الأزمة الجورجية

ترصد هذه الورقة تأثيرات الأزمة الجورجية على مستوى منطقة القوقاز خاصة وعلى صعيد العلاقات الدولية عامة، وذلك في ضوء مؤشرات عودة موسكو لدورها الإقليمي.









إعداد: د. بشير موسى نافع



ملخص









بشير نافع
لا شك أن اندلاع الأزمة الروسية الجورجية ستكون له تأثيرات عامة وتداعيات على المدى البعيد، سواء على المحيط الإقليمي الروسي في منطقة القوقاز أم على صعيد العلاقات الدولية عامة. إن إقدام الجيش الروسي على دخول جورجيا يعطي مؤشرات قوية على عودة موسكو إلى ممارسة دور نشط في فضائها الإقليمي الموروث عن الاتحاد السوفياتي سابقا، وكذا على الصعيد العالمي. صحيح أن الولايات المتحدة الأميركية ستظل إلى أمد بعيد القوة العالمية الرئيسية، بيد أن زمن الانفرادية الأميركية بمصير العالم قد ولى لصالح مرحلة جديدة أكثر تعددية وتنافسا بين الأقطاب الدولية.




1





"
هذه أزمة غير مسبوقة في منطقة القوقاز منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وغير مسبوقة في تاريخ العلاقات الروسية الغربية منذ نهاية الحرب الباردة وستكون لها عواقب إقليمية كما ستفتتح عهدا جديدا في العلاقات الدولية
"
تحركت القوات الجورجية في ليلة السابع والثامن من أغسطس/آب 2008 لفرض سيطرتها على مقاطعة أوسيتيا الجنوبية، التي تتمتع بحق الحكم الذاتي منذ العهد السوفياتي. ففي الوقت الذي كان العالم يراقب العرض الصيني المذهل في افتتاح الألعاب الأولمبية، نجحت دبابات الجيش الجورجي، تحت غطاء من القصف الجوي وباستخدام كثيف للنيران، في احتلال العاصمة الأوسيتية تسخينفالي. أوقعت القوات الجورجية في طريقها دمارا واسعا بالقرى الأوسيتية وبعاصمة المقاطعة، مما أدى إلى فرار عشرات الآلاف نحو الحدود مع روسيا وإلى أوسيتيا الشمالية. ولم تتردد القوات الجورجية في توجيه سلاحها نحو القوات الروسية المرابطة في أوسيتيا كقوات حفظ سلام، موقعة عددا من القتلى. خلال ساعات قليلة، اجتمع الرئيس الروسي ميدفيديف بمجلس الأمن القومي الروسي وأعطى أوامره للقوات الروسية الخاصة ولفرقة المدرعات المتمركزة في القوقاز الروسي لوضع حد للهجوم الجورجي واستعادة الأمن في العاصمة الأوسيتية. لم تستمر السيطرة الجورجية على أوسيتيا أكثر من يوم واحد، ولكن الجيش الروسي لم يكتف بطرد الجورجيين، بل عمل خلال الأيام القليلة التالية على تدمير القدرات العسكرية الجورجية كلية: وحدات وقواعد إمداد، مطارات، موانئ، ومراكز رادار. وقد نجم عن الهجوم الروسي انهيار شامل في الجيش الجورجي، الذي عملت الولايات المتحدة على تدريبه وإعادة بنائه في السنوات الأربع الماضية.

أُرسلت تعزيزات روسية أخرى إلى أبخازيا، المقاطعة الأخرى ذات الحكم الذاتي، التي تطالب بدورها بالاستقلال عن جورجيا. وقد ساعد رد الفعل الروسي المتصاعد على المغامرة الجورجية والتعزيزات الروسية العسكرية في أن تنجح أبخازيا في طرد القوات الجورجية نهائيا من المنطقة الحدودية. من جهة أخرى، تدفق الآلاف من المتطوعين الأوسيتيين الشماليين، بتشجيع روسي، نحو أوسيتيا الجنوبية، لتقديم العون والحماية لأشقائهم.


في هذه المنطقة من الإمبراطورية الروسية القيصرية، ولدت تقاليد القوزاق الشهيرة، المسلحون المحليون الذين حرسوا حدود الإمبراطورية الجنوبية عشرات السنين. وحتى الآن، تسمح الدولة الروسية في هذه المنطقة من الاتحاد الروسي للأهالي بالاحتفاظ بسلاحهم. وأوسيتيا الشمالية هي جزء لا يتجزأ من الاتحاد الروسي، إضافة إلى أن أغلب سكان أوسيتيا الجنوبية يحملون جوازات سفر روسية. وقد أثارت التقارير حول بشاعة الهجمة الجورجية العواطف القومية للأوسيتيين الروس، مما تسبب خلال الأيام القليلة التي تلت السيطرة الروسية في أن تقوم مليشيات المتطوعين بعمليات ثأر ضد السكان الجورجيين القلائل في أوسيتيا، أو في مدينة غوري الجورجية المجاورة لأوسيتيا، وتهجير من تبقى من الجورجيين في أوسيتيا.


أطلقت الأزمة تحركا دبلوماسيا واسع النطاق، لا سيما في أوروبا. وقد نجح الرئيس الفرنسي، الذي تقود بلاده الاتحاد الأوروبي في هذه الفترة، في إقناع القيادة الروسية بقبول اتفاق لوقف إطلاق النار والحيلولة دون تفاقم الأزمة. ولكن الرئيس الروسي لم يوقع على الاتفاق، انتظارا لتوقيع الحكومة الجورجية عليه قبل ذلك. وكان مثيرا للاهتمام أن ساكاشفيلي وقع على الاتفاق، بعد أسبوع من اندلاع الأزمة، بحضور وطلب من وزيرة الخارجية الأميركية، مما أشار إلى قبول واشنطن للأمر الواقع. الاتفاق، الذي جاءت صياغته أقرب لوجهة نظر موسكو، تحدث عن روسيا ليس كطرف في الحرب، بل كحافظ للسلام، وأعطى القوات الروسية الحق في الوجود في مقاطعتي أوسيتيا وأبخازيا وفي التعامل مع مصادر التوتر خارجهما. وقد فسر الروس الاتفاق بالتالي بأنه لا يحدد جدولا زمنيا للانسحاب من جورجيا. والواضح أن تباطؤ موسكو في سحب قواتها من الأراضي الجورجية يقصد به إجبار الحكومة الجورجية على بدء تفاوض مع حكومتي أوسيتيا وأبخازيا، وهو ما يعني بالضرورة التفاوض حول مستقبل المقاطعتين المنشقتين.








في بداية الأزمة، صدرت عن واشنطن تصريحات عامة، تطالب بوقف القتال والعودة إلى التفاوض. ولكن الانهيار الجورجي، وتوسع نطاق الهجمة الروسية، وتبلور موقف روسي لا يحتمل التأويل يدعو إلى استقلال أوسيتيا وأبخازيا عن جورجيا، صعّد من لغة التصريحات الأميركية ضد موسكو، سواء تلك الصادرة عن الرئيس بوش أو عن وزيرة خارجيته ووزير دفاعه.

أكد الرئيس الأميركي ضرورة انسحاب القوات الروسية من جورجيا، ورفض البحث في مستقبل أوسيتيا وأبخازيا باعتبارهما جزءا من الكيان الجورجي. ولكن التهديدات الأميركية بمعاقبة روسيا سياسيا، مثل طردها من مجموعة الثماني الكبرى أو إيقاف مساقات التعاون بينها والاتحاد الأوروبي، لم تجد صدى لها في العواصم الأوروبية الرئيسية.


هذه أزمة غير مسبوقة في منطقة القوقاز منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وهي أزمة غير مسبوقة في تاريخ العلاقات بين روسيا من جهة، والولايات المتحدة وأوروبا الغربية من جهة أخرى، منذ نهاية الحرب الباردة وتفكيك الكتلة الشيوعية والاتحاد السوفياتي. وستكون لهذه الأزمة عواقب إقليمية، كما قد تفتتح عهدا جديدا في العلاقات الدولية.



2





"
محاولة ستالين حل المسألة القومية داخل الإطار السوفياتي ساهمت في كثير من المناطق في تبلور هويات قومية متنافرة من موروث قبلي وعشائري وصُنع حدود للأمة لم تكن معروفة من قبل
"
الذين تصوروا أن البلقان، بتعدديته القومية والدينية الفسيفسائية، مفرخ دائم للحرب لم يعرفوا القوقاز. فسواء في جنوب القوقاز أو في شماله، تتداخل الإثنيات والأديان والطوائف كما لا تتداخل في أية بقعة أخرى من العالم. هنا، حيث يصعب تصور الكيفية التي تحولت بها القبائل إلى قوميات، تواجه العلوم الاجتماعية الحديثة واحدا من أبرز تحديات القصور الإنساني.

هنا، يختلط الأرمن بالجورجيين، والروس بالآذريين، والشيشان باللاز، والداغستانيين بالأبخاز، والأكراد بالتتر. جورجيا، التي لا يصل تعداد سكانها إلى خمسة ملايين نسمة، لا تضم منطقتي أبخازيا وأوستينيا وأجاريا، التي يفترض تمتعها بالحكم الذاتي وحسب، بل هي تضم إلى جانب ذلك أطيافا أخرى من المجموعات الإثنية المختلفة بما في ذلك الروس وعدد لا يحصى من الديانات والطوائف. وبالرغم من أن أغلبية سكان جورجيا من المسيحيين الأرثوذكس، فإن 10% منهم مسلمون.


في مقاطعة أجاريا الجنوبية الغربية يصل المسلمون إلى زهاء 60% من السكان، تربطهم بسكان الساحل التركي الشرقي للبحر الأسود روابط عرقية ودينية وثقافية. وقد ظلت هذه الشعوب، الجبلية في أغلبها، جزءا من فضاء إمبراطوري أوسع، ساعد في حفظ مستوى نسبي من السلام بينها. قبل بدء الزحف الروسي نحو الجنوب الدافئ، كان القوقاز في معظمه عثمانيا؛ وبعد أن سيطر عليه الروس لم يختلف الوضع كثيرا من جهة الإطار الإمبراطوري.


ولكن محاولة ستالين حل المسألة القومية داخل الإطار السوفياتي ساهم في كثير من المناطق في تبلور هويات قومية متنافرة من موروث قبلي وعشائري، وصنع حدودا للأمة لم تكن معروفة من قبل. ساد السلم القوقازي بقوة المركز السوفياتي المطلقة، وبانهيار الاتحاد السوفياتي انفجرت الصراعات الإثنية والدينية والأهلية في طول القوقاز وعرضه.


في سنتي 1992 و1993 حاولت جورجيا، المستقلة حديثا عن الاتحاد السوفياتي، حسم أوضاع الحكم الذاتي لأوسيتيا وأبخازيا بقوة السلاح. ولكن مقاومة المقاطعتين والدعم الروسي لهما أفشل المحاولة، وأدى إلى تغيير سياسي في تبليسي، جاء بوزير الخارجية السوفياتي الأسبق شيفارنادزه رئيسا، كما سمح للقوات الروسية بالوجود في المقاطعتين كقوات لحفظ السلام، إلى حين التوصل إلى حل مرض لكافة الأطراف. في 2004 أوصل الدفع الأميركي، الرسمي وغير الرسمي، في الجمهوريات السوفياتية السابقة الرئيس الشاب ساكاشفيلي إلى رئاسة جورجيا، بعد أن كانت ثورة شعبية لم تخل من أياد أميركية، حملت شعارات التحول الديمقراطي، أطاحت بشيفارنادزه.


تلقى ساكاشفيلي تعليمه في الولايات المتحدة، ويعتقد على نطاق واسع أنه يتمتع بدعم قوي من دوائر المحافظين الجدد في واشنطن ومن مكتب نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني. وقد أوضح ساكاشفيلي من البداية أنه بصدد قيادة جورجيا إلى التحالف مع الولايات المتحدة، وأعرب عن رغبة بلاده في توثيق علاقتها مع الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وأكد أن أولويته الداخلية هي إعادة توحيد جورجيا. في 2004 شرع البرلمان الجورجي قانونا جديدا لتنظيم وضع مقاطعة أجاريا ذات الأغلبية المسلمة، أعاد سيطرة تبليسي على المقاطعة وجعل من حكمها الذاتي مجرد صورة شكلية.





"
تحول ساكاشفيلي إلى أحد الأبطال الصغار لدوائر المحافظين الأميركيين الجدد ولم يلبث أن أصبح شريكا في احتلالي أفغانستان والعراق
"
وقد أدى الضغط الجورجي إلى استقالة رئيس أجاريا وذهابه إلى المنفى. ولكن مشكلتي أبخازيا وأوسيتيا كانتا أكثر صعوبة، لوجودهما على الحدود الروسية، وتمتعهما بدعم من موسكو، ولوجود قوات حفظ السلام الروسية على أراضيهما، ولقدرتهما الأعلى على المقاومة.

خلال السنوات القليلة التالية تحولت جورجيا إلى محمية أميركية بكل ما في الكلمة من معنى، تعتمد إلى حد كبير على المساعدات الغربية، العسكرية وغير العسكرية، ويقيم خبراء أميركيون وإسرائيليون في معسكرات جيشها، وترتكز مؤسساتها الأمنية على علاقات تبليسي الأميركية والأوروبية الغربية. وبالرغم من الفساد المتفشي في أوساط المجموعة الحاكمة التي يقودها ميخائيل ساكاشفيلي، فإن واشنطن ظلت تعتبر جورجيا مثالاً للثورة والتحول الديمقراطيين في العالم.


تحول ساكاشفيلي إلى أحد الأبطال الصغار لدوائر المحافظين الأميركيين الجدد، ولم يلبث أن أصبح شريكا في احتلالي أفغانستان والعراق. وقبل أسابيع من انفجار الوضع في القوقاز الجنوبي، تقدمت جورجيا بطلب الانضمام إلى حلف الناتو في اجتماع قمة دول الحلف المنعقد في بوخارست. وبالرغم من الدعم الأميركي الكبير للطلب الجورجي، فقد رفضت فرنسا وألمانيا المصادقة على الطلب، ربما خشية تورط الحلف في منطقة القوقاز القلقة والمتوترة.


ليس من الواضح ما الذي جعل الرئيس الجورجي يأخذ قراره استعادة السيطرة على أوسيتيا بقوة السلاح، وفي هذا الوقت بالذات. ثمة مؤشرات عديدة على أن جورجيا كانت تنحدر سريعا نحو أزمة اقتصادية، كما أن الصراع المحتدم على السلطة في تبليسي كشف الستار عن حكم يرتكز إلى شبكة واسعة من الفساد والمحسوبية. إدخال جورجيا غمار حرب يساعد على إعادة تموضعها السياسي في إطار من الشعور الوطني والوحدة خلف هدف الحفاظ على السيادة الوطنية، مما قد يعزز وضع الرئيس ويحقق اصطفاف الجورجيين حوله.


ولأن صعود ساكاشفيلي إلى الحكم ارتبط ارتباطا وثيقا بإدارة الرئيس بوش، فربما خشي الرئيس الجورجي أن الإدارة الأميركية القادمة لن توفر له نفس الدعم الذي وفرته له الإدارة الحالية. وقد ربطت مصادر أوروبية بين توقيت الهجمة العسكرية الجورجية وغياب رئيس الوزراء الروسي بوتين في بكين، ضيفا على الاحتفالات الأولومبية، إذ ربما ظن ساكاشفيلي أن سيطرة قواته السريعة على عاصمة أوسيتيا (القريبة جدا من الحدود مع جورجيا)، في ظل وجود رئيس روسي غير مجرب في موسكو، سيوفر له وقتا كافيا لتعزيز قبضته العسكرية على أوسيتيا، وينقل بالتالي الملف إلى المؤسسات الدولية، حيث تتمتع جورجيا بدعم غربي كبير.


المؤكد أن كل الدول الأوروبية تقريبا فوجئت بخطوة ساكاشفيلي، ولكن ثمة تكهنات بأن مكتب نائب الرئيس الأميركي تشيني، على الأقل، كان على علم مسبق بالمخطط الجورجي، وربما شجع عليه. في كل الأحوال، تصور ساكاشفيلي أيضا أن واشنطن لن تسمح بتدخل روسي عسكري مباشر في أوسيتيا.



3





"
لم يكافئ الغرب روسيا على التفكيك السلمي للاتحاد السوفياتي ولم يعاملها كشريك، بل أخذ يملي عليها سياساته ويمعن في إهانتها
"
من وجهة النظر الإستراتيجية الغربية، تتمثل أهمية جورجيا في ضرورتها كممر لأنابيب النفط والغاز القادمة من بحر قزوين نحو الشاطئ الجورجي للبحر الأسود ونحو ميناء جيهان التركي، الذي قصد به تجنب أراضي روسيا وإيران.

كما تنظر واشنطن إلى جورجيا باعتبارها عضوا قادما في حلف الناتو، يُحكِم حصار الناتو على روسيا، ويحرر الحلف من احتمالات بروز خلافات ما في المستقبل مع تركيا. وليس ثمة شك أن جورجيا تفتح في هذه الحالة ممرا للأميركيين نحو القوقاز الروسي، الذي يعج بالقوميات والمذاهب والأديان القلقة.


وترى واشنطن في روسيا مشكلة تنبع في جوهرها من أن الاتحاد السوفياتي تعرض للانهيار ولم يهزم في الحرب. خرجت روسيا، مركز الاتحاد السوفياتي وقوته الرئيسية، من الحرب الباردة ضعيفة منهكة، ولكنها احتفظت بمقومات تسلحها وإمكاناتها الصناعية العسكرية، وبنية دولتها. منذ نهاية الثمانينيات وخلال التسعينيات، انسحبت روسيا من موقع تلو الآخر في أوروبا الشرقية وفي الجمهوريات التي شكلت جزءا من الإمبراطورية الروسية حتى قبل ولادة الاتحاد السوفياتي.


لم يكافئ الغرب روسيا على التفكيك السلمي للاتحاد السوفياتي، ولم يعاملها كشريك، بل أخذ يملي عليها سياساته ويمعن في إهانتها. أغلب دول وسط وشرق أوروبا ضُم إلى الاتحاد الأوروبي، وقد قادت واشنطن سياسة توسيع الناتو منذ عهد الرئيس السابق كلينتون، بحيث أصبح الحلف جارا لروسيا. وفي قلب البلقان، قاد الغرب سياسة تشظ ولدّت من الاتحاد اليوغسلافي سلسلة من الدول الوسيطة والمجهرية.






"
من المؤكد أن الصرامة التي أعاد بها بوتين خلال السنوات الثماني الماضية بناء آلة الدولة الروسية والارتفاع الهائل في أسعار النفط أخرجا روسيا كلية من أزمة التسعينيات الطاحنة
"
أسس الأميركيون قواعد لهم في وسط آسيا السوفياتية السابقة بدوافع محاربة الإرهاب، وشجعوا ونظموا الثورة وراء الأخرى لإطاحة حكام الجمهوريات السوفياتية السابقة الذين حافظوا على علاقات وثيقة بموسكو. وبعد موافقة بولندا والتشيك على نشر صواريخ أميركية مضادة للصواريخ، ثمة مؤشرات على أن واشنطن ترغب في إقامة قواعد مشابهة في أوكرانيا وجورجيا، على الحدود الروسية مباشرة. وتقوم الولايات المتحدة بالفعل ببناء قواعد لها في كل من رومانيا وبلغاريا على البحر الأسود تحت مظلة ما يعرف بقوات المهمات الخاصة تدعى الشرق (Task Force East).

عندما قام حكام الأرجنتين العسكريون باحتلال جزر الفوكلاند التابعة لبريطانيا في 1982، علق وزير الخارجية الأميركية الأسبق هنري كيسنجر قائلا: "ليس هناك قوة كبرى تنسحب إلى الأبد". وسرعان ما صدقت توقعات كيسنجر، وأخذت مارغريت تاتشر قرارا باستعادة الفوكلاند، البعيدة عن الساحل البريطاني آلاف الأميال، بالقوة المسلحة. روسيا، التي لم تعد بنفس قوة وتأثير وحجم الاتحاد السوفياتي، لم تزل مع ذلك قوة كبرى بلا شك.


وليس ثمة شك في أن الصرامة التي أعاد بها بوتين خلال السنوات الثماني الماضية بناء آلة الدولة الروسية والارتفاع الهائل في أسعار النفط أخرجا روسيا كلية من أزمة التسعينيات الطاحنة. والمغامرة العسكرية التي أقبل عليها الرئيس الجورجي متحديا إرادة الكرملين تدور رحاها على حدود روسيا الجنوبية، في المحيط الهام للبحر الأسود، وتطال جدار الأمن الروسي القوقازي الإستراتيجي، وتمس صورة روسيا وكرامتها. وقد رأت موسكو في مغامرة الرئيس الجورجي الحمقاء المناسبة الأمثل لوضع حد لانسحاب روسيا المستمر منذ نهاية الثمانينيات. روسيا، بكلمة أخرى، في وضع المدافع عن النفس أكثر منها في وضع الهجوم، بعد أن وصلت سياسة توسيع الناتو إلى حلق الأمة الروسية، كما قالت البرافدا.


بيد أن الدفاع الروسي جاء مدويا وانتقاميا، مشيرا إلى غضب القيادة الروسية الحالية والذي لم يطفئه مرور السنوات من الاستهتار الأميركي بروسيا ومن تفكيك الاتحاد السوفياتي. فدول مثل أوكرانيا وجورجيا وجمهوريات وسط آسيا الإسلامية كانت جزءا من الإمبراطورية القيصرية قبل ولادة الاتحاد السوفياتي، ولا علاقة لها بتشكيل الكتلة الشيوعية وحلف وارسو في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وينظر في موسكو إلى النفوذ الأميركي المتزايد في هذه الدول باعتباره تهديدا قوميا مباشرا يتعلق بالأمن القومي الروسي في ثوابته التاريخية، ويضاعف من التهديد الذي يمثله نشر الصواريخ المضادة للصواريخ في بولندا والتشيك.


ويمكن أن يرى عنف الرد الروسي باعتباره رسالة موجهة إلى واشنطن، تحمل نفاد صبر روسيا من الحصار الإستراتيجي الذي تتعرض له، ورسالة أخرى للشعب الجورجي تستبطن ضرورة التخلص من الرئيس المغامر ومن سياسة تهديد المصالح الروسية، ورسالة ثالثة لأوكرانيا التي تسعى لعضوية الناتو؛ وباعتباره خطوة تستهدف تقويض القدرات الجورجية لأطول فترة ممكنة، تصنع حقائق جديدة على الأرض، وتساعد على التوصل إلى حل لمشكلتي أوسيتيا وأبخازيا يستجيب للمصالح الروسية.


وفي المقابل، لم يكن بإمكان واشنطن التدخل العسكري لحماية جورجيا، فأغلب دول العالم، ومعظم الدول الأوروبية الغربية الرئيسية، تُحّمل الرئيس الجورجي مسؤولية اندلاع الأزمة. الدول الأوروبية التي وقفت إلى جانب جورجيا هي الدول الشيوعية السابقة، مثل بولندا وأوكرانيا ودول البلطيق، التي لا تُعتبر في صف الشركاء الرئيسيين في الاتحاد الأوروبي أو في حلف الناتو.


من جهة أخرى، التدخل الأميركي العسكري كان يعني صداما مباشرا مع روسيا يحمل احتمالات التحول إلى حرب طاحنة في القارة الأوروبية. إضافة إلى ذلك، فإن التدخل الأميركي العسكري يوحي بأن واشنطن كانت طرفا في اندلاع الأزمة، بينما حرصت الإدارة الأميركية على إبقاء مسافة بينها وبين قرار الرئيس الجورجي اجتياح أوسيتيا. عدم التدخل الأميركي العسكري لا يعني أن واشنطن تقبلت الكيفية التي تطورت بها الأزمة. فما أن اتضح حجم الرد الروسي، وبدأت موسكو التحدث بوضوح عن انفصال أوسيتيا وأبخازيا وعن ضرورة أن يأخذ الشعب الجورجي قرارا بحق مستقبل رئيسه، حتى أدركت إدارة بوش أن الرسائل الروسية موجهة لها أولا وليس لتبليسي، وأن الهزيمة الجورجية باتت هزيمة لسياستها في القوقاز وليس فقط لساكاشفيلي. وهذا ما يجعل الأزمة أكبر من مشكلة روسية جورجية.



4






"
من المستبعد أن توافق موسكو على نشر قوات دولية على الحدود بين المقاطعتين المنشقتين وجورجيا، وستصر على أن حكومتي المقاطعتين اختارتا أن تكون القوات الروسية هي المسؤولة عن حفظ السلام
"

في فبراير/شباط الماضي، تخلت الولايات المتحدة والدول الأوروبية عن القرار الدولي الذي وضع حدا للحرب في كوسوفو، واعترفت باستقلال المقاطعة اليوغسلافية السابقة ذات الأغلبية الألبانية. استندت المسوغات الأميركية لاستقلال كوسوفو إلى وضع الحكم الذاتي الذي تمتعت به في ظل الاتحاد اليوغسلافي السابق، إلا أن عواقب الصراع الذي دار على أرض كوسوفو لم تعد تسمح بعودة الألبان للعيش في ظل دولة صربية، وإلى حقائق الواقع الجديد الذي صنعه الوجود الأممي في كوسوفو.

مثل هذه المسوغات باتت متوفرة جميعا في العلاقة بين أوسيتيا وأبخازيا من جهة، والدولة الجورجية من جهة أخرى. وهو ما يدفع الأوسيتيين والأبخازيين، ومعهم روسيا بالطبع، إلى طرح السؤال المنطقي تماما: إن كان من حق كوسوفو الحصول على الاستقلال، فلماذا لا يكون من حق أوسيتيا وأبخازيا الحصول على استقلال مشابه؟ بيد أن من الواضح أن الولايات المتحدة (ومعها بريطانيا وألمانيا على الأقل) ليست في وارد الموافقة على انفصال المقاطعتين. مقارنة بقضية كوسوفو، تدرك الدول الغربية أن لا حجة لها في معارضة استقلال أوسيتيا وأبخازيا، ولكن المخاوف الغربية في هذه الحالة لا تقتصر على جورجيا، التي لم تسيطر على المقاطعتين المنشقتين منذ تفكيك الاتحاد السوفياتي، بل على احتمال أن تصبح جورجيا سابقة تتبعها حالات مشابهة في دول مثل أوكرانيا.


من الناحية النظرية، قد لا تكون روسيا في حاجة ملحة للموافقة الغربية على استقلال المقاطعتين. فإذا اختار سكان كل من أوسيتيا وأبخازيا الاستقلال عن جورجيا والانضمام للاتحاد الروسي، فليس على موسكو سوى منح المقاطعتين حقوق الحكم الذاتي (مثل داغستان والشيشان)، وإعطاء السكان جوازات سفر روسية. والواقع أن قطاعا كبيرا من سكان المقاطعتين يحمل بالفعل جوازات سفر روسية، كما أن اقتصاد المقاطعتين يرتبط بالاتحاد الروسي أكثر منه بالجوار الجورجي. وفي حالة أوسيتيا على وجه الخصوص تربط ارتباطات إثنية وثقافية وعائلية الأوسيتيين الجنوبيين بأشقائهم في أوسيتيا الشمالية التي هي جزء من الاتحاد الروسي.


ولكن مثل هذا السيناريو سيخلق مشاكل قانونية لروسيا، وسيسهل وصفه بضم أراضي دول أخرى بالقوة. روسيا لن تقدم على مثل هذه الخطوة بدون تحسس ردود الفعل الغربية، لا سيما الدول الأوروبية الرئيسية. حتى تتوفر الظروف المواتية، فمن المستبعد أن توافق موسكو على نشر قوات دولية على الحدود بين المقاطعتين المنشقتين وجورجيا، وستصر على أن حكومتي المقاطعتين اختارتا أن تكون القوات الروسية هي المسؤولة عن حفظ السلام. وقد تستمر مشكلة وضع المقاطعتين بالتالي لعدة سنوات قادمة.



5





"
ما يخيف الحكومة الأوكرانية أن تكون جورجيا مقدمة لتحرك روسي ضد أوكرانيا يؤدي إلى انقسام الشرق الأوكراني عن الغرب وانقسام شبه جزيرة القرم عن الشمال
"
إقليميا، تطرح الأزمة الجورجية أسئلة هامة على عدد من دول الجوار الجورجي، وموقف هذه الدول من السياسات الروسية والأميركية.


تواجه تركيا، على وجه الخصوص، أزمة لا تقل في تعقيدها عن أزمة الغزو الأميركي للعراق في 2003، إن لم تزد. ترتبط تركيا بصلات تاريخية مع شعوب القوقاز، وهي بالطبع عضو في حلف الناتو. ونظرا للخشية التركية التاريخية، ذات الجذور العثمانية، من القوة الروسية، فقد شعرت أنقرة بمزيد من الاطمئنان بعد انهيار الاتحاد السوفياتي واستقلال دول عازلة في القوقاز بين الحدود التركية الشمالية والحدود الروسية. ولكن تركيا تبرز الآن قوة إقليمية ذات طموح قومي كبير، وليس ثمة قوة إقليمية يمكنها تحقيق طموحاتها في ظل دولة عظمى واحدة متفردة في العالم. بالتأكيد أن سياسة روسية نشطة تصب في مصلحة تركيا.


إلى أي حد يمكن لتركيا التحلل من ارتباطاتها الأميركية وبناء سياسة إقليمية مستقلة، وإلى أي حد يمكنها التحرر من مخاوفها التاريخية تجاه روسيا وبناء علاقات تعاون أفضل مع موسكو، ستشكل بعضا من الأسئلة التي لا بد أن تشغل أنقرة. لم يعد لروسيا الحالية أقلية أرمنية تركية تعتمد عليها، ولا تخوض روسيا حربا أيديولوجية تجد في الشيوعيين الأتراك حليفا وشريكا لها. خلال زيارة الوساطة التي قام بها أردوغان لكل من روسيا وجورجيا، تبنى موقفا محايدا من الجهتين، ولكن تصريحاته في العاصمة الروسية لم تخف قناعته بأن جورجيا مسؤولة عن تصعيد الأزمة.


الأهم، كان اقتراح أردوغان بناء منظمة إقليمية في القوقاز تعمل على حل النزاعات وتعزيز التعاون بين دوله المختلفة، وهو ما يوحي بأن تركيا تسعى إلى دور لها في القوقاز الجنوبي، حيث تتمتع بعلاقات وثيقة مع أذربيجان، وترغب بالفعل في أن يكون الإقليم مسؤولية دوله وشعوبه، لا ساحة للعبة القوة العالمية، حتى إن كان الحليف الأميركي هو العامل الرئيسي في هذه اللعبة.


أوكرانيا طرف إقليمي آخر في الأزمة الجورجية، وطرف بالغ القلق بلا شك. وقد أخذت أوكرانيا موقفا مؤيدا لجورجيا، وأعلنت الحكومة الأوكرانية أنها لن تسمح بعودة السفن الروسية لمينائها الأوكراني على البحر الأسود، الذي تستأجره روسيا منذ استقلال أوكرانيا في مطلع التسعينيات، إن شاركت هذه السفن في الهجوم على أهداف جورجية. بل إن كييف أشارت إلى أنها ترغب في وضع حركة السفن الروسية في الميناء تحت سيطرة الحكومة الأوكرانية.


أوكرانيا، بالطبع، لا تستطيع تنفيذ مثل هذه السياسات، وأي محاولة في هذا الاتجاه قد تؤدي إلى انفجار مدو في العلاقة بين روسيا وأوكرانيا. ولكن المهم هو ما تخفيه هذه المواقف الأوكرانية المتوترة، إذ يشكل الروس زهاء 17% من سكان أوكرنيا، وبالإضافة إلى هؤلاء، فإن أغلبية سكان شرق أوكرانيا وسكان شبه جزيرة القرم على البحر الأسود يعارضون حكومتهم الحالية ويرغبون في بناء علاقات أوثق مع روسيا. وتعتمد أوكرانيا بالكامل تقريبا في مصادر طاقتها على إمدادات روسية. الحكومة الأوكرانية موالية لواشنطن، وكما جورجيا تسعى هي الأخرى إلى الانضمام لحلف الناتو.


وإن كان ثمة دولة سبب استقلالها عن الاتحاد السوفياتي ألما وشعورا مريرا بالخسارة في موسكو فهي بالتأكيد أوكرانيا، التي تعود وحدتها مع روسيا إلى مئات السنين، وانضمام أوكرانيا لحلف الناتو هو أقرب إلى إعلان حرب على روسيا. ما يخيف الحكومة الأوكرانية أن تكون جورجيا مقدمة لتحرك روسي ضد أوكرانيا، يؤدي إلى انقسام الشرق الأوكراني عن الغرب وانقسام شبه جزيرة القرم عن الشمال. إن كان اندلاع الحرب الجورجية ولد أزمة كبرى في علاقات روسيا بالغرب، فإن انفجار أوكرانيا قد يشعل حربا عالمية ثالثة.


الطرف الإقليمي الثالث الهام هو إيران، وإن لم تكن إيران طرفا مباشرا. الوضع في القوقاز يهم إيران، التي تخشى صعود القومية الأذرية وتحتفظ بعلاقات وثيقة مع أرمينيا. ولكن ليس لإيران تأثيرا يذكر على الوضع في جورجيا، ولن تصبح طرفا في القوقاز إلا إذا اشتعل الجنوب القوقازي كله. ما يهم إيران في هذه الأزمة أن تصاعد التوتر بين موسكو وواشنطن خلال الشهور القليلة القادمة قد يخفف عنها الضغوط الأميركية ويخرجها من دائرة الاستهداف الأميركي العسكري، على الأقل حتى نهاية عهد إدارة بوش.


في ظل هذا التوتر، سيصعب تمرير قرار جديد في مجلس الأمن يرفع من مستوى العقوبات على إيران، وقد أصبح في حكم المستحيل أن تستطيع إدارة بوش الحصول على غطاء دولي لضربة ما موجهة ضد إيران. بل إن روسيا، التي تجنبت طوال رئاسة بوتين إثارة مشاكل جوهرية في العلاقات مع الدولة العبرية، لن تنسى التورط الإسرائيلي الواسع في تسليح جورجيا وتدريب جيشها وقواتها الأمنية، وأن عددا من وزراء ساكاشفيلي هم من اليهود الموالين للدولة العبرية، وهو ما يجعل موسكو أقرب إلى طهران إذا حاولت إسرائيل، في استقلال عن الولايات المتحدة، توجيه ضربة عسكرية خاطفة للمنشآت النووية الإيرانية. وليس من المستبعد أن تصبح روسيا أكثر استعدادا لبيع معدات دفاعية متقدمة لإيران.




6





"
في جورجيا كما أدركت واشنطن أن ثمة حدودا للقوة لا سيما إن كان لهذه القوة أن تتجلى في منطقة بالغة التعقيد والحساسية مثل جنوب القوقاز
"
الأثر الدولي للأزمة الجورجية هو الأكثر صعوبة في التقدير، نظرا لأن العلاقات الدولية ككل تمر بمرحلة انتقالية، تتغير بوتائر متسارعة، ولأن خارطة القوة العالمية باتت متعددة الأطراف. ومع ذلك ثمة أمران يمكن استبعادهما في الوضع الراهن: الأول، اندلاع حرب باردة جديدة بين روسيا والغرب شبيهة بالحرب الباردة بين الكتلتين الغربية -الرأسمالية والشرقية- الشيوعية خلال العقود الأربعة التالية على نهاية الحرب العالمية الثانية، والثاني أن يستمر الوضع الدولي على ما كان عليه من تفرد أميركي في العقدين الماضيين.

العلاقات الدولية لن تشهد حربا باردة لأن الحرب الباردة كانت تعني تنافسا عالميا متعدد الأبعاد بين كتلتين تمتلكان مقومات اقتصادية وعسكرية وفكرية وجيوبوليتيكية متقاربة.


هذا التنافس لم يعد ممكنا. فروسيا تفتقد القدرات المتاحة للاتحاد السوفياتي ما بعد الحرب الثانية، سواء القدرات الذاتية والنفوذ الأوروبي أو النفوذ العالمي، وقد باتت محاطة في محيطها الأوروبي بدول "ليبرالية" (شيوعية سابقة) معادية بالفعل.


بالإضافة إلى ذلك، فإن البنية الديمغرافية لروسيا بنية قلقة، تضم زهاء المائة من الأقليات القومية والدينية، بعضها، كالشيشان، يمكن أن يستثار من جديد ضد موسكو. وروسيا، التي تحتاج عقودا قبل أن تحقق لشعبها مستويات الرفاه الغربية وتعود قوة صناعية منافسة على مستوى العالم، لا ترغب في اندلاع حرب باردة. اصطفاف انقسامي واصطراعي عالمي يتطلب تحالفا أوروبيا غربيا وثيقا مع الولايات المتحدة، إن رغبت واشنطن في مثل هذا الاصطفاف، ودول أوروبا الغربية الرئيسية لا ترى أن الوضع العالمي الحالي يدعو إلى مثل هذا التحالف، بل إن بعض الأوروبيين يرغب في تسنم دور أكبر في الساحة الدولية.


كما أن مثل هذا الوضع يتطلب تحالفا وثيقا بين روسيا والصين، وهو احتمال مستبعد في هذه المرحلة لأسباب عديدة تتعلق بطبيعة العلاقة بين الدولتين وصعوبة أن تقبل أي منهما تسليم القيادة للآخر، وعدم رغبة الصين في توتير العلاقات مع العالم الغربي، بسبب انخراطها الوثيق في التجارة الدولية، وحاجتها لعدة عقود أخرى قبل أن تخرج مئات الملايين من شعبها من دائرة الفقر.


بيد أن عالم التفرد الأميركي، ما أسماه الأميركي تشارلز كراوتنهمر في مطلع التسعينيات "لحظة القوة الأحادية القطبية"، قد انتهى. ستظل الولايات المتحدة إلى أمد غير محدد القوة العالمية الرئيسية، وستظل قادرة على اتخاذ قرارات متفردة بين وقت وآخر، ذات أثر متفاوت على الوضع الدولي.


ولكن زمن صمت العالم عن قصف صربيا لسبعين يوما متتالية، واحتلال العراق بدون مسوغ ولا غطاء دولي، انتهى. روسيا، التي تعرضت لهجوم أميركي جيوبوليتكي حثيث منذ بداية عهد كلينتون، ستصبح منذ اليوم أكثر تصميما في الدفاع عن مصالحها الحيوية، وستلحق بها الصين، بل ربما فرنسا والهند والبرازيل. والولايات المتحدة ستصبح أكثر ميلاً لاستخدام الأداة الدبلوماسية، وأخذ القوى الأخرى في الاعتبار، سواء رغبت في ذلك أو أجبرت عليه من قبل حلفائها.


في جورجيا (كما في العراق من قبل) أدركت واشنطن أن ثمة حدودا للقوة، لا سيما إن كان لهذه القوة أن تتجلى في منطقة بالغة التعقيد والحساسية مثل جنوب القوقاز، وأن الدول الكبيرة لا يمكن أن تتراجع إلى الأبد وأن تتقبل الإهانات إلى الأبد. روسيا هي ثاني أكبر قوة نووية في العالم، وحكومتها تجد التفافا حقيقيا حولها من شعبها، لم يتمتع به النظام الشيوعي طوال العقود الثلاثة الأخيرة من تاريخه. وكما أن روسيا تحتاج العالم، فإن العالم بدوره يحتاج روسيا. وتكفي نظرة واحدة إلى خارطة أنابيب الغاز والنفط في القارة الأوروبية لإدراك حجم الاعتماد الأوروبي على مصادر الطاقة الروسية.


من المؤكد هنا أن عالما تتعدد فيه القوى هو أكثر توازنا وعدلا، بل ربما أن العالم يتحرك نحو حقبة أفضل من حقبة الحرب الباردة. في الحرب الباردة، كان يكفي لواشنطن وموسكو عقد صفقة ما، ليقرر مصير هذه الدولة أو تلك، أو هذه المنطقة أو تلك، من العالم، وأوروبا نفسها قسمت بين الكتلتين الغربية والشرقية خلال جلسة واحدة بيالطا، في اتفاق بين ستالين وروزفلت، وجد فيه تشرتشل نفسه شاهد زور، لا حول له ولا قوة. في عالم من القوى المتعددة، حتى إن استمرت الولايات المتحدة تحتل موقع القوة الرئيسية التي تفوق قدراتها، ويتجاوز نطاق نفوذها الآخرين، أصبحت مثل هذه الصفقات أقل احتمالا. ثمة سؤال كبير لا بد من طرحه الآن حول الكيفية التي ستتعامل بها الدول العربية والإسلامية ودول العالم الثالث عامة مع هذا العالم، ولكن المؤكد أن صيغة متطورة من منظومة عدم الانحياز هي الخيار الأقدر على خدمة مصالح الدول ذات الوزن الإقليمي الملموس والدول الصغيرة على السواء، وليس التحالف مع قوة ما من القوى العالمية، بغض النظر عن درجة التدافع بين هذه القوى. وهنا ربما ينبغي على الدول العربية والإسلامية أن تعيد تعريفها لمفهوم القوة، وأن تصبح أكثر ثقة في نفسها وإمكانياتها، الاقتصادية، والسياسية، والثقافية الدينية، والإعلامية.
_______________
مركز الجزيرة للدراسات