صعوبات الصعود الإقليمي: تركيا وإيران على رمال سوريا والعراق المتحركة

يجري تدافع قوى في الشرق الأوسط ويبدو أنه لا أحد يريد حربًا، والجميع يتجنب التصعيد إلى مستوى الحرب، لكن قد تصل الأمور إلى لحظة يصعب معها ضبط الإيقاع المتسارع، سيما إن وجدت القوى الإقليمية الرئيسة، تركيا وإيران ألا وسيلة أخرى لوضع حد لخسائرها.
f6ada7dd88b74c61967e6d9a70e03839_18.jpg
أردوغان وبوتين وروحاني خلال قمة حول سوريا استضافتها أنقرة في أبريل/نيسان من العام الماضي (رويترز)

جاءت تصريحات وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، مؤيَّدة ببيان من السفارة الأميركية في أنقرة، 7 أغسطس/آب 2019، حول توصل الطرفين، التركي والأميركي، لاتفاق حول المنطقة الآمنة شرق الفرات، مفاجئة لكل المتابعين لاشتباك الدولتين الحليفتين في سوريا. بدأت هذه الجولة من مباحثات الطرفين حول خلافاتهما في سوريا قبل يومين فقط؛ وكما الجولات السابقة، كانت التوقعات ترجِّح الفشل في التوصل لاتفاق، وتنتظر ردَّ فعل أنقرة، سيما بعد أن كان الرئيس التركي قد أكد في اليوم السابق لإعلان الاتفاق على أن عملية تركية عسكرية شرق الفرات أصبحت وشيكة، وأن أنقرة أبلغت واشنطن وموسكو بذلك.

في 24 أغسطس/آب، أعلن وزير الدفاع التركي أن مركز العمليات المشتركة، التركي-الأميركي، (الذي يُعتقد أنه يتخذ من مدينة أورفة مقرًّا له، ويُفترض أن يدير ويشرف على المنطقة الآمنة) قد بدأ العمل فعلًا. في الوقت نفسه، نشر الأميركيون صورًا تكشف عن قيام قوات سوريا الديمقراطية (التي تشكل الميليشيات الكردية التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني، PYD، عمادها وقيادتها) بتدمير أنفاق وتحصينات كانت أقامتها على الحدود التركية.

ولكن ما بدا تقدمًا ملموسًا على صعيد الخروج من أزمة العلاقات التركية-الأميركية في الشمال السوري لم يضع نهاية للأسئلة التي لم تزل تحيط بالاتفاق بين حليفتي الناتو لاحتواء خلافاتهما في الشمال السوري. كما أن مؤشرات التهدئة التركية-الأميركية لم تضع نهاية للصعوبات التي تواجه تركيا في سوريا. فما إن تراجع مستوى التوتر التركي-الأميركي حتى وجدت أنقرة نفسها في مواجهة تعقيدات مستجدة في العلاقة مع أصدقائها الروس في الساحة السورية. خلال الشهور القليلة الماضية، وبالرغم من الاتفاق حول منع التصعيد في مناطق اشتباك النظام والمعارضة في سوريا، بدأت قوات نظام الأسد قصفًا متقطعًا لمواقع قوات المعارضة المسلحة في ريف حماة وأطراف محافظة أدلب؛ كما شهدت المنطقتان مواجهات محدودة بين المعارضة والميليشيات المؤيدة للأسد، سيما تلك التي شكلتها وتشرف عليها القيادة الروسية في سوريا. في الأسبوع الثالث من أغسطس/آب، تحولت المواجهات المحدودة إلى هجوم وحشي للسيطرة على مدينة خان شيخون ومحاصرة المعارضة في ريف حماة.

إيران، جارة تركيا الإسلامية ومنافستها الرئيسة في الجوار العربي، تواجه هي الأخرى تحديات لا تقل خطرًا في سوريا والعراق. الهجمات الإسرائيلية على مواقع التمركز والتخزين، التابعة لإيران أو لحلفائها، في سوريا مستمرة بلا هوادة منذ أكثر من ثلاثة أعوام. ولكن الجديد أن الهجمات الإسرائيلية أصبحت تطول الآن أهداف إيران وحلفائها في العراق، الذي تعمل حكومته (الصديقة لإيران والولايات المتحدة معًا) على تجنب الصدام المحتمل بين إيران وأدواتها الإقليمية، من جهة، والولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين، من جهة أخرى، على أرضه.

حتى وقت قصير، كانت سوريا تعتبر ساحة مواجهة مسلحة، وإن بصورة غير مباشرة، بين تركيا وإيران. كما كان العراق ساحة مافسة حادة بين حلفاء الدولتين من القوى السياسية السنية والشيعية. فأي تحديات تواجهها الدولتان اليوم في سوريا والعراق؟ ثمة تهدئة ملموسة في التنافس الذي احتدم طوال السنوات القليلة الماضية بين أنقرة وطهران، فلماذا تبدوان وكأنهما تُدفعان للخروج من سوريا والعراق كلية، أو على الأقل إلى تراجع مفروض لنفوذهما؟

تركيا، وروسيا، والولايات المتحدة

لم تصبح تركيا، التي حافظت على علاقات وثيقة بنظام الأسد منذ 2004، طرفًا مباشرًا في الأزمة السورية إلا في العام الثاني من الثورة السورية. خلال معظم 2011، حاولت حكومة العدالة والتنمية التركية دفع الرئيس السوري إلى تعهد إصلاحات جذرية، ومقابلة شعبه في منتصف الطريق. ولكن تصاعد وتيرة عنف النظام ضد المتظاهرين، وفقدان الأمل في عزم الأسد الاستجابة لمطالب الإصلاح الديمقراطي، أديا إلى تبني أنقرة سياسة دعم الحركة الشعبية ومطالبها بتغيير النظام. خلال السنوات القليلة التالية، قدمت تركيا وقطر والسعودية، بتأييد أميركي، دعمًا ملموسًا لقوى المعارضة السورية، واستقبلت تركيا أعدادًا متزايدة من اللاجئين السوريين. ولأن إيران وقفت، بصورة مباشرة، أو عبر حزب الله اللبناني، إلى جانب الأسد، كان واضحًا أن سوريا أصبحت ساحة صراع بين تركيا وحلفائها العرب، من جهة، وبين إيران وأدواتها الشيعية المسلحة، من كافة الجنسيات، من جهة أخرى.

منذ 2015، دخلت الأزمة السورية مرحلة جديدة. دخلت روسيا طرفًا مباشرًا لتوفير الدعم العسكري لنظام الأسد وحلفائه؛ ودخلت الولايات المتحدة لدعم الميليشيات الكردية السورية في المعركة مع تنظيم الدولة في شمال، وشمال شرق، وشرق سوريا. وكان طبيعيًّا، ولأسباب مختلفة في الحالتين، أن يتفاقم التباين بين السياسة التركية في سوريا، والسياسات الروسية والأميركية.

بتوقيع اتفاق عدم التصعيد في سبتمبر/أيلول 2017، بدا كأن أنقرة وموسكو وجدتا وسيلة للتوافق على تنظيم العلاقة في سوريا، سيما بعد أن تسارعت وتيرة التقارب التركي-الروسي عقب محاولة الانقلاب التركية الفاشلة في يوليو/تموز 2016، واتسع نطاق الخلافات التركية-الأميركية خلال ولاية أوباما الثانية، في سوريا وفي الإقليم ككل. وقد تعزز التقارب بين أنقرة وموسكو بتوقيع الأولى عقد شراء منظومة إس 400 الروسية المضادة للطائرات، وموافقة روسيا على عملية غصن الزيتون، 2018، التركية ضد الميليشيات الكردية في منطقة عفرين.

بيد أن التباعد التركي-الأميركي في سوريا ازداد اتساعًا. أمَّلت أنقرة أن تجد حلًّا للخلافات مع واشنطن بتولي ترامب مقاليد الرئاسة؛ وقد بدا ترامب أكثر تقبلًا لوجهة النظر التركية وأكثر رغبة في الانسحاب من سوريا، بعد أن أُوقعت الهزيمة بتنظيم الدولة ولم يعد ثمة مبرر للدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة للميليشيات الكردية، عسكريًّا، وماديًّا، وسياسيًّا. ولكن الرئيس الأميركي، وتحت ضغط من أركان إدارته، سرعان ما تراجع عن وعود الانسحاب الكامل من سوريا وتسليم تركيا مسؤوليات الحفاظ على أمن الشمال السوري شرق الفرات والتعامل مع ما تبقى من مجموعات تنظيم الدولة المتفرقة في أرياف الشرق والشمال الشرقي السوري.

منذ ربيع 2019، بدأت تركيا، في المقابل، حشد قواتها على الحدود مع سوريا، وأعلنت بصورة قاطعة أن قواتها ستقوم بعملية شاملة شرق الفرات للقضاء على الميليشيات الكردية، وثيقة الصلة بحزب العمال الكردستاني، بغض النظر عن الموقف الأميركي. تقدير واشنطن لجدية الموقف التركي هو الذي أطلق المفاوضات المديدة، التي استمرت لأكثر من ثلاثة شهور، وانتهت بتوقيع اتفاق المنطقة الآمنة، الذي لم يزل الغموض يحيط بكثير من جوانبه.

ليس ثمة شك في أن تأسيس مركز العمليات المشتركة، المقرر أن يشرف على المنطقة الآمنة، بقيادة جنرالين، تركي وأميركي، هو مؤشر إيجابي على فعالية الاتفاق ومصداقية الجانب الأميركي. كما أن تركيا بدأت بالفعل تسيير طائرات بدون طيار لمراقبة الشريط الحدودي ونشاطات الميليشيات الكردية في المنطقة. إعلان الناطق باسم قوات سوريا الديمقراطية عزم القوات القيام بكل ما هو ضروري لتحقيق التوافق مع تركيا مؤشر آخر على استجابة الميليشيات الكردية للضغوط الأميركية. ولكن ثمة أسئلة عالقة، لا يبدو أن هناك إجابة واضحة عليها بعد.

طالبت تركيا من البداية بإبعاد الميليشيات الكردية عن منطقة بعمق ثلاثين كيلومترًا في الجانب السوري من الحدود، ولكن ما يجري الآن هو العمل في عمق خمسة كيلومترات فقط. فهل هذه مرحلة أولى، ستتبعها مراحل أخرى للاستجابة للمطالب التركية، أم أن الجانب الأميركي يستخدم عامل الوقت، بهدف منع تركيا من تعهد عملية عسكرية شاملة وعميقة شرق الفرات؟ المسألة الأخرى، أن الجانب التركي أراد إقامة إدارة محلية في المنطقة، من أبناء المدن والقرى السورية شرق الفرات، ذات الأغلبية العربية السنية، ولكن الجانب الأميركي لم يتحدث مطلقًا، منذ توقيع الاتفاق، عن إدارة محلية، وليس ثمة ما يشير إلى إجراءات لتنظيم هذه الإدارة، حتى في شريط الكيلومترات الخمسة التي يبدو أن الميليشيات الكردية ستُخْلِيها في المرحلة الأولى.

المسألة الثالثة، والتي لا تقل أهمية، أن مشروع أنقرة شرق الفرات يرتكز إلى فكرة منطقة آمنة، تصلح لاستقبال مئات الآلاف من اللاجئين السوريين، بينما لم يرد مصطلح "المنطقة الآمنة" حتى الآن في تصريحات المسؤولين الأميركيين، وليس من الواضح ما إن كانوا سيعملون على تأهيل لمنطقة الإشراف المشترك بحيث تشجع اللاجئين السوريين على العودة، كما حدث في جرابلس والباب وعفرين.

الغموض الذي يحيط بالاتفاق مع الأميركيين وعدم وضوح عمق وحجم وطبيعة المنطقة الآمنة ليس التحدي الوحيد الذي تواجهه السياسة التركية في سوريا؛ فمنذ بدأت المفاوضات التركية-الأميركية حول شرق الفرات، أخذت الشكوك في الاتفاق التركي-الروسي-الإيراني حول عدم التصعيد في التزايد باندلاع الاشتباكات بين الميليشيات السورية الموالية لروسيا وقوات المعارضة المسلحة في ريف حماة وجنوب إدلب. والحقيقة، أن روسيا وإيران ونظام الأسد كانوا قد أخلُّوا بصورة فادحة باتفاق عدم التصعيد في ريف دمشق، بدون أن تجد تركيا وسيلة لإيقاف شركائها في الاتفاق. ولكن تقويض الاتفاق في إدلب وجوارها مسألة أخرى مختلفة تمامًا، نظرًا لأن هذه المنطقة تخضع لإشراف تركي-روسي مشترك، ولوجود نقاط مراقبة عسكرية تركية في محيطها.

ما يقوله الجانب الروسي أن تركيا لم تنجح في إبعاد جبهة النصرة من منطقة عدم التصعيد، وأن تركيا، بالتالي، هي المسؤولة عن الإخلال بالاتفاق. ولكن الأرجح أن روسيا (ونظام الأسد) خشيت من عواقب عملية تركية منفردة شرق الفرات، أو من اتفاق تركي-أميركي محتمل، يمنح تركيا تحكمًا إضافيًّا في طريقي 4 و5 السوريين السريعين. ولذا، ولتأمين الطريقين في المنطقة غرب الفرات، أطلقت روسيا عملية عسكرية واسعة النطاق لإبعاد قوات المعارضة المسلحة من ريف حماة كلية، ومن مدينة خان شيخون في محافظة إدلب؛ وهو الهدف الذي تحقق بالفعل، بعد سلسلة من المعارك المحتدمة والهجمات الدامية على البلدات والقرى في المنطقة، في نهاية الأسبوع الثالث من أغسطس/آب.

المدهش في كل هذا هو المماطلة الأميركية غير المفهومة في القبول بالمطالب التركية المنطقية، استراتيجيًّا وإنسانيًّا، شرق الفرات، بالرغم من أن مبرر الدعم الأميركي للميليشيات الكردية لمواجهة تنظيم الدولة، لم يعد مسوَّغًا. وفي الوقت الذي توجِّه فيه روسيا ضربات مؤلمة للنفوذ التركي في إدلب وجوارها، ليس ثمة نشاط عسكري روسي، أو لنظام الأسد وحلفائه من الميليشيات الشيعية، في المنطقة الواسعة شرقي الفرات، التي تسيطر عليها الميليشيات الكردية، حتى بعد أن انخفض الوجود الأميركي العسكري في المنطقة لعدة مئات من الجنود.

إيران في سوريا والعراق

كانت إيران هي الحليف الأول والأساس لنظام الأسد في حربه ضد شعبه؛ وبدون دعم إيران والميليشيات الشيعية، كانت المعارضة السورية أسقطت النظام بالفعل في صيف وخريف 2013. وإيران، أيضًا، هي من دعت وشجعت روسيا على الدخول العسكري المباشر في سوريا، في خريف 2015، عندما أصبح واضحًا أنها ونظام الأسد في طريقهما لخسارة المعركة مع المعارضة.

ولكن، ومنذ ربيع 2019، بدأ الإيرانيون يلحظون جهدًا روسيًّا حثيثًا لإخراجهم من، أو على الأقل إضعاف نفوذهم في سوريا. نظَّم الروس ميليشيات سورية موالية لهم، سُلِّحت وتتلقى أوامرها من القيادة الروسية في قاعدة حميميم. كما دفع الروس النظام لإجراء تغييرات واسعة النطاق في قيادات الجيش السوري وفي أجهزة النظام الأمنية والاستخباراتية، بهدف استبعاد حلفاء إيران وأصدقائها. وفي أكثر من حالة، سيما في العلاقة مع تركيا والولايات المتحدة، أجرى الروس اتفاقات حول سوريا، بدون استشارة الجانب الإيراني، ولا النظام. ولا يخرج عن هذا التوجه الشراكات واسعة النطاق بين الشركات والبنوك الروسية مع رجال الأعمال السوريين، والسُّنَّة منهم على وجه الخصوص، ودفع هؤلاء لمعارضة النفوذ الإيراني في بلادهم. الأخطر من ذلك كله، التفاهم الضمني بين روسيا وإسرائيل، الذي سمح للأخيرة بتوجيه ضربات موجعة لمواقع إيرانية، بما في ذلك مستودعات عسكرية نوعية، في كافة أنحاء سوريا، وبدون أي رد فعل من الجانب الروسي الذي يتحكم كلية في الأجواء السورية.

كان الخروج الإيراني من سوريا أحد المطالب الأميركية الرئيسة التي أعلنتها إدارة ترامب ضمن شروط التفاوض مع إيران وبدء مرحلة جديدة من العلاقات. وتزداد المؤشرات لدى طهران على أن روسيا لا تعارض هذا المطلب الأميركي (-الإسرائيلي، بالطبع)، بل وتعمل جاهدة على تحقيقه، سعيًا من روسيا للانفراد بالشأن السوري، وإدراكًا من موسكو لأن الغرب لن يقدم على التعاون في إعادة بناء سوريا بدون خروج إيراني عسكري منها. بمعنى، أن طهران باتت ترى تفاهمًا روسيًّا-أميركيًّا، مؤيدًا من الدولة العبرية، حول إخراجها، أو إضعاف نفوذها بصورة كبيرة، في سوريا.

خلال الشهور القليلة الماضية، وبعد أن ظنَّ الإيرانيون أن الموقف العسكري لحلفائهم في اليمن في المعركة مع السعودية قد تحسن بصورة ملموسة، أخذ نطاق التهديدات للنفوذ الإيراني في الإقليم في الاتساع، وليس فقط بفعل إجراءات الحصار الأميركية ثقيلة الوطأة. بصورة مفاجئة، وبدون توقعات مسبقة، تعرضت قاعدة عسكرية لقوات الحشد الشعبي العراقية في محافظة صلاح الدين للقصف، في 19 يوليو/تموز. وقد تبين لاحقًا أن عددًا من ضباط الحرس الثوري الإيراني، كانوا في القاعدة، أصيبوا أو قُتلوا، وأن القاعدة ضمَّت مستودعات سلاح إيراني. لماذا يقوم الإيرانيون بتخزين السلاح في معسكرات للحشد الشعبي؟ ليس واضحًا تمامًا. أحد الاحتمالات أن إيران تقوم بتخزين السلاح في العراق استعدادًا لمواجهة محتملة في الإقليم مع الأميركيين. الاحتمال الآخر أن هذا السلاح يفترض أن يُنقل في توقيت ملائم إلى سوريا، وأن العراق اختير كمحطة تخزين آمنة من القصف الإسرائيلي بصورة مؤقتة.

لم يوجه المسؤولون العراقيون الاتهام لأحد، بل أعلنوا عن قرار بتشكيل لجنة للتحقيق في الحادثة؛ وربما وجدت رئاسة الحكومة العراقية حرجًا في الاعتراف باستخدام الحرس الثوري الإيراني لمعسكرات قوات الحشد الشعبي كمستودعات سلاح. ولكن الأجهزة العراقية كانت متيقنة من أن الطائرات المسيَّرة التي قصفت قاعدة الحشد هي طائرات إسرائيلية.

بعد أيام قليلة من حادثة القاعدة في محافظة صلاح الدين، تعرضت قاعدة أخرى للحشد على الحدود الإيرانية للقصف، وأيضًا بفعل طائرات مسيرة. في 12 أغسطس/آب، قُصفت قاعدة الصقر الضخمة، جنوب بغداد، التي تشغلها ميليشيات "سيد الشهداء" في الحشد الشعبي، وثيقة الصلة بالإيرانيين. في 20 أغسطس/آب، قصف معسكر للحشد بالقرب من قاعدة بلد الجوية، شمالي بغداد. وفي 25 أغسطس/آب، وفي خامس حادثة خلال شهرين، قصف معسكر آخر للحشد الشعبي قرب مدينة القائم العراقية الحدودية مع سوريا. في كل هذه الهجمات، يُعتقد وقوع إصابات بين عناصر من الحشد ومن الحرس الثوري الإيراني، إضافة إلى الدمار الواسع الذي أوقع بمستودعات السلاح في القواعد المستهدفة.

بتكرار استباحة الأجواء العراقية، وعمليات القصف، التي لم يعد من الممكن إخفاؤها، لمعسكرات الحشد الشعبي العراقي، تباينت مواقف المسؤولين العراقيين بين من وجهوا الاتهام للإسرائيليين، ومن أشاروا إلى مسؤولية الأميركيين. في المقابل، كان رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، أكثر وضوحًا في مقابلة إعلامية، 23 أغسطس/آب 2019، عندما قال إنه أصدر الأمر لملاحقة الإيرانيين في كافة أنحاء الإقليم، وإن على إيران أن تدرك أن لا حصانة لها في الجوار.

ولكن، إن لم يعد هناك شك في تحديد المسؤول عن هذه الهجمات، فكيف استطاعت الطائرات الإسرائيلية المسيرة الوصول إلى العمق العراقي؟ خبراء إسرائيليون ومعلقون مقربون من الدوائر الإسرائيلية حاولوا تقديم إجابات مضللة على هذا السؤال، مثل القول بأن الطائرات أُطلقت نحو العراق من أذربيجان عبر الأجواء الإيرانية، أو من إسرائيل نفسها وعبر الأجواء السورية أو الأردنية. كلا الاحتمالين لا تؤيده الوقائع، نظرًا للمخاطر الكبيرة التي يمكن أن تواجهها الطائرات المسيرة في أجواء سوريا أو الأردن أو إيران. الأرجح، طبقًا لمصادر عراقية، أن الطائرات أُطلقت من مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية في شمالي شرق وشرق سوريا، وأن السعودية لا تمول العملية وحسب، بل وكانت من أَسَّسَ للاتفاق بين القوى الكردية السورية والإسرائيليين.

مهما كان الأمر، ونظرًا للقدرات التي تحتفظ بها روسيا في سوريا، والولايات المتحدة في العراق وفي مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية في سوريا، يصعب تصور قيام إسرائيل بهذه السلسلة من الهجمات على أهداف عراقية، بدون معرفة وقبول، وربما تأييد، كل من روسيا والولايات المتحدة.

احتدام التدافع الدولي والإقليمي في المشرق

يذكر أحد مساعدي الرئيس الراحل، د. محمد مرسي، رافقه في زيارته لروسيا ولقائه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في سوتشي، أبريل/نيسان 2013، أن د. مرسي أصرَّ على وضع المسألة السورية على جدول المباحثات. وفي لحظة مناسبة من اللقاء، توجه مرسي إلى بوتين قائلًا: "أنا عازم على العمل لإيجاد حل للنزاع السوري، وأريد أن أعرف من الرئيس بوتين طبيعة المصالح الروسية في سوريا". أجاب بوتين: "هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها حديثًا جادًّا حول الأزمة السورية؛ وما أريد أن أوضحه أن روسيا ترى أن ثمة توجهًا غربيًّا لاقتسام النفوذ في الشرق الأوسط، بمعزل عن روسيا، ونحن لن نسمح بذلك".

كان هذا، بالطبع، قبل فترة طويلة من دخول روسيا طرفًا مباشرًا في الصراع على سوريا، وقبل إعادة الانتشار العسكري الأميركي في سوريا والعراق، بعد التوسع الجغرافي الكبير لتنظيم الدولة في البلدين.

لم ينطلق دور موسكو بوتين في سوريا، من زاوية النظر هذه، من التزام أيديولوجي أو أخلاقي بالحفاظ على نظام الأسد. سوريا هي ركيزة الحسابات الروسية، وليس النظام. وسوريا هنا لا تعني موطيء قدم روسيًّا في قلب الشرق الأوسط، وحسب، بل ثقلًا جيوسياسيًّا ضمن حسابات أوسع وأكبر، تبدأ في أوكرانيا ولا تقف على شواطيء الخليج. تمامًا، كما ترى الولايات المتحدة نفوذها في الخليج، وفي مصر، وحتى شمالي سوريا والعراق. ولأن الدول الكبرى تفترض أن مناطق نفوذها لابد أن تكون حكرًا عليها، تمارس فيها، بحرية كاملة، السياسات التي تخدم مصالحها، فمن المنطقي ألا ترحب بشركاء إقليميين، أو غير إقليميين، في هذه المناطق.

ويجب ألا يكون هناك شك في أن إيران وتركيا أصبحتا مصدر صداع مستمر لنفوذ القوتين الكبريين الرئيسيتين في تدافعات المشرق السياسية. وقد تحولت سوريا، سواء لتعدد اللاعبين على ساحتها، أو لتأزمها المديد، إلى مرآة ساطعة للكيفية التي تحاول بها القوى الغربية الرئيسية كبح طموحات القوى الإقليمية، وإجهاض سعيها لتوكيد ذاتها ودورها في الإقليم.

خلف هذا الإطار لعلاقات القوى، يمكن رؤية سلسلة من التدافعات المحتدمة في كل من سوريا والعراق. كلتا القوتين الكبريين، الولايات المتحدة وروسيا، تريدان إخراج إيران وتركيا من سوريا والعراق، أو على الأقل تهميش دورهما. أحد الأسباب المباشرة لهذه السياسة هو الحفاظ على أمن الدولة العبرية وتفوقها. السبب الآخر يتعلق بالقلق المتزايد من سياسة التوسع الإيراني في أكثر من دولة من دول المشرق. ولا يقل أهمية سعي روسيا لوضع نهاية للأزمة السورية، وتجنب تحولها إلى مستنقع ومصدر إرهاق للعسكرية والسياسة الروسية؛ والعمل من ثم على توكيد سيادة الدولة السورية على أرضها.

لهذا، لابد أن يُرى الاتفاق الأميركي مع تركيا باعتباره بداية طريق طويل ومتعثر، لا استجابة مخلصة للمطالب الأمنية التركية. هدف الولايات المتحدة الأساس في سوريا الآن هو منع تدخل عسكري تركي واسع النطاق شرق الفرات، والحفاظ على الميليشيات الكردية وسيطرتها على أكبر مساحة ممكنة من الشرق السوري، ليس فقط للقيام بمهمات مواجهة خلايا تنظيم الدولة في المنطقة، ولكن أيضًا لاستهداف إيران في الجوار، ومنعها من تأمين خطوط اتصال من الغرب الإيراني إلى ساحل المتوسط. روسيا، في الحقيقة، تتفق وهذه الأهداف الأميركية-الإسرائيلية، سواء فيما يتعلق بإيران أو بتركيا. وربما كان هذا التقدير للموقف الأميركي ما دفع أردوغان، في خطاب له يوم 26 أغسطس/آب، إلى التحذير من التباطؤ في تنفيذ الاتفاق والإشارة إلى أن القوات التركية لم تزل جاهزة لدخول شرق الفرات منفردة.

بيد أن روسيا، وإن رحبت بالضغوط الأميركية-الإسرائيلية على إيران، وجهود واشنطن لمنع اجتياح تركي لشرق الفرات، تأمل في ألا يستمر الوجود العسكري الأميركي في الشمال الشرقي السوري طويلًا. في تصور موسكو للأمور، سيكون على الميليشيات الكردية التوصل إلى تفاهم سياسي سريع مع دمشق، في اللحظة التي سيقرر فيها الأميركيون الخروج من سوريا، أو سيتم التعامل مع هذه الميليشيات بقوة السلاح وعودة دمشق للسيطرة على المنطقة.

الجديد في هذا الوضع المتداخل والمتحرك كان الدخول السعودي، الذي بدأ، على الأرجح، بصورة جدية بعد زيارة تامر السبهان، وزير الدولة السعودي، (قادمًا عبر كردستان العراق، وليس تركيا)، لمنطقة السيطرة الكردية شمال شرقي سوريا ولقائه القيادات الكردية في 19 يونيو/حزيران الماضي (2019). ويبدو أن الصلات السعودية مع الجماعات الكردية السورية المسلحة (بتشجيع أميركي)، قُصد بها ليس مناكفة تركيا، وحسب، بل وصنع الظروف الملائمة لتوسيع نطاق الضربات الإسرائيلية لنقاط التمركز والمستودعات الإيرانية في العراق، والوقوف في وجه محاولات طهران تعزيز موقفها الجيوسياسي في سوريا.

بصورة عامة، يجري هذا التدافع للقوى، إقليميًّا ودوليًّا، تحت سقف الحرب الشاملة أو المواجهة العسكرية واسعة النطاق. بمعنى، أن كافة أطرافه تعمل على إيقاع ضربات موجعة، ولكن محدودة، بالخصم، أو الخصوم، بدون الذهاب بعيدًا. ما يبدو أن طرفًا من الأطراف لا يريد حربًا، بل إن كافة الأطراف تعلن صراحة رغبتها تجنب التصعيد إلى مستوى الحرب. ولكن مثل هذا الاشتباك التدافعي لقوى متعددة لم تشهده منطقة أخرى من العالم منذ عقود؛ وقد تصل الأمور إلى لحظة يصبح فيها من الصعب على النوايا المسبقة ضبط الإيقاع المتسارع، سيما إن وجدت القوى الإقليمية الرئيسة، تركيا وإيران، صاحبة المصلحة المباشرة في جوارها الإقليمي، أن ليس ثمة وسيلة أخرى لوضع حد لخسائرها.