الهوية الشقية

سعى آلان فينكلكراوت في كتابه "الهوية الشقية" إلى إعادة البحث في قضية الهوية الفرنسية/الأوروبية باعتبارها قضية استراتيجية لإعادة رسم مستقبل جديد لأوروبا في علاقتها بنفسها وبالعالم، وطرح ما اعتبره أدلة لتأكيد صدقية أطروحته الرامية لاستعادة وإحياء فكرة "صفاء النوع الأوروبي".
201461110494721734_20.jpg
المصدر [الجزيرة]

ينتمي كتاب "الهوية الشقية" لمؤلفه السياسي والفيلسوف الفرنسي ذي الأصول البولندية آلان فينكلكراوت إلى تلك العينة الخاصة من الكتب التي تبني قيمتها وراهنيتها من خلال إعادة النبش في واحدة من القضايا الخلافية، التي شغلت الوعي السياسي الأوروبي لعقود من الزمن، والخوض فيها من منظور سجالي؛ بهدف نقض أطروحة وتثبيت أخرى، كل ذلك من منظور يجمع بين المعرفي والأيديولوجي، وصهرهما معًا في بوتقة تخدم مشروعًا سياسيًّا هجينًا لنخبة ما فتئت تكشف عن نفسها في فرنسا ودول الاتحاد الأوروبي.

فبعد أن اطمأنَّ الأوروبيون لحسنات التكتل الاقتصادي والمالي، واستكانوا للوحدة؛ معتبرين إياها السياسة الوحيدة المالكة لشروط الصمود أمام رياح الهيمنة الأميركية المتصاعدة، والقادرة على فرض سياسات الاتحاد على دول الجنوب، عاد فينكلكراوت ليُعيد الأمور إلى المربع الأول، متسائلاً هذه المرة عن مستقبل أوروبا في ظلِّ عجزها عن إيجاد حلول ناجعة لما اعتبره واحدة من القضايا الاستراتيجية، التي تهم الدول الأوروبية كافة، وليضع بذلك "الهوية الأوروبية" من جديد على طاولة التشريح والمساءلة.

وقد خلف الكتاب لحظة إصداره جدلاً واسعًا داخل الأوساط السياسية والأكاديمية الفرنسية. ففيما اعتبره أنصار الجبهة الوطنية الفرنسية وحزب التجمع من أجل الجمهورية تشخيصًا لحالة غير طبيعية يجب تصحيحها على وجه الاستعجال، استقبله أنصار أحزاب اليسار بموجة استهجان عارمة؛ محذِّرين من "أيديولوجيا الهوية"؛ التي يُرَوِّج لها الكتاب، وتُضمر نزعة عنصرية لا مكان لها في عالم يقوم على هدم الحدود الجغرافية، والقيم المعولمة، والاعتراف بحقِّ الآخر.

فعبر مقدمة وثمانية فصول تجمع بين التحليل السياسي الخالص وبين الفكر التأملي في الأحداث واستشراف نتائجها، سعى فينكلكراوت إلى إعادة البحث والتحليل في قضية الهوية الفرنسية/الأوروبية باعتبارها قضية استراتيجية لإعادة رسم مستقبل جديد لأوروبا في علاقتها بنفسها أولاً، وبالعالم تاليًا، وخلال كل فصول الكتاب لم يتردَّد الكاتب في استدعاء كمٍّ هائل من الأحداث والتجارب والأفكار؛ لإقناع القارئ بصدقية أطروحته الرامية إلى استعادة وإحياء فكرة: "صفاء النوع الأوروبي".

أوروبا وعُصاب الهُوية

تتحدَّد معالم الأطروحة المركزية التي رهن فينكلكراوت نفسه للدفاع عنها في المفاصل الستة التالية:

1. إن استمرار تدفُّق موجات المهاجرين القادمين من الجنوب نحو القارة العجوز منذ تسعينات القرن الماضي، حتَّمت على أوروبا أن تتساءل عن هُويتها.

2. إن قانون التجمع العائلي (1) الذي اعْتُمد في فرنسا عام 1974 ومن بعدها الدول الأوروبية، خلف وضعًا جديدًا؛ بحيث لم يعُدْ بإمكان فرنسا -ومعها بقية دول أوروبا- التحكم في "هجوم الهجرة".

3. إن الإنسان الأوروبي الذي كان يعتبر نفسه "كائنًا كوسموبوليتيًّا" إبان الفترة الاستعمارية وما بعدها، أصبح اليوم مهددًا في "عرقه وأرضه".

4. إن مزيدًا من الانفتاح الأوروبي نحو دول الجنوب يعني مزيدًا من الصراعات العصبية، والنعرات الطائفية داخل الحدود الجغرافية الأوروبية.

5. إن فرنسا/أوروبا عندما تختار أن تتخلَّى عن وطنيتها لكي تُصبح مجتمع الثقافات المتعددة، تتحوَّل بذلك إلى مجتمع صراعات تتناحر فيه العنصريات والعرقيات.

6. إن تبنِّي أوروبا لمزيد من الديمقراطية والحرية والمساواة تعني مزيدًا من فقدان للخصوصيات الأوروبية والإرث الثقافي الأوروبي.
فالمفاصل الستة التي يُقَدِّمها صاحب الكتاب بمزيد من اليقينية، تجعلنا نقف على التوجه العام الذي ارتضاه آلان فينكلكراوت من خلال تخصيصه لكتاب كامل للدفاع عن الهوية الأوروبية، ودور المفكرين ورجالات السياسة في صدِّ هذه "الهجمة" والمحافظة على" الإرث الأوروبي من الاندثار". وعلى الرغم من التنويعات التي قدَّمها بشأن مبدأ "العيش المشترك" بين الشعوب والأمم على الأراضي الفرنسية والأوروبية عمومًا، فإن فينكلكراوت يُؤَكِّد بصورة علنية أولوية "المصلحة العليا لفرنسا وأوروبا" ووجوب التصدي لـ"جحافل الإرهاب" القادمة من الجنوب.

وإذا استحضرنا التقارير التي تتحدَّث عن تنامي الأزمات الاقتصادية والحروب في دول الجنوب، فإنه من البديهي أن موجات الهجرة نحو أوروبا ستزداد وتيرتها، وبالمقابل فإن انخفاض معدلات الشيخوخة في دول أوروبا خلال العقود الثلاثة المقبلة سيخلف وضعًا جديدًا يُصبح المواطن الأوروبي فيه أقلية على صعيد دول الاتحاد؛ وفي ضوء هذا المنظور فإن المقولات المؤسِّسة لأطروحة فينكلكراوت لا يمكنها أن تصمد أمام جملة من الحقائق التاريخية نختزلها في ثلاثة مستويات على سبيل التدليل فقط:

• تؤكد المصادر التاريخية الكولونيالية أن الهجرة من الجنوب (إفريقيا والعالم العربي) لم تكن في بدايتها مطلبًا من دول الجنوب، بقدر ما كانت استجابة لمطالب أوروبية صرفة؛ فدول الاتحاد الأوروبي التي خرجت لتوها من الحرب العالمية الثانية كانت في حاجة ماسَّة لعمالة أجنبية، ولم تجد حينها سوى مستعمراتها السابقة هناك حيث السواعد الفتية والأجور الزهيدة.

• إن استمرار ذات الأطروحة داخل الدوائر السياسية الأوروبية في الظرف الراهن، وخلال الألفية الجديدة يُشَكِّل اعترافًا صريحًا بفشل سياسة الوحدة؛ التي اعتمدتها أوروبا منذ أربعة عقود خلت؛ حيث إن الحديث عن أزمة هُوية في أوروبا اليوم يكشف عن عدم نجاعة سياسة الوحدة والاتحاد؛ التي انتهجها الاتحاد الأوروبي منذ عقود خلت لتحقيق التماسك الاجتماعي والرخاء الاقتصادي للمواطن الأوروبي؛ ولربما هذا هو الأمر الذي دفع بساسة أوروبا إلى الانفتاح لاحقًا، على دول أوروبا الشرقية، في حين أوصدت جميع الأبواب على كل ما يأتي من الجنوب.

•  إن الإقرار بانخراط دول الاتحاد في نسق العولمة القائم على هدم الحدود الجغرافية وهيمنة السوق الرأسمالية وتراجع الخصوصيات الثقافية والخطابات الهوياتية يجعل من هذه الأطروحة ضربًا من المزايدة، وسلوكًا ينمُّ عن "انتهازية سياسية" يتم اللجوء إليه لانتزاع مكاسب انتخابية.
 والحال أنه بعد صدور كتاب "الهوية الشقية" وخروجه للأسواق في أكتوبر/تشرين الأول 2013، وما واكبه من جدل سياسي، ساهم في تنامي التيارات السياسية اليمينية؛ فقد جاءت نتائج الدور الأول من الانتخابات البلدية في فرنسا خلال شهر مارس/آذار الماضي (2014) لتكشف مدى استجابة الناخب الفرنسي لهذه العينة من الكتب والخطابات.

فقد فاز اليمين الفرنسي المتطرف برئاسة 13 بلدية يفوق عدد سكانها تسعة آلاف نسمة، بينها 11 بلدية لحزب الجبهة الوطنية بزعامة مارين لوبين؛ والمهم من كل هذا هو أن الجبهة الوطنية حصلت على نسبة تتراوح بين 28 و40% من الأصوات المعبر عنها (2)، الأمر الذي منحها فرصًا حقيقية للفوز بمقاعد أخرى في انتخابات البرلمان الأوروبي؛ بل إن مارين لوبين نفسها لم تُخْفِ رغبتها في أن تعيد فعلة أبيها عام 2005، وتعلن عن ترشحها للانتخابات الرئاسية المقبلة لمنافسة الاشتراكيين؛ الذين تضاءلت شعبيتهم حسب استطلاعات الرأي.

فعلى هذا الحال فإن السيناريو الفرنسي لم يكن مفاجئًا للمتتبعين للشأن السياسي الأوروبي؛ ما دام أن الأحزاب اليمينية كانت قد وصلت إلى الحكم في دول أوروبا؛ خاصة إسبانيا وألمانيا البرتغال والسويد، وهو ما ساهم بصورة مباشرة في حمل بروكسل -مقر الاتحاد الأوروبي- على تبنِّي سياسات أكثر تشددًا تجاه المهاجرين (3).

إن إصرار فينكلكراوت ومعه ثلة من المفكرين والساسة الأوروبيين على تداول هذه الأطروحة، جعل منها موضة فكرية وسياسية يتم استحضارها في كل النقاشات السياسية بين اليمين واليسار؛ وعلى الرغم من أن بعضهم يذهب إلى اختزال عملية اللجوء إليها لانتزاع أوراق انتخابية، وهو ما تم تفصيله سلفًا، فإن الأمور تبدو أعمق من ذلك بكثير؛ إذ إنها تكشف عن "عُصاب ثقافي وسياسي" طبع أفكار وأعمال عينة مخصوصة من حملة الوعي السياسي الأوروبي.

إن الطابع الاستفزازي لأطروحة الكتاب تدفع القارئ الناقد دفعًا إلى الوقوف على المعايير المزدوجة لمقاربة صاحبه؛ ففي الوقت الذي تبدو فيه أوروبا في القريب المنظور في حاجة ماسة للمهاجرين؛ لأن بنيتها السكانية لا تكفي لتحقيق رهاناتها التنموية المستقبلية، فإن عينة من مثقفيها لا يترددون اليوم في إبداء هالة من الخوف تجاه المهاجرين، ويبدو أن هذا الوضع القائم على تنازع المواقف تحوَّل إلى ضرب من "العُصاب الجماعي"؛ الذي استحكم في بعض رجالات السياسة والفكر، الذين سعوا إلى تعميمه وسط شرائح المجتمع الأوروبي؛ ومن ثمة فإن السلوكيات العنصرية التي تظهر بين الفينة والأخرى -التي تأخذ أشكال أعمال عنف ضد المهاجرين وخاصة المهاجرين المسلمين، والمطالبة بترحيلهم- تمثل تمظهرًا حقيقيًّا لهذا العُصاب.

لا يجد فينكلكراوت أدنى حرج من الحديث كل مرَّة عن الهوية الفرنسية والأوروبية كمعطى جاهز يجب حمايته من رياح الهويات الدخيلة؛ ولأن عملية الحماية غير مضمونة بفعل التحوُّلات المتسارعة في عالم اليوم؛ فإن قدر هذه الهوية الأوروبية أن تبقى شقية، و"الشقاء" هنا تعبير عن حالة من "الوعي المشوش" حيال وضعية غير سوية، بين ما هو كائن وما يجب أن يكون. إن رهان فينكلكراوت هو امتلاك -أو بشكل أدق استعادة- "الهوية الأوروبية النقية التي لا يمكن ابتلاعها"، وهذا الطرح يفترض نظريًّا وجود بنية سلالية نقية من حيث المصدر لهذه الهوية؛ لكن على المستوى العملي تبقى نظرية عسيرة التحقق، ما دامت كل التجارب الحضارية قامت وتقوم دومًا على جدلية التلاقح والتفاعل كشرط لازم لتحقيق عنصر الديمومة والاستمرارية؛ ولنا في التجربة الأميركية مثال صريح على ما ذهبنا إليه؛ فالشعب الأميركي الذي لا يعود تاريخه إلى أكثر من ثلاثة قرون، يتحدَّث اليوم ساسته ومفكِّروه عن الهوية الأميركية باعتبارها فسيفساء من الهويات الممتدة تاريخيًّا وجغرافيًّا؛ مما يعني تباينها وعدم تجانسها؛ لكنها في الختام شكَّلت وتُشَكِّل الهوية الأميركية في تعدُّدها وتنوُّعها؛ وعليه فإن كلَّ الهُوية هي محصلة تراكم تاريخي، والتنوُّع والتعدُّد هما العنصران الملازمان لقوَّة وديمومة ذات الهوية.

فتأكيد فينكلكراوت على خوفه "على الهوية الأوروبية من الاندثار" يُؤَكِّد حضور ذات المتلازمة المرتبطة بالعُصاب لدى عينة من المثقفين والساسة الفرنسيين؛ فالخوف على الهوية الأوروبية هو خوف مرضي -غير مبرَّر- على هوية يزعم أصحابها أنها قدَّمت تجربة حضارية للعالم استمرَّت لقرون عدَّة، وهو -أيضًا- دلالة على اقتناع حملة هذا الخوف أن هذه الهوية لم تَعُدْ قادرة على الصمود أمام رياح التغيير. كما أن اختيار النزعة الحمائية لتحقيق ديمومة الهوية الأوروبية يبقى رهانًا غير مضمون عمليًّا، ويحيل إلى نزعة قوية من التمركز حول الذات والارتكان لخصوصيتها؛ الذي لا يعني في الختام سوى نهايتها.

أوروبا والإسلام وجدلية الخوف والعداء

 يحضر الدين في كتاب فينكلكراوت من حيت هو "مكون ثقافي" مركزي في بناء الهوية الفرنسية والأوربية؛ لكن عندما يتعلَّق بالممارسات الدينية للديانات الثلاث داخل المجتمع الفرنسي، فإن الأمر يأخذ بُعْدًا آخر، فصاحب الكتاب يحمل "الممارسات الدينية" جزءًا من المسؤولية عن الوضع المقلق في أوروبا؛ وذلك من خلال ما عُرف في فرنسا وعواصم أوروبية أخرى عام 1989 بـ"أزمة الرموز الدينية"، التي تشمل (البرقع والحجاب والصليب والقلنسوة)؛ فهذه الرموز بنظر صاحب الكتاب تُمَثِّل تشويها للحياة المدنية الأوروبية؛ لأنها تغلغلت في "الفضاء العام الأوروبي" إلى درجة أصبحت معه تُهَدِّد النظام اللائكي الفرنسي، وهنا تبرز ملامح الخوف من كل ما هو ديني عند صاحب الكتاب.

وفي المسار التحليلي نفسه ينتقل فينكلكراوت إلى ما عُرف في فرنسا حينها بـ"أزمة ارتداء الحجاب"، عندما أقدمت إدارة أحد المعاهد الباريسية على طرد ثلاث طالبات مسلمات تمسَّكن بارتداء الحجاب داخل الفصل الدراسي.

فهاتين الحادثتين أثارتا حينها جدلاً واسعًا داخل فرنسا وخارجها؛ فقد اعْتُبرت الأولى تهديدًا للائكية فرنسا في حين تم التعاطي مع الثانية على أنها تهديد للنظام التعليمي الفرنسي والأوروبي؛ ومعلوم أن الرئاسة الفرنسية تدخَّلت حينها في الموضوع، وقامت بتشكيل "مجلس الحكماء الفرنسيين"، الذي انتهت مداولاته حسب ما جاء في الكتاب إلى "أن الرموز الدينية لا تُعارض الأسس اللائكية لفرنسا شريطة عدم المبالغة فيها".

بهذا المعنى يوضِّح أن الخوف من كل ما هو ديني في الحادثة الأولى ينبع من انتشار الصور الدينية ورموزها في الشارع الأوروبي؛ لكن عَبْر بحث بسيط نجد أن أكثر الرموز الدينية المعنية في الشارع الأوروبي هي البرقع أو الحجاب وأفواج المصلِّين؛ الذين ضاقت بهم المساجد يوم الجمعة، واضطروا إلى الصلاة في الشوارع؛ وذلك في حين أن الرموز الدينية المسيحية أو اليهودية قد لا يكون لها ظهورٌ بارزٌ لدرجة تُصبح معه مصدر خوف أو خلاف؛ وبذلك يتضح جانبًا من الأهداف الاستراتيجية لفينكلكراوت؛ حيث الإسلام هو المستهدف.

والحل الذي يقترحه المؤلف لهذا الوضع يقوم على أنه ما دامت "الدولة لائكية ودستورها لائكي فالقادمون إليها يجب أن يكونوا لائكيين... ويجب أن نعلمهم -المهاجرين- كيف يكونوا لائكيين". وهنا يُعَرِّج فينكلكراوت على الحادثة الثانية من خلال اقتراح القيام بـ"هندسة ذهنية للمهاجرين"؛ خاصة منهم طلبة المدارس، الذين يُعرفون بـ"الجيل الثاني"؛ حتى يحظوا بالقبول على الأراضي الأوروبية ويندمجون في النظام التعليمي الأوروبي؛ بل إن فينكلكراوت ذهب أبعد من ذلك مبرزًا أن المهاجر -المسلم- عندما يدخل بلدًا أوروبيًّا فإنه يجب عليه أن يعتبر نفسه ضيفًا في بلد المهجر، وأن ينضبط لسياسة هذا البلد وقوانينه، وفي حال رفضه تلك الشروط أو أصر على تحدِّي المدنية الأوروبية ونظامها التعليمي فما هو حينها إلا "غازٍ" وجبت مقاومته.

إن هذه الدفوع المستفزَّة لصاحب الكتاب من شأنها أن تضع "الديمقراطية الأوروبية" محطَّ نقاش جديد، لاسيما أن المواثيق الدولية بما فيها الدساتير الوضعية الأوروبية تَعْتَبر "منع أي شخص من ممارسة معتقداته وقناعاته الدينية مسًّا بحريته الشخصية"، والأكثر من ذلك أنها تضرب في الصميم الأفكار التنويرية التي أتت بها الثورة الفرنسية؛ التي يعتبرها الكاتب قلب أوروبا ومهد الديمقراطية الحديثة؛ لكن فينكلكراوت يبقى مصرًّا على دعم ذات المقاربة، من خلال الجمع بين النقيضين؛ أي بين "كونية القيم الديمقراطية" وبين مبدأ "الاستثناء الفرنسي/الأوروبي".

فالطرح التبريري الذي يُقَدِّمه صاحب الكتاب هنا يكشف عن درجة حاذقة في البحث عن مخرج حيال وضع إشكالي، ومحاولة إقناع القارئ بمسوغاته؛ فالقارئ الأوروبي قد يجد الأمر مقبولاً من وجهة نظره، ومنسجمًا مع ميوله النزَّاعة لحماية مستقبله الفردي والجماعي؛ لكن القراءة الموضوعية -التي لا تقبل بالتحايل على القيم الكونية لإرضاء غرور فرنسا أو أوروبا- لا يمكنها إلا أن ترفض مقاربة كهذه؛ ولنا مثال واضح على هذا الطرح التبريري الذي تسعى بعض الدول الأوروبية إلى تعميمه وتداوله إعلاميًّا، الذي يُقَدَّم تحت يافطة "الإسلام الفرنسي" أو "الإسلام الأوروبي"، فهذه الطروحات الهجينة التي تعمل تحت مظلة الخصوصية تسعى إلى هدف واحد ووحيد؛ هو وضع الإسلام تحت طائلة قانون المدنية الأوروبية؛ وفي ذلك امتهان للدين الإسلامي، وانتهاك صريح لقناعات معتنقي هذه الديانة؛ سواء كانوا في بلد المهجر أم بلدهم الأصلي، وهنا تحديدًا يتبدَّى جانب من معالم العداء للإسلام.

 أوروبا وخطاب التأزيم

قد نفهم النزعة التشاؤمية التي كُتب بها كتاب "الهوية الشقية"، والخوف المتزايد على مستقبل أوروبا؛ لكن ما لا نجد له تفسيرًا هو كيف لسياسي منغرس في الهم الفرنسي والأوروبي، وفيلسوف متمرس تعلَّم أصول السياسة والفكر من خلال مشاركته في ثورة الطلاب عام 1968، التي هزَّت أفكارها أوروبا والعالم، وأدخلت مفهوم التحرُّر في مجالات السياسة والفكر والمجتمع وكل شؤون حياة الإنسان الأوروبي أن يُقنع نفسه ويسعى إلى إقناع القارئ بخطاب يقوم على نشر خطاب التأزيم، والتخويف من الآخر الجنوبي؛ وذلك باعتباره سبب الأزمة التي تعيشها أوروبا.

واللافت للنظر أن فينكلكراوت استهلَّ مقدمة كتابه بعبارة: "إننا لم نصل بعدُ إلى التغيير الذي نرتضيه". وأنهاه بعبارة: "التغيير القائم ليس هو ما كنا نسعى إلى تحقيقه؛ بل التغيير هو ما وقع دون أن يكون لنا يد في ذلك، والحصيلة هي أن أوروبا أصبحت قارة للهجرة والمهاجرين".

هكذا نخلص مع صاحب الكتاب إلى أن التغيرات والتحوُّلات التي عرفتها أوروبا اليوم ليست في مستوى الرهانات، وأنها "تحولات قشرية" لم تمس عمق الإنسان الأوروبي وحياته الاجتماعية والثقافية؛ مما يُشَكِّل إدانة لصناع السياسة والفكر في أوروبا.

ولكننا نتساءل: هل تعيش أوروبا اليوم فعلاً أزمة، أم أننا بصدد خطاب مفتعل لسياسي ومفكر نتلمس تقاطعات عدَّة بين أطروحاته الفكرية وبين البرامج السياسية للأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا.

فإذا كنا من أنصار المقاربة الاقتصادية الصرفة، وعندما نتكلم بلغة الأرقام سنقول: إن أوروبا اليوم تمثل قوة اقتصادية عالمية تُضاهي كمًّا وكيفًا الولايات المتحدة الأميركية، وإن الاقتصاد الفرنسي والألماني يُؤَكِّدان ذلك؛ لكن في ذات المستوى نجد عددًا من الدول الأوروبية الأخرى، التي واجهت أزمات اقتصادية ومالية ما زالت آثارها بادية حتى اليوم، ومن ذلك ما وقع في اليونان والبرتغال وإسبانيا وإيطاليا؛ وهنا نكون بصدد أزمة لكنها أزمة جانبية لا يمكنها أن تُؤَثِّر على الصورة العامة لمستقبل أوروبا؛ أما إذا كنا من أنصار المقاربة الثقافية سنقول: إن أوروبا اليوم تعيش أزمة حضارية؛ لأنها فشلت في تحقيق العيش المشترك على أراضيها، ولأنها باسم الخصوصية الأوروبية والنظام اللائكي تغتال الديمقراطية وحقوق الإنسان. والأخطر من ذلك أن بلدانها -فرنسا وهولندا وألمانيا وبريطانيا- التي أنجبت فلاسفة الفكر التنويري تحوَّلت اليوم إلى مكان لنشر ثقافة الكراهية والعنصرية ورفض الآخر.
_________________________________
* عبد السلام رزاق، باحث وإعلامي بشبكة الجزيرة.

الهوامش:
1) قانون التجمع العائلي في فرنسا Regroupement familial des étrangers en France  La loiتم اعتماده عام 1975، ويقضي باستقدام المهاجر القانوني لأسرته بعد سنة من إقامته في بلد المهجر فرنسا، انظر تفاصيل هذا القانون: http://vosdroits.service-public.fr/particuliers/N11165.xhtm

2)  انظر: مجلة "لونوفيل أوبسرفاتور" الفرنسية، 10 من إبريل/نيسان 2014:
http://tempsreel.nouvelobs.com/elections-europeennes-2014/20140521.OBS7926/parlement-europeen-6-votes-qui-ont-change-la-donne.html

3) جريدة "لوموند" الفرنسية: 17 من مايو/أيار 2014:
http://www.lemonde.fr/europeennes-2014/article/2014/05/17/elections-europeennes-le-fn-toujours-en-tete-l-ecart-s-accroit-avec-l-ump_4420680_4350146.html

 

معلومات عن الكتاب:

الكتاب: الهوية الشقية L'identité Malheureuse
المؤلف: آلان فينكلكراوت Alain Finkielkraut
الناشر:  Edition stock-Paris
سنة النشر: 2013
عدد الصفحات: 229
مراجعة: عبد السلام رزاق

نبذة عن الكاتب