كانت ليلة 12-13 ديسمبر/كانون الأول 2019، ثقيلة الوطأة على أعضاء وأنصار حزب العمال البريطاني. فبمجرد أن أُقفلت صناديق الاقتراع في العاشرة مساء، بدأت قناة البي بي سي الأولى تغطيتها الانتخابات بإعلان نتائج الاستطلاع الذي أجرته خلال النهار لآراء المقترعين بعد خروجهم من محطات التصويت، والذي يعتبر أكثر استطلاعات الرأي دقة. ما تنبأت به البي بي سي كان خسارة هائلة لحظوظ حزب العمال، الذي خاض الانتخابات بواحد من أكثر البرامج راديكالية في تاريخ بريطانيا الحديث.
خلال الساعات التالية، وقبل منتصف الليل بقليل، بدأت النتائج الفعلية في الظهور، دائرة انتخابية بعد الأخرى، لتؤكد توقعات استطلاع البي بي سي إلى حدٍّ كبير. حقق حزب المحافظين الحاكم اختراقات غير مسبوقة في قلب مناطق نفوذ العمال التاريخية في مناطق الميدلاند، بوسط إنجلترا، كما في الشمال الغربي والشمال الشرقي. خسر العمال دائرة ليغ الانتخابية في مانشستر، التي مثَّلها نائب عمَّالي منذ وُجدت الدائرة في 1918. أطاح المحافظون بدينيس سكينر، النائب العمالي اليساري منذ 49 عامًا، بالرغم من تأييده الخروج من الاتحاد الأوروبي؛ كما أطاحوا بزميلته، كارولين فلينت، التي تؤيد هي الأخرى الخروج من أوروبا وتُحسب على يمين حزب العمال.
بتراجع طفيف عن نسبة التصويت في انتخابات 2017 البرلمانية، أدلى 67 بالمئة من البريطانيين بأصواتهم. حقق المحافظون 44 بالمئة من الأصوات (بارتفاع طفيف عن حظوظهم في 2017، التي حصلوا فيها على 42 بالمئة)؛ بينما تراجع نصيب العمال من الأصوات بصورة فادحة (من 40 بالمئة في 2017 إلى 32 بالمئة). بهذا، سيتمتع المحافظون (365 مقعدًا)، بقيادة بوريس جونسون، بأغلبية تصل إلى 80 مقعدًا في البرلمان الذي يتشكل من 650 مقعدًا؛ وهي الأغلبية التي لم يحققها المحافظون منذ 1987. وبعدد لا يزيد عن 202 من المقاعد، أوقعت بحزب العمال خسارة هي الأكبر منذ 1935.
بيد أن المفاجأة لم تقتصر على حظوظ الحزبين الرئيسين. فقد فشل الحزب الليبرالي الديمقراطي في تحقيق الاختراق الذي أمَّل به بتبنيه موقفًا صريحًا في معارضة الخروج من الاتحاد الأوروبي، وتراجعت مقاعده البرلمانية إلى 11، بخسارة مقعد واحد عن انتخابات 2017. الأكثر دلالة كانت خسارة زعيمة الليبراليين، جو سوينسون، لمقعدها في أسكتلندا. المفاجأة الثانية جاءت من الحزب القومي الأسكتلندي، الذي يعارض الخروج من الاتحاد الأوروبي وينادي بعقد استفتاء ثان على وجود أسكتلندا ضمن المملكة المتحدة. حقق الحزب القومي الأسكتلندي قفزة هائلة في موقعه، ليحصل على 48 مقعدًا من مجموع المقاعد المخصصة لعموم أسكتلندا، البالغة 59 مقعدًا في البرلمان البريطاني (بزيادة 13 مقعدًا عن نصيبه في برلمان 2017).
فما هي الأسباب التي أدت إلى مثل هذه النتائج؟ وهل ثمة أسباب أبعد من تلك المتعلقة بإدارة الحملة الانتخابية، ساعدت المحافظين على كسب الانتخابات البرلمانية الرابعة منذ 2010؟ وما الذي تعنيه هذه النتائج لمستقبل البريكست، أو الخروج من الاتحاد الأوروبي، التي شغلت الحياة السياسية البريطانية منذ صوَّتت أغلبية ضئيلة من البريطانيين للخروج من الاتحاد في استفتاء صيف 2016؟ وما الذي تعنيه للكيفية التي سيدير بها رئيس الحكومة المحافظ بوريس جونسون مفاوضات الخروج وسياسات حزبه في الوقت نفسه؟
شبه استفتاء حول أزمة البريكست
كانت هذه انتخابات مبكرة، اضطرت إليها بريطانيا بفعل فشل البرلمان المتكرر في الاتفاق على طبيعة وكيفية وشروط الخروج من الاتحاد الأوروبي، سيما أن حكومتي تيريزا ماي المحافظة وخليفتها بوريس جونسون لم تتمتعا بأغلبية في البرلمان تساعدهما على تمرير الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي. وهذا ما جعل جونسون يخوض المعركة الانتخابية باعتبارها معركة البريكست، رافعًا الشعار النافذ والبسيط "دعوا البريكست يُنجَز". كان جونسون أحد أبرز الشخصيات التي دعت البريطانيين لتأييد الخروج من أوروبا في استفتاء 2016، وقدَّم نفسه وحزبه في المعركة الانتخابية باعتبارهما القادرين على إنفاذ إرادة الشعب في الاستفتاء ووضع نهاية لهيمنة مسألة البريكست على الحياة السياسة والشلل الذي تسببت به في إدارة البلاد وعملية حكمها.
في المقابل، شكَّل ملف البريكست من البداية معضلة كبرى لحزب العمال؛ ليس فقط لانقسام قيادته وكتلته البرلمانية حول الخروج وطبيعته، ولكن أيضًا لأن بعضًا من أهم معاقل حزب العمال في الوسط وشمال إنجلترا صوَّتت بأغلبيات ملموسة لصالح الخروج في استفتاء 2016. تخلص العمال من المأزق في انتخابات 2017، التي حقق فيها العمال تقدمًا ملموسًا عن انتخابات 2015 بالرغم من خسارتهم، بتبني سياسة تؤكد على معارضة مسودة الاتفاق التي توصلت إليها تيريزا ماي مع الاتحاد الأوروبي، والدعوة إلى عقد مفاوضات جديدة مع الاتحاد من أجل اتفاق يحفظ حقوق الطبقة العاملة ويؤمِّن التجارة البريطانية مع دول الاتحاد، مع التأكيد على الخروج من الاتحاد وإنفاذ نتائج استفتاء 2016.
خلال العامين الماضيين، ضغطت كتلة البقاء في الاتحاد داخل حزب العمال لتبني موقف أقرب إلى البقاء، وهو ما أدى إلى إقرار الحزب سياسة بدت للكثير غامضة وغير قابلة للتسويق. ملخص هذه السياسة أن حكومة العمال، في حال فوز الحزب في الانتخابات، ستفاوض من أجل اتفاق أفضل مع الاتحاد الأوروبي، ومن ثم تعرض هذا الاتفاق على الشعب في استفتاء حول خيارين: إقرار الاتفاق أو البقاء في الاتحاد. وهذا هو الموقف التي حمله برنامج الحزب في المعركة الانتخابية.
كان جيريمي كوربن، زعيم حزب العمال، ومجموعة المساعدين الصغيرة حوله، يدركون أن موقف الحزب الجديد من مسألة البريكست ليس بالوضوح الكافي، وأنه سيضر بحظوظ الحزب في معاقله الفقيرة وسط وشمال إنجلترا، ولكنهم أمَّلوا أن الوعود الأخرى التي يحملها برنامج الحزب الانتخابي، سيما ما يتعلق بتأميم السكك الحديدية والإنترنت وضخِّ استثمارات مالية هائلة في قطاعي التعليم والصحة، ستعمل على نقل مركز الحملة الانتخابية من البريكست إلى الخدمات العامة، ولكن هذا ما لم يتحقق.
ما تحقق كان ذهاب عشرات الآلاف من أبناء المدن الصغيرة والبلدات، في وسط وشمال البلاد، سيما من وسيطي ومتقدمي السن، للتصويت للمحافظين، أغلبهم للمرة الأولى في حياتهم. كل المقاعد التي خسرها العمال لصالح المحافظين تقع في مناطق سبق أن صوَّتت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي في 2016. كما خسر العمال عدة مقاعد لهم في أسكتلندا لصالح الحزب القومي الأسكتلندي؛ ولم يكسبوا من المحافظين سوى مقعد واحد في جنوب غربي لندن، في منطقة تُعرف بتأييد أغلبيتها لخيار البقاء في الاتحاد الأوروبي.
كان البريكست هو السبب المباشر والرئيس خلف خسارة العمال الفادحة، سواء في نسبة الأصوات التي حصلوا عليها أو عدد المقاعد ولكن هذا لم يكن السبب الوحيد. لم يتمتع بوريس جونسون، زعيم المحافظين، بمستوى ثقة مرتفع لدى عموم الناخبين، نظرًا للشكوك حول مصداقيته واستقامته الشخصية. ولكن الثقة بجيريمي كوربن كانت أقل بكثير، سيما لدى متوسطي ومتقدمي السن البيض، حتى ذوي الخلفية العمالية منهم. تعرض كوربن، المعروف بتاريخه الطويل المعارِض لمؤسسة الحكم البريطانية، لحملية إعلامية شرسة وواسعة النطاق، تعهدتها أغلب وسائل الإعلام المطبوعة والمرئية، أثارت أسئلة حول معاداة السامية في حزب العمال، وحول تاريخه السياسي ودعمه لنضال القوميين الإيرلنديين في شمال إيرلندا، والشبهات حول علاقات سابقة له بحماس وحزب الله وتأييده نضال الفلسطينيين. ولم يستطع آلاف الشبان المتحمسين من حزب العمال، الذين انتشروا في كافة أنحاء البلاد لدعوة الناخبين للتصويت لحزبهم أو تقديم برنامجه، مواجهة الحملة على زعيم الحزب.
بهذا المعنى، يمكن القول: إن انتصار المحافظين في هذه الجولة من الانتخابات يعود إلى خسارة حزب العمال أكثر من نجاح المحافظين؛ وإن التقدم الملموس في حظوظ القوميين الأسكتلنديين يعود إلى خسارة العمال والمحافظين معًا في أسكتلندا، التي بات القوميون يمثلون ما يقارب الثمانين بالمئة من مقاعدها. ولكن هناك ما هو أبعد من السياسات الراهنة والمعركة الانتخابية، لابد أن يؤخذ أيضًا في الاعتبار؛ ويتعلق بصورة أساسية بالرياح القومية الشعبوية التي أخذت تعصف بالحياة السياسية الغربية على جانبي الأطلسي في السنوات القليلة الماضية.
حكومة جونسون: تعقيدات النجاح
تخلص حزب المحافظين قبل الانتخابات من أغلب نوابه ومرشحيه المعارضين لقيادة الحزب؛ وهذا ما سيتيح لبوريس جونسون الحكم بأغلبية مريحة، وبكتلة برلمانية موحدة، وربما الأقل انقسامًا منذ حكومة مارغريت تاتشر الثانية في الثمانينات، أو هذا ما يبدو نظريًّا الآن. الحقيقة، أن نتائج الانتخابات لا تعني أن التعقيدات التي سيواجهها جونسون خلال الشهور المقبلة أقل بأية صورة من الصور من تلك التي واجهها قبل الانتخابات.
المؤكد أن جونسون سيقدم الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي للتصويت عليه في البرلمان في أسبوع انعقاده الأول، وأن البرلمان سيمرر الاتفاق هذه المرة بدون عقبات تذكر. بذلك، ستخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في اليوم الأخير من يناير/كانون الثاني المقبل (2020) وتبدأ بالتالي المرحلة الانتقالية. طبقًا للجدول الزمني لعملية الخروج، تنتهي المرحلة الانتقالية في نهاية ديسمبر/كانون الأول 2020؛ وهي الفترة التي يُفترض أن تكتمل فيها المفاوضات بين بريطانيا والاتحاد حول مستقبل العلاقات والاتفاق التجاري.
ولكن معظم المطلعين على طبيعة المفاوضات يعتقدون أن المرحلة الانتقالية، التي أصبحت عامًا واحدًا فقط، نظرًا لفشل البرلمان البريطاني السابق في إقرار الاتفاق في العامين الماضيين، لن تكون كافية للتوصل إلى اتفاق تجاري، سيما أن الاتفاق يتطلب ليس إقرارًا من البرلمان الأوروبي وحسب، بل وبرلمان كل دولة عضو في الاتحاد، بما في ذلك بريطانيا، كذلك. اعتراض أيٍّ من دول الاتحاد الأوروبي على أي جزء من الاتفاق، يعني عودة الطرفين للتفاوض من جديد.
ولذا، ففي حال لم يستطع الطرفان التوصل إلى اتفاق مع بداية خريف 2020، ستجبر الحكومة البريطانية على تمديد المرحلة الانتقالية؛ الأمر الذي صرَّح جونسون أكثر من مرة بأنه لن يفعله، أو أن تخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بدون اتفاق تجاري دائم. المشكلة بالطبع أن حجم تجارة بريطانيا مع دول الاتحاد الأوروبي يصل إلى خمسين بالمئة من تجارتها الخارجية، والخروج من أوروبا بدون اتفاق لن يترك أثرًا بالغًا على الاقتصاد البريطاني، وحسب، بل وسيعمِّق من درجة الانقسام في المجتمع البريطاني، كذلك. كما أن حسم طبيعة العلاقة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي لابد ان يسبق أي جهد بريطاني لعقد اتفاق تجارة حرة مع الولايات المتحدة أو أية دولة أخرى؛ إذ سيكون من العسير التوصل لمثل هذا الاتفاق قبل أن تعرف بريطانيا طبيعة الالتزامات التي يفرضها الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي.
إضافة إلى ذلك، سيعزز الخروج بدون اتفاق من حظوظ القوميين الأسكتلنديين، الذين حققوا قفزة ملموسة في الانتخابات وأصبحوا أكثر تصميمًا على الدعوة لاستفتاء جديد حول استقلال أسكتلندا. يرفض جونسون، حتى الآن، الموافقة على عقد مثل هذا الاستفتاء في أسكتلندا؛ ولكن أحدًا لا يعرف كيف سينتهي الصدام بين حكومة المحافظين في لندن والحكومة المحلية في إدنبرة، التي يقودها أيضًا الحزب القومي الأسكتلندي. ونظرًا لأن أسكتلندا صوَّتت بأغلبية كبيرة في 2016 للبقاء في الاتحاد الأوروبي، فإن الخروج النهائي بلا اتفاق في نهاية 2020 سيضفي مزيدًا من الشرعية على مطلب القوميين الأسكتلنديين بعقد الاستفتاء حول الاستقلال.
من جهة أخرى، يواجه جونسون على مستوى إدارة شؤون البلاد وضعًا فريدًا، لم تجد حكومة محافظة مثيلًا له منذ عقود. يمثل حزب المحافظين تقليديًّا المناطق الأكثر رفاهًا في بريطانيا، ذات الأغلبية السكانية من الطبقة المتوسطة والشرائح الاجتماعية العليا. ويؤْمِن المحافظون بتقليص دور الحكومة في الحياة الاقتصادية، وتخفيض الضرائب، والتحكم الصارم في الإنفاق العام. ولكن هذه الانتخابات جاءت إلى البرلمان بعشرات من النواب المحافظين الجدد، الذين يمثلون دوائر انتخابية عمالية وفقيرة، أعطت أصواتها للمحافظين للمرة الأولى منذ عشرات السنين.
للاستجابة لحاجات سكان هذه الدوائر، والحفاظ على دعمها الجديد للمحافظين، ينبغي على حكومة جونسون تعهد المزيد من الإنفاق الحكومي، والاستثمار بصورة كبيرة في مجالات الخدمات العامة وفي المناطق الفقيرة على السواء. وسيكون على جونسون، بالتالي، إيجاد وسيلة للحفاظ على وحدة كتلته البرلمانية والتوفيق بين مطالب النواب الجدد، ممثلي دوائر وسط وشمال إنجلترا الفقيرة، والنواب المحافظين التقليديين، المؤمنين بحرية السوق، وخفض الضرائب، وتقليص الإنفاق الحكومي.
رياح القومية الشعبوية العاتية
كان صعود المشاعر القومية السبب الرئيس خلف تصويت بريطانيا، بأغلبية صغيرة، لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي في استفتاء صيف 2016، وليس بين الشعوب البريطانية كافة، بل في إنجلترا على وجه الخصوص. ولكن إنجلترا، بالطبع، تمثل الكتلة الأكبر في الشعوب البريطانية، وقاعدة اقتصادها الكبرى.
وبالرغم من أن ثمة عددًا من الدوافع التي أدَّت لتصاعد المشاعر القومية بين الإنجليز، سيما بعد الأزمة الاقتصادية-المالية بالغة الأثر، التي ضربت الاقتصاديات الغربية في 2008، فما لم يبرز في النقاش حول البريكست كان اتجاه المتغيرات التي شهدها الاتحاد الأوروبي بعد نهاية الحرب الباردة وتوحيد ألمانيا، التي جعلت من الأخيرة قاطرة الاتحاد وزعيمها غير المعلن. للعديد من دعاة البريكست في النخبة البريطانية، إن كان لبريطانيا أن تحتل موقع الدولة الثانية، فليكن ذلك ضمن انحياز بريطاني للجانب الأميركي من الأطلسي، وليس في اتحاد أوروبي تقوده ألمانيا.
استغلت النخبة الداعية للخروج من الاتحاد الأوروبي الضغوط الاقتصادية التي تسببت بها أزمة 2008 لإقناع الناخب البريطاني بأن عضوية الاتحاد هي منبع كل معضلات بريطانيا، من انحدار مستوى المعيشة، وتراجع الخدمات العامة، إلى الهجرة الشرعية وغير الشرعية، وقدمت لعموم البريطانيين وعودًا إمبراطورية حول نهوض اقتصادي هائل بمجرد التحرر من العلاقة مع أوروبا وعودة بريطانيا مستقلة في قراراتها وخياراتها السياسية والاقتصادية. ولأن علاقة أسكتلندا بالمملكة المتحدة كانت قد أخذت في الفتور منذ سنوات، كانت إنجلترا الهدف الرئيس من حملة البريكست. النجاح الذي حققه دعاة الخروج من الاتحاد الأوروبي في 2016 أصبح بالتالي محور السياسة البريطانية؛ وأدى تلقائيًّا إلى هيمنة ملف البريكست على الحياة السياسية برمتها.
خلال السنوات الثلاث التالية، صعد السياسي البريطاني الذي قاد حملة البريكست، بوريس جونسون، ليصبح رئيس حزب المحافظين ورئيس الحكومة البريطانية. ولم يتردد جونسون خلال الحملة الانتخابية في قيادة الحملة تحت شعار واحد: إنجاز الخروج من الاتحاد الأوروبي، وعن التشكيك بوطنية منافسه، جيريمي كوربن، وإثارة الأسئلة حول التزامه بالمصالح العليا للدولة البريطانية، والإيحاء، من جديد، بأن الخروج من الاتحاد سيفتح باب خلاص بريطانيا من كافة مشاكلها.
أدى انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة في مطلع التسعينات إلى اندلاع سلسلة من الصراعات القومية في البلقان وبين شعوب الاتحاد السوفيتي السابق في التسعينات؛ وبعض من هذه الصراعات لم ينته بعد. وقفت النخب الغربية حينها في حالة من عدم التصديق وهي ترى العصبيات القومية وأوهام الخلاص المرتبطة بها تسفك دماء الألوف بوحشية لا تقل عن حروب أوروبا في نصف القرن العشرين الأول. وفي حين وجدت النخب الغربية من واجبها العمل على وضع نهاية للمجاز الدائرة في جوارها ومساعدة المتصارعين على إعلاء قيم السلم والعيش المشترك، لم يحسب أحد في ذلك الوقت أن رياح القومية ستصل إلى دول الغرب على جانبي الأطلسي.
اليوم، تعصف رياح القومية الشعبوية، وإنْ بدون سفك للدماء بعد، بعدد متزايد من الدول الغربية على جانبي الأطلسي، بما في ذلك الولايات المتحدة وبريطانيا وهنغاريا وبولندا، وبدرجة أقل نسبيًّا، ألمانيا وفرنسا وإسبانيا، وتفضي إلى مفاجآت سياسية لم تكن في الحسبان، من فوز ترامب برئاسة الولايات المتحدة بأصوات تقل عن تلك التي صوَّتت لمنافسته، إلى اكتساح جونسون للانتخابات البرلمانية بدون أن ترتفع نسبة من صوَّتوا له بأي صورة ملموسة.
في النهاية، ستتراجع رياح القومية الشعبوية وتعود الديمقراطيات الغربية إلى طبيعتها. ولكن ذلك لن يتحقق سريعًا؛ ولن يتحقق قبل أن تدرك الشعوب أن الوعود القومية ليست أكثر من وهم.