بعد حرب غزة: تغير خرائط القوى في الشرق الأوسط

أضعفت إسرائيل أعداءها بعد جولات القتال التالية لهجوم أكتوبر/تشرين الأول 2023، لكنها لم تنجح في القضاء عليهم، ولم تحوِّل أعمالها العسكرية إلى إنجاز إستراتيجي من خلال زيادة عدد الدول العربية المطبِّعة، واسْتَعْدَتْ سوريا وتركيا.
تعاون بن سلمان وأردوغان يغير موازين الشرق الأوسط [AFP]

في عالم ما بعد الحرب في غزة، وتوسع الحرب إلى الجوار الإقليمي، بات "تغيير الشرق الأوسط"، المقصود به تغيير خارطة القوة في المنطقة الأكثر قلقًا في النظام الدولي، أقرب إلى المسلَّمة منه إلى الهدف البعيد أو السيناريو المحتمل. صحافيون وكُتَّاب، ومعلِّقون ومراقبون، ودبلوماسيون ورجال دولة وثوار، كلهم يتحدثون بثقة راسخة عن أن حجم التغيير الذي شهدته توازنات القوى في الشرق الأوسط خلال العامين الماضين لم تسجله حوليات المنطقة منذ عقود.

ولأن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، كان أول من أطلق هذه المقولة، فقد أصبح المعنى المضمر لتغيير الشرق الأوسط تغيير علاقات القوة بين إسرائيل وجوارها الإقليمي. وعد نتنياهو الشعب الإسرائيلي بأن ردَّه على الهجوم الذي تعرضت له إسرائيل، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، سيؤدي إلى تغيير صورة الشرق الأوسط كله. وطوال عامين من الحرب، وعلى الرغم من أن تاريخ نتنياهو السياسي لا يخلو من الادعاءات الشعبوية، بدا وكأنه يعمل بالفعل على الإيفاء بوعده.

شَنَّ نتنياهو، بدعم من حكومة هي الأكثر يمينية في تاريخ دولة إسرائيل، حرب إبادة شاملة ضد قطاع غزة بهدف تدمير حماس وإبادة حاضنتها الشعبية في القطاع. وعلى الرغم من أن تدخل حزب الله في الحرب كان محدودًا ومتحفظًا، لم تلبث الحكومة الإسرائيلية أن وسَّعت نطاق الحرب إلى لبنان. ولأن نتنياهو دأب، ومنذ سنوات سابقة على عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، على التهديد بتقويض البرنامج النووي الإيراني؛ فقد سارع -ما أن اندلعت الحرب على غزة، وعاد الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض- إلى مهاجمة إيران لتدمير برنامجها النووي.

وحتى بعد سريان وقف إطلاق النار، في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2015، وما بدا وكأنه نهاية الحرب، لم تتوقف إسرائيل عن استهداف كوادر حماس في غزة أو قيادات حزب الله ولا انسحبت من المناطق التي توغلت إليها في سوريا، أو توقفت عن التهديد بمهاجمة إيران من جديد مستخدمة كافة أنواع المبررات. في 20 نوفمبر/تشرين الثاني، قام نتنياهو، بصحبة رئيس أركان جيشه ووزير دفاعه، بجولة في الأراضي السورية خلف خط 1974 لفصل القوات، في إيحاء لا يخفى بادعاء حرية الحركة الإسرائيلية في عمق الجنوب الغربي لسوريا.

فإلى أي حدٍّ تغيرت خارطة القوة في المشرق؟ وهل من الصحيح الافتراض بأن إسرائيل خرجت من حرب غزة قوة مهيمنة على جوارها كله، وأنها نجحت في تأسيس ميزان قوة جديد في المشرق العربي-الإسلامي؟

علاقات القوى في المشرق عشية الحرب

تقاسمت أربع دول، في السنوات القليلة قبل أكتوبر/تشرين الأول 2023، خارطة القوة وتوازناتها في الشرق الأوسط: تركيا، وإيران، والعربية السعودية، وإسرائيل. مصر، التي نُظر إليها دائمًا بوصفها أكبر دول المشرق وأكثرها تأثيرًا، خرجت بصورة كبيرة من ساحة الكبار منذ ما بعد انقلاب 2013، سواء بسبب الانقسام الشعبي الفادح، أو لتدهور الأوضاع الاقتصادية، أو بفعل تواضع طموحات الطبقة المصرية الحاكمة. أما الإمارات، التي توصف أحيانًا بإسبرطة الشرق الأوسط، فبالرغم من تدخلاتها النشطة في تدافعات الإقليم، تظل قوتها محكومة بقيود مساحتها الإقليمية وتعداد سكانها.

استندت كل من القوى الأربع الرئيسة إلى قواعد خاصة للقوة، اقتصادية أو عسكرية أو ثقافية موروثة، ما يوصف عادة بالقوة الصلبة والقوة الناعمة، واتبعت سياسات وأقامت تحالفات تعكس تصورها الذاتي لمصالحها القومية، وطبيعة المخاطر المحيطة بها.

تركيا، التي شهدت تحولًا ملموسًا في علاقاتها بجوارها منذ أكثر من عقدين، واهتمامًا متزايدًا باستعادة علاقاتها التاريخية بشعوب المشرق والبلقان والقوقاز، حققت خلال العقدين الماضيين نهضة اقتصادية هائلة لم تشهدها في تاريخها كله. كما نجحت في بناء صناعة عسكرية غطَّت معظم مستويات الحاجات العسكرية الحديثة. يقود تركيا منذ 2002 حزب محافظ، يرتكز إلى قيم إسلامية وقومية معًا؛ وهو ما ساعد على أن تتمتع البلاد باستقرار سياسي مديد، وعزَّز من توجهات تركيا الإقليمية. 

وسواء لأسباب اقتصادية أو دفاعية بحتة أو لجاذبية النموذج، تمتعت تركيا بتأثير كبير على شعوب جوارها العثماني السابق، سيما خلال الفترة ما بعد حركة الثورة العربية في 2011. ولأن تركيا أعربت عن تأييد ودعم حركة التحول الديمقراطي في دول الثورة العربية، فسرعان ما برزت بوصفها الجهة الأكثر تأثيرًا في ليبيا وسوريا والصومال، وأسست لعلاقات وثيقة مع حركة حماس ومع السلطة الفلسطينية في وقت واحد. ولكن موقفها هذا أدخلها أيضًا إلى ساحة الانقسامات العربية طوال عدة سنوات. ولم تبدأ علاقات تركيا بدول مثل مصر والسعودية والإمارات بالتعافي إلا في السنوات القليلة الماضية.

أما السعودية فقد ارتكزت في قوتها ونفوذها إلى حجمها الهائل، الذي يغطي معظم الجزيرة العربية، وإلى ميراثها الديني بوصفها بلد الحرمين والدولة التي وُلِدَت من حركة إسلامية إصلاحية ذات إشعاع واسع النطاق، وإلى ثروتها الاقتصادية الكبيرة. عملت السعودية دائمًا على توكيد موقعها القيادي في المشرق العربي، ولكن السياسات التي اتبعتها لحماية هذا الموقع طرأ عليها بعض التعديلات في الفترة بعد تولي الملك سلمان مقاليد الحكم في 2015. 

فمن ناحية، انسحبت السعودية من الساحة السورية، ثم ما لبثت أن اقتنعت بأن نظام الأسد باق، وفتحت الباب لعودة علاقات سوريا الأسد بالنظام العربي. ولأن السعودية كانت تدعم الاستقرار نظرت إلى حركة الثورات العربية بقدر كبير من القلق، فقد عملت على دعم نظام السيسي في مصر. وبعد محاولة قصيرة لإطاحة نظام الحوثيين في اليمن، ذهبت السعودية إلى نوع من السلم القلق مع الحوثيين. واستعادت العلاقات القطرية التركية عافيتها، وتقدم التعاون بين البلدين بخطى حثيثة. أما العلاقات مع تركيا، التي كانت قد شهدت تطورًا متسارعًا خلال حكم الملك عبد الله، فقد عادت إلى طبيعتها بعد القطيعة القصيرة التي نجمت عن أزمة مقتل الصحفي السعودي، خاشقجي، في إسطنبول.

إيران كانت شيئًا آخر. فمنذ ما بعد الثورة الإسلامية، في 1979، برزت إيران دولة مركز وقيادة ملهمة للمسلمين الشيعة في المشرق، بل وفي العالم ككل. ولكن قوة إيران وتأثيرها لم ينبعا من هويتها الشيعية فحسب، بل ومن ميراثها الإمبراطوري وقوتها الاقتصادية كذلك. ومنذ ما بعد الغزو الأميركي للعراق، في 2003، اتبعت إيران سياسة توسعية، ارتكزت إلى طموحات قومية وطائفية معًا، في جوارها العربي على وجه الخصوص. وهذا هو الجوار الوحيد الذي كان متاحًا للتوسع الإيراني، على أية حال.

إسرائيل، بقيمها وخطابها وهويتها وأهدافها التوسعية، من جهة أخرى، عُدَّت منذ تأسيسها كيانًا غريبًا على المشرق، في حالة عداء دائم مع كافة شعوبه، وتهديدًا لاستقرار هذه الشعوب وأمنها. ولكن، وبالرغم من جغرافية دولة إسرائيل المحدودة، وثقلها الديمغرافي الصغير، تحولت إسرائيل بدعم غربي هائل إلى قوة اقتصادية ملموسة، ودولة بالغة التقدم في المجال التقني، تمتلك ذراعًا عسكرية تتفوق على كافة دول الجوار. لم تستطع إسرائيل مطلقًا الاندماج، أو التعايش مع جوارها العربي الإسلامي، حتى بعد أن وقَّعت معاهدات سلام مع مصر والأردن والإمارات والبحرين والمغرب، واتفاقية أولية للسلام مع الفلسطينيين. وظلت طموحات الهيمنة والتوسع، من جهة، ومخاوف التهديد الوجودي والزوال، من جهة أخرى، الأكثر ثباتًا ورسوخًا في تصور إسرائيل لعلاقاتها بجوارها العربي-الإسلامي.

بهذه الركائز للقوة، والمواريث التي استندت إليها كل من الدول الأربع، اتسمت العلاقات بينها، قبل أكتوبر/تشرين الأول 2023، بقدر لا يخفى من التدافع التنافسي والسعي الضمني لتجنب الصدام المباشر، في الوقت نفسه.

كان العراق، ومنذ بداية الاحتلال الأميركي، ساحة التنافس الأولى بين إيران وتركيا، عندما دفعت إيران حلفاءها في العراق لرفض انتشار قوة سلام تركية في محافظات الأغلبية السُّنيَّة. وطوال السنوات بعد نهاية الاحتلال الأميركي، ظلت إيران حريصة على الوقوف أمام نفوذ تركيا السياسي والاقتصادي في العراق، حتى عندما كانت مصلحة العراق البحتة تستدعي التقارب أو التوافق مع تركيا. وربما كان مشروع ما بات يُعرف بطريق التنمية، الذي يفترض أن يمتد من ميناء البصرة إلى ساحل المتوسط التركي، أبرز مثال على هذا الموقف الإيراني. فالمشروع، الذي وقَّعه رئيس الحكومة، السوداني، مع تركيا، وعارضته إيران، يكاد أن يقف حائلًا أمام عودة السوداني لرئاسة الحكومة، بالرغم من فوز قائمته بأكبر عدد من مقاعد البرلمان العراقي في الانتخابات الأخيرة.

كما تحولت سوريا منذ اندلاع الثورة ضد نظام الأسد إلى ساحة تدافع محتدم بين إيران وتركيا، بعد أن وقفت إيران بكل قوتها العسكرية والاقتصادية وثقلها الطائفي إلى جانب النظام، ووقفت تركيا إلى جانب الثورة السورية. وعلى الرغم من كافة المحاولات التركية مع إيران للتوافق على استبدال حكومة وطنية توافقية بنظام الأسد، إلا أن إيران رفضت كافة مقترحات حل الأزمة السورية، طالما تضمنت هذه المقترحات تخلي الأسد عن السلطة. ولم يقتصر التنافس الإيراني-التركي على الجوار العربي؛ فكما في العراق وسوريا، وقفت إيران إلى جانب أرمينيا في مواجهة أذربيجان، حليف تركيا الرئيس في جنوب القوقاز. 

ولكن التدافع الإيراني-التركي، على أية حال، ظل محكومًا بسقف ضمني، وحرص من الدولتين على عدم القطيعة وتجنب الصدام المباشر. إيران، المثقلة بأعباء العقوبات الأميركية والدولية، ترى في تركيا شريانها الاقتصادي الحيوي ونافذتها على العالم، بينما تُعد إيران أحد مصادر الطاقة لتركيا وطريقها إلى أذربيجان ووسط آسيا.

وبصورة مختلفة قليلًا، أصبحت إيران التوسعية مصدر قلق وتهديد للعربية السعودية. إيران هي الحليف والداعم الكبير، وربما الوحيد، للحوثيين في اليمن؛ كما هي حليف حزب الله ومصدر دعمه الرئيس. ولأن السعودية، ومنذ ولادتها، حرصت على منع سيطرة قوة واحدة، مهما كانت هويتها، على البوابة الشمالية، البوابة البرية الوحيدة للجزيرة العربية، فقد نظرت بقلق كبير إلى تمدد النفوذ الإيراني في العراق وسوريا ولبنان. ولكن السعودية، التي تميزت سياستها الخارجية بالصبر والنَّفَس الطويل، تجنبت هي الأخرى الصدام المباشر مع إيران؛ بل وحاولت في السنوات الأخيرة تطبيع العلاقات معها، مع العمل على استعادة سوريا الأسد ودفعها، ما أمكن، إلى التحلل من السيطرة الإيرانية.

والأرجح أن النفوذ الإيراني في البوابة الشرقية للجزيرة العربية، إلى جانب الولوج الإيراني إلى اليمن من خلال الحليف الحوثي، كانا الدافع الأهم لاستجابة الرياض الحذرة والبطيئة للرغبة الأميركية، التي استهدفت توسع نطاق التطبيع العربي والإسلامي مع دولة إسرائيل، سواء خلال إدارة ترامب الأولى أو إدارة بايدن. نجحت هذه الجهود في تطبيع العلاقات بين إسرائيل، من جهة، والإمارات والبحرين والمغرب والسودان، من جهة أخرى. ولكن التطبيع السعودي-الإسرائيلي لم يُقدَّر له التحقق قبل اندلاع نيران حرب السنتين، كون التحرك السعودي للالتحاق بالمشروع اتسم من البداية بقدر ملموس من البطء والاشتراطات.

ومنذ تجاوزت السعودية وتركيا فترة القطيعة القصيرة، ذهبت السعودية إلى تعزيز علاقاتها بتركيا سيما في مجال الصناعات العسكرية، وسعت السعودية إلى توطين عدد من هذه الصناعات. كما اهتمت الرياض بتنسيق المواقف السياسية مع أنقرة، ليس فقط لموازنة التوسع الإيراني، ولكن أيضًا لتوكيد الثقل السُّني في المشرق. ولكن جهود التقارب الحثيثة لم تُخْفِ أوجه التنافس بين البلدين كلية. فلأسباب تتعلق بالدور والموقع، لم تُبْدِ الرياض حماسًا ما لمشروع طريق التنمية العراقي-التركي. كما أن السعودية، خاصة بعد أن بادرت لمحاولة جذب سوريا بعيدًا عن إيران، لن تكون مرتاحة للنفوذ التركي المتزايد في أوساط الثوار السوريين المعارضين للأسد، لأنها قد تنضوي تحت مصطلح القوى الأجنبية التي تتدخل في الشؤون العربية.

ولكن إدارة التنافس والتقارب التي حكمت علاقات إيران وتركيا والسعودية، لم تكن تنطبق بالضرورة على علاقات إسرائيل بأيٍّ من الدول الثلاث، ولا بجوارها العربي-الإسلامي ككل. نظرت إسرائيل إلى التقدم الحثيث في المشروع النووي الإيراني بوصفه تهديدًا وجوديًّا لابد من التعامل معه، عاجلًا أو آجلًا. وبالرغم من اختلاف طبيعة العلاقة بين إيران وحزب الله، وإيران وحركة حماس، رأى الإسرائيليون يد إيران خلف كل تطور في مقدَّرات حزب الله وحماس العسكرية. وكما حاولت إسرائيل بين وقت وآخر استخدام القوة التدميرية لإضعاف حماس وتقويض مقدراتها، كذلك قامت بغارات جوية دورية على مواقع تمركز إيران وحزب الله في سوريا.

ولأن تركيا، تُظهر سياسيًّا المزيد من الدعم والتأييد للفلسطينيين، ارتفع مستوى التوتر في إسرائيل؛ ما أفضى إلى ارتفاع مستوى القلق الإسرائيلي من تصريحات أردوغان عالية النبرة في الدفاع عن الفلسطينيين، وترحيب أنقرة بقيادات حماس، وتحول تركيا إلى حاضنة آمنة للنشطاء الفلسطينيين، وكذلك من التأييد التركي الشعبي واسع النطاق لمواقف حكومة العدالة والتنمية من إسرائيل وفلسطين. وللمرة الأولى منذ أُسِّست العلاقات الدبلوماسية بين تركيا وإسرائيل في 1950، أصبح على إسرائيل أن تأخذ في الحسبان توسع النفوذ التركي، إقليميًّا ودوليًّا.

حرب في كافة الاتجاهات

المؤكد أن السابع من أكتوبر/تشرين الأول مثَّل كارثة عسكرية غير مسبوقة لدولة إسرائيل. خلال ساعات قليلة من صباح ذلك اليوم، هاجمت آلاف قليلة من المقاتلين الفلسطينيين كافة المراكز العسكرية والمستعمرات الإسرائيلية في محيط قطاع غزة، بعمق عدة كيلومترات في كافة الاتجاهات، بما في ذلك مقر قيادة فرقة غزة ومركز الاستخبارات العسكرية المسؤول عن مراقبة القطاع. بعد عدة أسابيع، وعندما أصبح ممكنًا التفكير بصوت عال وقدر من العقلانية، أقَرَّ ضباط احتياط إسرائيليون بأن حزب الله كان بإمكانه لو شارك في الهجوم أن يسيطر على منطقة الجليل برمتها. ومع نهاية اليوم، عندما بدأ الجيش الإسرائيلي الهجوم المضاد، وإن بقدر كبير من الفوضى والاضطراب العملياتي، كان المقاتلون الفلسطينيون قد أوقعوا مئات من الجنود الإسرائيليين قتلى، وأسروا عشرات آخرين.

ترك السابع من أكتوبر/تشرين الأول أثرًا هائلًا على تصور إسرائيل لنفسها وللإقليم العربي-الإسلامي المحيط بها. صحيح أن الهجوم الذي شنَّته قوات القسام لم يغيِّر بصورة جوهرية من شعور إسرائيل الأصيل بالغربة عن المجال العربي-الإسلامي، والعداء لشعوب هذا المجال، أو الرغبة التكوينية في السيطرة والهيمنة على دوله؛ ولكنه أظهر للإسرائيليين -شعبًا وطبقة حاكمة، على السواء- هشاشة القلعة التي أقامتها دولتهم لحمايتهم، وصلابة الرفض العربي-الإسلامي لطبيعة الكيان الذي أقاموه. 

كما اكتشفت إسرائيل أنها فقدت، وإلى حدٍّ كبير، قوة ردع الفلسطينيين والجوار. القوة التي تعد ركيزة عقيدة إسرائيل الأمنية منذ ولادتها. ولأن المقاومة الفلسطينية نجحت في إذلال إسرائيل، لم يرد الإسرائيليون بحرب شاملة وحسب، بل بحرب إبادة على قطاع غزة بكل ما تحمله الإبادة من دلالة؛ وبعدة حروب أخرى على الجوار العربي-الإسلامي.

أعلن الإسرائيليون أن هدف حربهم على غزة هو تدمير حماس كقوة عسكرية، وكقوة حكم سياسية، ووضع نهاية قاطعة لأي تهديد يمكن لقطاع غزة أن يمثله لأمن إسرائيل، أو تحقيق النصر المطلق، كما قال نتنياهو. وما إن دارت عجلة القتل والتدمير، حتى طورت الحكومة الإسرائيلية من أهداف الحرب بتبني سياسة مستبطنة لتهجير العدد الأكبر من سكان القطاع. ولم يلبث هدف التهجير أن أصبح معلنًا وصريحًا بعد تسلم الرئيس ترامب مقاليد البيت الأبيض ودعوته الغامضة إلى إخلاء مؤقت لسكان القطاع لتسهيل إعادة إعماره.

في مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2024، بعد عام كامل من تبادل القصف المحدود، وعدد من الهجمات الاستخباراتية التي استهدفت عددًا كبيرًا من كوادر حزب الله، فيما عُرف بتفجير أجهزة الاتصال، واغتيال إسرائيل أمين عام الحزب حسن نصر الله، ونائبه، وقائد قواته العسكرية ما لبثت إسرائيل أن أطلقت حربًا شاملة على لبنان. اتسمت الحرب على لبنان بتركيز خاص على جنوب الليطاني، ومنطقة البقاع، وضاحية بيروت الجنوبية، ولكنها شملت أيضًا عمليات قصف واغتيال محددة لقيادات من حزب الله في سوريا وفي مناطق لبنانية أخرى، إضافة إلى استهداف وحدات من الجيش اللبناني عندما وقعت هذه الوحدات في طريق أو مرمى نيران قوات الغزو الإسرائيلية.

ولأن الحوثيين في اليمن اتخذوا قرارًا مبكرًا بمساندة قطاع غزة وحزب الله باعتراض كافة السفن التجارية المتوجهة إلى إسرائيل عبر باب المندب، أو استهداف ميناء إيلات بالصواريخ أو الطائرات المسيرة، شنَّت الحكومة الإسرائيلية عدة هجمات عقابية، صاروخية أو جوية، ضد أهداف يمنية. ولكن، كانت إسرائيل تنقصها المعلومات الاستخباراتية الضرورية عن اليمن، لذلك اقتصرت الهجمات على منشآت مدنية في العموم، مثل محطات الطاقة وتوليد الكهرباء وميناء الحديدة، أو ما ادَّعت إسرائيل أنها مواقع إطلاق الصواريخ. في حالة واحدة فقط، نجحت إسرائيل في استهداف اجتماع لقادة عسكريين حوثيين كبار.

في قطاع غزة ولبنان واليمن، بررت إسرائيل حربها بحق الرد على السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وعلى الجهات التي بادرت إلى التضامن الفعلي مع المقاومة الفلسطينية. أما في إيران وسوريا، فكان واضحًا أن إسرائيل تبحث عن استرداد قوة الردع، وعن استغلال الحرب على غزة لتحقيق أهداف إستراتيجية مسبقة، لم يكن ممكنًا إنجازها في ظروف ما قبل الحرب.

بدأت إسرائيل حربها على إيران بصورة مبكرة عندما استباحت السيادة الإيرانية وقصفت مقرًّا تابعًا للسفارة الإيرانية في دمشق، في أبريل/نيسان 2024، واغتالت إسماعيل هنية، في يوليو/تموز 2024، أثناء وجوده في زيارة لطهران. وفي أكتوبر/تشرين الأول 2024، تبادل الطرفان القصف الصاروخي، كما قام سلاح الجو الإسرائيلي بغارات واسعة النطاق على أهداف إيرانية، استخدم فيها طائرات حلَّقت على حدود إيران الجنوبية والغربية. ولكن، سواء لبعد المسافة أو لافتقاد سلاح الجو الإسرائيلي للقذائف المناسبة، لم تستطع إسرائيل استهداف مواقع البرنامج النووي الإيراني لوحده فاستعان بالمشاركة الأميركية بقيادة ترامب.

وهذا ما أتاح السياق الموضوعي والنافذة المناسبة لإطلاق جولة حرب أوسع ضد إيران في 13–24 يونيو/حزيران 2025. في الأيام الأولى من هذه الجولة، استهدفت الهجمات الإسرائيلية مواقع الدفاع الجوي، سيما في غرب وجنوب إيران، وعددًا من مراكز القيادة في العاصمة طهران، وقيادات الجيش والحرس العليا، إضافة إلى مفاعل نطنز النووي. وما لبثت الولايات المتحدة أن شاركت في الحرب بهجوم جوي على عدة مواقع نووية محصنة، مستخدمة قذائف خاصة. وقد تكون المشاركة الأميركية جاءت على خلفية من الاتفاق والتنسيق المسبقين مع الإسرائيليين، وليس كتحرك انتهازي الطابع. 

برَّرت حكومة نتنياهو حربها بادعاء أن إيران تقف خلف كافة "قوى الشر" المناهضة لإسرائيل في الشرق الأوسط، وبأن برنامجها النووي يوشك عبور عتبة الخطر الوجودي على الدولة العبرية. أما الولايات المتحدة، فادعت أن البرنامج النووي يمثل تهديدًا للأمن العالمي، سيما لأمن الدول الغربية. 

في سوريا، وطوال العقد السابق على بدء الحرب على غزة، هاجمت إسرائيل بصورة دورية مواقع تخزين وتصنيع السلاح الإستراتيجي الخاصة بإيران وحزب الله، إضافة لأدوات ومسالك نقل السلاح النوعي من سوريا إلى لبنان. ما أراد الإسرائيليون تحقيقه من هذه الهجمات لم يكن إضعاف نظام الأسد، الذي كانت إسرائيل ترحب في الحقيقة باستمراره، ولكن منع إيران وحلفائها من تأسيس موقع قوة كافية لتهديد الأمن الإسرائيلي، في حال نشب نزاع مسلح بين إسرائيل وإيران أو بين إسرائيل وحزب الله. 

ولأن مسؤولية الدفاع عن الأجواء السورية كانت أُوكلت للروس، فقد نُسِّق معظم، إن لم يكن كل، الهجمات الإسرائيلية مع القيادات الروسية في سوريا. وكان واضحًا أن الروس، الذين لم يرحبوا مطلقًا بوجود وتوسع نفوذ إيران وحلفائها في سوريا، لم يبدوا أي اكتراث بالهجمات الإسرائيلية في سوريا، طالما لم تستهدف هذه الهجمات نظام الأسد نفسه. 

طوال العام الأول من الحرب على غزة، استمرت إسرائيل في اتباع النهج نفسه، كلما اكتشفت وجود هدفٍ ما يخص إيران أو حزب الله في سوريا، سواء كان هذا الهدف شخصية قيادية أو مقدرات سلاح نوعي. ولكن ما شهدته سوريا، في ديسمبر/كانون الأول 2024، عندما نجحت قوى الثورة السورية في إسقاط نظام الأسد، نُظر إليه بصورة مغايرة في إسرائيل. بنجاح الثوار السوريين إطاحة نظام الأسد والقبض على مقاليد الدولة السورية، أصبحت سوريا نفسها -في رؤية حكومة نتنياهو للأمور- بشعبها وحكامها الجدد، خطرًا مباشرًا على دولة إسرائيل.

خلال أيام قليلة من سقوط نظام الأسد، أمُر الجيش الإسرائيلي بالتوغل في عمق الأرض السورية، خلف خط فصل القوات، شرقًا إلى حافة درعا وريف دمشق، وشمالًا إلى جبل الشيخ الإستراتيجي. كما قام سلاح الجو الإسرائيلي بحملة واسعة النطاق لتدمير ما تبقى من المقدرات العسكرية للجيش السوري. وعندما حاولت قوى الأمن والجيش السوري الجديد فرض سيطرتها على محافظة السويداء ذات الأغلبية الدرزية، أمر نتنياهو جيشه بالتدخل لقصف مواقع قوى الأمن والجيش السوريين، وإخراج الدولة السورية من السويداء، والعمل على حماية المنشقين الدروز.

وبالرغم من أن الهجمات على قواعد تمركز ومقدرات الجيش السوري الجديد، التي استهدفت مقر وزارة الدفاع السوري وجوار القصر الجمهوري، ما لبثت أن توقفت بضغط أميركي، فإن التوغلات الإسرائيلية باتجاه القرى السورية في شرق الجولان وحافة ريف دمشق لم تتوقف طوال العام التالي على سقوط نظام الأسد.

استباحة إسرائيل لجوارها العربي-الإسلامي لم تقتصر على إيران واليمن ولبنان وسوريا. ففي عصر التاسع من سبتمبر/أيلول، قامت إسرائيل بغارة غير مسبوقة، وغير متوقعة على الإطلاق، غارة غادرة كما وصفها القطريون، على مقر لحماس في العاصمة القطرية، الدوحة. وإن أخفقت الغارة الإسرائيلية في اغتيال قيادات حماس ووفدها المفاوض فقد أودت بحياة عدد من منتسبي الحركة بمن في ذلك ابن رئيس وفدها المفاوض، وأحد رجال الأمن القطريين.

وليس ثمة شك في أن الغارة على قطر، التي تقوم بدور وساطة رئيس لإنهاء الحرب، إلى جانب الولايات المتحدة ومصر، جسدت بصورة لا تحتمل التأويل اعتقاد رئيس الحكومة الإسرائيلية بأنه يتعهد مهمة كبرى لإعادة بناء البيئة الإستراتيجية لدولة إسرائيل.

هذه في مجملها إنجازات كبيرة لحرب إسرائيل على الفلسطينيين وعلى والجوار الإقليمي العربي-الإسلامي، من طهران وصنعاء إلى بيروت، ومن دمشق إلى غزة؛ إنجازات لم تستطع دولة إسرائيل تحقيقها منذ حرب الأيام الستة في يونيو/حزيران 1967. فإلى أي حدٍّ نجحت إسرائيل فعلًا في تغيير الشرق الأوسط، أو على الأصح في تغيير خارطة القوة في الشرق الأوسط؟

تغييرات الشرق الأوسط

كانت الحاضنة الشعبية في قطاع غزة دائمًا أكبر أرصدة المقاومة الفلسطينية ودرعها، وموطن ضعفها في الوقت نفسه. وهذا ما دفع إسرائيل، منذ اليوم للحرب، إلى إبادة حاضنة المقاومة، مُوقِعةً دمارًا هائلًا وغير مسبوق بكافة مظاهر الحياة والوجود الإنساني. وهذا، في النهاية، وليس أي شيء آخر، ما أسَّس لموافقة حماس على مشروع ترامب المجحف، من وجهة النظر الفلسطينية، لوقف الحرب. 

ويمكن افتراض أن الكارثة التي أوقعت بقطاع غزة ستمنع حماس، أو أية قوة مقاومة أخرى، من تكرار عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، لسنوات عديدة قادمة. وربما كان حجم الكارثة كذلك ما جعل حماس تُبدي، ومبكرًا، رغبتها في التخلي عن حكم غزة، لتفسح المجال للمساهمة العربية والدولية في إعادة الإعمار. 

في المقابل، لم تستطع آلة الحرب الإسرائيلية إيقاع الهزيمة بحماس، ولا دفع مقاتليها إلى الاستسلام، بل ولا استطاعت بعد عامين من الحرب فرض سيطرة كاملة على الثلاثمائة وستين كيلومترًا مربعًا التي تمثل جغرافية القطاع الصغير، ولا إلى دفع أهالي القطاع إلى المغادرة للخارج. أوقعت إسرائيل خسائر فادحة بعديد قوى المقاومة وسلاحها، بلا شك. ولكن، وحتى طبقًا للحسابات الإسرائيلية، لا يزال لحماس ما لا يقل عن عشرين ألفًا من المسلحين النشطين عندما أُعلن وقف النار في أكتوبر/تشرين الأول 2025. وإنْ وُضِع حجم تنظيم حماس المدني في الحسبان، فالمؤكد، ومهما كانت الترتيبات لإدارة شؤون القطاع، أن حماس ستبقى قوة سياسية مهيمنة.

ومن الصعب، مهما كانت التقديرات للأوضاع على أرض غزة، تجاهل الأثر الذي تركته الحرب ومشاهد الإبادة على موقف العدالة الدولية من القيادة الإسرائيلية، وعلى موقف الرأي العام الدولي من دولة إسرائيل، سيما في دول الغرب الأطلسي. هذه هي المرة الأولى في تاريخ الصراع على فلسطين التي يواجه فيها قادة الدولة العبرية لائحة اتهام من محكمة دولية، وهي المرة الأولى التي تتحول فيها أغلبية الرأي العام الغربي من الإيمان بحق إسرائيل في الوجود وضرورة الحفاظ على أمنها وتفوقها، إلى تأييد الحقوق الفلسطينية والتشكيك بجدوى وأخلاقية وجود إسرائيل. صحيح، أن هذا الانقلاب في الرأي العام الغربي لا ينطبق بالضرورة على موقف القوى الحاكمة، ولكن المؤكد أنه سيصعِّب على هذه القوى بعد اليوم تجاهل هذه المتغيرات طويلًا.

في لبنان، نجحت الحرب الإسرائيلية في التخلص من قادة كبار لحزب الله وجناحه العسكري، ومن عدد ملموس من كادره الأول؛ كما فرضت الحرب إخلاء جنوب الليطاني من وجود الحزب العسكري. عادت القوات الإسرائيلية إلى احتلال شريط إستراتيجي داخل الحدود اللبنانية الجنوبية، تستخدمه منذ الاتفاق على وقف النار لابتزاز الدولة اللبنانية وإجبارها على تجريد حزب الله من السلاح في كافة أنحاء البلاد. ويمكن القول، سواء لحجم الاختراق الاستخباراتي الإسرائيلي وحجم الدمار الذي أُوقِع بالمناطق المؤيدة للحزب أو لإخفاق الحزب في الاستعداد للمواجهة: إن حزب الله خسر هذه الجولة من المواجهة مع إسرائيل.

ولكن المؤكد، أيضًا، ولطبيعة الكيان اللبناني الطائفية، التي عملت إسرائيل دائمًا على استمرارها وتأبيدها، أن حزب الله لم يخسر قاعدته الشعبية، وأنه مهما كانت تفسيرات اتفاق وقف الحرب على الجبهة اللبنانية، فإن الجيش اللبناني لن يستطيع، بل ولا يرغب، في تجريد الحزب من السلاح. كافة أركان الحكم في لبنان تدرك أن محاولة تجريد الحزب من سلاحه بالقوة ستؤدي إلى اندلاع حرب أهلية، وربما حتى إلى انهيار الدولة اللبنانية. والواضح، طبقًا للتقديرات الإسرائيلية، أن حزب الله يعمل جاهدًا على إعادة بناء مقدراته العسكرية.

من جهة أخرى، يبدو أن الحوثيين خرجوا من الحرب في وضع أفضل حتى من لبنان، ومن حزب الله. ففي حين أظهر الحوثيون خلال عامي الحرب قدرة اليمن الإستراتيجية في التحكم بحركة التجارة العالمية عبر باب المندب، أخفقت الغارات الإسرائيلية المتعاقبة في إضعاف أو ردع الحوثيين. وربما أضفت مساندة اليمن لفلسطين ولبنان خلال عامي الحرب المزيد من الشرعية على نظام حكم الحوثيين، على الأقل من زاوية نظر فئات واسعة من الرأي العام العربي والإسلامي، الذين كان ينظر إليهم قبل الحرب كقوة انقلابية طائفية وضيقة الأفق.

أما في إيران، وعلى الرغم من الدمار الهائل الذي أُوقِع بالمنشآت النووية الإيرانية، فليس ثمة من يعرف مصير اليورانيوم المخصب، الذي كانت إيران تحتفظ به قبل الهجمات التي تعرضت لها منشآت البرنامج النووي. وفي دولة بحجم إيران، يبدو من المؤكد أن الحرب لم تستطع تقويض الخبرات العلمية والتقنية المتراكمة في المجال النووي لدى الإيرانيين. ولأن الحرب كشفت جوانب ضعف بالغة في المقدرات الدفاعية الإيرانية، تعمل إيران بصورة حثيثة، وبالتعاون مع حلفائها في روسيا والصين، على إصلاح الخلل في أنظمتها الدفاعية، وفي إعادة بناء متعددة الأوجه لقوتها العسكرية الردعية.

كان انهيار نظام الأسد في سوريا، وانتصار الثورة السورية، إحدى أكبر المفاجآت غير المقصودة، وغير الخاضعة لحسابات نتائج حرب السنتين التقليدية. أضعفت الحرب الوجود الإيراني، ووجود حزب الله في سوريا، وتركت نظام الأسد لمصيره؛ الأمر الذي أخذته قيادات الثورة السورية في حساباتها قبل اتخاذ قرار إطلاق عملية ردع العدوان، التي لم تلبث أن تطورت من هدف تحرير حلب إلى إسقاط النظام برمته.

أفضى تحرير سوريا إلى عدد آخر من المتغيرات في طبيعة موازين القوة في المشرق. خرجت سوريا من قبضة نظام الأسد منهكة القوى ومدمرة، وكان التوجه العام لدى قيادات الدولة الجديدة وشعبها الابتعاد عن تفجير الصراعات مع أيٍّ من دول الجوار، والالتفات كلية لمهمات إعادة بناء الدولة والبلاد. وكان يمكن لإسرائيل، لو أنها تجنَّبت التصعيد مع سوريا، أن تكرس حالة السلم والهدوء في الجبهة السورية، وتحصد ثمار الخروج الإيراني من سوريا. ولكن إسرائيل بدت وكأنها تفاجأت كلية بحجم وطبيعة قوى التغيير في سوريا، واندفعت إلى فتح أبواب الجبهة السورية على مصراعيها، بتعهد مئات الغارات والتوغلات. بهذا، أعاد العدوان الإسرائيلي المستمر سوريا فعليًّا إلى ساحة الصراع.

ولأن سوريا الجديدة تسببت في انحسار النفوذ الإيراني في بوابة الجزيرة البرية، فقد تراجع التهديد الإيراني الإستراتيجي في حسابات المملكة العربية السعودية. خروج إيران من سوريا، إضافة إلى ردود الفعل الشعبية السعودية على إبادة إسرائيل لغزة، أدى تلقائيًّا إلى استبعاد خيار التطبيع. وكان ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، واضحًا بما يكفي خلال زيارته الأخيرة لواشنطن، في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، عندما أكد للرئيس ترامب أن التطبيع بين السعودية وإسرائيل مشروط بإطلاق مسار جاد محدد وذي مصداقية لقيام دولة فلسطينية. ولأن منع قيام الدولة الفلسطينية هو هدف إستراتيجي لحكومة نتنياهو، يبدو أن خيار التطبيع بين السعودية وإسرائيل سيظل بعيد المنال.

ويتعلق المتغير الآخر بالغ الأهمية في خارطة القوة في المشرق، التي وُلدت من حرب السنتين ومن انتصار الثورة السورية، معًا، بمصير العلاقات التركية-الإسرائيلية. فعلى الرغم من أن العلاقات التركية-الإسرائيلية أخذت في التوتر منذ أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فإن هذا التوتر لم ينقل هذه العلاقات إلى خانة العداء والخصومة الكاملة، حتى عندما قامت إسرائيل بمهاجمة سفينة الإعانة مافي-مرمرة التركية، أو عندما أقدمت تركيا على استدعاء سفيرها من تل أبيب. ولكن تطورات حرب السنتين، والهجمات الإسرائيلية على دول الجوار العربية والإسلامية، أحدثت تغييرًا جوهريًّا في طبيعة علاقات البلدين.

للمرة الأولى منذ اعترفت تركيا الجمهورية، في طريق التحاقها بحلف الأطلسي، بإسرائيل في 1950، لم تعد أنقرة تستبعد صدامًا مباشرًا مع إسرائيل؛ بل إن منظمة الاستخبارات التركية أوصت في تقرير للحكومة التركية بعد الهجمات الإسرائيلية على إيران بإعداد البلاد لاحتمالات التعرض لاعتداء خارجي. لم يذكر التقرير دولة إسرائيل بالاسم، ولكن كل من علقوا عليه لم يصعب عليهم استنتاج هوية المعتدي المحتمل. 

في المقابل، توصي مراكز البحث الإسرائيلية، الواحد منها تلو الآخر، الحكومة والجيش بإدراج تركيا ضمن قائمة الأعداء الإستراتيجيين، وضرورة متابعة التطور المتسارع في الصناعة العسكرية التركية، وخطوات توسع النفوذ التركي في الإقليم. وليس ثمة شك في أن المناخ العدائي الذي بات يظلِّل علاقات البلدين كان السبب الرئيس خلف معارضة إسرائيل الحادة لمشاركة الجيش التركي في قوة استقرار غزة، التي لم يزل تشكيلها يواجه العديد من الصعوبات.

وبعد أن كانت سوريا ساحة تدافع غير مباشر بين تركيا وإيران، تحولت بعد سقوط نظام الأسد إلى ساحة تدافع غير مباشر بين تركيا وإسرائيل. ترى أنقرة أن الجهود الإسرائيلية لمنع إعادة توحيد سوريا تمثل تهديدًا إستراتيجيًّا لتركيا؛ بينما تعارض إسرائيل أي تمركز إضافي للقوات التركية في العمق السوري. وما إن طرحت في دمشق فكرة تمركز قوة دفاعية تركية في مطار دير الزور حتى سارعت إسرائيل إلى قصف وتدمير المطار. ولأن وزارة الدفاع التركية تتعهد دورًا رئيسًا في تدريب وتنظيم الجيش السوري الجديد، وفي إمداد سوريا بالمعدات العسكرية التي تصنع في تركيا، تقوم إسرائيل بتتبع حثيث للنشاط العسكري التركي في سوريا. 

لم تنته هذه الجولة من الصراع بصورة قاطعة بعد؛ وليس من المستبعد أن يتعرض وقف النار للانهيار، وأن تندلع المواجهة من جديد في غزة أو في الجبهة اللبنانية أو مع إيران، أو أن تفشل جهود الاتفاق الأمني بين سوريا وإسرائيل، وتعود الجبهة السورية للاشتعال للمرة الأولى منذ 1974. ولذا، فما تشير إليه جملة هذه الأوجه المتعددة لعلاقات القوة، حتى الآن، أن هذه الجولة الطويلة من الاقتتال من الصراع قد أوقعت تغييرًا فعليًّا في الشرق الأوسط.

ولكن من الصعب القول بأن هذا التغيير يدل على نجاح إدارة نتنياهو للحرب في غزة وفي الجوار الإقليمي، أو أنه أدى إلى ترجيح كفة إسرائيل إستراتيجيًّا. في أحد وجوهها، تبدو إنجازات حرب نتنياهو وكأنها اقتصرت على إضعاف خصوم إسرائيل بمستويات مختلفة، وفشلت من إخراجهم كلية من ميزان القوة، في الوقت نفسه. في المقابل، خسرت إسرائيل، ولأمد طويل على الأرجح، العوائد الإستراتيجية الهائلة التي كان يمكن حصدها من التطبيع مع السعودية، وأجَّجت العداء مع سوريا وتركيا، اللتين كانتا تُعَدَّان خارج ميزان القوة المناهض لدولة إسرائيل.