تعد استقالة رئيس الحكومة العراقية، السيد عادل عبد المهدي، 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، والهجمة المسلحة الدموية على المعتصمين وسط بغداد، 6 ديسمبر/كانون الأول، منعطفين بالغي الدلالة في مسيرة الحراك الشعبي العراقي من أجل الإصلاح، الذي انطلق في بداية أكتوبر/تشرين الأول 2019.
استقال عبد المهدي، الذي لا ينتمي لجهة سياسية ما، والذي لم يقض سوى عام واحد في منصبه، ليس لأنه مسؤول لوحده عما وصل إليه نظام ما بعد الغزو والاحتلال، ولا لأنه يعارض الحراك الشعبي. استقال رئيس الحكومة لأنه وجد نفسه عاجزًا عن تلبية مطالب المحتجين، وعاجزًا عن إيقاف سفك الدماء في بغداد والمدن الأخرى، سيما محافظة الناصرية التي تنتمي إليها عائلته، بالرغم من تصريحاته بأنه أعطى أوامر للقوى الأمنية بعدم استخدام الرصاص الحي وتعهداته المتكررة بالحفاظ على المتظاهرين وسلامتهم.
من جهة أخرى، عندما وقعت حادثة 6 ديسمبر/كانون الأول، التي راح ضحيتها ما يزيد عن العشرين قتيلًا من المعتصمين وعشرات الجرحى، كان عدد ضحايا الانتفاضة الشعبية قارب الأربعمئة قتيل. ولذا، فربما لم يكن عدد ضحايا ذلك اليوم كبيرًا نسبيًّا مقارنة بحجم العنف الذي واجهته الانتفاضة الشعبية خلال الشهرين السابقين من مسيرتها. ولكن الحقيقة أن حادثة 6 ديسمبر/كانون الأول كانت مختلفة بصورة ملموسة، سواء في طبيعتها أو في موقف الحكومة وأجهزة الدولة منها.
حافظ المحتجون، منذ بداية الانتفاضة الشعبية، على سلمية حراكهم، سواء في بغداد أو غيرها من المدن الأخرى. ولكن قوات الأمن ووحدات الجيش الخاصة لم تتورع عن استخدام الرصاص الحي في أكثر من موقع وحالة. إضافة لذلك، سُجِّل في أيام الانتفاضة الأولى وجود عناصر قنَّاصة مجهولين، أطلقوا النار على المحتجين ورجال الأمن على السواء، سيما في بغداد.
في 6 ديسمبر/ كانون الأول، تعرَّض المعتصمون في ساحة الخلاني، في قلب العاصمة العراقية، وليس بعيدًا عن المنطقة الخضراء، ذات الوضع الأمني الخاص جدًّا، لهجوم منظم، ومخطط مسبقًا، قام به عشرات من المسلحين، الذين استخدموا السيارات في هجمتهم على المعتصمين. وبالرغم من أن الهجمة المسلحة على المعتصمين استمرت لما يزيد عن خمس وأربعين دقيقة، لم تتحرك قوات الأمن أو الجيش، القريبة جدًّا من موقع الحادثة، لحماية المعتصمين أو لردع المسلحين المعتدين.
فأي دلالات يحملها عجز رئيس الحكومة عن التحكم في أدوات الحكم ومؤسسات الدولة الأمنية؟ وأي دلالات يعنيها قيام جهة ما بتنظيم هجوم دموي مسلح على المعتصمين السلميين، وسط عاصمة البلاد، وليس بعيدًا عن أعين الأجهزة الأمنية؟ هل ثمة صلات تربط هذين المنعطفين في مسيرة الانتفاضة الشعبية العراقية بطبيعة الدولة وبنية نظام الحكم التي ثار عليها العراقيون أصلًا؟ وهل ثمة من يعمل للحفاظ على الوضع الراهن، وعلى وضع الطبقة العراقية الحاكمة، حتى إن كان الثمن دفع العراق إلى أتون الحرب الأهلية؟
انسداد الآفاق
وُلد الحراك الشعبي في العراق من متغيرات ديمغرافية واجتماعية لم تجد لها صدى في بنية نظام الحكم وسياسات حكوماته المتعاقبة. يعرف العراق، كما أغلب المجتمعات العربية، ظاهرة النمو المتسارع في نسبة الشباب (15– 29 عامًا) في المجتمع (27 بالمئة من مجموع السكان، أو ما يزيد عن عشرة ملايين، طبقًا لأرقام الجهاز المركزي للإحصاء). ولأن العراق يتمتع بقاعد تعليمية قوية، تعود إلى سبعينات القرن الماضي، يتلقى قطاع كبير من هؤلاء الشباب تعليمًا عاليًا. في الوقت نفسه، وفَّرت حرية الاتصال والحركة للشباب الفرصة للحصول على معلومات كافية حول أوضاع وطنهم، ومقارنة هذه الأوضاع بدول الإقليم والعالم.
تفاقم الفساد وتحوله إلى ظاهرة عادية، وانهيار أسعار النفط، وعجز الحكومات المتعاقبة عن تحقيق إنجازات ملموسة في قطاعي التنمية والخدمات، وفقدان الأمل في وقوع تغيير جوهري في بنية النظام وقواه، أدى إلى انفجار حراك شعبي كان الشباب مادته الأساسية. ولأن الاستقرار النسبي في الوضع الأمني وتراجع التوتر الطائفي عزز من شعور الشباب بالوطنية العراقية، وأعاد إلى الذاكرة الجمعية فكرة العراق القوي المؤثِّر في محيطه، شعرت قطاعات متزايدة من الشباب العراقيين بأن مشكلة بلدهم تتعلق بالنفوذ الإيراني وارتباط قطاع واسع من الطبقة السياسية الحاكمة بهذا النفوذ.
الحراك الذي بدأ شبابيًّا، أخذ في الاتساع، وإن ببطء وصورة تدريجية، ليشمل قطاعات الشعب الأخرى. ولكن هذا الاتساع الاجتماعي للحراك الشعبي لم يكن شاملًا لكافة أنحاء العراق، بالرغم من التعاطف الذي يحيطه من معظم العراقيين، بما في ذلك في مدن الأغلبية السنية، التي أنهكها الحكم الطائفي وسنوات الحرب ضد تنظيم الدولة ولم تجد الطاقة الكافية بعد للخروج إلى الشارع.
شرارة الاحتجاج الأولى كانت بالتأكيد اقتصادية الدافع: الفروق الفادحة بين حياة الامتيازات التي تتمتع بها النخب الحاكمة وحياة عموم العراقيين؛ ونسب البطالة المرتفعة في أوساط الشباب؛ والانهيار المستمر في الخدمات العامة وعجز الحكومات المتعاقبة عن تحمل مسؤولياتها الخدمية؛ وشعور العراقيين المتزايد بأن بلدهم، الغني بالثروات والمقدرات البشرية والموقع، يتعرض لعملية نهب منظمة لم يعد ثمة سبيل بالقانون للتصدي لها، كما ليس ثمة دليل على رغبة الحاكمين للعمل على إيقافها. شيئًا شيئًا، بدأ الخطاب الاحتجاجي في التطور، نظرًا لاعتقاد الشباب النشطين بأن مظاهر الفساد والنهب والعجز تعود لأسباب أعمق، تتعلق ببنية النظام، وبالعملية الانتخابية، وبطبيعة الأحزاب والكيانات السياسية المتشاركة في الحكم ونهب الثروات، وبالعملية الانتخابية، وبالدستور العراقي نفسه.
بيد أن الفساد في العراق الجديد، عراق ما بعد 2003، ليس كأي فساد بل يعد من الأعلى دوليًّا حسب تقارير منظمة الشفافية الدولية، والخلل الذي تعاني منه مؤسسة الدولة ليس كأي خلل لأن الدولة لا تسيطر على مناطق من أراضيها ولا تسيطر بالكامل على السلاح. وهذا ما يضع الحراك الشعبي وسط دائرة مغلقة، يصعب تصور الخروج منها في ظل الشروط الراهنة.
ركيزة الفساد
أدخل الأميركيون نهجين جديدين كلية إلى العراق، وبالرغم من أنهم ضخوا عشرات المليارات لبناء دولته الجديدة لجعله نموذجًا يُحتذى به من الرفاه والحرية في الشرق الأوسط لكسب الأتباع والحلفاء، فشل الأميركيون في منع ممارسة الفساد على نطاق واسع، بل ولم يتورع بعض مسؤولي إدارة الاحتلال عن المشاركة في هذا الفساد؛ وأقاموا النظام العراقي الجديد، بقراءة اختزالية لتاريخ العراق الحديث واجتماعه السياسي، منذ مجلس الحكم وانتخابات 2001، على أسس المحاصصة الطائفية والإثنية. ما فاقم من الفساد، من جهة، والتوجه الطائفي للنظام، من جهة أخرى، أن إيران سعت منذ بداية الاحتلال الأميركي لتأسيس مراكز نفوذ دائم في العراق، وتحول العراق بالتالي إلى ساحة تدافع، بوتيرات متفاوتة من مرحلة إلى أخرى، بين إيران والولايات المتحدة.
بتراجع الـتأثير الأميركي بعد 2010، عملت إيران على حماية حلفائها في العراق، مهما بلغت مستويات فسادهم، وتعزيز دور الميليشيات الطائفية المسلحة، التي أصبحت ركائز يعتمد عليها لحماية وتوكيد النفوذ الإيراني، بل وحتى لتهديد المسؤولين المنتخبين في نظام الحكم، سواء كانوا من أصدقاء إيران أو خصومها.
تسلمت مقاليد الحكم في العراق الجديد، بقوة التحالف المسبق مع إدارة الاحتلال الأميركية، مجموعات شيعية سياسية، ذات رؤية طائفية لمستقبل العراق السياسي، ومعها الحزبان الكرديان الرئيسان. ومعًا، وضع هؤلاء دستور البلاد الجديد والقوانين الانتخابية وتشريعات العزل السياسي لتحقيق هدف إدامة سيطرتهم على السلطة والثروة معًا. بارتكازه إلى القائمة النسبية في كل محافظة على حدة، يخدم قانون الانتخابات الأحزاب والكتل السياسية ذات القاعدة الطائفية والإثنية، ويمنع بروز أحزاب وطنية جامعة، وينتهي إلى تشظ برلماني، يجعل من المستحيل تقريبًا فوز حزب أو كتلة واحدة وتشكيلها حكومة أغلبية. كل الحكومات التي تشكلت منذ 2005 كانت حكومات ائتلافات واسعة، أدارت شؤون البلاد ليس على أساس من برامج مقنعة، بل المحاصصة وتوزيع المقاعد الوزارية.
ولأن الفساد كان قد أصبح سمة وراثية في نظام الحكم، يدور تدافع القوى السياسية ليس على أهمية الوزارات أو اقترابها من جمهور الناخبين، بل على المقدَّرات المالية المكرسة للوزارة.
ونظرًا للبنية الطائفية للنظام والتشظي الحزبي، وبدلًا من قيامهم بخدمة ناخبيهم ومصالحهم، يشارك نواب في الفساد السياسي.
ولا يقتصر الفساد على الوزارات والمسؤولين المدنيين، بل يمتد إلى القوات المسلحة والأجهزة الأمنية؛ حيث تتضخم قوائم وحدات الجيش والشرطة والحشد الشعبي بعشرات آلاف المنتسبين. وتشير بعض التقارير إلى أن حجم بيروقراطية الدولة العراقية وصل إلى تسعة ملايين موظف، من مدنيين وعسكريين، في بلاد لم يصل عدد سكانها الأربعين مليونًا.
وما إن بدأت البلاد في التمتع بالاستقرار الأمني النسبي، وأخذ القطاع الخاص يظهر بعض الحيوية، حتى برز مجال آخر من الفساد المرتبط بالنفوذ السياسي والميليشياوي، مثل احتكار ميليشيات لاستيراد بضائع محددة، أو السيطرة على أرصفة موانئ ومعابر تجارة خارجية.
بكلمة أخرى، أقيم النظام، من البداية، لخدمة قوى سياسية بعينها، وتقاسم النفوذ بين هذه القوى؛ وقد أصبح هذا النفوذ ركيزة وأداة للتحكم في مصادر الثروة، بصورة شرعية أحيانًا، وغير شرعية في معظم الأحيان.
فشل حكومة عبد المهدي
كُلِّف السيد عادل عبد المهدي (76 عامًا) برئاسة الحكومة العراقية، في بداية أكتوبر/تشرين الأول 2018، ولكنه حتى بعد مضي شهور كان لم يزل غير قادر على ملء كافة مقاعد حكومته الوزارية، نظرًا للخلافات بين أطراف الائتلاف الحكومي الذي وفَّر لعبد المهدي الأغلبية البرلمانية. الحقيقة، أن عبد المهدي لم يكن مرشح الكتلة الأكبر في البرلمان، ولا مرشح أي حزب أو كتلة سياسية معينة؛ بل أصبح مرشح توافق لعدد من الكتل السياسية، الشيعية والسنية والكردية، بعد أن فشلت القوى السياسية الممثلة في البرلمان في الاتفاق على مرشح حزبي.
نظام المحاصصة، من جهة، وتحول العراق إلى ساحة تدافع إيراني-أميركي، من جهة أخرى، وافتقاد عبد المهدي القاعدة السياسية الحزبية أو الجماهيرية، من جهة ثالثة، حرم رئيس الحكومة من أية سلطة فعلية سواء في اختيار أعضاء مجلس وزرائه، أو في السيطرة المباشرة على هؤلاء الوزراء ونهج عملهم الوزاري.
يصعب تحميل عبد المهدي لوحده مسؤولية الخلل الفادح في جسم النظام وانتشار الفساد في كافة أذرعه ومؤسساته؛ فعمر حكومته لم يتجاوز العام إلا قليلًا، كما أن بنية النظام وقيمه وطرائق عمله كانت قد استقرت منذ سنوات طويلة قبل توليه رئاسة الحكومة. تولى عبد المهدي الحكم وهو يؤكد الحاجة الملحَّة للإصلاح واتخذ بعض الإجراءات بهذا الصدد، سواء في محاولة وضع حدٍّ للتوتر الطائفي، وفرض إرادة الدولة على الميليشيات المسلحة داخل وخارج الحشد الشعبي، وتنشيط عدد كبير من مشاريع التنمية، وإصلاح علاقات العراق الإقليمية. ولكن جهود عبد المهدي لم تكن كافية، لا في حجمها ولا سرعتها؛ كما أن نهجه التوافقي، ووعيه بأنه لم يصل إلى موقعه إلا عبر توافق الكتل السياسية الرئيسة وتوافق إيران ومرجعية النجف، جعله أعجز عن تحمل أعباء المواجهة الراديكالية والحاسمة مع مصادر الخلل والفساد في بنية النظام والدولة.
يعتبر عبد المهدي واحدًا من أفضل أعضاء الطبقة السياسية الحاكمة منذ 2003 تعليمًا وخبرة. وبالرغم من أنه ترك العمل الحزبي منذ سنوات، إلا أنه كان قياديًّا بارزًا في المجلس الأعلى الإسلامي، شيعي التوجه، الذي أسسه الراحل، باقر الحكيم، في الثمانينات، أثناء سنوات المنفى في إيران ومعارضة الرئيس السابق، صدام حسين. بمعنى، أن عبد المهدي، الذي رشحه المجلس الأعلى لعضوية مجلس الحكم أثناء سنوات الاحتلال الأولى، وتولى بعد ذلك مناصب وزارة المالية، ونيابة الرئيس، ووزارة المالية لعامين في حكومة العبادي، كان جزءًا لا يتجزأ من الطبقة الحاكمة طوال العقد ونصف العقد الماضيين. وبهذا المعنى، أيضًا، يمكن القول: إن عبد المهدي يتحمل مسؤوليةً ما عن بروز نظام ما بعد 2003، وطبيعة عمله، والقواعد، التي ارتكز إليها.
هذا التناقض بين خلفية عبد المهدي السياسية وتأكيده على ضرورة الإصلاح، وبين سلطات موقعه المشروطة والسلطة المفترضة لرئيس الحكومة، وبين تأييده للحراك الشعبي، باعتباره الفرصة التي لم يخطط لها لإصلاح نظام الحكم، من جهة، وعجزه عن مواجهة القوى السياسية النافذة وحماية المتظاهرين، من جهة أخرى، حال دون تحقيق وعوده.
في البداية، تصور عبد المهدي أن الحراك الشعبي يمنحه المبرر والقوة على إحداث تغيير وزاري واسع النطاق، يُحكم سيطرته على مجلس وزرائه، ودفع البرلمان والقوى السياسية إلى تبني إجراءات فعالة لمكافحة الفساد، وإصلاحات قانونية وانتخابية، وربما حتى دستورية. ولكن آمال رئيس الحكومة سرعان ما خابت.
لم يستطع عبد المهدي فرض إرادته على القوى السياسية وإجراء تعديل وزاري واسع، وعجز عن دفع البرلمان للبدء في الإصلاحات القانونية. وحتى مشروع القانون الانتخابي الجديد الذي قدمته الحكومة للبرلمان، سرعان ما تعرض لتعديلات جوهرية قبل أن يبدأ البرلمان تحركًا بطيئًا لإقراره. ما كان لابد لرئيس الحكومة رؤيته، وربما حتى إعلانه للعراقيين، أن إصلاحًا جوهريًّا للنظام بإرادة القوى السياسية التي تشكِّل هذا النظام وبرلمانه غير ممكن التحقق.
ولكن مشكلة رئيس الحكومة الأكبر تعلقت بالوضع الأمني واكتشافه أنه لا يملك، بالرغم من كونه القائد العام للقوات المسلحة، سيطرة حقيقية لا على القوات المسلحة ولا على أجهزة الأمن والشرطة والحشد الشعبي. اختراق القوى السياسية، سيما الشيعية منها، للقوات المسلحة، وتحكُّمها بقطاعات واسعة من أجهزة الأمن والشرطة، كانا أكبر وأعمق بكثير مما تصور عبد المهدي، الذي رافق بناء النظام والدولة الجديدة من البداية. كما أن الحشد الشعبي لم يزل مجرد إطار قانوني لعدد من الميليشيات المسلحة، التي تستجيب لقرار قائد الميليشيا أكثر منها للقائد العام للقوات المسلحة.
تعرض عشرات النشطين في الحراك الشعبي للاختطاف أو الاغتيال، واستمر التعامل المسلح مع المتظاهرين في بغداد وخارجها، مما أوصل عدد ضحايا الانتفاضة الشعبية مع بداية ديسمبر/كانون الأول لأكثر من أربعمئة قتيل، وحتى عندما لم تكن الأجهزة الرسمية مسؤولة عن الاعتداء المسلح على المحتجين، فشلت في منع الميليشيات التي قامت بالاعتداء.
اتجاه الحراك الشعبي
ما يطالب به المحتجون، بالرغم من عدم تبلور قيادة أو ممثلين محددين لهم، يمكن تلخيصه بالتالي: استقالة الحكومة وحل البرلمان والدعوة لانتخابات مبكرة؛ والتخلص من الطبقة السياسية الحالية؛ وإصلاحات جذرية في قانون الانتخابات وتعديل دستوري؛ ومكافحة جادة للفساد وملاحقة قضائية وشفافة للفاسدين؛ وتخليص العراق من النفوذ الإيراني.
استقالت الحكومة بالفعل، ويعمل البرلمان على تعديل قانون الانتخابات، وأعلن عن عدد من الاستدعاءات القضائية لعدد من المتهمين بالفساد ولكن الواضح أن مجمل الاستجابة على المستوى الحكومي والقضائي والبرلماني لم يزل أدنى بكثير من سقف المطالب الشعبية. وفي حال استمرت الحركة الاحتجاجية الشعبية في مستواها الحالي، فمن الصعب تصور تحقيقها لكافة أهدافها؛ وذلك لعدة أسباب:
باستقالة حكومة عبد المهدي، يُفترض أن يصبح البرلمان الحالي المسؤول الرئيس عن الاستجابة لمطالب الحراك الشعبي. والمشكلة أن البرلمان الحالي هو جزء من منظومة الفساد في نظر الحراك، وأغلبيته العظمى تنتمي للجماعات السياسية التي يعتبرها الحراك الشعبي مسؤولة عن الوضع الذي وصلت إليه مؤسسات الدولة والحكم وأحوال البلاد. وقد أظهرت القوى السياسية السائدة رغبتها في الحفاظ على الوضع عندما أجرت تعديلات على مشروع القانون الانتخابي الجديد، فجردته من الهدف المتوخَّى منه. وليس ثمة شك في أن الأهداف الأخرى للحركة الشعبية، سواء تلك المتعلقة بالتعديل الدستوري ومكافحة الفساد والتحرر من النفوذ الإيراني، يمس وضع هذه القوى والجماعات السياسية السائدة وامتيازاتها.
ثمة مؤشرات على أن هذه القوى، سيما الشيعية منها، التي تحتفظ بأجنحة مسلحة وتسيطر على معظم وحدات الحشد الشعبي، على استعداد لإشعال للقتال من أجل الاحتفاظ بسلطاتها وامتيازاتها، وأن الحليف الإيراني لهذه القوى لن يتردد في دعم هذه المواجهة، تمامًا كما حدث في سوريا. بل إن هناك من يرى أن حجم ضحايا الانتفاضة الشعبية حتى الآن، والأدلة المتزايدة على انخراط بعض الميليشيات الشيعية المسلحة في قمع المحتجين، تشير إلى أن العراق أخذ ينزلق بالفعل إلى هوة التدافع الأهلي، وأن حرص المحتجين على سلمية حراكهم من يمنع تفاقم الأوضاع إلى حرب أهلية سافرة.
لم ينجح الحراك لحد الآن في تحقيق مطالبه لأنه يعاني من عقبات تعيق قدراته. يتخذ الحراك الشعبي في صورته الحالية طابعًا وطنيًّا في بغداد وحسب، ولكن خارج العاصمة العراقية، ليس ثمة تحرك شعبي ملموس في مدن الأغلبية السنية ونظيرتها الكردية. مناطق الأغلبية السنية لم تزل منهكة ومتعبة، بعد سنوات من قمع الحكومة المركزية وأعباء الحرب ضد داعش وسيطرة ميليشيات الحشد الشعبي؛ بينما يسود المناطق الكردية شعور بأنها خارج الحسابات الوطنية العراقية.
ولكن، حتى في مدن الوسط والجنوب، ذات الأغلبية الشيعية، التي يفترض أن تكون حاضنة الحراك الشبابي، يبدو الوضع أكثر تعقيدًا من مجرد الانقسام بين حراك شبابي شعبي، من جهة، والسلطة والميليشيات الشيعية، من جهة أخرى. في مدن الوسط والجنوب، كما في بعض أحياء بغداد، لم تزل الميليشيات المسلحة والقوى السياسية الشيعية تتمتع بنفوذ كبير. وبالرغم من إعلان معظم شيوخ العشائر عن تأييدهم للحراك الشبابي، فإن انخراط عموم الشعب في الحركة الاحتجاجية لم يزل محدودًا. وربما تلعب مرجعية النجف الشيعية دورًا إشكاليًّا في هذه المجال، بالرغم من تأييد الناطقين باسمها مطالب الحراك الشبابي.
تتمتع المرجعية بتأثير معنوي كبير على عموم العراقيين الشيعة؛ ولا يبدو موقف المرجعية متسقًا تمامًا مع الحراك الشبابي. تأييد المرجعية غير المحدد وغير القاطع دائمًا لمطالب المحتجين يوحي بحذر المرجعية من انهيار النظام كلية، وتحرر العراق من المحاصصة الطائفية، وفقدان الشيعة العراقيين السيطرة على مؤسسة الدولة ونظام الحكم.
هذا كله لا يعني أن الأمور ستبقى على ما هي عليه وأن الحراك سيفشل كلية في تحقيق أهدافه. المؤكد أن العراق سيتغير وأن هذا التغيير بدأ بالفعل. سيطرة إيران على الشأن العراقي ستتراجع، ومعها سيطرة ونفوذ القوى والميليشيات المرتبطة بها. كما أصبح من المستبعد أن تستمر معدلات الفساد وممارساته في مستواها الحالي. وربما يمكن القول: إن الوطنية العراقية أخذت بالنهوض، ولم يعد ممكنًا إقناع العراقيين بمزايا الهيمنة الطائفية. ولكن، وفي ظل الشروط القائمة، يبدو أن طريق التغيير في عراق ما بعد 2003 قد يكون طويلًا.