مستقبل تنظيم الدولة بعد البغدادي

أحدث مقتل البغدادي فراغًا قياديًّا في تنظيم الدولة سيطلق الصراعات بداخله والمنافسة مع الولايات التابعة له.
a829899c65d240809f27c3e4548a8b83_18.jpg
تنظيم الدولة يواجه ألغام ما بعد البغدادي (رويترز)

قضت قوات أميركية خاصة على زعيم تنظيم الدولة، أبو بكر البغدادي، فجر 27 أكتوبر/تشرين الأول 2019، في غارة عسكرية استهدفت منزله في قرية باريشا في محافظة إدلب، وقتلت وقبضت على آخرين كانوا معه، وحصلت على وثائق وصفتها الإدارة الأميركية بالمهمة.

أعلن تنظيم الدولة عن تولي أبو إبراهيم الهاشمي القرشي القيادة، خلفًا لأبو بكر البغدادي، دون أن يكشف عن الاسم الحقيقي له، أو رتبته السابقة في التنظيم، أو جنسيته. يدل اسمه على أنه ينحدر من أصول تعود إلى بني هاشم، وهم أهل الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، وأنه من قبيلة قريش. وهي صفات ضرورية في أيديولوجية التنظيم لمن يتولى منصب القيادة العليا أو ما يسمونه "الخلافة".

رغم ذلك، سيظل التنظيم يواجه مشكلة ملء الفراغ الذي تركه رحيل البغدادي، وإعادة التماسك لصفوفه، ومواجهة احتمالات تفجره من الداخل، أو تعرضه لحملة ضغوط متواصلة من القوى التي تريد القضاء عليه مستغلة فرصة انكشافه واختلال توازنه.

"خليفة" بلا "خلافة"!

أعلن الرئيس الأميركي أن إدارته تعرف بالتحديد من هو القائد الجديد، لكن الخبراء المختصين في التنظيم يؤكدون أنهم لا يعرفون بالضبط هويته، وأنهم في هذه المرحلة يفترضون أنه مقرب من البغدادي، وقد يكون أوصى به، وهو الراجح نظرًا لسرعة التعيين، وأن يكون عراقيًّا، لأن أغلب قوات التنظيم البالغة، حسب تقرير أميركي صدر مؤخرًا، نحو 18000 عنصر، منها 3000 عنصر أجنبي.

أيًّا كان القائد الجديد فلن يحظى بنفس السلطة التي كان يتمتع بها البغدادي لأن مصادر الشرعية وموارد القوة ستكون أقل. نجح البغدادي في إنشاء سلطة على إقليم يبلغ مساحة بريطانيا، وأن تكون له موارد مالية كبيرة، أخذ مثلًا أكثر من 400 مليون دولار من بنك الموصل، وذكر مركز دراسات فرنسي أن ثروته الإجمالية بلغت 2.2 مليار دولار، وموارد بشرية وقتالية، بلغ تعداد قواته -حسب الاستخبارات الأميركية- 30 ألفًا، جعلت توليه منصب الخليفة، مشروعًا في نظر عدد من الجماعات المسلحة، لأنه أثبت قدرته على هزيمة القوات العراقية المتحالفة مع إيران والولايات المتحدة، وأن يقيم دولة، ويمتلك موارد يستطيع أن يرفد بها الجماعات المبايعة له. حقق بذلك ما فشل تنظيم القاعدة في تحقيقه. وقد وظف البغدادي هذا الرصيد المعنوي حتى بعد هزيمته في 2017، وخسارته للأراضي التي كان يسيطر عليها، فظل يقود التنظيم عن بُعد، ويمنع الصراعات الداخلية من تفجيره، وظلت بقية التنظيمات الموالية متمسكة بمبايعته، وظل الانتماء للخلافة يكسب صاحبه وهجًا إعلاميًّا تحتاجه الجماعات المتمردة للوصول إلى وسائل الإعلام من أجل بث الرعب وتوصيل رسائلها والتجنيد.

خليفته مهما كان لا يمتلك هذه الشرعيات، لن يكون حاكمًا على دولة، ويفتقد للموارد التي كانت بيد البغدادي، سواء المادية أو البشرية، وسيجد صعوبة في إقناع الجماعات الموالية الموجودة في بلدان أخرى بأنه خليفة دون أن يكون مسيطرًا على إقليم أو يوفر لها الموارد التي تحتاجها.

إقامة البغدادي لدولته في العراق كانت عاملًا معززًا لشرعيته لن يتوفر لخليفته. العراق رمزيًّا كان في الماضي مركزًا من مراكز الخلافة. قامت عليه خلافة العباسيين. وكان العراق في العصر الحديث من الدول العربية الكبرى التي طمحت لقيادة المنطقة، ويمتلك موارد كبيرة مادية وبشرية وثقافية، تجعله بلدًا مركزيًّا، وتجعل من يسيطر عليه أو على جزء كبير منه، يجذب الجماعات الموجودة في بلدان قليلة الموارد، لأنها تستطيع الاعتماد عليه.

هذه الشرعية جعلت البغدادي يحافظ على تماسك التنظيم، ويمنع عددًا من التناقضات بداخله من الانفجار. هناك التعارض بين الأجنحة المتشددة والأقل تشددًا، أو التكفيريين ومن يعارضون تفسيرهم المتشدد لمعنى الالتزام الإسلامي. وهناك التعارض بين المكونات العراقية في التنظيم والمكونات من جنسيات أخرى. وهناك التعارض بين قيادات التنظيم المركزية وقادة الولايات التابعة له في مناطق أخرى من العالم.

الأجنحة المتشددة قد تستغل أمرين للسيطرة على المخالفين: الأول: هو الاستنتاج بأن الولايات المتحدة نجحت في مقتل البغدادي لأنها استطاعات تجنيد عناصر من دائرته الضيقة. وقد يقرر المتشددون أن وقاية التنظيم من ذلك مستقبلًا تقتضي تصفية كل العناصر التي لا تولي القيادة ولاء مطلقًا. الثاني: لما كان التنظيم يقيم دولته كان يسيطر على حوالي 10 إلى 12 مليون شخص، واحتاج لكسب ولائهم أو تفادي الصدام معهم إلى تقديم تنازلات فيما يعتبره المعايير الشرعية والتنظيمية الصحيحة، لكنه بعد خسارته لدولته لم يعد مضطرًّا لتقديم هذه التنازلات لأنه يتعامل فقط مع مناضليه؛ مما يقوي جناح المتشددين.

ما يضفي أهمية استثنائية على العملية الانتقالية في قيادة التنظيم أن التنظيم في حد ذاته يمر بمرحلة تحول حرجة. كان البغدادي ينشط بعد هزيمته في 2017 من أجل نقل التنظيم من مرحلة الحكم العلني إلى مرحلة التنظيم السري، وقد دلَّت وقائع مقتله على أنه لم ينجز عملية التحول. من المؤشرات على ذلك، أن مكان مقتله يوجد في شمال مدينة إدلب السورية، وعلى مسافة 5 كيلومترات من الحدود التركية. هذه منطقة ليست تحت سيطرة تنظيم الدولة وبعيدة عن مراكزه سواء في سوريا أو العراق. مما يدل على أمرين: أن البغدادي لا يشعر بالأمان والثقة في المناطق التابعة له. لكن في نفس الوقت يحرمه ابتعاده عنها من الإشراف المباشر واليومي على إدارتها.

إخفاق البغدادي في نقل التنظيم بنجاح إلى مرحلة السرية، رغم شرعيته وموارده، يجعل مهمة من يخلفه أصعب، لأنه يتولى التنظيم وهو يتراجع، وتتناقص موارده، ويتراخى تماسكه.

ثقافة البقاء

لا يقتضي ما سبق بالضرورة نهاية تنظيم الدولة. تعرضت قيادته في الماضي للقتل، واستطاع أن يتجاوز ذلك، ويظل متماسكًا بل يوسِّع سيطرته، كما حدث بعد مقتل أبو عمر البغدادي، وتولي أبو بكر البغدادي القيادة بعده. دلَّ ذلك على أن التنظيم أدمج في ثقافته إمكانية تعرض قيادته للاغتيال، وأفرز مجموعة من القواعد التي تجعله يتجاوز الفراغ الناشئ، ويستعيد توازنه.

البيئة الاستراتيجية ستمنح التنظيم فرصة لتجاوز الصدمة التي تعرض لها. ستتناقص الضغوط الخارجية عليه، وستوفر له الصراعات بين القوى المناهضة له تصدعات يمكن أن يستغلها لتوفير بيئة تساعده على التعافي بل وإمكانية التوسع مجددًا لكن من المستبعد أن يسترجع مجده السابق.

الولايات المتحدة التي قتلت البغدادي نجحت في إضعاف التنظيم في المدى القصير لكن سحب قواتها من سوريا، سيخلِّص التنظيم من أكبر خطر يتهدد وجوده، وسيزيح عنه الضغوط التي كانت تضيق عليه حركاته، وتعرقل اتصالاته، وتجفف موارده.

شريك الولايات المتحدة في قتال التنظيم وهزيمته، قوات سوريا الديمقراطية، التنظيم الكردي المسلح، يواجه حاليًّا الحملة العسكرية التركية في شمال سوريا التي تسعى إلى إبعاده من المراكز الرئيسية لقوته، وهو يفتقد القوة الكافية لقتال تنظيم الدولة ومواجهة تركيا في نفس الوقت، بل بات يركز جهوده على التصدي للحملة العسكرية التركية. علاوة على أن قوات سوريا الديمقراطية قد ترى أن مصلحتها تقتضي تجنب قتال تنظيم الدولة، حتى لا تستنزف مواردها، ولا تفتح جبهتين معًا: جبهة في الشمال لمواجهة تركيا وجبهة في الجنوب لمواجهة جيوب تنظيم الدولة، وكذلك للضغط على الغرب حتى يظل داعمًا لها لأنها ساهمت في هزيمة تنظيم الدولة.

القوات السورية مشغولة هي أيضًا بمواجهة المعارضة المسلحة بإدلب والقوات التركية في الشمال الشرقي من البلاد، ولا تمتلك هي أيضًا الموارد والتركيز بل والحافز على مواجهة تنظيم الدولة، لأنه حاليًّا ليس ضمن الأولويات الحيوية للنظام السوري.

هذه الصراعات ستشغل القوى المعادية لتنظيم الدولة ببعضها البعض، فينتهز فرصة انشغالها عنه، لإعادة ترتيب أوضاعه، وتقوية نفسه، والسيطرة على مساحة تمنحه حرية حركة أكبر، خاصة أن انسحاب القوات الأميركية لن يجعله مكشوفًا أمام قواتها الجوية كما كان في السابق.

الفرص المتاحة للتنظيم ستتزايد: الصراع الجاري داخل العراق وسوريا، يجعل السكان يشعرون بحاجة للأمن، ويبحثون عن القوة التي توفره لهم. وقد تشعر قطاعات مهمة من السكان بالبلدين بالحاجة إلى الحماية، ويجدون في أيديولوجية التنظيم ما يطمئنهم، فيتعاونون معه بشكل من الأشكال. وهذا ما وقع في 2014، لما اعتقد سكان الموصل أن تنظيم الدولة سيوفر لهم الحماية من الميليشيات الطائفية المسلحة. وإن كان مستبعدًا أن يسترد المواقع والسلطة اللتين فقدهما بالكامل لأن المناطق التي كانت خاضعة له في السابق تنفر من حكمه المتشدد.

العودة للكرِّ والفرِّ

سيناريو القضاء على التنظيم: تعهدت الإدارة الأميركية بمواصلة استهداف التنظيم وقياداته إلى غاية القضاء عليه، واستشهدت بقتلها الناطق الرسمي للتنظيم، أبو الحسن المهاجر، بعد ساعات قليلة من قتلها للبغدادي، وذكر ترامب أن القوات الأميركية التي نفذت عملية قتل البغدادي، حصلت على وثائق مهمة عن التنظيم، ستستفيد منها في القضاء عليه.

يعاني هذا السيناريو من أن الولايات المتحدة لن تمتلك في المستقبل قوات كافية لملاحقة التنظيم، وبات شريكها، قوات سوريا الديمقراطية، غير قادر أو راغب في القيام بالمهمة لأنه غاضب منها لأنها سمحت لتركيا بشن عملية عسكرية تحرمه من مراكزه الرئيسية في الشمال السوري.

سيناريو إعادة الخلافة: سيتمسك قادة التنظيم بشرعية الخلافة، كما اتضح في تعيينهم قائدًا جديدًا بلقب خليفة، لأنها تعطيهم سلطة واسعة توفر لهم موارد ودعمًا داخل العراق وسوريا وخارجهما.

يفتقد هذا السيناريو إلى عوامل مهمة ليكون للقائد الجديد صلاحيات البغدادي، أولًا: لا يمتلك القائد الجديد للتنظيم نفس الموارد الاستثنائية التي كانت بحوزة البغدادي لأن الظروف تغيرت في غير صالح التنظيم، وليس واضحًا كيف أقنع التنظيم بقية القادة بشرعية القائد الجديد وأنه يستوفي حقيقة شروط البيعة، ولعل إخفاء شخصية القائد الجديد الحقيقية ليس لحمايته فقط وإنما لتفادي إثارة النزاع بين قيادات تنظيم الدولة. سيثور بين قادة التنظيم جدل حول صحة انتساب القائد الجديد إلى قريش حتى تكون بيعته بالخلافة صحيحة. علاوة على ذلك، ستكون هناك معضلة العراقي وغير العراقي في اختيار القائد الجديد. سيتمسك القادة العراقيون ببقاء القيادة فيهم لأن البغدادي عراقي ودولة الخلافة، حسب وصفهم، قامت في العراق، لكن القيادات غير العراقية قد ترفض لأن العراق لم يعد مقرًّا للخلافة، وقد تدعم بعضهم في ذلك الولايات التي توجد في بلدانهم مثل ولاية سيناء بمصر. ثانيًا: يحتاج القائد الجديد أن يحكم إقليمًا ليحصل على موارد ثابتة، ويشكل قوات متكاملة، ويقيم إدارة لتنظيم كل ذلك. وهذا ليس واردًا في الظروف الراهنة، خاصة أن التنظيم استعدى بتشدده المناطق التي كان يحكمها بالعراق وسوريا.

استراتيجية العصابات

تمكن تنظيم الدولة، منذ سيطرته على الموصل في 2014 إلى هزيمته في 2017، من أن يشكل قوات كبيرة، بلغ مثلًا تعداد العناصر الأجنبية نحو أربعين ألفًا حسب تقديرات أممية، لأنه نجح في صياغة أيديولوجية، مكنته من تجنيد أعداد كبيرة من مختلف الدول، وإقناع تنظيمات مسلحة بمبايعته، ولن تنتهي هذه الأيديولوجية بنهاية البغدادي، بل سيستغلها من يتطلع لقيادة التنظيم بعده، كي تكون مصدرًا رئيسًا من مصادره، خاصة أن مصادر قوته الصلبة تتناقص ويحتاج إلى تعويضها بمصدر ناعم.

المحتمل في هذا السيناريو أن الولايات التابعة للتنظيم قد تتطلع إلى أن تكون هي مركز القيادة البديل لأن قوتها لربما أكبر من قوة التنظيم في العراق وسوريا، وقد تنفصل عن التنظيم أو ينفصل فقط بعضها عنه، إذا لم تنجح في مسعاها، وتأخذ لنفسها صفة الخلافة حتى تجذب إليها الموارد المترتبة على هذا الشرعية.

هذه العوامل تشير إلى أن تنظيم الدولة سيحافظ على وجوده بعد مقتل زعيمه البغدادي، لكن سيتصرف في المستقبل مثل التنظيمات المتمردة التي تريد في المقام الأول استنزاف أعدائها، وتفادي مواجهتهم مواجهة مباشرة، وضرب المناطق الرخوة، واعتماد استراتيجية الكر والفر، أي حرب العصابات أو الأقل منها، وهي الحريب، وهي الهجمات التي يشنها شخص أو أشخاص قليلون على مراكز مدنية. وليس مستبعدًا أن يلجأ التنظيم إليها في القريب العاجل لرفع معنويات عناصره بعد مقتل زعيمه.