csis.org/analysis/russias-shadow-war-against-west

(3) Matiss Veigurs, "Disembedment" Politics of Identity: the Case of Montenegro, ResearchGate, 17-19 April 2013, (Accessed on 25 September 2025):

https://www.researchgate.net/publication/341572547_Disembedment_Politics_of_Identity_the_Case_of_Montenegro

(4) Chary Frederick B, Montenegrin Wars of Independence, EBSCO Knowledge Advantage, 2023 (Accessed on 25 September 2025):

https://www.ebsco.com/research-starters/history/montenegrin-wars-independence

(5) Miloš Dragaš, The role of the Church in contemporary Montenegrin society, Diplomacy & Commerce Montenegro, 28 December  2024, (Accessed on 25 September 2025):

https://diplomacyandcommerce.me/the-role-of-the-church-in-contemporary-montenegrin-society/

(6) Post-modern Nation: Montenegro One Year after Independence, European Stability Initiative, September 2007, (Accessed on 25 September 2025):

https://www.esiweb.org/pdf/esi_picture_story_-_post-modern_nation._montenegro_one_year_after_independence_-_september_2007.pdf

(7) Jean-Arnault Dérens, Montenegro: The Difficult Rebirth of a Mediterranean State, European Institute of the Mediterranean, September 2007, (Accessed on 25 September 2025):

https://www.iemed.org/publication/montenegro-the-difficult-rebirth-of-a-mediterranean-state/

(8) Biser Banchev, The New Old States Serbia and Montenegro as Successors to Yugoslavia and-or to Themselves, Etudes Balkaniques, Académie Bulgare des Sciences, Institut d'Etudes Balkaniques, Vol. XLVII, Issue 2-3, January 2011, p. 51.

(9) Montenegro ratifies Nato membership in historic shift to western alliance, The Guardian, 2017, (Accessed on 24 September 2025):

https://www.theguardian.com/world/2017/apr/28/montenegro-ratifies-nato-membership-in-historic-shift-to-western-alliance

(10) Vladimir Vučković, Fortifying Montenegro: Navigating Security Challenges in the NATO Era, New Lines Institute, 24 April 2024, (Accessed on 24 September 2025):

https://newlinesinstitute.org/political-systems/fortifying-montenegronavigating-security-challenges-in-the-nato-era/

(11) Cyril Jarnias, Perspectives Economiques Pour Entrepreneurs au Monténégro, CyrilJarnias. 24 February 2025 (Accessed on 24 September 2025):

https://www.cyriljarnias.com/creation-societe-etranger/creation-societe-destination-montenegro/perspectives-economiques-entrepreneurs-montenegro/

 

(12) Balkanske države i nakon dvije godine ostaju podijeljene oko rata u Ukrajini, Balkan Insight, 23 February 2023, (Accessed on 24 September 2025):

https://balkaninsight.com/sr/2024/02/23/balkanske-drzave-i-nakon-dvije-godine-ostaju-podijeljene-oko-rata-u-ukrajini/

(13) Olivier Matthys, Šef NATO-a: Crna Gora suočava se sa hibridnim prijetnjama Rusije, balkans.aljazeera.net, 16 December 2024, (Accessed on 24 September 2025):

https://balkans.aljazeera.net/news/balkan/2024/12/16/sef-nato-a-crna-gora-suocava-se-sa-hibridnim-prijetnjama-rusije

(14) Politička kriza u Crnoj Gori: Izostaje kvalitetan dijalog vlasti i opozicije, balkans.aljazeera.net, February 2025, (Accessed on 24 September 2025):

https://balkans.aljazeera.net/video/2025/2/20/politicka-kriza-u-crnoj-gori-izostaje-kvalitetan-dijalog-vlasti-i-opozicije

(15) Ljubomir Filipović, Montenegro Under the Influence of a Foreign Church, CWBS Center for Western Balkans Studies, 26 September 2024, (accessed on 24 September 2025):

https://cfwbs.org/montenegro-under-the-influence-of-a-foreign-church-ljubomir-filipovic/

(16) Samir Kajosević, Serbian Church Enthronement Sparks Clashes in Montenegro, Balkan Insight, 5 September 2021, (accessed on 24 September 2025):

https://balkaninsight.com/2021/09/05/serbian-church-enthronement-sparks-clashes-in-montenegro/

(17) Sava Mirković, Media Landscape in Montenegro, The Resource Centre on Media Freedom in Europe, 30 August 2024, (accessed on 24 September 2025):

https://www.rcmediafreedom.eu/Publications/Country-reports/Country-reports/Media-Landscape-in-Montenegro

(18 )Milena Đurđić, Koliko je realno da Crna Gora uđe u EU do 2028 godine?  VOA (Voice of America), 21 December 2024, (accessed on 24 September 2025):

https://www.glasamerike.net/a/crna-gora-evropska-unija-clanstvo-pregovori/7907213.html

(19) Milica Kovačević, Izloženost Crne Gore uticaju Kine, Centar za Demokratsko Tranziciju, January 2012, (accessed on 24 September 2025):

https://www.cdtmn.org/wp-content/uploads/2021/02/Izlo%C5%BEenost-Crne-Gore-uticaju-Kine-final-version-1.pdf

(20) Odnosi Crne Gore i Turske na zavidnom nivou, mina, 22 October 2013, (accessed on 24 September 2025):

https://www.mina.news/article/odnosi-crne-gore-i-turske-na-zavidnom-nivou