تركت تجربة السلطة آثارًا على سلوك الإسلاميين في المنطقة المغاربية، وغيَّرت عددًا من تصوراتهم المعرفية المستمدة من التجربة السياسية التاريخية، وأبعدتهم عن تصورات كانت لديهم حول الحكم وإدارة الدولة، وفق التنظيرات السياسية التي أسسوها حول إقامة دولة بمواصفات إسلامية. وبدأ الحديث من داخل الإكراهات التي تمثِّلها السُّلطة، عن كيفية المواءمة بين الدِّين والسياسة.
السياق الحالي يفرض على الإسلاميين التحول إلى حركات مدنية الطابع، وقد صاروا يتجاوزون فكرة السعي إلى إقامة "الدولة الإسلامية" بل يؤكدون على مدنية أحزابهم وهيئاتهم السياسية كذلك، ويضعون ما أمكن من المسافة مع الأجنحة الدعوية، والعمل على تغيير مضامين في الأوراق المذهبية والتأسيسية، كما هو وضع حركة النهضة الحالي، التي تتجه لعقد مؤتمرها العاشر، والذي لا شك سيعرف تغييرات في الوجهة المستقبلية. إن تقييم تأثير السلطة على سلوك الإسلاميين يمر بالضرورة عبر النظر إليهم كظاهرة طبيعية، ضمن أنظمة وسياقات تصعد فيها قوى وتتراجع أخرى. وتحولهم إلى الواقعية تعكسه التوازنات السياسية لا الأيديولوجية.
وصلت فصائل من الإسلاميين في المنطقة المغاربية إلى السُّلطة، وتفاعلت معها بأساليب متباينة، ففي حين خرجوا منها في الجزائر، فإنهم قد استفردوا في ليبيا بجزء ويصارعون لتحصيل أكبر قدر منها. وما زالوا متواجدين بها جزئيًّا في تونس، بينما يتعايشون مع تعقيداتها في المغرب، ويؤثِّرون فيها وتؤثِّر فيهم، بتواجد أكثر حضورًا في المنطقة. وتُظهر تجاربهم خاصة بعد الثورات العربية عددًا من المؤشرات على التغيير المعرفي والسلوكي.
من حلم الدولة إلى واقعية السلطة
وبدايةً لابد من الإشارة إلى أن المقصود بالإسلاميين، هم الإسلاميون الممارِسون للسُّلطة والسياسة، لا الطامحون إلى تحقيق أشكال سياسية وأساليب في الحُكم أقرب إلى تجارب التاريخ منها إلى الواقع.
هنالك حاجة إلى العودة زمنيًّا إلى الماضي للإشارة إلى أن شعار إقامة "دولة إسلامية" مثَّل محرِّكًا عاطفيًّا ووجدانيًّا وتنظيميًّا للأجيال الأولى من الإسلاميين الباحثين عن الحل لأوضاع الاستبداد السياسي والتخلف الاقتصادي. ويمكن وصف تلك المرحلة بأنها فترة الاعتماد الكبير على "النص" الشرعي التأسيسي بكل دلالاته التي تشير إلى وجوب إقامة الدولة والحكم الإسلامي، رفضًا لأنماط الحكم السائدة في المنطقة العربية، واستلهامًا لنموذج تاريخي، اعتقد الإسلاميون في تلك المرحلة، ولا يزال آخرون يعتقدون حتى اللحظة أن بإمكانه تقديم الحلول السياسية الصحيحة لإدارة الحكم الرشيد.
قبل مرحلة السلطة، اهتم الإنتاج السياسي للإسلاميين منذ نشأة الإخوان المسلمين في مصر في العشرينات من القرن الماضي، بتمجيد الدولة الإسلامية ونقد الأنظمة القائمة والردِّ على التيارات المخالفة بما تحمله من نظريات سياسية. لكن من داخل حلِّ "إقامة الدولة الإسلامية" لم تُحل إشكالية التمييز بين ما يمكن واقعيًّا توظيفه من المفاهيم في التراث السياسي في الممارسة السلطوية الحالية، وما لا يمكن توظيفه. وتم النظر إلى مفهوم الدولة الإسلامية ككتلة واحدة غير قابلة للتجزيء، ومن ثَمَّ التغاضي عن مشاكل النموذج السياسي والتاريخي المفصلية، واستصحاب الصورة الوجدانية والشعورية لهذا النموذج.
وطغى النظر إلى السياسة والسلطة من خلال المباحث الفقهية، وهو ما يُعتبر أحد الإشكالات؛ إذ السياسة ليست فتاوى بالجواز وعدمه، فوراء كل سلوك سياسي فكر وفلسفة سياسية ليس مجالها هو الشروط والموانع والقيود بمعناها الفقهي. إن أحد أكبر المشاكل التي حدثت في التنظير لقضية الدولة والسلطة من منظور إسلامي ويعكسها أغلب كتابات المعاصرين في الموضوع، هو النظر إلى الدولة من خلال التركيز على مباحث "الحاكم" وبناء التنظيرات حول "الحاكم" ما له وما عليه والتزاماته، وبيعته ونقضها، أكثر من بناء التصورات حول "الحُكم" والمؤسسات داخل النظام والقوى التي يتشكَّل منها، وأدوات اشتغال النظام والسُّلطات بداخله، وعلاقاته الداخلية والخارجية.
وهنالك مساحات في الفقه والسياسة الشرعية كُتبت وتُكتب حول الحاكم، أوسع بكثير مما كُتب أو يُكتب حول طبيعة الدولة وأدوارها ومؤسساتها وعلاقاتها.
بعد مرحلة التنظير السياسي من خلال "النص" دخل الإسلاميون، أو بشكل أدق الشِّقُّ الممارِس منهم، مرحلةً جديدة، يحدث فيها تغيير تدريجي في أسلوب النظر إلى مرتكزات سياسية كانت تعتبر أساسية من قبل.
وبدأ الحديث من داخل الإكراهات التي تمثِّلها السُّلطة، عن كيفية المواءمة بين الدِّين والسياسة، وكيف تُحل المشكلات السياسية من وجهة نظر دينية، أو المشكلات الدينية من وجهة نظر سياسية؟ وبدأت حلول نظرية تلوح في الأفق، من بينها محاولة تجاوز فكرة الفصل بين الدِّين والسياسة، إلى فكرة "التمييز بين الدين والسياسة" كما يطرحها سعد الدين العثماني وزير الخارجية المغربي السابق.
لكن هل تمثِّل هذه الفكرة والاجتهاد السياسي حلًّا في الواقع؟ وإذا سلَّمنا بالتمييز بين الديني والسياسي وهو ممكن نظريًّا، فإن أحد الأسئلة المهمة تبقى مطروحة، فلو اختلف الحاكم والفقيه، فقرَّر الحاكم بنظره السياسي والاستراتيجي ضرورة الدخول في حرب مع بلد جار قد يكون بلدًا مسلمًا لأسباب مصلحية وليست دينية، وبالمقابل اعتبر الفقيه أن هذه الحرب غير أخلاقية من الناحية الدينية لما تمثِّله من اقتتال بين المسلمين، فكيف يتم التوفيق بين الموقفين: الدِّيني المتعلق بالفتوى، والسياسي المتعلق بتصرف الحاكم سياسيًّا، والذي قد يتطلب تجاوز أنواع من القواعد القيمية كما في حالة الحرب على قضايا حدودية مثلًا، وفي كثير من قضايا السُّلطة؟ وهذا مجرد مثال واحد للتعقيدات التي تواجه هذا الاجتهاد، الذي لا يمكن أن يصير قابلًا للتطبيق بمجرد الاستناد إلى نصوص ومقولات العلماء.
في مجال السلطة بدأت مصادر المعرفة السياسية لديهم تتعرض للتغيير، وتأخذ مسافة من النصوص والتراث السياسي المتعلق بصورة الحكم شيئًا فشيئًا، مقابل بروز مصادر أكثر تحكمًا في سلوكهم السياسي والمقصود أن "الصراع السياسي، وتجربة السلطة، والممارسة البراغماتية، وتنامي إدراك الإسلاميين لبنية مجتمعاتهم، بالإضافة إلى تعاملهم لأول مرة مع آلية استخدام القوة التي يمنحها التواجد في السلطة"، كل ذلك عناصر جديدة باتت مؤثِّرة في الجانب المعرفي والسلوكي لديهم.
لقد صارت مفاهيم "المصلحة، والأولويات " عناصر مهمة تؤطِّر نظرتهم للدولة وللممارسة السياسية. لكنهم في الوقت ذاته استطاعوا الحفاظ على ما يميزهم عن الآخرين سياسيًّا، وهي المنظومة الأخلاقية. كما يظهر تمسكهم بتوسيع مساحة المقاصد والمرجعيات الدستورية، التي تكاد تكون لها نفس القيمة السياسية والتنظيرية التي للنصوص الشرعية.
البحث عن مدنية الدولة وإعادة التموضع
تركَّز عدد من الفصائل الإسلامية على الانتقال إلى حركات مدنية الطابع، ولم يعودوا فقط يتجاوزون فكرة "أسلمة الدولة والمجتمع"، بل صاروا يؤكِّدون على مدنية أحزابهم وهيئاتهم السياسية كذلك، ويضعون ما أمكن من المسافة مع الأجنحة الدعوية، والعمل على تغيير مضامين في الأوراق المذهبية والتأسيسية، كما هو وضع حركة النهضة الحالي، التي تتجه لعقد مؤتمرها العاشر، والذي لاشك سيعرف تغييرات في الوجهة المستقبلية.
لقد ترك تواجد حركة النهضة في السلطة في تجربة الترويكا السابقة آثارًا على سلوكها السياسي والتنظيري، ومنحها ذلك تقديرًا جديدًا للمسافة الضرورية تجاه السلطة والدولة في هذه المرحلة من جهة، وكذلك تقديرًا للملف الخارجي وطبيعة العلاقة مع القوى الإقليمية التي كانت رافضة لتواجدها في السلطة في مرحلة ما بعد الثورات العربية، وباتت الحركة تعبِّر عن أنها تمد يدها حتى للدول التي كانت ترفض وجودها في السلطة. كما اندفع بعض قيادييها إلى تقييم المرحلة الماضية في السُّلطة بضعف منسوب التوافق الذي تم إنجازه. وقد دفع التقييم بضعف السلوك التوافقي للحركة إلى أن لا تكون السلطة هي الهدف الوحيد حتى لو كانت الظروف السياسية تسمح بذلك، وعبَّر عن ذلك مستشار رئيس الحركة في خِضَمِّ أزمة نداء تونس "بأننا لن ننقضَّ على الحُكم حتى لو انقسم النداء"(1).
يحاول الشيخ راشد الغنوشي ومن معه تعديل بوصلة الحركة في اتجاهين، أولًا: تخفيف العلاقة بين حركته والمجتمع من ثِقل الأيديولوجيا، وثانيًا: بناء علاقة مغايرة بين الحركة والسلطة، اعترافًا بشرعيتها وبمجالها الاستراتيجي والأمني.
وفي البحث عن الطابع المدني للحركة باتت تتضارب أولويات ومساحات "الدعوة والسياسة" لديها، وتكاد السياسة تغلب الدعوة كما هي حال المخاض الذي تعيشه الحركة التي باتت تؤمن بوجود مرجعيات جديدة أكثر تنوعًا، وتعتبر أن قضية الهوية والصراع حولها قد تم حسمه بعد إقرار الدستور التونسي عام 2014. ومن ثَمَّ "التحول من حركة شاملة إلى حزب وطني"(2)، رغم أن البعض داخل الحركة ما زال يعتقد أن الدعوة للإصلاح هي توجُّه لعلمنة الحركة. لكن في المقابل هنالك صورة مثيرة تونسيًّا؛ حيث يخشى خصوم النهضة إذا اعترفوا بأنها حزب سياسي مدني فقدان أداة مهمة من أدوات الصراع والحشد ضدها، على قاعدة تخويف الناس من توجهها الإسلامي. وتبقى عودة الحركة إلى السلطة بعد مرحلة المراجعات بحجم أكبر مسألةَ وقت، وذلك بالنظر للمتغيرات التي يعرفها وضع السلطة في تونس بما يجعل الكفة تميل لصالحها سياسيًّا.
وهنالك تقدير واتفاق على توحيد المرجعية في قضايا الهوية، وأن الشأن الديني قد اتخذ طابعًا رسميًّا، وبذلك يتم التخفيف من مساحة النزاع مع الدولة في جانب الدِّين، وتحييد هذا الملف الشائك تاريخيًّا. مع الأخذ بعين الاعتبار أن ما يقع من تحولات داخل النهضة يأتي في وقت تسعى الظاهرة الإرهابية بشكل متصاعد لتأكيد فكرة ومشروع "الدولة الإسلامية" الذي تخلَّى عنه المعتدلون، كما هو المثال الواضح الذي يتجسد في تنظيم الدولة ونشاطاته المتزايدة، وما يبذله مقاتلوه في أنحاء العالم لأجل فكرته.
في المغرب حدث اجتهاد الفصل بين الدعوة والسياسة في مرحلة مبكرة، وبات الشق السياسي منشغلًا بالتدبير اليومي من داخل السلطة، وهي مسألة متوقعة بالنظر لحجم التعقيدات السياسية والاقتصادية التي يعرفها المغرب.
لم يحتج الإسلاميون المغاربة لوقت وجهد كبير لإدراك المتطلبات الواقعية في السلطة، واستوعبوا بسرعة أن القبول بالحدِّ الأدنى سياسيًّا يُعتبر إنجازًا كبيرًا في السُّلطة في هذه المرحلة. واتضح لهم أن مفهوم الوطن يختلف عن مفهوم السلطة، وأن بقاءه أهم من بقائهم في السلطة.
قبل تجربة السلطة كانت لهم رؤية للإصلاح بالشراكة مع الملَكية، لكنهم ربما اكتشفوا أن الملك ليس بالضرورة هو مؤسَّسة المخزن، وأن المخزن ليس بالضرورة كتلة متجانسة واحدة.
ورغم الصعوبات، تفاعَلَ حزب العدالة والتنمية مع السلطة بشكل جيد، وقدَّم له ذلك الوضع دروسًا في إدارة التوافق والتحالف، والتعامل مع باقي مكونات المشهد. ومن ناحية أخرى دفعهم تواجدهم في السلطة إلى تشكيل رؤية أكثر وضوحًا للعلاقة مع الملكية، ولطبيعة دورهم وحجمهم في الإصلاح السياسي والاقتصادي.
لقد جعلت السلطة الإسلاميين المغاربة أكثر واقعية وبراغماتية في المغرب؛ حيث تطورت قدرتهم على الفعل والتحليل والتموقع الجيد في ميزان القوى القائم. كما تراجع خطابهم السياسي عن تضخيم المشاكل كما كان في السابق. كما أن تواجدهم في السلطة يتجه إلى الاستمرار في المرحلة القادمة، بأولويات وسلوك سياسي يُفترض أن يكون مختلفًا عن التجربة الحالية.
في المغرب لم يحتكَّ حزب العدالة والتنمية بالخارج بالشكل الذي يوفر مقياسًا لتقييم إدارتهم السياسية للعلاقات الخارجية للدولة، كما أن تجربة الحزب في وزارة الخارجية كانت قصيرة جدًّا، مقارنة بتجربتي تونس أو مصر التي عرفت فشلًا في هذا الباب، وذلك بسبب احتكار المؤسسة الملَكَية للملف الخارجي. وقد حمتهم الملكية بسلوكها واحتكارها ملف الخارجية حين وفرت لهم غطاءً خارجيًّا ضد القوى التي كانت وما زالت ترفض تواجدهم بالسلطة. لكن هذا الوضع لم يمنع حزب العدالة والتنمية من توسيع علاقاته الخارجية من بوابة الحزب وأمينه العام.
وجود حزب العدالة والتنمية بالسلطة جعله يدرك حدود العلاقة مع باقي مؤسسات الدولة، وبغضِّ النظر عن كون المؤسسة الدينية والأمنية تقعان في دائرة الملكية، فإن الحزب لم يعرف أي صدام معهما.
في الجزائر جعلت سياسة التسويات مع السلطة حركة مجتمع السلم أحد الأحزاب الرئيسية في المشهد السياسي، وحصلت بذلك على مناصب وامتيازات كبيرة، لكن الحركة خرجت من السلطة ضعيفة بعد فترة امتدت من عام 1994 حتى عام 2012 لتعرف انقسامات عديدة يعتبر أحد أسبابها الموقف من السلطة. وقد أسَّس وزير الأشغال العمومية في السابق، عمار غول، حزب حركة تجمع أمل الجزائر "منشقًّا عن حركة "حمس" -حسب المؤسسين- بسبب الأخطاء التي ارتكبتها الحركة بقيادة أبي جرَّة سلطاني، والتي منها انفصالها عن التحالف الرئاسي المؤيِّد للرئيس بوتفليقة، مقابل الدخول في تحالف الإسلاميين باسم "الجزائر الخضراء"، أملًا في تحقيق فوز الإسلاميين في انتخابات البرلمان في مايو/أيار 2012(3).
تمتعت الحركة بدرجة عالية من البراغماتية في تعاملها مع النظام، وبعد سنوات من العمل مع بيروقراطية الدولة والجيش، باتت هذه الحركة "مُستلحقة بالنظام، ولم يعد يُنظَر لها على أنها معارضة حقيقية أو حزب إسلامي حقيقي"(4) بالنسبة للكثيرين. وباتت تعاني مشكل التموضع في مرحلة ما بعد السلطة، رغم نشاطها في صفوف المعارضة، في سياق انسداد سياسي يتيح فرص الحركة للمعارضة بشكل أكبر. كما أن النظام لم يعد في حاجة إلى إشراكها في السلطة.
وبعد مرحلة السلطة وصلت قناعة قياداتهم السياسية من أمثال عبد الرزاق مقري إلى أن "الخلاصة التي وصلت إليها الحركة بعد خمسة عشر عامًا من الشراكة في الحُكم وتسيير البلاد، أنها باتت بحاجة إلى المعارضة واستعادة الأنصار، والوقوف في وجه فساد السلطة الذي استشرى، كما أن تأسيس بعض الأحزاب القريبة من الرئاسة الجزائرية كان بمثابة رسالة صريحة للقائمين علي الحركة بأن المخزن الجزائري غير مستعد للقبول بمجتمع السلم كإطار سياسي بديل"(5).
في ليبيا، لم يحضر مفهوم "السلطة التوافقية" بشكل كبير في تجربة إسلامييها، ووجدوا أنفسهم بعد الثورة أمام خيار إقامة دولة ما بعد الثورة بمفاهيم ما قبل الثورة التي لم يحدث فيها تغيير كبير، ودخلوا مرحلة الصراع على الاستحواذ على "هيكل" السلطة في وقت مبكر، في مقابل أطراف أخرى سياسية وعسكرية. بل إن هدف السلطة قد أنتج حالة خاصة في المشهد الإسلامي، فهنالك سلفيون يساندون خليفة حفتر، وهنالك جهاديون ضد حفتر والإخوان المسلمين معًا، وهنالك جزء من جماعة الإخوان مع رئيس المؤتمر الوطني نوري بوسهمين، وجزء آخر مع الحوار.
لم يرضَ الإسلاميون بالحد الأدنى من السلطة التشاركية، خاصة حاملي السلاح، وأسفرت المرحلة الانتقالية عن متغيرين سلبيين لهما علاقة بإدارة السلطة، أثَّرا في أزمة الإسلاميين لبناء السلطة، أولهما: رفض قبول هزيمة الإسلاميين في الانتخابات التشريعية في مواجهة تحالف القوى الوطنية الليبرالي؛ حيث أدَّى رفض نتائج الانتخابات إلى انقسام السلطة في ليبيا، إلى برلمان في الشرق ومؤتمر وطني في الغرب. وثانيًا: بروز عقلية الاستحواذ على السلطة، خاصة مع طرح قانون العزل السياسي.
وبعد مرحلة الانقسام حول السلطة يتجه الإسلاميون إلى القبول من جديد بمخرجات الحوار الوطني المدعوم بإرادة دولية، لحماية وتأمين ما أمكن من نفوذ في السلطة رفقة الآخرين في المرحلة القادمة.
خاتمة
تقييم تأثير السلطة على سلوك الإسلاميين يمر بالضرورة عبر النظر إليهم كظاهرة طبيعية، ضمن أنظمة وسياقات تصعد فيها قوى وتتراجع أخرى. ذلك أن تحول الإسلاميين إلى الواقعية ليس ذا منحى أيديولوجي، بقدر ما تعكسه توازنات القوى السياسية.
الإسلاميون ليسوا على درجة واحدة في سعيهم للتوافق السياسي في السلطة، وبعضهم فشل في خطة التوافق، والبعض نجح فيها نسبيًّا، والبعض يصر عليها رغم معاناته. لكن سيبقى التوافق السياسي "قيمة سياسية" تنضاف إلى قيم سياسية أخرى ذات أهمية، مثل "قيمة النزاهة في إدارة الدولة" التي استطاع الإسلاميون أن يساهموا فيها في هذه المرحلة، وهي القيمة السياسية الأكثر طلبًا في سوق السياسة.