تقوم جمهورية صربيا تاريخيًّا على مشروع قومي ترك بصماته على بنية الدولة وعلى توجهاتها السياسية، لاسيما في علاقتها مع دول الجوار وشعوبها، وهي تسعى بعد حروب عدة في البلقان للعودة إلى محيطها بمساعدة من الغرب؛ ولكن دون التخلي عن روسيا أو عن هويتها.
إن ظهور صربيا المعاصرة حديث عهد؛ لكنه مع ذلك حفل بعدد هائل من التغيرات والتقلبات بدءًا من اختيار اسمها الرّسمي، مرورًا بتحديد الرقعة الجغرافية، وصولًا إلى التوجهات الأيديولوجية والسياسية.
حصلت صربيا على وضعها الدولي، كدولة معترف بها، خلال انعقاد مؤتمر برلين في عام 1878
(1)، ومع نهاية الحروب البلقانية، تضاعفت مساحتها، فتمدَّدت نحو الجنوب لتبلغ حدود مقدونيا الحالية؛ ثم أصبحت صربيا على إثر الحرب العالمية الأولى (1914-1918) أقوى دولة في المنطقة البلقانية، وتحولت بقرار من دول الحلف إلى مملكة الصرب والكروات والسلوفينيين، وكانت سلالة أسرة كارادجورجيفيتش على رأس الحكم في المملكة، ثمَّ تقرَّر في عام 1929 تغيير اسم الدولة ليُصبح "مملكة يوغسلافيا"؛ إلا أن الملكية سقطت نهائيًّا في البلاد بعد استسلام مملكة يوغسلافيا مع بدايات الحرب العالمية الثانية، وقد أُعيد تجديد الدولة اليوغسلافية مع صعود (المارشال يوسيب تيتو) وحركته المعادية للفاشية- المعروفة بـ"البارتيزان" إلى سدَّة الحكم في جمهورية يوغسلافيا الاتحادية الديمقراطية، لتصبح صربيا -مساحة وديموغرافية- أكبر مكوِّن من مكونات الدولة الجديدة.
بعد انهيار الجمهورية الفيدرالية الديمقراطية اليوغسلافية، أصبحت صربيا تُسمَّى جمهورية يوغسلافيا الاتحادية، ثم تحوَّلت مجدَّدًا، بعد أحداث تراجيدية دامية، إلى فيدرالية صربيا والجبل الأسود، ثم بعد أشهر قليلة، انهارت تلك الفيدرالية؛ لاسيما بعد انسحاب الجبل الأسود منها في 5 من يونيو/حزيران 2006، لتُصبح اليوم: جمهورية صربيا، وفي شهر نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه تمَّ التصديق على دستور جمهورية صربيا
(2).
وبهذا فجمهورية صربيا اليوم، يقع الجزء الأكبر منها في جنوب شرق أوروبا (شبه جزيرة البلقان)، ويمتد الجزء السفلي منها إلى وسط أوروبا، فيما تدخل تحتها إداريًّا مقاطعة فويفودينا ذات الحكم الذاتي؛ أما من حيث الحدود، فتحدُّها من جهة الشمال دولة المجر، ومن الشرق رومانيا وبلغاريا، ولها حدود جنوبية مع مقدونيا، أما من الجنوب الغربي فتحدُّها جمهوريتا كوسوفو والجبل الأسود، وإلى الغرب نجد دولتي البوسنة والهرسك وكرواتيا، ومساحة جمهورية صربيا اليوم (دون كوسوفو) 77.500 كيلومتر مربع، ويعيش فيها حوالي 7 ملايين نسمة
(3).
سياسة الصربنة وصربيا الحديثة
كانت إمارة صربيا منذ نشأتها -وبقطع النظر عن وضعها كولاية تابعة للدولة العثمانية- دائمة السعي لفرض هيمنتها على كامل منطقة البلقان من ناحية، واتباع أساليب الترهيب والإخضاع للسكان من غير الصرب من ناحية ثانية
(4)؛ مثَّل هذان التوجُّهان باستمرار أساسًا للثوابت السياسية لصربيا على امتداد تاريخها، فهما التعبيران الاستراتيجيان لتحقيق أهدافها على مستوى المشهد السياسي داخليًّا ودوليًّا، ولا يزالان كذلك إلى اليوم.
تمثَّلت نقطة التحوُّل المفصلي في سياسات صربيا الخارجية في إزاحة سلالة أوبرينوفيتش عن العرش في أواسط القرن التاسع عشر؛ حيث كانت صربيا تعتمد في علاقاتها الخارجية على دعم ومساندة الإمبراطورية النمساوية-المجرية، ثمَّ أصبحت توجِّه بوصلتها نحو روسيا بعد اغتيال الملك ألكسندر أوبرينوفيتش عام 1903، وبعد صعود سلالة كارادجوردجيفيتش إلى سدَّة الحكم؛ هذا التحول لم يغيِّر من شيء في الطبيعة التوسُّعية لصربيا وتهميشها لكل ما هو غير صربي، وقد اعتمدت الحكومات الصربية المتعاقبة على ما يُسمَّى بسياسة "الصربنة"؛ أي العمل على أن تكون كل مناحي الحياة متفقة مع الرؤية الصربية، ومنح السكان الصرب أولوية مطلقة في كل الوظائف العامة، وغيرها من أنشطة الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
في المقابل تم منع بعض الشعوب الخاضعة لسلطان مملكة يوغسلافيا من استعمال لغاتها الأمِّ، وطغت فكرة أنَّ كل شعوب المنطقة صربية الأصل، وبالتالي ضرورة استيعابها عبر الترهيب؛ حتى إن الشعب المقدوني الأرثوذكسي، تحت سلطة مملكة الصرب والكروات والسلوفينيين، كان يُعامل على أساس أنه صربي، كما تمَّ إخضاع المقدونيين الكاثوليك إلى سلطات الكنيسة الأرثوذكسية، كما استهدفت سياسة "الصربنة" بشكل مباشر ومكثَّف السكان المسلمين، وفي مقدِّمتهم البوشناق والألبان وكذلك الغجر الرُّوما.
ثم جاءت في تسعينات القرن الماضي، الحرب الصربية على كرواتيا والبوسنة والهرسك ما بين عامي 1992-1995، ومن بعدها الحرب على كوسوفو ما بين عامي 1999-2000، وكانت نتيجة لإحباط الصرب بعد أن رأوا تراجع عملية "الصربنة"؛ التي باتت تواجه مقاومة شرسة ومفتوحة وعلى جبهات متعدِّدة، فما كان من نظام سلوبودان ميلوشيفيتش إلاَّ أن لجأ إلى قوَّة السلاح لفرض "هيمنة صربيا" على منطقة البلقان.
إشكالات إعادة التنظيم السياسي
إنَّ تمسُّك صربيا أو تخلِّيها عن برنامجها في فرض هيمنتها على المنطقة تحدِّده سياساتها الحالية باتجاهاتها السلبية أو الإيجابية؛ فعلى الرغم من أنَّ صربيا، تحت رئاسة ميلوشيفيتش لعبت ورقة "كل شيء أو لا شيء"
(5)، وخصوصًا خلال عقد التسعينات 1990-2000، فإن الحصيلة النهائية لتلك السياسة التوسعية، كانت فشلاً كاملاً؛ بل هزيمة نكراء، وأدَّت إلى محاكمة النظام الصربي ممثَّلًا في شخص صانع سياساته ميلوشيفيتش أمام محكمة جرائم الحرب الخاصة بيوغسلافيا السابقة
(6)، ويمكن اعتبار أنَّ ذلك كان مؤشِّرًا واضحًا على تراجع التوجُّه القومي الرَّاديكالي داخل المؤسسات السياسية الصربية، وهو ما يعدُّ عاملًا إيجابيًّا؛ ولو على المستوى الرسمي على الأقل؛ حيث تم إعلان نيات جديدة عن توجُّه صربي لإقامة علاقات أفضل مع دول الجوار؛ خاصة منها جمهوريات يوغسلافيا السابقة. من ناحية أخرى، فإنَّ تلك الهزيمة أثارت غضب أشرس المدافعين الصرب على فرض مشروع الهيمنة الصربية، وقد وجدت هذه الفئة دعمًا شعبيًّا غير قليل خلال الاستحقاقات الانتخابية، ما أثَّر على تنفيذ إعلان النيات في إقامة علاقات حسن جوار مع دول المنطقة، كما كانت له نتائجه السلبية على دمقرطة الحياة السياسية داخل صربيا.
في هذا السياق، وجدت صربيا نفسها بعد إعلان الاستقلال أمام ضرورة مراجعة إرثها السياسي وإجراء تغيير جذري على فلسفتها السياسية القائمة على التوسُّع وفرض "سياسة استيعاب الشعوب غير الصربية وإخضاعها" وفقًا لمقتضيات "استراتيجية الهيمنة"؛ التي كانت تهدف إلى السيطرة على المنطقة وشعوبها، وبوضعنا في الاعتبار أن مثل هذه الاستراتيجية كانت من ثوابت السياسة الصربية, عبر تاريخها منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى اليوم، فمن الواضح أنَّ الأمر لم يقتصر على طبع سياساتها بهذا النهج؛ لكنه -أيضًا- حدَّد هُوَيِّتها، وكذلك توجهات الدولة
(7)؛ هذا يعني أنَّ جوانب مهمَّة من الوضع السياسي المعاصر في صربيا -مثل مشكلة إعادة تنظيم المؤسسات السياسية والمشهد السياسي الداخلي، والدور الإقليمي لصربيا، وعلاقاتها مع القوى العظمى الدولية والاتحاد الأوروبي- إنما تندرج ضمن واقع جديد ومختلف يقتضي منها ترك طموحات الهيمنة، أو على الأقل، تعليقها مؤقتًا واستبعادها من أولويات جدول الأعمال السياسي الصربي الراهن.
إنَّ نجاح أي دمقرطة حقيقية للمشهد السياسي الداخلي، الذي يعني بالضرورة لجم التيارات "المتطرفة" المنادية بالاستمرار في مشروع "الهيمنة الصربية"، يعتمد إلى حد كبير على الوضعين الاقتصادي والتجاري وسرعة تعافيهما بعد الانهيار الاقتصادي الذي ضرب صربيا مباشرة بعد انهيار يوغوسلافيا وتفككها.
وقد تولَّى الحكم فريق أكثر ديمقراطية، بعد تسليم ميلوشيفيتش إلى محكمة لاهاي، في حين تمَّ تحرير البلاد من نظام الاقتصاد الموجَّه من قِبَل الدولة، ومنذ ذلك الحين تعيش صربيا في أجواء تحرير الحياة الاقتصادية مع كل ما يستتبع مثل هذه العملية من مساوئ؛ مثل: الفساد المالي، والمنافسة غير الشريفة، وتفاوت نموِّ القطاعات الاقتصادية، وتهاوي الدخل للأفراد، وتراجع مستويات الإنفاق، وعلى الرغم من كل هذه الصعوبات، فإن الاقتصاد الصربي حقق نموًّا طفيفًا عام 2010
(8). أما تحوُّل المصانع إلى ملكية القطاع الخاص، فقد تمَّ من خلال عملية ضبابية للغاية، ما جعل العديد منها يعمل بنصف طاقته أو يُغلق أبوابه، وانخفض الإنتاج الصناعي الصربي إلى مستوى 40% عن المعدل المسجل عام 1989؛ ومع ذلك، فإنَّ سياسة الاقتصاد الحرِّ ساعدت الحكومة الصربية على مواجهة الأزمة المالية العالمية (2008-2009) عن طريق اتباع إجراءات ذكية جنَّبت البلاد تهاوي نظامها البنكي وأنقذتها من الإفلاس
(9).
إن القطع الكامل مع السياسة التي كانت قد دأبت عليه صربيا في العهد السابق، وما تبعه من التخلي الكامل عن الاشتراكية والانتقال إلى النموذج الرأسمالي للتنظيم الاجتماعي، جعلها تواجه سلسلة من الصعوبات السياسية داخليًّا وإقليميًّا ودوليًّا؛ خاصة في علاقاتها مع القوى العظمى والاتحاد الأوروبي؛ وبعبارات أكثر وضوحًا؛ فإنَّ اعتماد نظام التعددية الحزبية أدَّى إلى تفكُّك كبير في نسيج المجتمع على المستويين الأيديولوجي والإثني (القومي) على حدٍّ سواء.
ثمَّة عامل آخر مهم في عملية تشخيص إشكاليات المشهد السياسي الصربي الداخلي، ويتمثَّل في الفصل الجذري بين الكتلتين الصربية القومية من جهة، والألبانية من جهة ثانية، وما صاحبه من مواجهات دامية بينهما؛ ومما زاد تعقيد هذا المشهد وقوَّض الوحدة الوطنية والحضارية لصربيا، هو ما خلَّفه إعلان كوسوفو استقلالها عن صربيا، وقد كان الألبان –من سكان كوسوفو- يشكلون 30% من مجموع سكان صربيا.
على صعيد آخر عرفت صربيا، خلال السنوات الأولى التي أعقبت فقدانها كوسوفو، مستوى من وحدة الموقف السياسي، حيث كان موقف جميع الأحزاب السياسية، بمختلف اتجاهاتها الأيديولوجية واختلاف برامجها، موحّدا حول هذه القضية. إلاَّ أن الضغوط الحالية التي يُمارسها المجتمع الدولي على أعلى الهرم السياسي في صربيا من أجل الجلوس على طاولة المفاوضات مع ممثلي جمهورية كوسوفو المستقلَّة، أعادت إلى السطح من جديد قضية الانقسام المجتمعي في صربيا؛ ويجب -في هذا السياق- ملاحظة أن الصراعات الخفية داخل الجبهة القومية الصربية، وانطلاقًا من الموقف من قضية كوسوفو، فتحت باب المواجهة على مصراعيه بين الخيارين السياسيين الأقوى (اليميني واليساري) وجعلتها تزداد عمقًا وتجذُّرًا.
الدور الإقليمي والعلاقات مع دول الجوار
عرف الدور الإقليمي لصربيا تغيُّرًا مهمًّا، فبانتقالها إلى وضع الدولة المستقلة، أصبح لصربيا استقلالية أكبر في رسم خارطة علاقاتها الدولية؛ من ناحية أخرى، ونظرًا إلى نفوذها المهيمن، فإنَّ صربيا كانت تتمتَّع بمصداقية سياسية وأخلاقية أكبر مما هي عليه اليوم
(10).
أما علاقات صربيا مع دول المنطقة؛ خاصة مع الجيران المباشرين (كرواتيا والبوسنة والهرسك ومقدونيا) فقد تدهورت إلى حدٍّ كبير بسبب الأطماع الصربية تجاه جيرانها – بدءًا من أطماعها الإقليمية في البوسنة والهرسك وأجزاء كبيرة من كرواتيا – وصولاً إلى محاولات تجريد مواطنيها من البوشناقيين والجبل أسوديين من الجنسية الصربية، وفرض سياسة استيعابهم وإذابة هويتهم الخاصة.
ثم كان أن أدى اعتراف جمهورية الجبل بسيادة جمهورية كوسوفو، وما تبعه من اعتراف مقدونيا بالجمهورية الكوسوفية الوليدة، إلى برودة علاقات صربيا بهذين البلدين؛ ومع ذلك، فإن صربيا استطاعت -بعد قبولها التفاوض مع ممثلي جمهورية كوسوفو- تعزيز موقفها الدولي في المنطقة، وتحسين علاقاتها مع القوى العظمى والاتحاد الأوروبي؛ أما اليوم فباتت صربيا، التي تعرضت عام 1999 للقصف من قبل قوات حلف الناتو على خلفية حربها على كوسوفو، أقوى بلدان المنطقة ترشيحًا للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي.
تتمتَّع صربيا -من بين باقي دول البلقان- بشبكة علاقات دبلوماسية موسَّعة ورثتها عن يوغسلافيا السابقة، مع وجود تقاليد دبلوماسية عريقة لدى موظفيها في مختلف سفاراتها وقنصلياتها المنتشرة عبر العالم، كما تتميز -أيضًا- بمتانة علاقاتها ونشاط جالياتها خاصة في فرنسا وأميركا وكندا.
إلى جانب ذلك، فإن موقع صربيا الاستراتيجي في البلقان، وكذلك في أوروبا، بالإضافة إلى ما تتمتَّع به من اقتصاد قوي وسوق واسعة، يجعلها تؤدِّي دورًا سياسيًّا قياديًّا في البلقان، ويؤهِّلها لتكون دولة واعدة في المنطقة وجاذبة للقوى العالمية الكبرى والاتحاد الأوروبي، ولا يفوتنا هنا ملاحظة قرب صربيا أكثر من روسيا، بحكم العلاقات التاريخية بين البلدين، وهو ما جعل بلغراد تساند الكرملين في قضية نزاعه مع أوكرانيا حول القرم، لكنَّه -أيضًا- أثار غضب أميركا من بلغراد.
معوقات بناء الدولة
على مدى العقدين الماضيين، خاصة منذ انهيار الدول الاشتراكية في جميع أنحاء أوروبا، باتت مسألة الهوية الوطنية تستأثر باهتمام أكبر من كل القضايا الاجتماعية والسياسية الأخرى، وكانت إجراءات تأكيد الهوية السياسية والثقافية الوطنية في صربيا تؤدِّي دورًا موجَّهًا في تأسيس مختلف المؤسسات السياسية والدستورية، وكانت -أيضًا- العامل الرئيس في رسم أولوياتها وتحديدها، أسهم هذا التوجه في رفع مستوى الحراك السياسي والحزبي في جمهورية صربيا، إلا أن التركيز على الانتماء العرقي والهوياتي للأعضاء، جعل كل الحراك السياسي يراوح مكانه؛ حيث انحصرت المواجهة السياسية بين خلفيتين أيديولوجيتين:
1- اليسار، المرتبط بالتقاليد الاشتراكية، مع انتماء وطني نسبي وتهميش كامل للهوية الدينية.
2- اليمين، الداعي إلى انتهاج الرأسمالية الليبرالية، مع عمله على تعزيز الهوية الوطنية والدينية كأولويات قصوى.
وقد أدَّى انتصار "القومية المتطرفة" والمعادية للشيوعية في السنوات الأخيرة -خاصة بعد توقيع اتفاق بروكسل؛ الذي أعقبه تفاوض صربيا مع جمهورية كوسوفو، وبالتالي، اعترفت واقعيًّا بهذه الأخيرة- إلى إضعاف تأثير "القوميين المتطرفين" في السياسة الرسمية الصربية، وانعكس إصلاحًا لعلاقة صربيا الرسمية مع دول المنطقة؛ وهذا التحوُّل أصبح ممكنًا لأن اتفاق بروكسل أقر به -باسم صربيا- من كانوا إلى وقت قريب أبرز ممثلي القومية الصربية المتطرفة تحت ضغط من المجتمع الدولي، وفي مقدمته الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وبهذا تخلَّى القوميون المتطرفون عن معتقداتهم السياسية السابقة، والتزموا بهذا الاتفاق، الذي حاز -أيضًا- على موافقة جُلِّ الأطراف السياسية في صربيا. وعلى الرغم من هذا التوجُّه الدبلوماسي الناجح، فإن حالة من عدم الرضا ظلَّت كامنة تجاه اتفاق بروكسل، وهو ما ظهر في إعلان العداء تجاه الألبان في ديباجة الدستور الحالي لجمهورية صربيا التي أقرَّت اعتبار كوسوفو وميتوهيا "... جزءًا لا يتجزَّأ من أراضي صربيا"، وفي هذا ما يؤكد أن المشهد السياسي الصربي اليوم لا يُحدَّد فقط من خلال تطلعات المواطنين الليبرالية؛ ولكن -أيضًا- وفقا لمطالب الخط القومي المتصلِّب في مواقفه.
تقييم دور صربيا التكاملي في المنطقة
تسعى جمهورية صربيا في علاقاتها مع دول المنطقة، ولاسيما مع الدول المجاورة لها مباشرة، إلى إنشاء دور تكاملي ومتماسك؛ وإذا أخذنا بعين الاعتبار التجربة التاريخية مع بعض هذه الدول خلال القرن الماضي، وكذلك الاختلافات الكبيرة في ميزان القوة الاقتصادية والسياسية الذي هو في صالح صربيا نسبيًّا، فإنّ التقييم يجعلنا نقول: إن صربيا اليوم تبدو في وضع يُمكِّنها من تأدية دور أكثر كفاءة من أي دولة بلقانية أخرى، إلا أن هناك تحديات عليها أن تتجاوزها.
لم يعد تفوق صربيا، كقوة اقتصادية إقليمية، كبيرًا كما كان، ويعود ذلك إلى حدٍّ كبير إلى فقدان مصادر الطاقة التي كانت توفِّرها أراضي كوسوفو ومناجمها، كما أنَّ نسبية الإمكانات الاقتصادية تقلٌّل من قدرة صربيا على إملاء شروطها في عمليات التبادل الاقتصادي، فضلاً عن فرض نفسها كمفاوض على قدم المساواة مع الآخرين.
أما نوع علاقات صربيا مع كوسوفو، فسيكون لها -أيضًا- آثار بعيدة المدى ستحدِّد إلى حدٍّ كبير طبيعة علاقات صربيا مع دول المنطقة، بمعنى أنَّ مآل التوتُّر الحادِّ القائم حاليًّا، المتمثِّل في رفض بلغراد الاعتراف باستقلال كوسوفو، وما تشهده منطقة شمال كوسوفو (ميستروفيتسا) من مصادمات واشتباكات بين الأغلبية الألبانية والأقلية الصربية، سينعكس سلبًا أو إيجابًا على الاستقرار السياسي في المنطقة كلها.
فالظروف الموضوعية قد تدفع الدول الداعمة لصربيا بشكل غير مشروط، إلى عدم استمرارها في ذلك؛ لأن الألبانيين يشكِّلون -وفقًا للعديد من التقديرات- الفئة الإثنية السكانية الأكثر عددًا في دول البلقان (عددهم الإجمالي حوالي 10 ملايين نسمة)؛ وهي تدرك جيِّدًا أن هذه الحقيقة يصعب واقعيًّا تجاوزها من الناحية السياسية.
تمثِّل تبعات الحرب على دولتي البوسنة والهرسك وكرواتيا في الفترة ما بين 1992-1995 عبئًا ثقيلًا وجدِّيًا يؤثِّر على جهود صربيا الرَّامية إلى إقامة علاقات حسن الجوار مع هذه الدول، وكذلك تجعل من مختلف العلاقات السياسية في المنطقة تدور في فلك الاستقطاب؛ سواء من الدول التي ترى في صربيا تهديدًا للسلام والأمن في المنطقة، أو تلك الدول المؤيدة لبلغراد، التي تُعَبِّر بالتالي عن موقف سلبي، علني أو سري، تجاه الألبان؛ ونجد أن بلغاريا في مواجهة مع صربيا حول مقدونيا، التي تعتبرها جزءًا من أراضيها التاريخية؛ أما اليونان، فتمارس بدورها ضغوطًا على مقدونيا، ولا تُخفي أطماعها في أراضيها، وتطالبها بتغيير اسمها الرسمي.
هذا التنافس على مقدونيا، يقلِّل، إلى حدٍّ ما من آثار التقارب بين صربيا وبلغاريا واليونان، وبالتالي يَحُدُّ من تمتع صربيا بتأدية دور متماسك وقوي في المنطقة، ويزيد من احتمال تفكك ذلك الدَّوْر.
لكن على الرغم من كل ذلك، يمكن القول إجمالًا: إنَّ موقف صربيا قد تعزَّز داخل الإطار الإقليمي بشكل كبير، خصوصًا بعد توقيع معاهدة بروكسل، وبات بإمكانها -إن أرادت- تأدية دور إيجابي بيسر أكثر.
العلاقات مع المجتمع الدولي
بعد نزاع مسلح مع مؤسسات الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومنظمة حلف شمال الأطلسي، مرَّت صربيا بمرحلة من سوء فهم كبير ونكسات في جميع مجالات التعاون الاجتماعي والسياسي؛ أما الحقبة الأكثر صعوبة في هذه الفترة، فهي بلا شك سلسلة العقوبات الاقتصادية والسياسية الصارمة التي فرضها عليها المجتمع الدولي، على خلفية الحرب الصربية على البوسنة والهرسك وكرواتيا؛ إلا أنَّه، وبعد تسليم ميلوشيفيتش إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي عام 2000، فإنَّ تحسُّنًا تدريجيًّا طرأ على العلاقات مع المجتمع الدولي ونجحت صربيا في الحد من تدهورها.
وعلى إثر قبول بلغراد الدخول في مفاوضات وتوصُّلها لاتفاق مع حكومة كوسوفو، أعيد تفعيل ملفِّ طلب انضمام صربيا إلى حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وساعد ذلك في تحسين علاقات صربيا مع المجتمع الدولي والتسريع في انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي؛ باتت صربيا اليوم، وبأسرع مما كان متوقَّعًا، في طريقها لبدء مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي؛ بل تجاوزت بلدانًا أخرى في المنطقة مثل مقدونيا، التي ما يزال الفيتو اليوناني يمنعها من بدء مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
منذ عام 2012 أصبحت عضوية الاتحاد الأوروبي من الأولويات الاستراتيجية للسياسة الخارجية لجمهورية صربيا، وفي الوقت ذاته، أعلن الاتحاد الأوروبي صربيا شريكًا تجاريًّا واستثماريًّا، وهو ما من شأنه أن يكون أحد أهم عوامل الاستقرار الاقتصادي للبلد.
خاتمة
تبدو طموحات صربيا –القديمة الجديدة- اليوم أكبر، ولا تزال متمسِّكة بمشروعها الاستراتيجي، المعروف باسم "ناتشرتانيا" الذي صيغ عام 1844، ويؤكِّد ذلك رفضها المستمر حذف ديباجة دستورها التي تنص على أنَّ كوسوفو (في الدستور تُذكر كوسوفو وميتوهيا)، جزء لا يتجزَّأ من أراضي صربيا؛ وذلك على الرغم من أنَّ الدولة الصربية وافقت، خلال المفاوضات الثنائية مع جمهورية كوسوفو، على اعتبار بريشتينا شريكًا لها على قدم المساواة. أما الدليل الآخر على عدم تخلِّي صربيا عن مشروعها التوسعي القديم، فهو واقع الدعم الصربي لكيان "ريبوبليكا صربسكا"؛ وذلك على الرغم من أن ذلك الكيان يقع ضمن إقليم دولة مستقلَّة هي البوسنة والهرسك.
إنَّ الخطر الرئيس، سواء أكان بالنسبة إلى المنطقة أم بالنسبة إلى مستقبل صربيا نفسها، يكمن في بقاء سياسة بلغراد الخارجية دون تغيير؛ فجمهورية صربيا اليوم تمثِّل عاملًا سياسيًّا رئيسًا في منطقة البلقان، وهي واحدة من المكونات الرئيسة للحالة العامة في جنوب شرق أوروبا، وبعد دخول عملية انضمام صربيا إلى الحلف الأورو- أطلنطي مرحلتها النهائية والحاسمة، فقد بات نجاح تلك العملية يكتسي أهمية خاصة بالنسبة إلى المنطقة بأسرها؛ لأنها من شأنها منع صربيا، في حال كانت عضوًا في الاتحاد الأوروبي، من الاستمرار في تنفيذ سياسات فرض هيمنتها على بلدان الجوار.
أما موقع صربيا وموقفها مما يجري على المسرح الدولي فغير مكتمل الملامح في الوقت الراهن بسبب الأحداث في أوكرانيا، وقد بات التوجه التاريخي المؤسِّس على الاعتماد على روسيا، التي هي الآن في علاقة متوتِّرة مع الاتحاد الأوروبي- خاضعًا لإعادة تقييم، وأصبحت صربيا اليوم، واقعيًّا، مخيَّرة بين الانتماءات وبين المصالح، فبحكم هويتها الثقافية والدينية، نجدها أقرب بكثير إلى روسيا، لكنَّ الولاء لروسيا ودعمها يهدِّد مصالح صربيا المرتبطة بالاندماج في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، كما أنَّ القبول الصربي الكامل واللاَّمشروط، وتماهيها التام مع سياسات الاتحاد الأوروبي قد يهدِّد مصالح صربيا؛ خاصَّة تلك المرتبطة بالحفاظ على علاقات
جيِّدة مع روسيا.
___________________________________
*فريد موهيتش: أكاديمي متخصص في الشأن البلقاني.
ملاحظة: النص بالأصل أُعِدَّ لمركز الجزيرة للدراسات باللغة البوسنية، وترجمه إلى العربية الباحث المتخصص في
شؤون البلقان كريم الماجري.