مخاطر تسييس الهوية وتسليح السياسة: التجربة السودانية

إذا كانت تجارب السودان تظهر في آن واحد مخاطر تسييس الهوية وما يمكن أن تولده من عنف، فإنها أيضا كشفت طبيعة الإستراتيجيات التي تسمح بتجاوزها، كما حدث في التحالفات التي سبقت الثورات أو أعقبتها. وهي تكشف بذلك السرعة التي يمكن أن تتدهور بها الأوضاع حين يتحول خلاف شخصي داخل حزب أو كتلة إلى صراع سياسي.
2013124143138471734_20.jpg

استندت دراسات الانتقال الديمقراطي إلى حد كبير على تجارب المرحلة التي أطلق عليها صمويل هنتنغتون تسمية "الموجة الثالثة" للديمقراطيات، وذلك في دول جنوب أوروبا وشرقها وأميركا اللاتينية وجنوب شرقي آسيا التي شهدت التحول للديمقراطية في السبعينات والثمانينات (1). وكنتيجة للدراسات المقارنة لهذه التجارب، توصل الباحثون إلى تحديد ملامح عمليات الانتقال ومقومات نجاحها، بدءا من أسباب التحول التي غالبا ما تنشأ عن خلافات داخل النظام الاستبدادي أو فقدانه الشرعية بسبب هزيمة في الحرب أو انهيار اقتصادي. ولكن في بعض الأحيان يتخذ الحكم نفسه مبادرات إصلاحية، خاصة عندما تكون الأوضاع مستقرة والاقتصاد في ازدهار (2).

وبحسب أسباب التغيير تكون طبيعة الانتقال. فقد يكون الانتقال توافقيا إذا تراضت الأطراف، فتكون هناك مشاركة في السلطة، وقد يكون ثوريا إذا انهار النظام، فيقع إحلال كامل لنخبة حاكمة جديدة. ومن شروط نجاح الانتقال وتثبيت الديمقراطية وجود بنية متماسكة للدولة مع مؤسسة بيروقراطية فاعلة، وترسيخ حكم القانون، ووجود مجتمع مدني حيوي، ومجتمع سياسي ذي استقلالية، و"مجتمع اقتصادي" يقوم على المؤسسية (3). وقد واجهت بعض هذه الدراسات انتقادات لكونها تعمم أكثر من اللازم وتهمل خصوصية الدول، كما تفترض أن كل دولة انهار نظامها الاستبدادي أو ترنح هي في طريقها إلى الديمقراطية، إضافة إلى تركيزها على العملية الانتخابية دون الالتفات إلى شروط الديمقراطية الأخرى، خاصة عملية بناء الدولة أو الاقتصاد السليم (4).

الانتقال في السودان

بعض هذه الانتقادات محقة، خاصة عند افتراض أن تتبع كل تجارب الانتقال الديمقراطي مسارا متقاربا. والملاحظ أن معظم دراسات الانتقال الديمقراطي بنيت على دراسة تجارب دول أميركا اللاتينية وشرق أوروبا. ولم تكن هناك دراسات كثيرة تستلهم التجارب العربية، وذلك لسبب بسيط، هو ندرة تجارب الانتقال الديمقراطي الناجحة في العالم العربي الذي شهد محاولات انتقال ديمقراطي في الثمانينات والتسعينات لم تحقق معظمها نجاحا حاسما، ووقعت في بعضها ردات عنيفة، بينما بقيت أخرى تراوح مكانها أو تتراجع (5).

ولكن هناك استثناء عربي مهم، هو الحالة السودانية، التي شهدت أربع تجارب انتقال ديمقراطية، ثلاث منها كانت ناجحة، وثلاث انتكاسات عن الديمقراطية. كانت أول تجربة انتقال ديمقراطي هي تجربة الحكم الذاتي في عام 1953، والتي أدت إلى الاستقلال وإقامة نظام ديمقراطي انهار بدوره في عام 1958. أما الانتقال الثاني الناجح فكان في عام 1964، بعد إسقاط النظام العسكري بثورة شعبية، وتبعته تجربة ديمقراطية أسقطت بانقلاب عسكري في عام 1969. وبعد سقوط النظام العسكري بثورة شعبية أخرى في عام 1985، شهد السودان انتقالا ديمقراطيا ثالثا تعرض لانتكاسة وانقلاب عسكري عام 1989. وقد وضعت اتفاقية نيفاشا التي أنهت حرب الجنوب عام 2005 أسس انتقال ديمقراطي رابع، كان ينبغي أن يتم على أساس انتخابات عقدت في عام 2010، إلا أن هذا المسار أجهض، وكانت النتيجة انفصال الجنوب واستمرار النظام القائم. ولا شك أن التأمل في هذه التجارب يحمل دروسا قيمة تلقي بالضوء على شروط الانتقال الديمقراطي الناجح والمخاطر التي تحيط به.

وقد شبه بيتر وودوارد في تناوله لتجارب السودان في الانتقال الديمقراطي بين أولى تجارب الانتقال وآخرها، في مقابل تجربتي أكتوبر/تشرين الأول 1964 وأبريل/نيسان 1985. ففي الحالتين الأوليين، كانت هناك اتفاقيات حكمت العملية (اتفاقية الحكم الذاتي لعام 1953 واتفاقية نيفاشا 2005)، وكانت هناك قرارات مصيرية (الوحدة مع مصر وتقرير المصير للجنوب)، وأسئلة حول قسمة الموارد (مياه النيل والنفط)، في حين تم الاتفاق مسبقا على انتخابات تعددية. أما في الأخريين، فإن ثورات شعبية اكتسحت الأنظمة القائمة، وأقامت نظما ديمقراطية على أنقاضها بدون توافق مسبق (6). إلا أن مزيدا من التأمل قد يكشف أن التمايز بين النوعين من الانتقال لم يكن كبيرا، إذ أن الانتقال في 1964 و 1985 قام بدوره على شيء من التوافق مع الأنظمة القائمة (الفريق عبود الذي استمر رئيسا في بداية الفترة الانتقالية عام 1964) أو بعض مكوناتها (قيادة الجيش التي تولت خلع الرئيس النميري في عام 1985).

وقبل الانتقال إلى مرحلة التحليل نبدأ بتقديم ملخص لملامح الفترات الانتقالية المتتالية في السودان، بداية من فترة الحكم الذاتي بين عامي 1953 و 1956. بدأت هذه الفترة باتفاقية الحكم الذاتي بين مصر وبريطانيا في فبراير/شباط عام 1953، والتي قررت إعطاء السودانيين حق تقرير المصير في نهاية فترة انتقالية تبدأ بانتخابات لتشكيل حكومة سودانية على أساس قانون الحكم الذاتي الذي سن في ذلك العام. وتتولى الحكومة في هذه الفترة تصفية الحكم البريطاني وتشرف على جلاء جيش الاحتلال وسودنة الوظائف، ثم تعقد استفتاءً يقرر بموجبه السودانيون الاتحاد مع مصر أو الاستقلال. وقد فوجئ البريطانيون بفوز كاسح غير متوقع للحزب الوطني الاتحادي بزعامة إسماعيل الأزهري، والمؤيد للوحدة مع مصر. ولكن كل القوى السودانية توافقت في نهاية المطاف على إعلان استقلال السودان من داخل البرلمان في ديسمبر/كانون الأول 1955 وبدون استفتاء، وهي خطوة اتخذت في ضوء حقائق الواقع السوداني، ومعارضة قوى مهمة في السودان للوحدة مع مصر. وقد شابت هذه المعارضة أحداث عنف، كما حدث حين اصطدم أنصار حزب الأمة بالشرطة في مارس/آذار عام 1954، واندلاع التمرد المسلح في الجنوب في أغسطس/آب عام 1955 (7). ورغم أن الممارسة الديمقراطية خلال الفترة الانتقالية كانت سليمة في مجملها، وسمحت بكامل الحريات وتداول للسلطة بدون انتخابات (حين وقع انشقاق في الحزب الحاكم وتم إسقاط رئيس الوزراء الأزهري في منتصف عام 1956) ثم بانتخابات فبراير/شباط عام 1958 التي ثبتت التحالف الحاكم بقيادة حزب الأمة في الحكم، إلا أن استمرار التوترات السياسية مهد لانقلاب عسكري أنهى التجربة في عام 1958.

تميز الحكم العسكري بزعامة قائد الجيش وقتها الفريق إبراهيم عبود بأنه كان محافظا و"أبويا"، لا يحمل أي أفكار تغيير جذري، حيث أبقى على الخدمة المدنية والقضاء كما هي. كان النظام أيضا مواليا للغرب، ولكنه في نفس الوقت اجتهد في إصلاح العلاقات مع مصر والمعسكر الشرقي. وقد شهد ذلك العهد ازدهارا اقتصاديا وتنفيذ مشاريع تنموية عملاقة (8). إلا أن إصرار النظام على حظر الأحزاب ووضع قيود على حرية التعبير، إضافة إلى تصعيد المواجهة العسكرية في الجنوب جعل النظام يواجه معارضة متصاعدة أدت إلى إسقاطه في أكتوبر/تشرين الأول عام 1964 بعد مظاهرات طلابية قتل فيها أحد الطلاب.

تولى قيادة الاحتجاجات تحالف من منظمات المجتمع المدني، من أبرزها نقابات المحامين وأساتذة الجامعات والطلاب والقضاة، وانضم إليها لاحقا تحالف من أحزاب المعارضة. وقد توحدت هذه المجموعات في تحالف أطلق عليه اسم "جبهة الأحزاب والهيئات"، تولى التفاوض مع النظام على إنهاء الحكم العسكري، وهو ما انصاع له المجلس العسكري الحاكم بعد ضغوط من قيادات وسيطة في الجيش. وتم تشكيل حكومة برئاسة شخصية غير حزبية معظم أعضائها من ممثلي النقابات المهنية، مع تمثيل رمزي للأحزاب. وبعد ثلاثة أشهر تمت إعادة تشكيل الحكومة بتمثيل أكبر للأحزاب، وعقدت بعد ثلاثة أشهر انتخابات جاءت بحكومة ائتلافية (9).

استغرقت فترة الاحتجاجات بين واقعة مقتل الطالب الجامعي في الحادي والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول واستقالة المجلس العسكري في نهاية الشهر حوالي أسبوع. وبعد حوالي أسبوعين آخرين تفجرت احتجاجات أخرى بعد إشاعة حول عودة الجيش للحكم أجبر على إثرها الفريق عبود على الاستقالة من منصب الرئاسة. وتم (مع تعديلات طفيفة) اعتماد دستور عام 1956 كأساس للمرحلة الانتقالية. وقد شهدت الفترة من 1965 صراعات سياسية داخل الأحزاب وفيما بينها، وعقدت انتخابات في عام 1968 أعادت نفس الحكومة الائتلافية المشكلة من حزبي الأمة (الذي انشق إلى جناحين عام 1967) والوطني الاتحادي (الذي توحد من جديد مع حزب الشعب الديمقراطي الذي كان انشق عنه عام 1956 باسم حزب الشعب الديمقراطي، وأصبح الحزب الجديد الحزب الاتحادي الديمقراطي). وقد شهدت تلك الفترة، علاوة على عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، تصعيدا خطيرا في الحرب الأهلية في الجنوب. وفي مايو/أيار من عام 1969 انهارت التجربة بكاملها بوقوع انقلاب عسكري دعمته الأحزاب اليسارية (10).

استمر الحكم العسكري بقيادة الرئيس جعفر النميري ستة عشر عاما، شهد خلالها تقلبات من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، وشهدت الكثير من الصراعات وعدم الاستقرار. إلا أنه نجح في تحقيق السلام في الجنوب في عام 1972، ثم عادت الحرب فتفجرت مرة أخرى في عام 1983، وهو نفس العام الذي أعلن فيه سن تشريعات إسلامية. وفي مارس/آذار من عام 1985، تفجرت احتجاجات نقابية وطلابية على نفس منهج احتجاجات 1964، وذلك بعد فرض إجراءات تقشف قاسية تحت ضغط صندوق النقد الدولي. هذه المرة استمرت الاحتجاجات لمدة أسبوعين قبل أن يقرر الجيش عزل  الرئيس في اليوم الذي كان من المفترض أن يعود فيه إلى البلاد من رحلة استشفاء في الولايات المتحدة (6 أبريل/نيسان).

هذه المرة أيضا قادت الاحتجاجات تجمعات نقابية وطلابية، على رأسها طلاب الجامعات ونقابات الأطباء والمحامين وأساتذة الجامعات والمصارف، وشكلت فيما بعد مع الأحزاب "التحالف الديمقراطي لإنقاذ الوطن". دخل التحالف في مفاوضات مع قيادة الجيش، وتولى تسمية رئيس الحكومة الجديدة (كان نقيب الأطباء الدكتور الجزولي دفع الله)، في حين تولى الجيش منصب الرئاسة، وتم اعتماد دستور عام 1965 بتعديلات طفيفة. وهذا يعني أن قانون الحكم الذاتي الذي وضعه البريطانيون عام 1953 ظل هو الدستور الذي يحكم عمليات الانتقال في السودان.

شهدت الفترة الديمقراطية الثالثة مرحلة عدم استقرار سياسي وتدهور اقتصادي أكثر من أي فترة مضت، خاصة مع تصاعد الحرب في الجنوب بعد أن رفضت الحركة الشعبية لتحرير السودان التي تقود التمرد في الجنوب وقف العمليات الحربية أو التفاوض مع الحكومة الجديدة. فوق ذلك فإن الصراعات السياسية والحزبية، والاستقطاب حول تشريعات النميري الإسلامية، علاوة على اشتعال الحروب القبلية في دارفور بدءا من عام 1987، زاد من تدهور الأوضاع. وقد بلغت الأمور حدا جعل الجيش يصدر مذكرة تحذيرية لرئيس الوزراء في فبراير/شباط عام 1989 يطالبه فيها بالتعامل بجدية مع الحرب في الجنوب، إما سلما أو بتقديم الدعم اللازم للجيش. وكان هذا تمهيدا للانقلاب الذي نفذته الجبهة الإسلامية (بعد أن تم إخراجها من التحالف الحاكم بعد مذكرة الجيش) في يونيو/حزيران عام 1989.

أطلقت الحكومة الجديدة على نفسها تسمية حكومة الإنقاذ الوطني، ونفت في أول أمرها أي علاقة لها بالإسلاميين، مؤكدة أنها حكومة وطنية تريد وضع حد للتدهور السياسية والاقتصادي وإيقاف الحرب في الجنوب. وبعد مفاوضات متطاولة مع الحركة الشعبية، وتصعيد للقتال في الجنوب، توصلت الحكومة في عام 2005 إلى اتفاق سلام تم على أساسه صياغة دستور جديد يمهد لفترة انتقالية مدتها ست سنوات، تجرى خلالها انتخابات ديمقراطية حرة تشارك فيها كل الأحزاب، ويجرى في نهايتها استفتاء يخير الجنوبيين بين الانفصال والوحدة. وعلى أساس هذه الاتفاقية تم ترتيب انتخابات في إبريل/نيسان عام 2010، قاطعتها معظم أحزاب المعارضة بسبب عدم الاتفاق على قوانين تضمن الحريات، وعدم الثقة بنزاهتها. وكانت نتيجة الانتخابات أن اكتسح الحزب الحاكم في الشمال (المؤتمر الوطني) معظم مقاعد البرلمان هناك، كما فعلت الحركة الشعبية الشيء نفسه في الجنوب. وفي نهاية الفترة صوت الجنوبيون في استفتاء عقد في يناير/كانون الثاني 2011 بنسبة فاقت 98% للانفصال، وقامت دولة جنوب السودان الجديدة في يوليو/تموز 2009. وهكذا نتج عن "الانتقال" مراوحة نفس المكان المراد الانتقال منه، وما زال النقاش محتدما في الخرطوم عن "انتقال" جديد، حيث تدعو الحكومة المعارضة إلى حورا جديد حول دستور جديد، وانتقال آخر إلى التعددية الحقيقية.

عوامل النجاح في تجارب الانتقال السودانية

من الملخص السابق نخلص أولا إلى أن السودان حقق انتقالا ناجحا للديمقراطية ثلاث مرات على الأقل، وكانت أهم مقومات هذا النجاح تحقيق حد أدنى من التوافق بين القوى السياسية المتنافسة. عشية الاستقلال كانت هناك ثلاث قوى رئيسة تتصارع على الساحة السياسية: المؤيدون للوحدة مع مصر بقيادة الحزب الوطني الاتحادي، والاستقلاليون بقيادة حزب الأمة وحلفائه (على رأسهم الحزب الشيوعي وبعض التشكيلات القبلية)، والقوى السياسية الجنوبية الممثلة بأحزاب وشخصيات مرموقة ومنظمات مدنية. وقد توافقت كل هذه القوى على إعلان الاستقلال بعد أن تخلى الحزب الاتحادي عن مطلب الوحدة مع مصر، وتلقى الجنوبيون تعهدات باعتماد الفدرالية. وقد لعبت قوى خارجية دورا في هذا، حيث وافقت مصر على مبدأ تقرير المصير، كما ساهمت بريطانيا في التقريب بين حلفائها الاستقلاليين ودعاة الوحدة مع مصر. وكان لتفجر العنف تأثير على القيادات الموالية لمصر، كما أن التغييرات التي شهدتها مصر، وجنوحها إلى حكم عسكري يحظر الأحزاب قلل من جاذبية الوحدة (11).

في أكتوبر/تشرين الأول عام 1964 كانت قوى المعارضة موحدة إلى حد كبير (الاستثناء كان حزب الشعب الديمقراطي المدعوم من طائفة الختمية، وكان يتعاطف مع الحكم العسكري وقاطع بالنتيجة انتخابات عام 1965). وقد لعب ضباط الجيش من الرتب الوسيطة دورا حاسما في إجبار النظام على القبول بتسليم السلطة. وقد انضمت القوى الجنوبية إلى الحكومة الانتقالية ودعمتها، رغم وجود إشكالات سنتطرق لها لاحقا. أما في عام 1985 فقد قدم النميري خدمة للمعارضة حينما قام بإقصاء حلفائه من الإسلاميين قبل أسبوعين فقط من تفجر الاحتجاجات ضده، مما أفقده دعم آخر قوة شعبية كان يمكن أن تقف إلى جواره. وكان قبل ذلك قد خسر دعم الجنوبيين حين خرق بنود اتفاقية السلام بتقسيم الجنوب عام 1983، وقبل ذلك اليسار وبقية القوى السياسية. وأخيرا فقد الرئيس دعم الجيش الذي رفض التورط في مواجهة الاحتجاجات الشعبية (12).

في الانتقال الأخير لعب العامل الخارجي الدور الأكبر، حيث كانت هناك ضغوط وإغراءات من الدول الغربية ودول الجوار الإفريقي على طرفي النزاع للتوصل إلى توافق في أقرب فرصة. كان للبدء في إنتاج النفط وتصديره عام 1999 كذلك تأثير كبير، وذلك كحافز للحركة الشعبية للقبول بالسلام حتى تنال نصيبها منه، ولتخوفها كذلك من استخدام الحكومة لعائدات النفط لدعم آلتها العسكرية. إضافة إلى ذلك، فإن الانقسام الذي شهده النظام عام 1999، إضافة إلى تصاعد العنف في دارفور بدءا من عام 2002، جعل الحكومة حريصة على إنجاح المفاوضات، كما شجع حركة التمرد والقوى الدولية إلى التوافق معها بسبب اعتقاد بأن النظام أصبح أكثر اعتدالا بعد الانشقاق.

المعوقات: الاستقطاب والعنف

تتوافق هذه الملامح لتجارب الانتقال السودانية مع النظريات التي ترى في تصدع النظام القائم أهم عوامل الدفع باتجاه التحول، إضافة إلى تعبئة وحشد وتوحيد المعارضة. ولكن هذه الوحدة نتجت عن تجاوز –تبين فيما بعد أنه كان مؤقتا- لمظاهر استقطاب غاية في الحدة، بدءا من الاستقطاب الثلاثي عشية الاستقلال بين أهل الجنوب والاستقلاليين والوحدويين. وكانت لدى كل من هؤلاء مخاوف عميقة على مستقبله تغذيها مرارات تاريخية وعدم ثقة في الطرف الآخر. فللجنوبيين مخاوف وتوجسات تعود لعهود تجارة الرقيق والغارات القبلية في القرن التاسع عشر، ولأنصار الوحدة مع مصر مخاوف وتوجسات تعود إلى عهد الثورة المهدية، مع ظهور إشاعات وتكهنات بأن بريطانيا تريد أن تنصب زعيم الحركة المهدية "ملكا" على السودان (13). وبنفس القدر فإن المهديين كانت لهم توجسات من مصر تعود إلى فترة الحكم المصري للسودان، الذي قامت الثورة المهدية ضده. وإذا كانت القيادات تغلبت على هذه المخاوف عبر طمأنة متبادلة بين المهدويين وخصومهم، خاصة بعد أن حصل الأخيرين على الأغلبية في البرلمان وتخلصوا من الحكم البريطاني، وعبر وعود بذلت للجنوبيين بالفدرالية، فإن المخاوف عادت من جديد، وأضيفت إليها مخاوف جديدة نتجت عن تصدع الأحزاب وصراعاتها الداخلية. فقد أسقطت حكومة الأزهري عبر انشقاق داخل حزبه، بينما هناك روايات متواترة عن أن رئيس وزراء حزب الأمة، عبدالله خليل، دعا الجيش لتسلم السلطة لقطع الطريق على تحالف بين قيادة حزبه والمعارضة كان سيطيح به (14).

انتقال ثورة أكتوبر 1964 تحقق في ظل توافق غير مسبوق بين مكونات المجتمع السوداني وقواه السياسية، حيث شارك الإسلاميون واليساريون جنبا إلى جنب في الثورة رغم خلافاتهم، وتم تعيين رئيس وزراء محل ثقة عند الجنوبيين، كما تم تعيين وزراء جنوبيين في مواقع مهمة، منها وزارة الداخلية. وأثناء الفترة الديمقراطية تم عقد مؤتمر المائدة المستديرة حول الجنوب، وشاركت فيه كل القوى الجنوبية الفاعلة، بمن فيهم قيادات الخارج وأنصار التمرد. ولكن أوضاع التوجس والاستقطاب ظلت قائمة، وكان من مظاهرها أحداث "الأحد الدامي" (6 ديسمبر/كانون الأول 1964)، حين تظاهر جنوبيون غاضبون بعد أن تأخرت طائرة وزير الداخلية كلمنت امبورو لدى عودته من رحلة تقصي حقائق إلى الجنوب وسرت إشاعة بأنه قتل. وقد ارتكب المتظاهرون أعمال شغب وعنف، ووقعت حوادث قتل رد عليها سكان الخرطوم من الشماليين بعنف استهدف كل الجنوبيين بغير تمييز(15).  نفس الفترة شهدت كذلك تصاعد الحرب في الجنوب بصورة فاقت ما كان عليه الحال أيام الحكم العسكري الذي سقط أساسا بسبب التصعيد في الجنوب. وتعرض الوضع الديمقراطي لهزة بعد قرار البرلمان حل الحزب الشيوعي عام 1965 بعد اتهام شخص ينتمي للحزب بالإساءة للرسول صلي الله عليه وسلم، وتفاقمت المشكلة بعد أن حكمت المحكمة العليا ببطلان قرار حل الحزب، فرفض البرلمان قرار المحكمة، مما أدى لاستقالة رئيس القضاء بابكر عوض الله (16). (ولم تكن مصادفة أن الحزب الشيوعي أيد انقلاب مايو 1969 وعين بابكر عوض الله أول رئيس وزراء للنظام الجديد). تصدعات الأحزاب أيضا ساهمت في زعزعة الأوضاع، حيث تفاهم رئيس حزب الأمة الصادق المهدي مع رئيس الجمهورية إسماعيل الأزهري لإسقاط حكومة محمد المحجوب، رئيس الوزراء عن حزب الأمة، وتولي رئاسة الوزراء مكانه، فأدى ذلك إلى انقسام حزب الأمة، وانحياز زعيم الطائفة المهدية السيد الهادي المهدي (عم الصادق) إلى المحجوب وإعادته إلى رئاسة الوزراء عام 1967، أيضا باتفاق مع الأزهري. وقد ساهم هذا الوضع المضطرب في تهيئة الجو للانقلاب.

أما انتقال عام 1985، فقد شهد استعادة بعض خطوط الاستقطاب القديمة، وعلى رأسها استقطاب الشمال والجنوب، وأضاف إليها أوجه استقطاب جديدة، من أبرزها الخلاف حول الشريعة الإسلامية. وكان عهد النميري قد بدأ بتوجه يساري متشدد وضع الدولة في صدام مع الشعب، قبل أن يتجه إلى الوسط ويجنح للسلام في الجنوب والتصالح مع القوى السياسية الأخرى، وانتهى بنهج "إسلامي" خلافي لقي مع ذلك تأييدا من الإسلاميين ممثلين في حركة الإخوان المسلمين بقيادة د. حسن الترابي. وكانت الحركة قد شاركت في النظام منذ المصالحة الوطنية التي أبرمها زعيم المعارضة وقتها الصادق المهدي مع النظام عام 1977، واستمرت فيه بعد أن انشق عنه الآخرون. وقد تداخل خطا الاستقطاب ودعم بعضهما بعضا، واستمر ذلك الوضع خلال عهد الإنقاذ. وقد أخذ الاستقطاب منحى جديدا بعد أن تخلى زعيم التمرد الجديد عن التوجهات الانفصالية التقليدية لحركات التمرد الجنوبية، ودعا إلى "تحالف أفريقي" يضم كل القطاعات غير العربية في السودان، ويكون موجهاً ضد "العرب"، وذلك لإنشاء "سودان جديد" قوامه الهوية الأفريقية والنهج الديمقراطي العلماني (17). وبالمقابل، فإن الإسلاميين تبنوا نهجا مزج بين الخطاب الديني وبين الدفاع عن "الهوية العربية" للسودان. وقد بلغ هذا الاستقطاب قدرا من الحدة لم يعد من الممكن استيعابه في كيان سياسي واحد، مما أعاد الوضع إلى نقطة البداية، وهي خيار الانفصال الذي تحقق أخيرا.

وبينما يقبل منظرو الديمقراطية أن نظمها تشتمل على قدر كبير من عدم اليقين، وهو أمر يتفاقم في فترات الانتقال التي يتم فيها رسم قواعد اللعبة ويسودها الاضطراب، إلا أنهم يؤكدون على أن الديمقراطية لا تستقر ما لم يتم الحد من هذا الانعدام في الوضوح واليقين، وذلك بتوفير ما يطلق عليه البعض "عدم اليقين المضبوط"، أي وضع حدود للمدى الذي يمكن للنظام السياسي أن يتغير في إطاره عبر الانتخابات أو غيرها. وتقدم هذه الضمانات عبر النصوص الدستورية التي تضمن الحقوق، خاصة حقوق الأقليات، وعبر المؤسسات الرديفة، مثل القضاء المستقل (18). وهذا ما تؤكده الحالة السودانية، حيث ظهر أن وجود استقطاب حاد حول قضايا مثل الهوية أو الدين، ومخاوف عميقة من نتائج الانتقال بسبب عدم الثقة المتبادلة، يقوض العملية الديمقراطية، لأن أهم مكون في الديمقراطية يكمن في الثقة في أن ما ينتج عن صناديق الاقتراع لا يمكن أن يكون انقلابا على المتوافق عليه. ويؤدي انعدام الثقة بالضرورة إلى العنف، لأن من يرى أنه يواجه خطرا مصيريا يرى أنه محق في اللجوء إلى أية وسيلة لتجنبه. والعنف بدوره يؤدي إلى المزيد من التوجس وتقويض الثقة والخوف من الآخر بعد أن تسيل الدماء وتتحقق كثير من المخاوف.

من جهة أخرى، فإن كثيرا من مظاهر الصراع والاستقطاب في السودان مفتعلة من أجل تحقيق مصالح سياسية قصيرة الأمد، بدليل أن أشد الخلافات فتكا أو تسببا في عدم الاستقرار كانت هي الانشقاقات داخل الأحزاب. ولعل المفارقة تكمن في أن الاستقطاب يبدو حادا بين الشمال والجنوب، أو بين حزبي الأمة والاتحادي ومن ورائهما طائفتا الختمية والأنصار، أو بين الإسلاميين والعلمانيين، إلا أننا شهدنا طوال حقبة الاستقلال وحتى قبلها انشقاقات عنيفة داخل الصف الجنوبي، وداخل الأحزاب الكبرى والصغرى. وقد كانت أبشع مظاهر العنف هي تلك التي ولدتها الصراعات بين الفصائل الجنوبية المتنافسة، أو بين شركاء الحكم اليساريين في مطلع السبعينات والإسلاميين في نهاية التسعينات. وكانت أهم عوامل إسقاط الحكومات الديمقراطية الانشقاقات داخل الأحزاب. وهكذا تحالف المنشقون من الاتحاديين مع خصومهم من حزب الأمة لإسقاط الحكومة الاتحادية وفعل منشقو حزب الأمة الشيء نفسه. وقد تحالف إسلاميون منشقون مع متمردي الحركة الشعبية، وفعل منشقو الحركة الشعبية الشيء نفسه. وكل هذا يؤكد أن عوامل الاستقطاب يمكن تجاوزها بعمل سياسي عاقل.

خاتمة ودروس وعبر

يتضح من هذا السرد المختصر أن تجارب السودان الغنية في الانتقال حافلة بالدروس والعبر لحاضر السودان ومستقبله ولكل القوى المشاركة في الربيع العربي، وتلك التي تنتظر. وأول هذه الدروس ضرورة إزالة عوامل ومظاهر الاستقطاب، ومعها المخاوف المتبادلة وانعدام الثقة في شركاء الوطن. ولعل أيسر الطرق هي إدراك أن ما يبدو في بعض الأحيان أنه أشد خطوط الاستقطاب عمقا وإلحاحا هو في غالب الأحيان خط وهمي مفتعل، ولا يستند إلا على روايات متخيلة حول الهوية والآخر. ويظهر هذا بوضوح مع التقلبات السياسية، حين يصبح عدو الأمس حليف اليوم، والعكس بالعكس. فقد مر على السودان وقت كان البعض يرى فيه الصراع بين الختمية والأنصار باعتباره صراعا أزليا يقوم على مرارات تاريخية لا يمكن تجاوزها، ولكن الواقع أظهر بسرعة القواسم المشتركة، خاصة عند ظهور "عدو مشترك" جديد. نفس الشيء يمكن أن يقال عن صراع الشمال والجنوب أو اليسار واليمين والإسلاميين والليبراليين.

وإذا كانت تجارب السودان تظهر في آن واحد مخاطر تسييس الهوية وما يمكن أن تولده من عنف، فإنها أيضا كشفت طبيعة الإستراتيجيات التي تسمح بتجاوزها، كما حدث في التحالفات التي سبقت الثورات أو أعقبتها. وهي تكشف بذلك السرعة التي يمكن أن تتدهور بها الأوضاع حين يتحول خلاف شخصي داخل حزب أو كتلة إلى صراع سياسي يتطور فيما بعد إلى استقطاب مدمر. ويمكن أن نلاحظ عمل هذه الديناميات في الربيع العربي، بداية من التقارب بين القوى السياسية المختلفة، خاصة الإسلامية والليبرالية، والذي ما كان للربيع العربي أن يتحقق بدونه، ثم النكسة الكبيرة التي واجهها هذا التقارب بعد الخلافات الأخيرة. ومن الواضح أن هذه الخلافات سطحية في الغالب، ولكنها خلقت المناخ لترويج روايات مخيفة حول "اختطاف الإسلاميين للدولة" من جهة، و"المؤامرات الأجنبية لعملاء الغرب" من جهة أخرى. ولعل أسرع طريقة للقضاء على هذه "الخرافات" التي تقسم وتولد العنف هو وأدها في المهد بإزالة أسباب الخلاف عبر الحوار العاقل والتوافق الصادق، وهو ما ظل السودان يفتقده، وكذلك مجتمعات دول الربيع العربي.
________________________________________
عبدالوهاب الأفندي - أستاذ مشارك في العلوم السياسية في جامعة وستمنستر ومنسق برنامج الإسلام والديمقراطية في مركز دراسات الديمقراطية بالجامعة، إضافة إلى كونه زميل باحث في برنامج المتغيرات الكونية بإشراف مجمع مراكز البحوث البريطانية.

المصادر
1- Samuel P. Huntington, The Third Wave Democratization in the Late Twentieth Century,Norman: University of Oklahoma Press, 1992.
2- O’Donnell, et. al., eds. Transitions fromAuthoritarian Rule: Prospects for Democracy. Baltimore: Johns Hopkins UniversityPress, 1986.
3- Juan Linz and Alfred Stepan, ‘Towards consolidated democracy’, in TakashiInoguchiet. al., eds.,The Changing Nature of Democracy, Tokyo: United Nations University Press, 1998, pp. 48-67.
4- Thomas Carothers, ‘The End of the Transition Paradigm’, Journal of Democracy, Volume 13, Number 1, January 2002, pp. 5-21
5- راجع على سبيل المثال: غـسـان سـلامـة: ديـمـقـراطـيـة من دون ديـمـقـراطـيـيـن، سـيـاسـات الانـفـتـاح في الـعـالـم الـعـربـي - الإسـلامـي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2000.
6- Peter Woodward ‘Sudan: Political Transitions Past and Present’, Sir William Luce Fellowship Paper No. 9,Institute for Middle Eastern and Islamic Studies, Durham University, September 2008, (at: https://www.dur.ac.uk/sgia/imeis/lucefund/visiting/).
7- محمد عمر بشير، تاريخ الحركة الوطنية في السودان: 1900-1969، (ترجمة هنري رياض، وليم رياض والجنيد علي عمر)، الخرطوم: الدار السودانية للكتب، 1980، ص 225-253.
8- عدنان عبيدات، السودان في عهد إبراهيم عبود 1958 – 1964، عمان: الجامعة الأردنية، 1992.
9- بشير، تاريخ الحركة الوطنية، ص 271-285، كليف تومسون، يوميات ثوة 21 أكتوبر (ترجمة بدر الدين حامد الهاشمي)، الخرطوم: جريدة الأحداث، 2009؛ انظر أيضاً
Abdelwahab El-Affendi, “Revolutionary anatomy: the lessonsof the Sudanese revolutions of October 1964 and April 1985”, Contemporary Arab Affairs,Volume 5, Issue 2, 2012, pp. 292-306.
10- محمد سعيد القدال، الحزب الشيوعي وانقلاب 25 مايو، الخرطوم، دار الزهراء، 1986؛ الصادق المهدي، ميزان المصير الوطني في السودان، القاهرة، مكتبة جزيرة الورد، 2010، ص 184-196؛
Francis Mading Deng, War of Visions: Conflict of Identities in the Sudan, Washington DC: Brookings Institution, 1995, pp. 66-87.
11- Woodward, Sudan.
12- El-Affendi, Revolutionary anatomy, pp. 295-300.
13- بشير، تاريخ الحركة الوطنية، ص 233-235.
14- المهدي، ميزان المصير، ص 169-175.
15- Robert O. Collins, Southern Sudan Historical Perspective, New Brunswick, NJ: Transaction Publishers, 2006, pp. 82-83.
16- القدال، الحزب الشيوعي، ص 14-27.
17- RobaGibia, John Garang and the vision of new Sudan, Toronto: Key Publishing House, 2008.
18-  Adam Przeworski, “Some Problems in the Study of the Transition to Democracy.” In
’Donnell et. al., eds., Transitions from Authoritarian Rule, Part 3, pp. 47-63; Schmitter, Philippe C. (1998) "Some basic assumptions about the consolidation of democracy," in Inoguchiet. al., The Changing Nature of Democracy, pp. 23-35.

عودة إلى الصفحة الرئيسية للملف