حالة الحزب الديمقراطي الأميركي عشية مؤتمره العام

تقرأ هذه الورقة حالة الحزب الديمقراطي الأميركي عشية مؤتمره المنعقد بمدينة دنفر والتفاعلات الموجودة بين أهم تياراته السياسية القيادية وأهم التحديات التي تواجهه.








إعداد: علاء بيومي


مقدمة
انقسام تاريخي
صعود الليبراليين الجدد
بين بيل كلينتون وحرب العراق
هل يصلح أوباما ما أفسده الديمقراطيون؟
2008 وعودة الانقسامات


ملخص








يهدف "تقدير الموقف" الحالي إلى الوقوف على حالة الحزب الديمقراطي الأميركي عشية مؤتمره العام المقرر انعقاده في الفترة من 25 إلى 27 أغسطس/آب بمدينة دنفر بولاية كولورادو الأميركية، وذلك من خلال تناول المحاور التالية:

أولا: أهم التيارات السياسية التي سيطرت على قيادة الحزب وقواعده الجماهيرية في العقود الأخيرة.


ثانيا: حالة الحزب في الفترة التالية لأحداث 11-9 وكيف أثرت حرب العراق وانتخابات 2006 الفدرالية النصفية على حالة الحزب ومستقبله والتأييد الشعبي الذي يحظى به في أميركا.


ثالثا: أهم التحديات التي واجهت الحزب في موسم الانتخابات الرئاسية التمهيدية (2008) والآمال المعقودة على مرشح الحزب "المنتظر" للرئاسة -السيناتور باراك أوباما- في توحيد الحزب وتطوير أجندته ودفع الحزب والليبرالية الأميركية إلى الأمام.





مقدمة


هزيمة الجمهوريين الكبيرة في انتخابات 2006 الفدرالية -حيث فقدوا السيطرة على الكونغرس الأميركي بمجلسيه- أشعرت بعض أهم قادتهم بأن عصر سيطرة اليمين الأميركي على واشنطن قد ولى، وأن الانتخابات الفدرالية المقبلة (نوفمبر 2008) سوف تكون بمثابة فرصة يحتفل فيها الديمقراطيون بعودة مدهم السياسي بفعل الفضائح والأخطاء العديدة التي ارتكبتها قيادات بالكونغرس وبإدارتي الرئيس جورج دبليو بوش في السنوات الثماني الأخيرة، وعلى رأسها حرب العراق.


ولكن مع دخول شهر مارس/آذار 2008 شعر العديد من المتابعين في أميركا وحول العالم أن انتصار الديمقراطيين المنتظر في انتخابات عام 2008 –ومن ثم استعادتهم البيت الأبيض- بات أمرا متروكاً لحسابات عديدة ومعقدة، وربما صار بعيد المنال، وأن السبب في ذلك لا يعود لروح جديدة دبت في الجسد الجمهوري وإنما لعادة قديمة تمكنت من عقل وقلب قيادات الحزب الديمقراطي وجماهيره.



انقسام تاريخي





"
يضم اليسار الجديد في أمريكا والرافض للوضع القائم: الأفارقة الأميركيين والمهاجرين والشواذ والحركات النسوية والمثقفين والشباب والحركات المعادية للحرب
"
أصل هذه العادة يعود لشرخ تاريخي يقسم الحزب الديمقراطي منذ نهاية الستينيات لفريقين متناحرين متصارعين متساويين في النفوذ بشكل جلي وواضح، فريق يعرف باسم "اليسار الجديد" وفريق تقليدي يعرف باسم "الليبراليين الجدد".

يمثل اليسار الجديد القوى التي هزت أميركا والعالم في عقد الستينيات، بعدما فجرت بحرا من الثورات والحركات الجماهيرية الغاضبة التي أغرقت المجتمع الأميركي بشكل عام منذ منتصف الستينيات.


"اليسار الجديد" ضم جماعات تعبر عن الأفارقة الأميركيين والمهاجرين والشواذ والحركات النسوية والمثقفين والشباب والحركات المعادية للحرب وغيرها من الجماعات والحركات الثائرة التي رفضت الوضع القائم في أميركا ورأته وضعا تقليديا رجعيا لا يرتقي لعصر ما بعد الحرب العالمية الثانية.


الجماعات السابقة صعدت في أوساط الحزب الديمقراطي بسرعة فائقة رغم رفض ومقاومة النخب الديمقراطية التقليدية المسيطرة على الحزب، والتي شملت إقطاعي الجنوب والطبقات العاملة والمتوسطة البيضاء وبعض مثقفي الشمال البيض الليبراليين وصقور السياسة الخارجية داخل الحزب الديمقراطي.


وشهد عام 1968 صراعا طاحنا بين الفريقين أدى إلى انقسام الديمقراطيين في مؤتمرهم الانتخابي العام لفريقين، نخب تقليدية تسيطر على قاعات المؤتمر الداخلية ومرشحه الرسمي، ونخب ثائرة غاضبة ومتظاهرة خارج "المؤتمر العام" تريد طرح مرشحها المعبر عن "اليسار الجديد".


ويبدو أن انقسام الحزب في مؤتمر عام 1968 لفريقين متناحرين يتمتعان بقدر كبير من النفوذ والشعبية حمل في أحشاءه مستقبل الحزب لعقود قادمة، فمنذ ذلك الحين والحزب مقسم بين "يسار جديد" و"يسار تقليدي محافظ" تُطلق عليه تسميات مختلفة لأنه يتغير باستمرار بفعل هجرة كثير من أعضائه منذ ذلك الحين إلى الحزب الجمهوري.


كما بات انقسام الحزب بين جناحين متصارعين متساويين في القوة تقريبا أحد أهم سمات الديمقراطيين وأسباب ضعفهم وهزائمهم المتتالية، مما أدى لخسارتهم الرئاسة باستمرار، فمنذ عام 1968 -وهو العام الذي يؤرخ به لبداية الأزمة– وحتى الآن لم يفز الحزب الديمقراطي بالرئاسة إلا لمدة ثلاث دورات رئاسية فقط، حيث فاز جيمي كارتر بدورة رئاسية واحدة (1976-1980)، وفاز بيل كلينتون بدورتين رئاسيتين (1992-2000)، وذلك في مقابل فوز الجمهوريين بسبع دورات رئاسية في الفترة ذاتها.



صعود الليبراليين الجدد





"
ظهر التيار المحافظ داخل الحزب الديمقراطي المسمى الليبراليين الجدد أو "الطريق الثالث" عند تراجع اليسار وصعود اليمين وانقسام الحزب الديمقراطي وثورة قوى اليمين المسيحي المتدينة
"
تبلورت قيادات الليبراليين الجدد في ظروف الأزمة التي كان يمر بها الحزب الديمقراطي.

تزامنا مع هذه الأزمة، دخل الحزب الجمهوري فترة من أزهي عصوره السياسية، مستفيدا من صراعات الحزب الديمقراطي السياسية.


كان يستقبل جماعاته النازحة الرافضة لأجندة اليسار الجديد، وعلى رأسها أثرياء الجنوب والبيض من أبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة الذين رفضوا أجندة اليسار الجديد لأسباب أخلاقية أو حقوقية، حيث رأى بعضهم أن اليسار الجديد مفرط في علمانيته وتجاهله للدين وللثقافة التقليدية وفي مناصرته لحقوق الأقليات والمهاجرين، هذا إضافة إلى المحافظين الجدد الذين رفضوا أجندة اليسار الجديد على مستوى السياسية الخارجية، حيث شعروا بأن اليسار الجديد يبالغ في مهادنة أعداء أميركا كالاتحاد السوفياتي كما يبالغ في انتقاد إسرائيل.


أضف إلى ذلك الثورة الجماهيرية التي اشتعلت في أوساط اليمين الأميركي بقيادة الجماعات المسيحية المتدينة التي رفضت أجندة اليسار الجديد الأخلاقية والدينية.


في المقابل عانى اليسار الجديد نفسه من الفرقة والانقسام على الذات وغياب الأجندة الموحدة، إذ تكون اليسار الجديد منذ ولادته في منتصف الستينيات من جماعات فئوية متفرقة كالأفارقة والمهاجرين والمثقفين والحركات النسوية والشواذ وغيرهم، ولكل جماعة أجندة وقادة وممثلين، ولكنها أجندة وقيادات فئوية لا تتعلق بالضرورة بالصالح العام أو بأجندة الحزب الديمقراطي العامة.


في هذه الظروف تبلورت قيادات أو حركة جديدة للتيار المحافظ داخل الحزب الديمقراطي عرفت بأسماء مختلفة مثل "الليبراليين الجدد" أو "الطريق الثالث" وهي حركة ولدت من رحم الأزمة، أزمة تراجع اليسار وصعود اليمين، وانقسام الحزب الديمقراطي، وثورة قوى اليمين المسيحي المتدينة.


وكان عام 1985 فاصلا في صعود تلك الجماعات، حيث شهد تأسيس "مجلس القيادة الديمقراطي" وهو أحد أهم الجماعات السياسية المعبرة عن تيار الليبراليين الجدد فقد ضم المجلس أهم قادة التيار وعلى رأسهم بيل كلينتون، الذي تولى رئاسة المجلس في الفترة (1990-1991) وهي فترة قادت كلينتون والديمقراطيين للبيت الأبيض لدورتين متتاليتين، وهو أمر لم يتكرر منذ بداية أزمة الحزب الديمقراطي في أواخر الستينيات.


وبصعود كلينتون صعد نجم "الليبراليين الجدد" وتبلور جيلهم وصوتهم الجديد داخل الحزب حيث رأوا أن عودة الحزب للسلطة تتطلب سحب البساط من تحت أقدام اليمين من خلال ما يلي:



أولا: خطب ود الطبقة المتوسطة البيضاء عن طريق الاهتمام بقضاياها وعلى رأسها الأخلاق ومكافحة انتشار الجرائم بالمدن والاعتراف بالصعوبات التي عانت منها الطبقة المتوسطة البيضاء بسبب تبعات ثورة الحقوق والحريات المدنية.


ثانيا: تقليص برامج الرعاية الحكومية الموجهة لدعم الطبقات الفقيرة والأقليات، ومطالبة تلك الفئات بتحمل المسؤولية والاعتراف بدورها في إخراج أنفسها وعائلاتها من الفقر.


ثالثا: تبني خطاب أخلاقي وديني يحترم الأخلاق والدين يخاطب اهتمامات المتدينين من أبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة الرافضين لعلمانية النخب الليبرالية ولأجندتها الأخلاقية المتحررة.


رابعا: على مستوى السياسة الخارجية بدا الليبراليون الجدد بشكل عام أكثر حزما على ساحة السياسة الخارجية من اليساريين الجدد وقد فضل بعضهم التركيز على الداخل والتخلص من قضايا السياسة الخارجية بمشاكلها العديدة، في حين طالب آخرون برفض العزلة وتفضيل العمل الدولي الجماعي والتركيز على بناء المنظمات والمعايير الدولية في عصر ما بعد انتهاء الحرب الباردة، وهو الاتجاه الذي ساد أثناء حكم الرئيس بيل كلينتون.



بين بيل كلينتون وحرب العراق





"
أفرط الليبراليين الجدد في مهادنتهم لليمين الأميركي ولم يقدموا سياسات وسطية بديلة عن سياسات اليسار الجديد المتشددة في يساريتها وسياسات اليمين الأميركي الحاكم المتشددة في أصوليتها
"
فوز كلينتون ساهم في صعود الليبراليين الجدد داخل الحزب الديمقراطي، كما أضعف قوى اليسار الجديد داخله ولكنه لم يقض عليها، كما ساهمت أحداث 11-9 وما تبعها من حروب ومن صعود لقوى اليمين الأميركي والجمهوريين في تراجع أصوات اليسار داخل الحزب الديمقراطي والسياسة الأميركية بشكل عام.

وبهذا شهدت الفترة من 2000 إلى 2004 تراجعا مستمرا في نفوذ اليسار الجديد لأسباب مختلفة، ومع ذلك لم يتمكن الليبراليون الجدد من إخراج الحزب الديمقراطي من أزمته، ففي عام 2000 رشح الحزب الديمقراطي نائب بيل كلينتون (آل غور) ولكنه خسر الانتخابات، وفي عام 2004 رشح الحزب الديمقراطي جون كيري، والذي صوت لحرب العراق تماشيا مع أغلبية الليبراليين الجدد، ثم صوت ضد تشريع خاص بتمويل الحرب في الانتخابات التمهيدية لكي يرضي قواعد الحزب المعادية للحرب والتي ظلت تحت تأثير قوى اليسار الجديد، لذا بدا كيري في الانتخابات العامة منقسما على نفسه يقول بأنه "صوت لتشريع خاص بتمويل الحرب قبل أن يصوت ضده" وهو تناقض وانقسام داخلي واضح لم يتردد جورج بوش ومستشاره السياسي كارل روف في استغلاله كل الاستغلال، لذا خسر الديمقراطيون المنقسمون على أنفسهم الانتخابات.


هزيمة كيري والديمقراطيين في انتخابات عام 2004 مثلت نقطة تراجع غير مسبوقة لهم حيث سيطر الجمهوريون بعد الانتخابات على البيت الأبيض وعلى الكونغرس بمجلسيه وبات الديمقراطيون حزب أقلية بكل ما تعنيه الكلمة، كما باتوا يشعرون بأزمتهم على كل المستويات، على مستوى القيادة السياسية الغائبة، والتحالف الجماهيري المنقسم على نفسه، وغياب الحركات الجماهيرية النشطة والتي توازي قوى اليمين المسيحي متصاعدة النفوذ، وغياب الأفكار التي تعيد تقديم الليبرالية للشعب الأميركي.


وهنا يرى البعض أن الليبراليين الجدد أفرطوا في مهادنتهم لليمين الأميركي فبدل أن يقدموا سياسات وسطية بديلة عن سياسات اليسار الجديد المتشددة في يساريتها وسياسات اليمين الأميركي الحاكم المتشددة في أصوليتها شعر الليبراليون الجدد بالانهزامية في مواجهة قوى اليمين الأميركي مما دفعهم لتقديم سلسلة من التنازلات حتى وصل بهم الحال لتبني سياسات كحرب العراق، وبات من الصعب التفريق بين بعض قياداتهم وقيادات المحافظين الجدد على ساحة السياسة الخارجية.


وفي عام 2006 ثار الأميركيون ثورة شعبية تلقائية ضد كل من دعموا حرب العراق، لذا ثار الديمقراطيون ضد الليبراليين الجدد حتى إنهم رفضوا ترشيح السيناتور جوزيف ليبرمان بولاية كونيكتيكت التي فاز فيها ليبرمان بصفته مستقلا لا ديمقراطيا، والمعروف أن ليبرمان كان نائب آل غور في انتخابات 2000، كما أنه تولى رئاسة "مجلس القيادة الديمقراطي" وهو أهم منظمات الليبراليين الجدد السياسية لست سنوات في فترة التسعينيات، ولعل هزيمة ليبرمان كانت رمزا معبرا عن سخط الديمقراطيين على الليبراليين الجدد.


انتصار الديمقراطيين في انتخابات عام 2006 أدى إلى عودة الروح لقوى اليسار الجديد وتراجع قوى الليبراليين الجدد داخل الحزب بعد أن دعموا حرب العراق، ولكن هذا الانتصار لم يحسم الصراع داخل الحزب لصالح قوى اليسار الجديد، فسرعان ما شعرت القوى الجماهيرية اليسارية بأن قيادات الكونغرس الديمقراطي مترددة في تطبيق أجندتهم المعادية للحرب، حيث شهدت أواخر عام 2007 مشاعر غضب واسعة وسط الجماهير المعارضة للحرب ضد قيادات الديمقراطيين في الكونغرس، حيث رأى نشطاء الحرب أن قادة الديمقراطيين بالكونغرس لم يفوا بعهودهم الانتخابية.


وفي ظل الانقسام السابق بين قواعد الحزب اليسارية وقياداته المحافظة المترددة تمنى البعض أن تشهد انتخابات عام 2008 ظهور قيادات ديمقراطية جديدة تتخطى الانقسام بين يسار الحزب ويمينه بعدما أرهق الصراع بين اليساريين والليبراليين الجدد الحزب الديمقراطي وأنصاره لعقود.



هل يصلح أوباما ما أفسده الديمقراطيون؟





"
بدا أوباما كالمعجزة المحيرة وقد جعل منه سجله السياسي القصير بالكونغرس مرشحا يستحيل التأكد من نواياه
"
في الانتخابات الرئاسية التمهيدية (2008) وجد الناخبون الديمقراطيون أنفسهم أمام ثلاثة مرشحين بالأساس، وهم جون إدواردز (السيناتور السابق ونائب جون كيري في انتخابات 2004) وهيلاري كلينتون، وباراك أوباما.

إدواردز وهيلاري عبرا عن الليبراليين الجدد، مع فارق أساسي هو أن إدواردز غير جلده بوضوح بين انتخابات 2004 و2008، حيث مال في انتخابات 2008 إلى النزعة اليسارية منتقدا واشنطن وسياسييها والمؤسسات الحاكمة والأثرياء وحرب العراق، محاولا اجتذاب قواعد الحزب الديمقراطي اليسارية الثائرة ضد الحرب لمعسكره، ولكن تلك الجماعات لم تنس أن إدواردز ساند حرب العراق في 2002، وأن مواقفه على صعيد السياسة الخارجية يصعب وصفها باليسارية، وأنه محامي تعويضات ثري لا يصلح في دور المناضل من أجل الفقراء كما حاول تصوير نفسه، وذلك على الرغم من اعتذار إدواردز -في الانتخابات التمهيدية- عن تصويته لصالح قرار حرب العراق.


أما هيلاري فهي وريثة "الكلنتونية" الشرعية بمزاياها وعيوبها، وما عرف عنها من ذكاء ودهاء وقدرة مهولة على الصراع والتلون السياسي والانقضاض على الخصوم داخل الحزب وخارجه، وقدرة تنظيمية عالية وشهرة، ولكن هيلاري افتقدت قدرات بيل الخطابية، كما أنها بصفتها وريثة لليبراليين الجدد وقائدة لهم صوتت لحرب العراق ورفضت الاعتذار عن قرارها وتبنت سياسة خارجية يصعب تفريقها عن المحافظين الجدد.


أمام هذا المشهد صعد باراك أوباما المفاجأة التي هزت قواعد اللعبة داخل أروقة الحزب الديمقراطي، فالرجل مفاجأة لأنه لم يكن معروفا على الساحة السياسية الأميركية قبل عام 2004 حين ألقى خطابا رئيسيا في مؤتمر الحزب العام (يوليو 2004) وهو خطاب صعد بأوباما لعنان السماء نظرا لما كشف عنه من قدرات خطابية هائلة لم تتواجد سوى لدى عباقرة الحزب وقادته التاريخيين من أمثال بيل كلينتون وجون كيندي ومارتن لوثر كينغ.


كما أن أوباما بدا أسود يتحدث بلسان أبيض، أستاذ قانون تخرج من هارفارد وعمل في مساعدة وتنظيم الفقراء سياسيا في أحياء شيكاغو، معارض لحرب العراق يدعم الجنود ويرفض الخطاب الغاضب، مناصر للحقوق والحريات المدنية يرفض برامج الحكومة الكبيرة، ويطالب الأفارقة بأن يمنعوا أطفالهم من إهدار أوقاتهم أمام التلفاز، سياسي أسود متدين لا يجدد غضاضة في الحديث عن الدين أو عن تدينه أو عن ضرورة أن يحترم المتدينون علمانية أميركا.


وهكذا بدا أوباما المفاجأة كالمعجزة المحيرة فسجله القصير بالكونغرس وعلى الساحة السياسية بشكل عام يجعل من المستحيل التأكد من نواياه، وإن كان ذلك يمثل ميزة أحيانا، لأن التركة السياسية الثقيلة قد تتحول عبئا إذا ما باتت مادة للخصوم.


كما أن أوباما بات يمثل الكثير لجماعات كثيرة متعارضة أحيانا، فمعارضته للحرب وخلفيته الشخصية والعرقية جذبت إليه قوى اليسار الجديد كالمهاجرين والأفارقة الأميركيين والأقليات وغيرهم، كما أن خطابه عن الوحدة والأمل وتخطي الفروق العرقية والسياسية نال إعجاب الليبراليين الجدد والبيض التقدميين بشكل عام، كما أن شبابه وانتماءه لجيل جديد نال إعجاب الشباب وأعطى حكماء الديمقراطيين الأمل في أن يمثل أوباما جيلا جديدا يتخطى صراعات جيل الستينيات المسيطر على مقاليد الحزب والسياسة في أميركا، وهو جيل منقسم على ذاته وضد ذاته لا يمل الصراعات السياسية والفئوية والتحزب والحروب الحزبية والعرقية والثقافية والدينية والخارجية بشكل لا ينتهي.



2008 وعودة الانقسامات





"
صورت حملة ماكين أوباما على أنه سياسي قليل الخبرة خاصة في السياسة الخارجية وغير قادر على اتخاذ القرارات الصعبة المطلوبة لحماية أميركا من أعدائها وهو هجوم وضع حملة أوباما في موقف دفاعي صعب
"
لذا رأى بعض قادة الديمقراطيين مثل آل كينيدي أن أوباما يمثل أمل الحزب ورجل التغيير في مرحلة ما بعد جورج دبليو بوش، وتوالت الترشيحات والمراهنات على شخصية أوباما وقيادته المنتظرة للحزب، حتى حسم ترشيح الديمقراطيين له في الانتخابات التمهيدية.

ولكن فوزه جاء متأخرا -في أوائل شهر يونيو 2008- بعد أن خاض صراعا طويلا ومضنيا مع آل كلينتون أعتى قادة الليبراليين الجدد وأكثرهم شراسة ودهاء سياسيا، حتى قيل إن هجوم آل كلينتون على أوباما بات الأساس الذي بنى عليه جون ماكين المرشح الجمهوري حملته ضد أوباما.


وهو أمر حذرت منه بعض استطلاعات الرأي الأميركية، كالاستطلاع الصادر عن مركز بيو(PEW) للأبحاث في أوائل شهر مارس/آذار 2008 والذي أشار إلى أن ربع مساندي هيلاري كلينتون قد يصوتون للمرشح الجمهوري للرئاسة جون ماكين إذا لم تفز هيلاري بترشيح الديمقراطيين، وهو موقف ذهب إليه 10% من مساندي أوباما.


كما توصل استطلاع للمركز ذاته أجرى في أوائل شهر أغسطس/آب الحالي أن 18% من مساندي هيلاري كلينتون سوف يدعمون ماكين في الانتخابات المقبلة.


كما أن ماكين ليس قائدا جمهوريا عاديا، فهزائم الجمهوريين الأخيرة الكبيرة فرضت عليهم الدفع بواحد من أهم وأدهى قادتهم السياسيين، قائد رفعه الديمقراطيون أنفسهم إلى عنان السماء وجعلوا منه بطلا قوميا بعدما عارض ولسنوات عددا كبيرا من أهم سياسات إدارة بوش الأولى الداخلية والخارجية بما في ذلك أسلوب إدارة حرب العراق.


رجل يمتلك سجلا طويلا وحافلا بالإنجازات السياسية التي حقق بعضها رغم أنف الجمهوريين أنفسهم، وتشير استطلاعات حديثة لآراء الناخبين الأميركيين إلى أن ماكين تمكن في أوائل شهر أغسطس/آب من تقليل الفارق بينه وبين أوباما لدى الناخبين الأميركيين إلى 3% فقط (46% لأوباما و43% لماكين) بعدما كان أوباما متقدما على ماكين بـ8% في أوائل شهر يونيو/حزيران الماضي، ويعود ذلك لتحقيق ماكين تقدما في توحيد أبناء حزبه حوله وفي الفوز بدعم مزيد من الرجال والبيض وكبار السن وأصحاب المستوى التعليمي المنخفض والبروتستانت التبشيريين البيض وكذلك بعض أبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة.


كما شنت حملة ماكين –على غرار حملة هيلاري كلينتون- هجوما واسعا على أوباما لمحاولة تصويره على أنه سياسي قليل الخبرة خاصة على صعيد السياسة الخارجية وغير قادر على اتخاذ القرارات الصعبة المطلوبة لحماية أميركا من أعدائها، وهو هجوم وضع حملة أوباما في موقف دفاعي صعب كما تشير تقارير مختلفة.


أضف إلى ذلك تشير استطلاعات للرأي أجريت في أواخر يونيو/حزيران الماضي إلى أن 20% من الناخبين البيض و28% من الناخبين السود يعتقدون أن خلفية أوباما العرقية أي كونه "أفريقيا أميركيا" سوف تضره في الانتخابات العامة، كما يعتقد 12% من الناخبين أن أوباما مسلم، وكانت استطلاعات أخرى سابقة قد أشارت إلى أن 45% من الأميركيين لن يصوتوا لرئيس مسلم.


بهذا يأتي مؤتمر الحزب العام في الخامس والعشرين من أغسطس/آب الحالي والحزب بين خوف ورجاء، أمل في المستقبل وأوباما، وخوف من شبح الفرقة وغضب آل كلينتون ودهاء الجمهوريين وجون ماكين.


خلاصة



في خاتمة هذه الورقة يجب التأكيد على الخلاصات الهامة التالية:



أولا: الانقسام الكبير الذي عانى منه الحزب الديمقراطي في موسم الانتخابات الرئاسية التمهيدية الحالي (2008) ليس جديدا، بل له جذور تاريخية ارتبطت بالصراع المزمن بين جناحي الحزب الديمقراطي (اليسار الجديد في مواجهة الليبراليين الجدد).


ثانيا: الحزب الديمقراطي يبدو في حاجة ملحة لأجندة جديدة تتخطى الانقسام التاريخي السابق وتعيد تعريف أجندة الحزب بشكل يرضى قواعده اليسارية والمحافظة في آن واحد، ويعيد صياغة الأجندة الليبرالية في شكل جديد يحافظ على مكاسب الحزب في انتخابات 2006 ويعززها، وهي مهمة ليست بالسهلة.


ثالثا: يعقد الحزب آمالا واسعة على أوباما في تحقيق الهدف السابق نظرا لخلفيته العرقية والثقافية الفريدة والمركبة وقدراته الخطابية العالية وقدرته على التواصل مع الناخب الأميركي، وإن كان أوباما يواجه تحديا آخر لا يقل أهمية، وهو الاستعداد لمواجهته الصعبة مع ماكين على مدى الشهرين المقبلين وحتى الانتخابات الرئاسية (نوفمبر 2008).


في هذا السياق ينظر الديمقراطيون والمتابعون لمؤتمر الحزب المقبل على أنه اختبار هام لحالة الحزب وقدرته على تخطي تحدياته الداخلية التاريخية وعلى رأسها توحيد صفوف الحزب والتوصل لأجندة جذابة تقود الحزب وأميركا في عصر ما بعد ولاية الرئيس جورج دبليو بوش.


كما يعد المؤتمر اختبارا مفصليا لقدرة أوباما على تقديم نفسه بصورة جديدة تعزز ثقة الناخب الأميركي فيه وتثبت أن أوباما ليس مجرد ظاهرة خطابية، وإنما هو سياسي قدير قادر على طرح أفكار وسياسات جديدة وذكية لعلاج مشاكل أميركا الداخلية والخارجية المتفاقمة.
_______________
كاتب ومحلل مصري باحث
تم إعداد هذه الورقة بتاريخ 24 أغسطس/آب 2008
جميع الحقوق محفوظة لمركز الجزيرة للدراسات © 2008

نبذة عن الكاتب