شهدت دول المجال العربي، منذ نهايات 2018 وخلال 2019، انطلاق عدد من الحركات الشعبية المعارضة للأنظمة الحاكمة. بدأ الحراك الشعبي في السودان في 19 ديسمبر/ كانون الأول 2018 واستمر طوال الشهور الثمانية الأولى من 2019. وانطلقت حركة شعبية في الجزائر في 22 فبراير/شباط 2019، ولا تزال مستمرة بوتيرة عالية.
في مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2019، اندلع حراك شعبي كبير في العاصمة العراقية، بغداد، سرعان ما انتشر في معظم محافظات الوسط والجنوب. ولم تلبث انتفاضة شعبية لبنانية أن انطلقت في 16 أكتوبر/تشرين الأول، اتخذت من العاصمة اللبنانية بيروت مركزًا لها، وامتدت إلى طرابلس وصيدا وعدة مدن لبنانية أخرى. وكانت مصر شهدت بوادر تململ شعبي في سبتمبر/أيلول 2019، سرعان ما أُخمد بإجراءات قمعية واسعة النطاق.
تفاوتت مظاهر الحراك الشعبي بين هذا البلد وذاك، متجلية في تظاهرات سلمية حاشدة، وإضرابات فئوية مختلفة، ومحاولات جزئية للعصيان المدني. تباينت أيضًا ردود فعل الأنظمة في بلدان الحراك؛ كما تباينت مآلات الانتفاضات بين دولة وأخرى.
لم تجد حركات الاحتجاج هذه صدى دوليًّا مماثلًا لتلك التي شهدتها دول المجال العربي في 2011، كما أن قلَّة من المراقبين ربطت بين هذه الموجة من الحراك الشعبي وحركة الثورة والتغيير التي سبقتها قبل ثماني سنوات.
فلماذا، إذن، اندلعت هذه الموجة من الحراك الشعبي؟ وهل يوجد قاسم مشترك بين حركات الاحتجاج الحالية، وبينها وسابقتها في 2011؟ وما الدلالات التي تحملها هذه الموجة من الحراك الشعبي لقراءة ميزان القوى بين معسكر الثورة ومعسكر الثورة المضادة والتغيير في المجال العربي؟ وما الذي تعنيه هذه الموجة لمستقبل الشعوب العربية ودولها؟
شرارات صغيرة وتطلعات كبيرة
كان ثمة سبب مباشر أطلق كلًّا من حالات الحراك الشعبي في الدول العربية المختلفة. تعلقت شرارة الانتفاضة السودانية بارتفاع الأسعار وتدهور الأحوال المعيشية؛ مما أدى لاندلاع مظاهرات احتجاجية في ولايات سودانية بعيدة عن العاصمة، ومن ثم تقدَّم تجمع لقوى المعارضة والنقابات لتوجيه الحراك وقيادته. وما إن وصلت الحركة الشعبية العاصمة، الخرطوم، حتى اتضح أن نظام البشير يواجه ثورة وطنية، تضم قطاعات واسعة من الشعب، بما في ذلك عددًا من القوى الإسلامية التي ادعى النظام تمثيله لها طويلًا. في 11 أبريل/نيسان 2019، وبعد شهور طويلة من الحراك الشعبي وظهور بوادر على انهيار ولاء الأجهزة الأمنية وأفرادها للنظام، تحركت قيادة الجيش والمخابرات لإطاحة الرئيس، عمر البشير، والتحفظ عليه.
في الجزائر، بدأت الانتفاضة الشعبية لمعارضة الإعلان عن ترشح الرئيس السابق، عبد العزيز بوتفليقة، المريض والمقعد منذ سنوات، لولاية جديدة. ويُعتقد أن الانقسام في صفوف النخبة الجزائرية الحاكمة حول مستقبل البلاد ودور بوتفليقة، الذي بدا أنه يُستخدم من قبل مجموعة في النظام لتغطية سيطرتها على مقاليد الحكم، أسهم في تشجيع الحركة الجماهيرية المعارضة ووفَّر الحماية لها. في 11 مارس/آذار، أعلن الرئيس بوتفليقة استقالته وتخليه عن الترشح لفترة رئاسية إضافية؛ وهذا ما جاء برئيس مجلس الشعب (البرلمان الجزائري) رئيسًا مؤقتًا للجمهورية إلى حين انتخاب رئيس جديد. في 31 من الشهر نفسه، أُعلن عن تشكيل حكومة جديدة برئاسة وزير الداخلية في الحكومة المستقيلة.
تحركت قيادة الجيش، التي برزت باعتبارها صاحب القرار الرئيس في الدولة، لاستيعاب الحركة الشعبية، موجِّهة بتشكيل هيئة انتخابات مستقلة، وتقديم عدد من رموز النظام السابق للمحاكمة، وفتح عدد من ملفات الفساد في جسم النظام والقطاع الخاص. ولكن الحراك الشعبي لم يقتنع بهذه الإجراءات لأنه اعتبرها إما تصفية حسابات بين أجنحة النظام القائم أو غير توافقية، فلم يتوقف، بل أصبح أكثر راديكالية بمرور الوقت. وبعد أن امتنع الحراك الشعبي عن التنديد بقيادة الجيش الجزائري، أصبحت قيادة الجيش هدفًا للمحتشدين في شوارع وساحات المدن الجزائرية، الذين أعلنوا، وللمرة الثانية، معارضة عقد انتخابات رئاسية في ظل الظروف السائدة.
البطالة، سيما في صفوف الشباب وخريجي الجامعات، والتفاوتات الحادة في مستويات المعيشة بين الطبقة الحاكمة وعموم العراقيين، كانت الدافع المباشر لانطلاق الحركة الشعبية العراقية. وكان لافتًا، في بلاد تخضع لنظام طائفي سياسي، أن المظاهرات الشعبية انطلقت من مناطق الأغلبية الشيعية، التي تحكم الطبقة السياسية العراقية باسمها منذ ولادة نظام ما بعد الغزو والاحتلال في 2003. ولأن السلاح في العراق متوفر على نطاق واسع، في أيدي أجهزة الحكم والدولة وخارجها، لم تتورع عناصر مسلحة، يُعتقد أنها تنتمي لميليشيات شيعية، عن مواجهة المتظاهرين بالعنف، مسقطة مئات الضحايا بين قتيل وجريح.
رئيس الحكومة العراقية، عادل عبد المهدي، الذي وصل إلى موقعه قبل عام واحد فقط على أرضية من توافق الكتل السياسية الرئيسة في البرلمان العراقي، رحَّب بالحراك الشعبي. وجد عبد المهدي في الحركة الشعبية أداة ضغط للتخلص من تحكم الكتل السياسية ونظام المحاصصة، الطائفي والقومي والسياسي، الذي فرض عليه عناصر وتوازنات حكومته، وحدد له سقف ومجال حركته الإجرائية والتشريعية.
بيد أن خطاب عبد المهدي ووعوده للجماهير، وتحركه المحدود لتعديل الحكومة أو طرح برنامج نهوض اجتماعي واقتصادي، لم تقنع القوى الشعبية. مساء 18 نوفمبر/تشرين الثاني، توافقت الكتل السياسية، ما عدا التيار الصدري، الذي ناور من البداية بين دعم المتظاهرين وتأييد الحكومة، على جملة خطوات للاستجابة للحراك الشعبي، يفترض أن تتبناها الحكومة ويؤيدها البرلمان خلال فترة لا تزيد عن 45 يومًا. ولكن، حتى مثل هذا التطور لم يقنع الحراك الشعبي، الذي بات يجد استجابة واسعة من أغلب فئات الشعب العراقي. ومع استمرار الاحتجاجات وتزايد عدد القتلى واصطفاف المرجعية الشيعية العراقية علي السيستاني مع المحتجين، دفع عبد المهدي إلى الاستقالة من رئاسة الحكومة.
الدافع الاقتصادي، ممثلًا في الإعلان عن فرض ضريبة على استخدام وسائل الاتصال الاجتماعية الحديثة، كان هو الآخر الشرارة التي أدت إلى اندلاع الانتفاضة الشعبية اللبنانية. وكان لافتًا في لبنان، الذي تستند دولته وحكومته إلى نظام طائفي، أن الحراك الشعبي اكتسب سمة وطنية واضحة وطال معظم أنحاء البلاد. حاولت قوى سياسية طائفية، عبر تأييدها للحركة الشعبية، تأمين موقع معارض لها في صفوف المتظاهرين؛ ولكنها لم تستطع تحقيق هدفها. وحاولت قوى سياسية طائفية أخرى دمغ الحركة الشعبية باتهامات العمالة للخارج والارتباط بسفارات أجنبية؛ ولكن هذه المحاولات فشلت هي الأخرى.
أما المحاولات الأهم لاستيعاب الحركة الشعبية فقد جاءت من رئيسي الحكومة ورئيس الجمهورية. أعلن رئيس الحكومة السُّني، سعد الدين الحريري، 29 أكتوبر/تشرين الأول، استقالة حكومته، وذلك بعد أن فشلت حزمة وعود إصلاحية قدمها في إقناع الحركة الشعبية. أما رئيس الجمهورية الماروني، ميشيل عون، الذي طلب من حكومة الحريري الاستمرار في تصريف الشأن الحكومي حتى تشكيل حكومة أخرى، فقد راهن على عامل الوقت والتباينات في مواقف الكتل السياسية، للمحافظة على بنية النظام والدفع نحو تشكيل حكومة جديدة على أساس من تقديم تنازلات جزئية للحراك الشعبي.
المهم، أن شرارة الانتفاضة الشعبية في كلٍّ من الحالات الأربع تعلقت بسبب جزئي، اقتصادي أو سياسي، كان يفترض أن يطلق مجرد حركة احتجاجية محدودة، تنتهي بمجرد الاستجابة لمطالب الحراك الأولية. ولكن ذلك لم يحدث. الشرارة الصغيرة والاحتجاج المحدود سرعان ما تطورا إلى حركة جماهيرية واسعة، وإلى رفع الشعار الذي بات يتردد في أنحاء المجال العربي منذ 2011: إسقاط النظام. ما طالب به الحراك الشعبي، ولا يزال، التغيير الجوهري والحقيقي في نظام الحكم، في بنيته وعلاقاته وسياساته، على السواء.
لم تستطع إجراءات البشير الاقتصادية احتواء الحركة الشعبية في السودان؛ كما فشل المجلس العسكري، حتى بعد الدعم المالي الذي قدمته الإمارات، واستخدام العنف المفرط ضد المحتجين، في إخماد صوت الناس والحصول على شرعية الاستمرار في الحكم. صحيح أن اتفاق أغسطس/آب 2019، الذي أسَّس لمشاركة مدنية-عسكرية لإدارة المرحلة الانتقالية، لم يحقق كافة المطالب الشعبية ولكن الصحيح، أيضًا، أن الشعب السوداني أصبح طرفًا مباشرًا في تقرير مستقبل البلاد، وأن موجة احتجاج شعبي أخرى ليست بعيدة الاحتمال.
ولم يكن تنحي بوتفليقة، ولا محاكمات بعض شخصيات نظامه، كافيًا لتهدئة الشارع الجزائري. ما تطورت إليه الحركة الشعبية في الجزائر كانت المطالبة الصريحة بتغيير عميق في جسم النظام، سواء على مستوى مكافحة الفساد، أو خروج كامل لكافة رجال النظام السابق، وتبني إجراءات كفيلة بإقامة منظومة عدالة مستقلة وشفافية سياسية وحكم مدني، ووضع دستور جديد للبلاد. ليس من الواضح بعد ما إن كانت قيادة الجيش ستنجح في عقد انتخابات رئاسية في 12 ديسمبر/كانون الأول 2019، وإن عُقدت الانتخابات فليس من الواضح ما إن كان الرئيس المقبل سيتمتع بشرعية كافية تؤهله للاستجابة لمطالب الشعب الأخرى. ولكن المؤكد أن خروج الجزائريين المهيب إلى الشارع لن يتوقف قبل إجراء إصلاحات ملموسة في بنية النظام.
تغيير النظام أصبح أيضًا الهدف الرئيس للحراك الشعبي في العراق ولبنان، بالرغم من أن المفترض أن النظامين يتمتعان بقدر من الحريات الديمقراطية والتعددية السياسية. ولكن الواضح أيضًا أن تغيير النظام هنا يستهدف جوانب أخرى من نظام الحكم، سيما طبيعته الطائفية، وسيطرة أقليات طائفية أفرزت شبكة فساد واسعة على مقاليد الحكم والثروة.
السؤال الآن: كيف عادت شعارات تغيير النظام أو إسقاطه إلى شوارع المدن العربية، بعد ست سنوات فقط على نجاح قوى الثورة المضادة في إجهاض حركة الثورة والتغيير والانتقال الديمقراطي؟ في معظم الدول العربية، التي شهدت انتفاضات شعبية في 2011، عادت الطبقة التقليدية الحاكمة إلى مواقع السلطة، أو دفعت البلاد إلى أتون حرب أهلية طاحنة. فكيف تجرأت الشعوب العربية على العودة من جديد إلى الشارع لتطالب بحقها في تقرير مصيرها وإسقاط النخب الحاكمة؟
ميزان قوة جديد
تعود الانتكاسة التي عانت منها حركة الثورة والتغيير العربية في طورها الأول إلى عدة عوامل:
أولها: أن عملية الانتقال الديمقراطي في دول الثورة العربية لم تجد الدعم الدولي الكافي، مثل ذلك الدعم التي تلقته دول أوروبا الشرقية خلال السنوات التالية لنهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو في 1989- 1991. لم تحظ دول الثورات العربية بدعم اقتصادي وسياسي من أوروبا والولايات المتحدة لمواجهة المصاعب الهائلة التي تواجهها الدول عادة في مرحلة التحول الديمقراطي الهشة والقلقة.
ثانيها: كان الانقسام السريع في صفوف القوى التي صنعت الثورة، سيما بعد أن وفَّر انهيار أنظمة الحكم القديمة فرصة تاريخية لصعود القوى الإسلامية السياسية. وليس ثمة شك في أن الانقسام الفادح بين القوى الإسلامية وغير إسلامية التوجه أفسح مجالًا واسعًا للردَّة عن عملية التحول الديمقراطي، سواء تلك التي تعهدتها قوى داخلية أو خارجية على انفراد، أو في مسعى مشترك.
وليس ثمة شك في أن السبب الرئيس خلف انتكاسة حركة الثورة العربية في موجتها الأولى كان التحرك السريع والقمعي لقوى الثورة المضادة العربية. فقد نظرت الأنظمة العربية، بالرغم من توكيدها على السيادة والاستقلال الوطني، إلى المجال العربي باعتباره مجالًا سياسيًّا وثقافيًّا واحدًا. ولأن الثورات العربية في 2011 اندلعت في عدد محدود من الدول العربية، خشيت الدول الأخرى من أن تطولها حركة التغيير وعملت بكافة الوسائل على إجهاض عملية الانتقال الديمقراطي في دول الثورة، أو على تحصين نفسها من رياح الثورة والتغيير.
وقد برزت دول عربية من بينها: الإمارات، ومصر، وإيران، غير العربية، وبدون توافق مسبق بينها، باعتبارها القوى الرئيسة في معسكر الثورة المضادة. تحالفت الإمارات وحلفاؤها وإيران مع النخب المدنية والعسكرية القديمة في عدد من دول الثورات (مثل مصر وليبيا واليمن وتونس) لإجهاض عملية الانتقال الديمقراطي وإيقاع الهزيمة بقوى الثورة. كما قدمت إيران، مستعملة رصيدًا طائفيًّا، دعمًا عسكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا لنظامي الأسد في سوريا والمالكي في العراق، وللانقلاب الحوثي في اليمن.
بيد أن صعود معسكر الثورة المضادة، والنجاحات المتفاوتة التي حققها في معظم دول الثورات، لم يستمر طويلًا.
كانت تكاليف المواجهة مع قوى الثورة والتغيير باهظة، سواء على مستوى الخسائر البشرية أو المستوى الاقتصادي أو السياسي؛ بينما وقع ما يشبه الدمار الشامل بمدن وبلدات بأكملها. كما أن معسكر الثورة المضادة فشل في تقديم قيادات مقنعة للشعوب، قيادات تستطيع تأسيس شرعية لأنظمة حكمها، وتوفير مسوغ للانقلاب على طموحات الحرية والتحول الديمقراطي. ولكن مشكلة معسكر الثورة المضادة الأكبر كانت في الإخفاق الذي ستواجهه في عدد من الصراعات غير المحسوبة التي خاضتها بدون أن تملك المقدرات الكافية لمشروع السيطرة والتحكم الإقليمي الذي تعهدته.
خاضت الإمارات مع حلفائها حربًا مريرة وطويلة في اليمن، لم تستطع حسمها، تحولت إلى عبء ثقيل الوطأة، عسكريًّا وسياسيًّا وأمنيًّا. ولم تستطع، معهم، تحقيق نصر حاسم لحليفها، الجنرال حفتر، في ليبيا، التي أصبحت هي الأخرى ساحة استنزاف مالي وسياسي. وحتى في مصر، التي اعتُبرت واجهة النجاح الأكبر للردة عن حركة الثورة والتغيير في المجال العربي، فشل عبد الفتاح السيسي في تأسيس شرعية صلبة لنظامه، كما فشل في محاولات النهوض الاقتصادي، وانتهى إلى خوض معركة واسعة ضد كافة القوى السياسية في البلاد، حتى تلك التي أيدت نظامه في بدايته.
أما على صعيد التنافس الإقليمي، فقد وجد حلف الثورة المضادة الخليجي نفسه وحيدًا في حمى تدافع إقليمي متصاعد، بعد أن أدرك أن إدارة ترامب لن تخوض حربًا فعلية مع إيران، مهما بلغ مستوى التهديد الإيراني لأمنهم. وقد تفاقمت هذه العزلة بفعل خلافات دول الثورة المضادة الخليجية متعددة المستوى مع تركيا. في المقابل، خسرت الإمارات وحلفاؤها الكثير من وزنها المعنوي، العربي والإسلامي، بفعل علاقاتها، السرية والعلنية مع إسرائيل.
ولم يكن حظ إيران بأفضل كثيرًا من حلف الثورة المضادة الخليجي. لم تُحسم معركة السيطرة على اليمن بأية صورة من الصور، ولم تزل إيران تتحمل عبئًا كبيرًا في دعم الحوثيين وبقائهم. وفي سوريا؛ حيث اضطرت إيران لاستدعاء روسيا لمواجهة قوى الثورة السورية المسلحة، كان ثمن بقاء نظام الأسد باهظ التكاليف؛ ليس فقط لأن إيران والميليشيات الشيعية دفعت الثمن الأكبر طوال سنوات الحرب الأهلية، ولكن أيضًا لأن إيران لا تستطيع الرد على الهجمات الإسرائيلية المؤلمة، ولا منافسة روسيا في النفوذ وحجم التأثير على القرار السوري.
وبتخلي إدارة ترامب عن الاتفاق النووي، وفرض واشنطن عقوبات مؤلمة على إيران، أخذ الوضع الإيراني الاقتصادي في التدهور بسرعة حثيثة. ولم يكن غريبًا، بالتالي، أن تندلع حركة احتجاج شعبي ضد سياسات النظام داخل إيران نفسها في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني.
منذ نهايات 2018، وخلال 2019 بالتأكيد، بدأ ميزان القوى بين قوى الثورة والتغيير في المجال العربي، من جهة، ومعسكر الثورة المضادة، من جهة أخرى، في الاعتدال. وهذا ما أشار إليه فشل حلف الثورة المضادة الخليجي في دعم السيطرة المنفردة للمجلس العسكري في السودان، وعجزه عن التدخل في الشأن الجزائري الداخلي، أو عن التأثير في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التونسية. أما في لبنان والعراق، فليس ثمة شك في أن الحراك الشعبي يحمل بُعدًا مناهضًا للنفوذ الإيراني في الدولتين وللقوى والأحزاب المرتبطة بهذا النفوذ. وربما كان التوجه الشعبي المناهض للطائفية في كل من العراق ولبنان أحد أبرز المؤشرات على الانحسار المتسارع للنفوذ الإيراني في كلتا الدولتين.
الطريق إلى المستقبل
وُلدت الدولة العربية الحديثة، بحدودها وسلطتها المركزية وهويتها الوطنية، في نهايات الحرب العالمية الأولى. ولدت الدولة، في معظم الحالات، بإرادة أجنبية وبدون اعتبار يُذكر لرأي الشعوب وأمانيها. وولدت هذه الدولة وهي تحمل في داخلها عوامل تأزم وقلق: استلمت مقاليد الحكم أقليات اجتماعية أو فئوية أو طائفية؛ واجهت معضلة متفاقمة على مستوى التوافق الوطني على هوية الدولة وتصورها لنفسها والعالم؛ لم يأخذ بناء كل دولة في الاعتبار حجم المقدرات الاقتصادية المتاحة للبقاء وسد حاجات عموم الشعب؛ ولأن حدود معظم الدول العربية رُسمت بدون النظر إلى الموروث التاريخي وتعقيدات الجغرافيا، فقد ولدت الدول وهي تضم في داخلها قنبلة قومية أو طائفية توشك على الانفجار.
بيد أن الدولة العربية الحديثة استطاعت تأسيس جذور لها خلال العقود التالية على ولادتها، وأن تؤسس شرعية، مهما كانت هذه الشرعية هشَّة وقابلة للانحسار. وربما كان إنجاز الاستقلال الوطني أحد أكبر مصادر الشرعية التي ساعدت الدولة العربية على البقاء والاستمرار. ولكن ما عاشته هذه الدولة خلال القرن العشرين كان صراعًا دائمًا بين قوى التأزم والانفجار الداخلي، من جهة، وعناصر الاستقرار والازدهار والتأييد الشعبي، من جهة أخرى. ولأن المنطقة العربية ظلت ساحة للتنافس والنفوذ الدولي، لم يكن الخارج بعيدًا دائمًا عن التدافع المحتدم داخل الطبقات الحاكمة، وبينها وبين شعوبها.
في سيرة الحياة القصيرة والقلقة هذه، عملت الدولة العربية الحديثة على إعادة إنتاج نفسها من جديد عقب كل أزمة كبرى واجهتها. في نهاية الأربعينات وخلال الخمسينات، تخلصت الدولة من طبقتها الحاكمة التقليدية، أبناء أعيان المدن، الذين تلقوا تعليمًا غربيًّا حديثًا، وأداروا شؤون الحكم والدولة قبل الاستقلال وبعده خلال حقبة ما بين الحربين. جاءت الطبقة الجديدة من أبناء الإنتلجنسيا الجديدة، المهنيين المحدثين، وضباط الجيش، وطرحت برامج راديكالية، اجتماعية وسياسية، بما في ذلك تبني شعارات الوحدة ومواجهة النفوذ الأجنبي وتحقيق العدالة الاجتماعية.
في السبعينات والثمانينات، وبعد أن أخفقت دولة ما بعد الحرب الثانية في المواجهة مع إسرائيل، تراجعت طموحات الوحدة القومية، وانهارت جهود النهوض الاقتصادي والاجتماعي، ثم عادت الدولة العربية لإعادة بناء نفسها من جديد. تبنت الأنظمة الحاكمة سياسة اقتصادية نيوليبرالية، سمحت بقدر متحكَّم به من التعددية السياسية، وأعادت بناء علاقاتها الغربية وتقديم نفسها باعتبارها جزءًا من المحيط الغربي الثقافي والحضاري.
منذ بداية القرن الحادي والعشرين، ومع اتساع هوة الفوارق الاجتماعية والاقتصادية، وانحطاط أنظمة التعليم وانهيار المؤسسات الخدمية، وعجز الأنظمة الحاكمة عن الحفاظ على مستوى مقنع من الاستقلال الوطني، عادت الدولة العربية للدخول إلى التأزم من جديد. المشكلة هذه المرة أن الطبقات الحاكمة، وبالرغم من التضخم الهائل في أجهزة القمع والتحكم الداخلي، لم تدرك حجم المتغيرات الثقافية والاجتماعية التي تواجهها، سيما على صعيد النمو الهائل في الشريحة السكانية الشابة، الطَّموحة والمحبَطة، وتوفر المعلومات وحرية النفوذ إلى شبكات الاتصال.
كانت هذه لحظة انفجار حركة الثورة العربية في موجتها الأولى في 2011. والواضح، أن الردة عن مسار التحول الديمقراطي أو الالتفاف عليه، التي قادتها قوى الثورة المضادة بداية من 2013، لم تستطع إنقاذ الدولة العربية وإخراجها من مأزقها التاريخي. بمعنى، أن دولة ما بعد الحرب الأولى العربية تبدو وكأنها وصلت نهاية الطريق، ولم تعد قادرة على إعادة إنتاج نفسها. لمنع عملية التحول الديمقراطي والاجتماعي-السياسي، كان لابد من اللجوء إلى العنف السافر، والعنف فقط.
لم تستطع الثورة المضادة تقديم بديل مقنع لوعود الحرية والديمقراطية والكرامة التي حملتها موجة حركة الثورة الأولى. الحقيقة، أن البدائل التي قدمتها كانت أسوأ بكثير مما كانت عليه أنظمة ما قبل 2011. ولذا، فما إن ظهرت علامات الضعف والتراجع على قوى الثورة المضادة، كان طبيعيًّا أن تنطلق موجة جديدة من حركة الثورة والتغيير. ولأن الدولة العربية تبدو عاجزة عن إعادة توليد نفسها، فمن المتيقن أن حركة الثورة والتغيير ستستمر، في موجات متلاحقة وتجليات متعددة، ربما لسنوات طويلة قادمة. دول المجال العربي، بكلمة أخرى، غير مرشحة للاستقرار في المدى القريب والمتوسط.