
نشرت الإدارة الأميركية مساء الإثنين 29 سبتمبر/أيلول 2025، مباشرة بعد مؤتمر صحفي جمع الرئيس الأميركي دونالد ترامب برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض، خطة ترامب لإنهاء الحرب على غزة، وما وصفه الرئيس بتحقيق السلام في الشرق الأوسط. ولأن نتنياهو اطلع مسبقاً على الخطة، وكانت مباحثاته مع مسؤولين أميركيين قد تناولت إعادة صياغة عدد من بنودها، فقد أعرب عن تأييد مختصر للخطة.
يوم الجمعة 3 أكتوبر/تشرين الأول، أعلنت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في بيان قصير ومُناور، موافقتها على أجزاء من خطة الرئيس ترامب، وطالبت بمباحثات إضافية لبحث التفصيلات العملية والجدول الزمني لتنفيذ هذه الأجزاء، بينما أحالت أجزاء أخرى إلى قرار القوى الوطنية الفلسطينية كافة، لكونها تتعلق بمستقبل قطاع غزة والمسألة الفلسطينية ككل، وتخص الشعب الفلسطيني بمجموعه لا حركة حماس وحدها.
رحب الرئيس الأميركي ببيان حماس، بل وبادر إلى نشره على صفحته بموقع تروث سوشيال، معتبراً إياه موافقةً من الحركة على خطته، بغض النظر عن الفروقات حول عدد كبير من البنود. ولم يلبث الوسطاء العرب، مصر وقطر، كما إسرائيل والإدارة الأميركية، أن أعلنوا أن مفاوضات ستعقد بداية من يوم الإثنين 6 أكتوبر/تشرين الأول في شرم الشيخ المصرية، لبحث التفاصيل الخاصة بتنفيذ المرحلة الأولى من الخطة، مرحلة الإفراج عن المحتجزين الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين، وما يسبق هذه الخطوة من وقف لإطلاق النار في غزة، وانسحاب محدود للجيش الإسرائيلي في القطاع.
في اليوم التالي على صدور بيان حماس، صدر عن مجموعة الدول العربية والإسلامية الثماني، المشاركة مع الأميركيين في مشروع إحلال السلام في غزة، بيان ترحيب بموقف حماس، وتبنٍّ لتفسيرها لخطة ترامب، دعت فيه إلى وقف إطلاق النار وضرورة عقد مباحثات تفصيلية حول تنفيذ بنودها. وفيما بدا أنه استجابة لضغوط عربية-إسلامية، أطلق الرئيس ترامب يوم الأحد 5 أكتوبر/تشرين الأول، تصريحات متفائلة حول مباحثات شرم الشيخ، ونشر خارطة مقترحة من الجانب الأميركي لانسحاب الجيش الإسرائيلي المتوقع في المرحلة الأولى.
يوم الإثنين 6 أكتوبر/تشرين الأول، بعد أسبوع واحد فقط على إعلان البيت الأبيض نسخة من خطة ترامب الأخيرة، بدأت مباحثات غير مباشرة بالفعل في شرم الشيخ بين وفد حماس والوفد الإسرائيلي، بوجود وسطاء قطريين ومصريين وأميركيين، التحق بهم -للمرة الأولى- مسؤولون أتراك. ولكن المبعوثين الأميركيين الرئيسيين، ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر، اللذين تزايدت الأدلة على أنهما لعبا الدور الرئيسي في تطور صياغة خطة ترامب وفي الاتصالات مع الإسرائيليين والشركاء العرب والمسلمين، لم يشاركا في المفاوضات حتى يوم الأربعاء، الذي شهد أيضاً التحاق رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني.
ومع الساعات الأخيرة من مساء اليوم نفسه، الأربعاء 8 سبتمبر/أيلول، أعلن في واشنطن أن مفاوضي حماس والإسرائيليين توصلوا إلى اتفاق حول المرحلة الأولى من الخطة. ولم تلبث مصادر مصرية أن أكدت أن الاتفاق الذي نشر بصورة غير رسمية بعد ذلك، قد تم التوقيع عليه بالفعل في شرم الشيخ صباح الخميس 9 سبتمبر/أيلول.
بمرور الأيام، سيما بعد توقيع اتفاق المرحلة الأولى، تتزايد المؤشرات على أن خطة ترامب تسير قدماً، رغم كافة الاعتراضات والتحفظات عليها من الجانب الفلسطيني، ومن الجانب العربي-الإسلامي، وحتى من الجانب الإسرائيلي. ولكن من المبكر القول بأن تنفيذ كافة مراحل الخطة سيكون ممكناً، أو أنه سيتم بصورة سلسة، كما يبشر الرئيس ترامب في تصريحاته.
كيف ولدت خطة وقف الحرب في غزة؟ ولماذا وافق عليها نتنياهو؟ ولماذا وتحت أية ظروف أعلنت حماس موافقتها المشروطة عليها؟ ولماذا يجب الحذر من توقعات التطبيق الكامل للخطة والنهاية السريعة للحرب على غزة؟
تطور خطة الرئيس ترامب
ولدت خطة ترامب بشأن غزة في صيغتها الأولى من لقاء الرئيس الأميركي بقادة وممثلي دول مجموعة الثماني العربية-الإسلامية، المعنية بحرب غزة، على هامش انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك يوم الثلاثاء 25 سبتمبر/أيلول. كان الأتراك والقطريون هم من طلبوا لقاء المجموعة مع الرئيس، على أمل أن يؤدي ضغطها وإجماعها إلى وقف الحرب. تأخر الأميركيون في الموافقة إلى ما قبل يوم الاجتماع بأيام قليلة. عدد من الدول تمثلت بقادتها، مثل تركيا وقطر والأردن وباكستان وإندونيسيا، بينما مثل السعودية والإمارات وزيرا خارجيتها، ومثل مصر رئيس وزرائها.
تحدثت المجموعة العربية-الإسلامية في الاجتماع بمطالبها: وقف الحرب، الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، منع تهجير الأهالي، تشكيل إدارة مدنية فلسطينية من التكنوقراط لإدارة القطاع خلال مرحلة انتقالية، وإطلاق مشروع إعمار سريع وشامل. وليس واضحا إن كان الجانب الأميركي قد رد عليهم بطرح النقاط الأولية لما بات يعرف بخطة ترامب، بل ما هو واضح أن قادة الدول الثماني خرجوا من اللقاء معربين عن ارتياحهم لمساعي الرئيس الأميركي لإحلال السلام في غزة.
في اليوم السابق على لقاء ترامب-نتنياهو في البيت الأبيض، المجدول مسبقاً والذي كان يفترض أن يعلن فيه نتنياهو موقفه من خطة ترامب، التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي في نيويورك بالمبعوثين الأميركيين ويتكوف وكوشنر. كانت هذه المرة الأولى التي يظهر فيها كوشنر، زوج ابنة الرئيس ومن قاد جهود السلام الإبراهيمي في رئاسة ترامب الأولى، بوصفه لاعباً فعالاً في الخطة، على الرغم من أنه لا يحتل موقعاً رسمياً في إدارة ترامب الحالية. ويبدو أن الإتيان بكوشنر لمشاركة ويتكوف جهوده، كان إشارة إلى حرص الرئيس ترامب على إنجاح جهود وقف الحرب هذه المرة. ولكن، ومهما كانت خلفيات ظهور كوشنر على المسرح، فالمؤكد أن اللقاء الذي عقده بصحبة ويتكوف مع نتنياهو في نيويورك، واستمر 6 ساعات، قد انتهى إلى إحداث جملة من التغييرات في صيغة خطة ترامب لصالح الجانب الإسرائيلي.
في اليوم التالي، 29 سبتمبر/أيلول، وبعد انتهاء لقائهما في البيت الأبيض، عقد الرئيس ترامب ونتنياهو مؤتمراً صحفياً توجه فيه ترامب بالشكر لنتنياهو على استجابته لجهود البيت الأبيض، وتحدث طويلاً عن خطته، مؤكداً أنها لا تتعلق بالحرب في غزة وحسب، بل وما هو أبعد بكثير من غزة، عن السلام في كل الشرق الأوسط.
أما نتنياهو فتحدث باختصار عن تأييده لخطة الرئيس، ثم استفاض في استعراض بنود الخطة التي تحقق أهداف إسرائيل من الحرب على غزة، مثل عودة الرهائن جميعاً، الأحياء والأموات، تفكيك قدرات حماس العسكرية وحكمها السياسي، تسليم القطاع لإدارة مدنية لا علاقة لها بحماس أو السلطة الفلسطينية، واحتفاظ إسرائيل بالمسؤولية الأمنية عن القطاع، بما يشمل استمرار وجود الجيش الإسرائيلي في محيط غزة الأمني، في المستقبل المنظور.
خلال ساعات قليلة، أرسلت الإدارة الأميركية صيغة الخطة الأخيرة، التي أعرب نتنياهو عن تأييدها، إلى مجموعة الثماني العربية-الإسلامية، ومن ثم أعلنت الخطة لوسائل الإعلام. والراجح أن مسؤولي دول المجموعة، لا سيما قطر وتركيا ومصر، فوجئوا بنص الخطة الذي أرسل لهم ومدى اختلافه عما أبلغوا به في اللقاء الجماعي مع الرئيس ترامب في نيويورك، الأمر الذي صرح به علانية في اليوم التالي وزير الخارجية الباكستاني محمد إسحاق دار. وهذا ما أدى إلى إطلاق اتصالات سريعة بين مسؤولين قطريين وأتراك، وبين مسؤولين أميركيين، مباشرة بعد تسلم الخطة.
قد يكون المنطق الذي تحدث به المسؤولون القطريون والأتراك مع الأميركيين، أنه بما أن الولايات المتحدة سمحت لنتنياهو بإجراء تعديلات على النص الأصلي فلا بد أن يُسمح لحماس -التي لم تكن على اطلاع على الخطة في أي مرحلة من مراحل تبلورها- بإجراء تعديلات مشابهة. ويبدو أن المسؤولين الأميركيين، سيما توم باراك وويتكوف ونائب الرئيس دي فانس، أقروا بوجاهة الاحتجاجات العربية-الإسلامية، وألحوا على أن تساعد الدول العربية والإسلامية الوسيطة على إقناع حماس بقبول الخطة، ووعدوا بالعمل خلال المفاوضات التي ستجري حول تفاصيل الخطة وسبل تطبيقها؛ على معالجة البنود محل الاعتراض.
عندما سلّم مسؤولون قطريون ومصريون نص الخطة إلى وفد حماس التفاوضي بالدوحة مساء اليوم نفسه، كان رد فعل الفلسطينيين الأولي هو الرفض جملة وتفصيلاً، وهذا ما أدى إلى استدعاء رئيس المخابرات التركية، إبراهيم قالين، للمساعدة في إقناع وفد حماس بتقديم رد أكثر توازناً وبراغماتية، على أساس أن الخطة تضم بنوداً تصب بالفعل لصالح الشعب الفلسطيني وأهل غزة، وأن مسؤولين أميركيين كباراً قد أكدوا استعدادهم للمساعدة في إعادة تفسير البنود محل التحفظ، الجزئي أو الكلي. وهكذا، وبعد أيام قليلة من تسلم الخطة، وبعد مشاورات مكثفة مع القوى الفلسطينية الأخرى، ومع قيادات حماس في غزة، ومع الوسطاء القطريين والمصريين والأتراك، أعلنت حماس في بيان قصير عن قبول عمومي لأجزاء من الخطة، والتحفظ على أجزاء أخرى.
خطة ترامب ورد حماس عليها
في أصلها، صيغت خطة ترامب في 21 بنداً، ولكن أحد البنود -ويتعلق بالتعهد بعدم اعتداء إسرائيل على قطر مرة أخرى- أسقِط بعدما اعتذر نتنياهو لرئيس الوزراء القطري وتعهد شخصياً بألا تقوم إسرائيل بأعمال مماثلة في المستقبل. لذا، فقد تكونت الخطة في صيغتها الأخيرة من 20 بنداً -كُتبت كإطار عام وليس كمشروع اتفاق عملي وتفصيلي- تنقسم إلى ثلاثة أجزاء: يتعلق الأول بالحرب والرهائن ووقف إطلاق النار، ويعالج الثاني كيفية إدارة قطاع غزة وضبط أمنه وإغاثته وبدء تعميرها، بينما يقدم الثالث طروحات عمومية حول المسألة الفلسطينية برمتها وحق الفلسطينيين في تقرير المصير. وقد وضعت الخطة عنواناً لها في البند الأول، الذي نص على أن غزة ستكون "منطقة منزوعة السلاح، خالية من الإرهاب، ولا تشكل تهديداً لجيرانها".
في الجزء الأول، تتناول الخطة المرحلة الأولى في بندين ينصان على وقف لإطلاق النار وانسحاب إسرائيلي محدود لتيسير عملية إطلاق كافة المحتجزين الإسرائيليين وجثامين الموتى منهم، مقابل عدد محدد من الأسرى الفلسطينيين ومن جثث الفلسطينيين التي تحتفظ بها إسرائيل. وبمجرد انتهاء عملية التبادل، تشير الخطة إلى أن أعضاء حماس سيُخيّرون بين القبول بالتعايش السلمي مع إسرائيل والتخلي عن السلاح، وهؤلاء سيسمح لهم بالبقاء والعيش في غزة. أما مَن يعترضون على ذلك، فيوفر لهم ممر آمن لمغادرة القطاع إلى بلدان تقبل استقبالهم. ولكن الخطة تخلو تماماً من كيفية تطبيق هذا البند عملياً، ولا تشير إلى المدى الزمني الذي سيُطرح فيه هذا الخيار. وتعِد الخطة بأن انتهاء عملية التبادل سيتبعها، أو يرافقها، السماح بدخول المساعدات إلى القطاع ضمن الإطار المُقر في اتفاق 19 يناير/كانون الثاني 2025.
ليس ثمة إشارة في الجزء الأول من الخطة إلى نهاية للحرب، ولا إلى موعد اكتمال الانسحاب الإسرائيلي من القطاع. ولم يكد يُعلَن ردّ حماس على الخطة حتى نشر البيت الأبيض خارطة الانسحاب الأولى، التي تُظهر خطًّا يكاد يلامس طريق صلاح الدين في المنطقة الوسطى، مع إبقاء شمال قطاع غزة ومنطقة رفح وخط الحدود مع مصر تحت السيطرة الإسرائيلية. ويعتقد أن هذا الخط، الذي أعطي اللون الأصفر، قد تم تعديله بصورة طفيفة في مباحثات شرم الشيخ.
يعالج الجزء الثاني من الخطة، وهو الأكثر تفصيلاً، وضع قطاع غزة الإداري والسياسي والأمني طوال مدى غير منظور، وبدون تحديد أفق زمني لأي من خطواته. يتضمن هذا الجزء إشارة إلى حكومة من التكنوقراط الفلسطينيين، مع خبراء دوليين، تتولى إدارة الشأن اليومي للقطاع، ويشرف عليها مجلس للسلم تعود إليه القرارات السياسية والأمنية. بمعنى، أن القطاع سيخضع لما يشبه الانتداب الدولي، ويدار في المستويين بصورة منفصلة عن الضفة الغربية، وعن السلطة الفلسطينية لأمد غير محدد. تسمي الخطة الرئيس ترامب رئيساً لمجلس السلم، وبخلاف رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، ليس هناك أي إشارة إلى هوية أعضاء المجلس الآخرين، أو البلدان التي سيأتون منها.
خلال هذه المرحلة، ستُشكل مجموعة عسكرية لمراقبة تنفيذ الاتفاق، وقوة استقرار أمني دولية (يعتقد أنها ستتكون من قوات عربية وإسلامية)، تنتشر في القطاع إلى جانب قوة أمن فلسطينية، تتولى تدريبها مصر والأردن، كما سيجري العمل على تدمير كافة المعدات العسكرية لقوى المقاومة الفلسطينية ويُنزع سلاحها. ولكنّ الخطة لم تذكر مرجعية قوة الاستقرار، وما إن كانت ستتبع الأمم المتحدة. وليس ثمة إشارة إلى خطوط انتشار هذه القوة، أو هل ستعمل أيضاً على حماية أهالي القطاع من أية اعتداءات إسرائيلية.
تنص الخطة على أن أهالي غزة لن يُجبروا على مغادرة القطاع، وأن من يغادر لسبب ما سيسمح له بالعودة. كما تتعهد بأن إسرائيل لن تحتل أو تضم قطاع غزة، ولكنها تربط بين الانسحابات الإسرائيلية التالية على الانسحاب الأوّلي وبين عملية نزع السلاح. وحتى مع تقدم خطوات المرحلة الثانية، لا تحمل الخطة أية ضمانات تتعلق بانسحاب إسرائيلي كامل ونهائي، بل تقول بأن القوات الإسرائيلية ستبقى في "محيط أمني" لقطاع غزة إلى أمد بعيد.
أما الجزء الثالث من الخطة، الذي يتطرق إلى مستقبل المسألة الفلسطينية، فيتضمن ثلاثة بنود فقط، صيغت بلغة عامة وغير مُلزمة. أولها، يقول بإطلاق حوار بين الأديان لتعزيز قيم التسامح والتعايش، بينما يتحدث الثاني عن مسارين للتقدم في إعادة تطوير غزة وإصلاح السلطة الفلسطينية، يسبقان نضج الظروف لفتح طريق نحو تقرير مصير الفلسطينيين وإقامة دولة لهم، وهو الطموح الذي يقرّ بوجوده واضع الخطة، بدون أن يتعهد بتنفيذه أو يعمل خلال أفق زمني محدد على تحويله إلى واقع حي. أما البند الثالث من هذا الجزء فينص على أن الولايات المتحدة ستعمل على إطلاق حوار بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية للاتفاق على أفق سياسي للتعايش السلمي والمزدهر. وهنا أيضاً، ليس ثمة إشارة إلى دولة فلسطينية مستقلة، ولا إلى الوضع في الضفة الغربية.
أما رد حماس على الخطة، فكُتب في أربع فقرات قصيرة؛ وكما هي أغلب بنود خطة ترامب نفسها، صيغ رد حماس بلغة عامة. ولكن، وبخلاف بيان رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو في تأييد الخطة، الذي أدلى به أثناء المؤتمر الصحفي المشترك مع ترامب في البيت الأبيض، وأشار فيه إلى تطابق أهداف الخطة مع أهداف الحرب الإسرائيلية في غزة، جاء رد حماس ليُبرز مجمل بنود الخطة محل التحفظ، والتي يصعب على الحركة القبول بها، أو حتى التفردُ في التفاوض حولها.
في الفقرة الأولى من ردها، رحب بيان حماس بجهود الرئيس ترامب، سيما تلك المتعلقة بوقف الحرب وتبادل الأسرى وإدخال المساعدات ورفض تهجير أهالي قطاع غزة، وبدا وكأن حماس تجعل من وقف الحرب عنواناً رئيسياً لبيانها. وفي الفقرتين الثانية والثالثة، أعربت حماس عن قبولها بصفقة تبادل شاملة وكلية، واستعدادها للدخول في مفاوضات حول إجراءات الصفقة، وأعادت التأكيد على موافقتها على تسليم الحكم في غزة لحكومة تكنوقراط فلسطينية. أما الفقرة الرابعة من البيان، فقالت بوضوح إن جميع بنود الخطة الأخرى تخص الجماعة الفلسطينية الوطنية كافة، وأن الحركة لا يمكنها التفرد بالتفاوض حولها.
وهذه الفقرة، الرابعة والأخيرة من البيان، على وجه التحديد، كانت محل حوار مع القيادي في الحركة موسى أبو مرزوق على قناة الجزيرة، بعد ساعات من إعلان رد حماس، قال فيه إن الشعب الفلسطيني لا يمكنه أن يقبل انتداباً غربياً جديداً، وأن حماس لن تسلم سلاحها إلا لسلطة فلسطينية ذات سيادة، وأن التفاوض حول مستقبل القطاع والقضية الفلسطينية يتطلب إجماعاً وموقفاً موحداً من كافة القوى الفلسطينية، بما في ذلك السلطة الفلسطينية.
دوافع وتفسيرات الأطراف المختلفة
أوردت الأطراف المعنية بخطة غزة تبريرات بشأن دوافع وضع الخطة، أو دوافع قبولها جزئياً، أو كلياً، أو تفسير إطارها العام وبنودها وما يُؤمل من التعامل معها، سواء في بياناتها أو في تصريحاتها. لذا، فإن محاولة رصد هذه الدوافع والتفسيرات لا بد أن ترتكز على تصريحات متفرقة، أو على محاولة إعادة بناء تصور هذا الطرف أو ذاك للحظة الحرب الراهنة، وما يمكن أن يفضي إليه وقف الحرب أو استمرارها.
الأميركيون، كما يبدو، وضعوا خطتهم من ثلاث منطلقات رئيسية: الأول، أن حماس قد أُضعِفت إلى حد كبير، وأن دماراً فادحاً أوقع بمقدراتها الحكومية والعسكرية وحاضنتها الشعبية، وأصبح لزاماً عليها أن تستسلم، بصورة أو بأخرى. والثاني، أن إسرائيل، وبعد عامين كاملين من الحرب الوحشية، التي تسببت في عزلتها الدولية وتشويه صورتها حتى في قلب المجتمعات الغربية، لن تستطيع تحقيق أهداف حكومتها المعلنة من الحرب، ولا بد أن تقبل بالالتحاق بمسار سلمي-سياسي يحقق أهداف حربها وينقذها من هوة العزلة الدولية. والثالث، أن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تستمر في تجاهل ضغوط حلفائها العرب والمسلمين، وتدافع عن حرب إسرائيلية لم يعد ثمة طائل منها، وتُواجه معارضة متنامية داخل الولايات المتحدة، حتى من قاعدة الرئيس ترامب الشعبية نفسها.
لهذا كله، وضعت الخطة لتفضي في النهاية إلى تقويض وضع حماس السياسي-العسكري في قطاع غزة، وتحقيق أهداف الحرب الإسرائيلية المعلنة. في المقابل، تقدم الخطة تنازلاً واحداً للحلفاء العرب والمسلمين، وهو المتعلق بتخلي الإدارة الأميركية عن مشروع تهجير أهالي القطاع، وبالتعهد بألا تضم إسرائيل قطاع غزة.
الإسرائيليون، أو على الأصح نتنياهو، أيدوا الخطة على أساس أنها ستؤدي في مرحلتها الأولى إلى الإفراج عن كافة المحتجزين، الأحياء منهم والأموات، مقابل تنازل محدود من الجانب الإسرائيلي يتصل بوقف لإطلاق النار وانسحاب محدود للجيش الإسرائيلي من خطوط انتشاره الحالي في قطاع غزة. لم يظهر نتنياهو طوال عامي الحرب أي اكتراث يذكر بالمحتجزين ومصيرهم، ولكن تقدم الأميركيين بخطة تكفل الإفراج السريع عنهم جميعا سيولد بالتأكيد ضغوطاً إسرائيلية هائلة عليه وعلى حكومته إن لم يستجب لهذه الخطة. بغير ذلك، يتصور نتنياهو أن الخطة، التي تتضمن خطوات عديدة لتنفيذها، تتيح له فرصة التخلي عن التزامات إسرائيل، أو حتى العودة إلى الحرب، في أي منعطف يفتح نافذة للادعاء بعدم التزام الفلسطينيين بتفسيره الخاص لهذا البند أو ذاك من الخطة.
هذا لا يعني بالضرورة أن نتنياهو عقد العزم مسبقاً على العودة إلى الحرب بعد الإفراج عن الرهائن، فهو يدرك -كما إدارة ترامب- أن تحقيق أهداف حكومته المعلنة في غزة بمزيد من الحرب، ليس أمراً متيقناً، وأن استمرار الحرب هو خيار محفوف بالمخاطر، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً ودولياً. ولكن من الصعب الاستنتاج بأن نتنياهو قد تخلى فعلاً عن الهدف الضمني وغير المعلن للحرب: تهجير الأغلبية العظمى من سكان قطاع غزة. والأرجح، إذا ما مضت إسرائيل مع الخطة، طالما حققت أهداف الحرب المعلنة، أن نتنياهو يأمل أن يؤدي الدمار البالغ الذي أوقعه بالقطاع إلى هجرة تدريجية للأهالي بمجرد وقف الحرب وفتح المعابر الحدودية، خاصة إذا نجح في إبطاء عملية إعادة بناء غزة وإعمارها.
من ناحية أخرى، وافقت مجموعة الثماني العربية-الإسلامية على الخطة من حيث المبدأ، رغم اعتراضاتها الفورية غير المعلنة لدى واشنطن على عدد من بنودها، بناء على تقديرات أساسية:
الأول، أن الخطة رغم غموض العديد من بنودها وميلها الواضح لصالح الأهداف الإسرائيلية؛ تؤكد بوضوح جلي على عدم تهجير قطاع غزة، بل وتشجيعهم على البقاء، ومساعدتهم على استئناف حياة طبيعية داخل القطاع.
الثاني، أن الخطة تنص على انتشار قوات دولية -يفترض أن يكون جميع أفرادها من دول عربية وإسلامية- في قطاع غزة؛ الأمر الذي سيفرض على هذه القوات حماية وتأمين أهالي القطاع وضمان الوقف النهائي للحرب، حتى إن لم تنص الخطة على أن هذه تقع ضمن واجباتها.
والثالث، أن عدداً من المسؤولين الأميركيين المقربين من الرئيس ترامب قدموا وعوداً للوسطاء العرب والمسلمين بإعادة النظر في البنود محل الاعتراض، خلال المباحثات التفصيلية حول إجراءات تطبيق الخطة.
ربما لا تخرج دوافع حماس للموافقة المتحفظة على الخطة عن مجمل دوافع مجموعة الثماني العربية-الإسلامية، خاصة أن مسؤولين كباراً من الدول العربية والإسلامية الوسيطة، قطر وتركيا ومصر، أسهموا مساهمة مباشرة في إقناع قيادة حماس بالتعامل الإيجابي مع خطة ترامب، وصياغة بيان الرد في الصورة التي ظهر بها. ولكنّ الواضح أيضاً أن الدافع الرئيسي خلف موقف حماس من الخطة تَعلق بشعورها بالمسؤولية تجاه أهل قطاع غزة بالعمل على وقف الحرب، الذي أصبح عنوان بيان الرد على الخطة، وإيقاف حملة الإبادة المستمرة طوال عامين.
كان وقف الحرب، رغم حجم التنازلات، هو المحرك الرئيسي خلف قبول حماس بأكثر من مشروع سابق لنهاية الحرب، تقدم به الأميركيون على وجه الخصوص، ونجح نتنياهو في إفشاله. ولا بد أن حماس شعرت هذه المرة -ربما أكثر من أي محاولة سابقة- أن الوسطاء العرب والإسلاميين يقفون إلى جانبها، وأنهم أكثر استعداداً لمساندة موقفها خلال مفاوضات تطبيق الخطة المتعددة.
اتفاق المرحلة الأولى وتعقيدات ما بعده
ليس ثمة شك أن الاتفاق الذي تم التوصل إليه في شرم الشيخ حول المرحلة الأولى يمثل المحك الأبرز حتى الآن على جدية الإدارة الأميركية في العمل على تطبيق خطة الرئيس ترامب، وقدرة الوسطاء القطريين والمصريين والأتراك على إقامة توازن فعال مع الوسيط الأميركي، الذي لم يُخف مطلقاً انحيازه إلى الإسرائيليين. ولكن ما يبدو أكثر أهمية من تفاصيل اتفاق المرحلة الأولى الأخرى، أن الوسطاء عملوا على أن ينص الاتفاق على أن المضي في تنفيذ المرحلة الأولى وتسليم المحتجزين الإسرائيليين سيعني وقف الحرب، مهما طالت المفاوضات المتعلقة بتنفيذ المرحلة الثانية، ونجحوا في إقناع حماس أن بداية العمل على تنفيذ الخطة يعني بالفعل وقف الحرب.
ولكن هذه خطة إطار بالغة التعقيد، تحتاج كل مرحلة منها إلى اتفاق جديد، وتفرض على الجانب الفلسطيني العديد من الشروط والالتزامات، قبل أن تصل أخيراً إلى وقف نهائي، رسمي، للحرب، وانسحاب إسرائيلي كامل، وبدء إعادة الإعمار والتأهيل لمدن القطاع وبلداته وبنيته الأساسية. وإذا كانت المرحلة الأولى قد وُضعت في بندين فقط من الخطة، واحتاجت لتنفيذها اتفاقاً تفصيلياً من عدة بنود، فإن الخلافات تطال كافة البنود الأخرى.
وحتى الاتفاق حول المرحلة الأولى سرعان ما أخذ في مواجهة صعوبات إجرائية ذات تأثير كبير على ثقة الفلسطينيين بعدالة الاتفاق والتزام الوسطاء، مثل تفرد الجانب الإسرائيلي في تسمية لائحة الأسرى الفلسطينيين الذين سيفرج عنهم مقابل الإفراج عن المحتجزين الإسرائيليين. ولأن اتفاق المرحلة الأولى نصَّ على أن المحتجزين الأحياء والأموات لا بد أن يتم الإفراج عنهم خلال 72 ساعة من الانسحاب الإسرائيلي الأولي ووقف إطلاق النار، وأن حماس أعلنت بالفعل صعوبة العثور على جثث كافة المحتجزين الموتى خلال هذا الوقت القصير، فليس واضحا كيف سيكون رد فعل الحكومة الإسرائيلية إن لم تستطع حماس تسليم جثامين الموتى في الوقت المحدد.
لهذا، مهما كانت الأجواء الإيجابية التي أحاطت بأسبوع التفاوض الأول والتوصل إلى اتفاق المرحلة الأولى، فيجب عدم استبعاد احتمالات أن تواجه الخطة عدداً من العقد الكأداء التي يصبح من الصعب تجاوزها، بعد الانتهاء من تنفيذ هذه المرحلة القصيرة.
تربط الخطة، مثلاً، بين الانسحابات الإسرائيلية التالية على الانسحاب الأولي وبين نزع سلاح المقاومة وتدمير مقدراتها العسكرية، بينما أصر مسؤولون في قيادة حماس -في أكثر من تصريح- أن المقاومة حق مشروع لشعب تحت الاحتلال، وأن السلاح لن يسلم إلا لسلطة فلسطينية مستقلة. والمؤكد أن مسألة السلاح ستستخدم ذريعة لتوقف الجيش الإسرائيلي عن تنفيذ مزيد من الانسحابات. ورغم تأكيد الرئيس ترامب في تعليقه على اتفاق المرحلة الأولى؛ أن بنود الخطة التالية محل إجماع الأطراف، وأن لا داعي للقلق من احتمالات تعثر تنفيذها، فالواضح أن التصور الذي وضعته الخطة لإدارة قطاع غزة خلال السنوات القليلة القادمة ليس مقبولاً، لا من حماس ولا من القوى الفلسطينية الأخرى، بما فيها سلطة رام الله.
لن يقبل الفلسطينيون وصاية دولية على حكومة التكنوقراط، التي يفترض أن تتسلم إدارة القطاع من حماس، ويطالب الفلسطينيون بأن يوجد إطار ما خلال السنوات الانتقالية للارتباط السياسي والقانوني بين قطاع غزة والضفة الغربية. وبينما دعا نتنياهو قادة أجهزته الأمنية إلى التشاور حول "اليوم التالي"، مفترضاً أن إسرائيل ستكون طرفاً في ترتيبات إدارة قطاع غزة بعد تنفيذ مرحلة الخطة الأولى، فالمتيقن أن حماس وكافة القوى الفلسطينية الأخرى سترفض أي تدخل إسرائيلي في تشكيل أو عمل هيئات حكومة القطاع المقبلة. وعلى الرغم من أن ملف قوة الاستقرار الدولية لم يطرح على طاولة المفاوضات بعد، فإن ثمة تسريبات تقول بأن حكومة نتنياهو لن تقبل، بأي حال من الأحوال، بمشاركة قوات تركية في هذه القوة، حتى إن قبلت مشاركة الأتراك في مجموعة مراقبي تنفيذ الخطة.
هذا كله قبل أن يُفتح ملف وضع الضفة الغربية، وملف الدولة الفلسطينية وحق الفلسطينيين في تقرير المصير. بكلمة أخرى، إذا كانت خطوات خطة ترامب الأولى قد أطلقت مناخاً من التفاؤل، فالواضح أن طريقاً طويلاً وشائكاً لم يزل على الخطة أن تقطعه. وفي هذا الطريق، يجب ألا تستبعد احتمالات التفجير، ولا التباطؤ، ولا حتى التوقف لأمد لا تعرف نهايته.