خاتمة ملف الانتقال الديمقراطي في العالم العربي في ضوء التجارب العالمية

طوَّف بنا هذا الملف في موضوع عملية الانتقال الديمقراطي في العالم العربي، فدرس إشكالات هذه العملية في دول الربيع العربي، وألقى الضوء على التحديات والعقبات التي تعترض مسيرتها، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، كما استعرض عديد التجارب العالمية التي نجحت أو فشلت في عبور المرحلة الانتقالية.
2013124143138471734_20.jpg

طوَّف بنا هذا الملف في موضوع عملية الانتقال الديمقراطي في العالم العربي، فدرس إشكالات هذه العملية في دول الربيع العربي، وألقى الضوء على التحديات والعقبات التي تعترض مسيرتها، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، كما استعرض عديد التجارب العالمية التي نجحت أو فشلت في عبور المرحلة الانتقالية، وانتهت دراسات الملف إلى الخلاصات التي يمكن تركيزها في العناوين التالية:

طبيعة عملية التحول الديمقراطي

تكون عمليات التحول الديمقراطي في العادة صعبة ومعقدة، وتختلف طولا وقصرا من بلد لآخر نظرا لتشابك مصالح القوى والعناصر الفاعلة ذات التأثير في مسار الأحداث داخليا وخارجيا. ولا يوجد لهذه العملية نموذج يمكن القياس عليه؛ إذ لكل دولة ظروفها الخاصة وسماتها المميزة، ووفق هذه الظروف وتلك السمات يتوقف شكل وطبيعة النظام السياسي الجديد الآخذ في التشكل. ولا تعد آلية الانتخابات الديمقراطية الحرة والنزيهة كافية بمفردها لانتقال الدولة من نظام حكم شمولي إلى نظام ديمقراطي؛ فلابد أن تصاحب تلك الانتخابات مجموعة من العوامل لتتم عملية التحول الديمقراطي بنجاح، من ذلك على سبيل المثال: 

  • التآلف بين النخبة السياسية وتقليل حدة الانقسامات والاستقطابات السياسية والأيدلوجية بينها.
  • نظام سياسي واضح فيه الفصل والتوازن بين السلطات.
  • حكومة قادرة على تلبية الاحتياجات الضرورية للمواطنين.
  • مجتمع مدني فاعل ونشط ومحصن ضد التدخلات الأجنبية.
  • اتفاق الفاعلين الأساسيين على أسس وأولويات المرحلة الانتقالية وكيفية إدارتها.

وإذا كانت هذه هي طبيعة عملية التحول الديمقراطية وسماتها البارزة فمن غير المستغرب إذن أن تواجهها عديد المشكلات وتعترض مسارها جسام التحديات، من ذلك:

مسألة العدالة الانتقالية

إذ ورثت أنظمة الحكم الجديدة في دول الربيع العربي تركة كبيرة من المظالم، فكيف ستحقق فيها وتجبر ضرر المتضررين؟ وبنظرة متأنية على التجارب العربية والأجنبية في هذه المسألة يتضح أن معظم تجارب العدالة الانتقالية اتخذت شكل تأسيس "لجان الحقيقة والمصالحة" تحت ضغط القوى الديمقراطية ومنظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية التي تدعم ضحايا الانتهاكات وإلحاح ذويهم الذين تحولوا بدورهم إلى قوى ضغط في المجتمع سواء داخل منظمات حقوق الإنسان أو بجانبها. وقد جاءت اللجان غالبًا في مرحلة من التطور السياسي إمّا إثر ضعف أو قرب سقوط أو انهيار نظام سابق (كالأنظمة العسكرية والدكتاتورية في أميركا اللاتينية وإفريقيا وآسيا وحتى في أوروبا)، أو في مرحلة انتقال ديمقراطي أو سياسي (كحالة جنوب إفريقيا، الأرجنتين، تشيلي)، أو في إطار استمرارية النظام القديم عندما يحل وارث جديد لذلك النظام فيريد تصفية الإرث الثقيل للماضي دون أن يعيد النظر جذريًا في قواعد سير النظام القديم (حالة المغرب). وفي حالات أخرى جاء تأسيس اللجان بدفع من المجتمع الدولي في إطار عملية بناء السلام بعد حرب أهلية (السلفادور- غواتيمالا).

والدارس لتلك التجارب لا يمكنه القول إن كلها قد نجحت في أداء مهمتها، فبعضها عرف الفشل ولم يستطع الوصول للحقيقة، أو جبر ضرر الضحايا، أو تأمين تحول ديمقراطي، كما هو الحال في هايتي، سريلانكا، نيجيريا، وكما هو الحال أيضا في لجان التحقيق في الاختفاءات بالجزائر.. إلخ، وبعضها كان مختلط النتائج ما بين الفشل والنجاح كما هو الحال في المغرب، وبعضها نجح وساهم في تأمين وترسيخ التحول الديمقراطي كما حدث في جنوب إفريقيا، تشيلي، الأرجنتين.

الاقتصاد والتنمية

وإذا كان أحد دوافع ثورات الربيع العربي الرغبة في تحقيق العدالة الاجتماعية بعد أن ساد الفقر وعم التهميش الاجتماعي قطاعات واسعة من المواطنين، فما الذي يجب على الأنظمة الجديدة فعله لتحقيق رغبات المواطنين خاصة بعد أن ارتفع سقف مطالبهم؟

تحتاج أنظمة دول الربيع العربي إلى رؤية اقتصادية واضحة، وأولويات تنموية محددة تقوم على الترابط بين الانفتاح السياسي والتنمية الاقتصادية، وذلك لأن تعزيز الديمقراطية معناه وجود رقابة برلمانية تسد منافذ الفساد وتصوب اتجاهات الإنفاق، في جو من الشفافية والمساءلة يعزز فرص الاستثمار، وهذا كله يحتاج إلى حكمة في إدارة تطلعات المواطنين الراغبين في جني الثمار الاقتصادية للثورة سريعا، وذلك بتحسين أحوالهم المعيشية التي ساءت لعقود طويلة، والمدخل الملائم لتحقيق العدالة الاجتماعية هو زيادة معدلات النمو الاقتصادي، وتحسين آليات توزيع الدخل بحيث تدخل كافة الشرائح الاجتماعية في دائرة المستفيدين، ولا يعمل على تهميش الفئات التي لا تجد من يمثلها في دوائر صنع القرار.

إصلاح الأجهزة الأمنية

وإذا كان إقرار العدالة مطلبا، وتحسين مستوى المعيشة حاجة، فإن ذلك لا يتم إلا إذا استتب الأمن وامتلكت دول الربيع العربي أجهزة أمنية على مستوى من التدريب والكفاءة، وهذا يستدعي الإسراع في إصلاحها وإعادة هيكلتها، وذلك باتباع مجموعة من السياسات والبرامج تتماشى والمبادئ الديمقراطية وسيادة القانون واحترام حقوق الانسان ومتطلبات التحول الديمقراطي، ذلك لأن التغير في طبيعة وتوجهات النظام السياسي يتطلب بالضرورة تطوير الأداء الأمني ليكون داعما لهذا التحول.

ويرجع فشل إصلاح أجهزة الأمن إلى عدم التوافق على إصلاح النظام السياسي، ومن ثم فإن بدء عملية إصلاح النظام السياسي سوف يساعد على إصلاح الأجهزة الأمنية.

ورغم صعوبة تحقيق إصلاح سريع يشمل تغيير عقيدة الأجهزة الأمنية وإعادة هيكلة قطاعاتها الأساسية إلا أن أنظمة الحكم الجديدة يمكنها اتباع مجموعة من السياسات والبرامج لتنفيذ ذلك على المدى المتوسط، مستفيدة من تجارب عالمية مماثلة خاصة في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية.

الأقليات الدينية والعرقية

ومن عادة التحولات الكبرى في الدول والمجتمعات أن تستشعر الأقليات الخوف على حاضرها والتوجس من مستقبلها، خاصة وأن هذه الأقليات قد ارتدت إلى حواضنها الضيقة إبان السنوات العجاف التي سبقت ثورات الربيع العربي، فتقلصت لديها مظلة المواطنة، وتضخم الشعور "الأقلوي" المتمثل في الانتماء الإثني والديني، وقد ساعد على ذلك غياب الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني الفاعل والنشط، وهؤلاء جميعا ممن يساهمون في بناء هوية سياسية مبنية على علاقات تحددها برامج سياسية ومصالح مشتركة بين المنتمين إليها وتكرسها التقاليد الديمقراطية، ولما انهارت هذه الأنظمة وجد الفرد نفسه وحيدًا في مواجهة المجهول، لذا، عاد إلى الهويات التقليدية الجاهزة: اجتماعية (إثنية-القبيلة)، أو دينية (السلفية أو الصوفية أو غيرها من الحركات الدينية). ومن الطبيعي في مثل هذا المناخ أن تطفو على السطح الأقليات القبلية والإثنية التي تحاول الدفاع عن مصالحها وسط مرحلة انتقالية غير واضحة المعالم، وقد آن الأوان أن تبدأ الدول العربية، التي تجتاز فترة تحول ديمقراطي، مرحلة بناء ثقافة سياسية قائمة على التعدد الثقافي واللغوي والديني مما يعطي للأقليات حقوقها ويعترف بخصوصيتها، وأن ينص على ذلك في الدساتير الجديدة.

العامل الإقليمي والدولي

وقد ظهر بشكل جلي ما للعاملين الإقليمي والدولي من أهمية في الإسراع أو الإبطاء بعملية التحول الديمقراطي، فعلى سبيل المثال كان للسعودية دور حاسم في الضغط على النظام في اليمن لإحداث التحول سلميًا، وبالمقارنة فإن دور إيران يعزز من تعنت وصعوبة تغيير النظام السوري، لذا، يجب تحليل رؤية وإدراك الرعاة الإقليميين لمسائل التغيير الإستراتيجي الذي سيحدث نتيجة عمليات التحول الديمقراطي في المنطقة وأثر ذلك على الصراع الإقليمي-الإقليمي وتغير موازين القوة.

ودوليا لوحظ أن عديد العواصم الغربية لم تبد قلقها وتخوفها من استلام الإسلاميين للسلطة، فقد أكدت الولايات المتحدة مثلا رغبتها في التواصل والحوار مع جماعة الإخوان المسلمين، وعبّر آلان جوبيه وزير الخارجية الفرنسي عن استعداد بلاده للحوار مع حزب النهضة التونسي. إن هذه المواقف الإيجابية تعني تحولاً فكريًّا عميقًا في الرؤية الغربية تجاه العالم العربي؛ إذ تعني تراجع مقولة صراع الحضارات، ليحل محلها توافق مصلحي، ورغبة في احتواء الحركات الإسلامية المعتدلة ما دامت لا تمس الأساس الاقتصادي والإطار المؤسساتي  للمنظومة الرأسمالية.

تجارب ونماذج

1- التجربة السودانية
تعد تجربة الانتقال الديمقراطي في السودان واحدة من أقدم التجارب عربيا، فقد شهد هذا البلد أربع تجارب انتقال ديمقراطية، الأولى هي تجربة الحكم الذاتي في عام 1953، والتي أدت إلى الاستقلال وإقامة نظام ديمقراطي انهار عام 1958. أما الانتقال الثاني فكان في عام 1964، إذ نجحت الثورة الشعبية التي اندلعت في إسقاط نظام إبراهيم عبود العسكري وتبعته تجربة ديمقراطية أسقطت بانقلاب عسكري آخر في عام 1969 قاده جعفر النميري الذي استمر في الحكم إلى أن قامت ضده ثورة شعبية عام 1985، ثم شهد السودان انتقالا ديمقراطيا ثالثا لكنه تعرض لانتكاسة وانقلاب عسكري عام 1989، وقد وضعت اتفاقية نيفاشا التي أنهت حرب الجنوب عام 2005 أسس انتقال ديمقراطي رابع، كان ينبغي أن يتم على أساس انتخابات عقدت في عام 2010، إلا أن هذا المسار أجهض، وكانت النتيجة انفصال الجنوب واستمرار النظام القائم.

ولا شك أن تأمل هذه التجارب يحمل دروسا قيمة تلقي بالضوء على شروط الانتقال الديمقراطي الناجح والمخاطر التي تحيط به وعلى رأسها ضرورة إزالة عوامل ومظاهر الاستقطاب، ومعها المخاوف المتبادلة وانعدام الثقة في شركاء الوطن، والحذر من مخاطر تسييس الهوية وما يمكن أن تولده من عنف، ولعل أسرع طريقة للقضاء على الخلافات والاستقطابات التي تقسم وتولد العنف هو وأدها في المهد بإزالة أسبابها عبر الحوار العاقل والتوافق الصادق، وهو ما ظل السودان يفتقده.

2- التجربة الجزائرية
دخلت الجزائر مرحلة الإصلاحات الديمقراطية في وقت مبكر، وتحديدا منذ منتصف الثمانينات، في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد، ورغم أن مبادرة الإصلاح جاءت من السلطة، إلا أن المحاولة فشلت، وبعدها دخلت البلاد في حرب أهلية خلفت حوالي 200 ألف ضحية في التسعينات. وقد اجتمعت عوامل مختلفة بعضها داخلي وبعضها الآخر خارجي وتسببت جميعها في هذا الفشل. فعلى المستوى الداخلي كانت البلاد تعيش أوضاعا اقتصادية متأزمة خاصة بعد انخفاض أسعار النفط إلى أقل من النصف مما أفقدها دخلا ماليا كانت بحاجة ماسة إليه. وظهر انقسام في الطبقة الحاكمة بين من يريد الإصلاح ويدعو إليه وبين من لا يريده ويحاربه خوفا على مصالحه.

وخارجيا كانت المرحلة تتميز بأهم التقلبات التي شهدها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مع انهيار الاتحاد السوفياتي وذوبان الكتلة الشرقية وسقوط جدار برلين. وكانت البلدان الغربية تتبنى خطابا حول الديمقراطية والتعددية وحرية التعبير وحرية العقيدة وحقوق الإنسان وبناء دولة القانون، وكثيرا ما تستعمل هذا الخطاب للضغط على دول الجنوب. ولكن اكتشفت الجزائر بسرعة أن هذا لا يشكل إلا خطابا، وأن البلدان الغربية ليست مستعدة للتعاون مع البلدان التي تحاول أن تتقدم في هذه الميادين، حيث لم تجد الجزائر أية مساعدة تذكر لمَّا بدأت تحترم هذه المبادئ من سنة 1989 إلى نهاية 1991. وقد أضحت كل الأطراف التي كانت تنادي بالإصلاح في الداخل وفي الخارج في حقيقة الأمر لا تريده لأنه يهدد مصالحها.

3- التجربة التونسية
تبدو تونس وكأنها قطعت الأشواط الأكثر تعقيدا في مرحلة التحول الديمقراطي، وقد سلكت إلى ذلك طريقا يبدو إلى الآن سليما في خطه العام. فالتمشي السياسي الذي بدأ بانتخاب المجلس التأسيسي وإقامة المؤسسات الانتقالية سيفضي قريبا إلى دستور جديد للبلاد وتنظيم أول انتخابات رئاسية وتشريعية تطوي صفحة المرحلة الانتقالية وتنقل تونس إلى وضع جديد تتغير فيه قواعد اللعبة السياسية عما كانت عليه منذ أن استقلت وأرخت زمامها إلى حزب واحد استبد بها وهيمن على مقدراتها.

ما يخشى معه في المرحلة القادمة هو اختلال التوازن في القوى السياسية بين التيار الإسلامي من جهة وبقية المكونات الأخرى. إذ من المتوقع أن يراكم الإسلاميون مزيدا من المكاسب والأصوات، وبالتالي تكريس الخلل القائم في المعادلة السياسية. ولقد شهدت الساحة السياسية عدة محاولات لإعادة تشكل بعض قوى المعارضة في أطر حزبية وجبهوية جديدة ولكنها إلى الآن لم تفض إلى نتيجة على الأرض. ومن المتوقع أن تستمر تلك المحاولات ربما لسنوات قادمة إلى أن تجد الحياة الحزبية التونسية توازنها في إطار عائلات سياسية وفكرية كبيرة مثل العائلة الإسلامية والعائلة اليسارية والعائلة الليبرالية والعائلة العروبية. وإلى أن يحدث ذلك لن يكون هناك من سبيل إلى توازن آخر غير التوافق والتآلف على الحد الأدنى وهو ما جمع بين مكونات الترويكا الحاكمة في هذه المرحلة الانتقالية بكل تعقيداتها.

4- التجربة المصرية
لم تكن ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 أول ثورة مصرية تثير قضية الديمقراطية، فقد حاولت قوى سياسية واجتماعية مصرية في أكثر من مرة أن تنجز تجربة متكاملة للتحول الديمقراطــي إلا أن محاولاتـها لم تكتمل لدواع مختلفة.

وقد أنجزت ثورة يناير أشياء وعجزت عن إنجاز أشياء أخرى. فقد نقلت الحكم من العسكريين إلى المدنيين. وأخرجت المضطهدين سياسيا إلى السطح بل ومكنتهم من تقلد المسؤولية. وخلقت حالة حراك سياسي كبيرة نقلت قطاعات كبيرة من المصريين من الاهتمام بحياتهم الخاصة إلى الاهتمام بالحيز العام. لكن عقبات كثيرة تعترض مسار التجربة، من أبرزها حالة الاستقطاب، وعدم الاتفاق على أولويات إدارة المرحلة الانتقالية، والوضع الاقتصادي المتدهور، وتضارب مصالح النخبة السياسية التي تتصدر المشهد، وتجريف الحياة السياسية من الشخصيات والمؤسسات القادرة على تجاوز تحديات المرحلة.

وفي ظل هذه التحديات فإن فرصة الانتقال الديمقراطي في مصر وإن لم تكن مستبعدة على ضوء ما تحقق من مكتسبات إلا أنها ليست سهلة على خلفية ما تراكم من صعوبات.
____________________________________
محمد عبد العاطي - محرر الملف، مركز الجزيرة للدراسات

عودة إلى الصفحة الرئيسية للملف