ميزان القوى يميل لصالح الممانعة
ارتباك معسكر الاعتدال
منذ الانتهاء من غزو العراق واحتلاله، أطلقت الإدارة الأميركية وصف "معسكر الاعتدال" على مجموعة الدول العربية الأكثر تفاهماً مع واشنطن، أو التي لا تظهر خلافاً ملموساً مع السياسات الأميركية في الشرق الأوسط. أهم تلك الدول هي مصر، السعودية، والأردن (ومعها بالطبع السلطة الفلسطينية، ومعسكر 14 آذار، ودولة الأمارات). وباتت سورية، ومعها قوى مثل حماس والجهاد في فلسطين، وحزب الله في لبنان، مدعومة من قطر ( ويضاف إليها إيران من دول الجوار العربي) تعرف بـ"معسكر الممانعة". وقد جاء الموقف من حرب يوليو/ تموز 2006 على لبنان، ثم حسم حماس للصراع في قطاع غزة في يونيو/ حزيران 2007، ليعزز من حالة الانقسام العربي.
ميزان القوى يميل لصالح الممانعة
ترى الرياض أن الموقف المصري ساهم في انهيار اتفاق مكة لذلك لم تبذل جهداً يذكر لإنجاح المساعي المصرية لعقد مصالحة فلسطينية؛ بل وقفت موقف المتفرج منتظرة أن تفسح الظروف مجالاً لجهد سعودي بديل |
بيد أن هناك عدداً من الدلائل، التي برزت خلال الأشهر القليلة الماضية، تشير إلى ارتباك بالغ في معسكر ما اصطلح على تسميته بدول الاعتدال، وإلى أن ميزان القوى الإقليمي يميل لصالح المعسكر المقابل، كيف ذلك؟
استشعر الأردن مخاطر التسوية الفلسطينية–الإسرائيلية، سيما بعد تسرب تقارير حول حجم التنازلات التي تقدم بها الوفد الفلسطيني المفاوض فيما يتعلق بمسألة حدود الدولة الفلسطينية المنشودة، إن صحت هذه التقارير التي تتحدث عن قبول الوفد الفلسطيني بإعادة رسم حدود الضفة الغربية بما يؤكد تواجداً إسرائيلياً في غور الأردن، وبقاء كتل الاستيطان الكبيرة، وأن الجدار الذي أقامته الدولة العبرية سيشكل خط الحدود الغربي للدولة الفلسطينية، فذلك يعني استحالة قيام هذه الدولة في الضفة الغربية، والعودة إلى المشروع القديم/ الجديد الذي يقول بأن الأردن بأكثريته الفلسطينية سيكون مركز الدولة الفلسطينية، التي ستتمتع بولاية على سكان الضفة والقطاع، وبعض أراضي الضفة وكل قطاع غزة.
المخاوف الأردنية من تبلور هذا السيناريو، وتحسس الأردن مخاطر موقف محمود عباس التفاوضي، وأن القاهرة (على الأقل) تؤيد اتجاه التفاوض نحو الوطن البديل، أدى إلى تغيير كبير في السياسة الأردنية. استقبل رئيس المخابرات الأردنية (التي تقود المواجهة مع أطروحة الوطن البديل) وفداً من حركة حماس، وعمل على تصفية المسائل العالقة بين الطرفين، وأسس لخط اتصال دائم بين حماس وعمان. كما أسرع الأردن في تحركه للمصالحة مع قطر، وعمل على إعادة الدفء إلى العلاقة مع دمشق، مبتعداً بذلك بمسافة واضحة عن القاهرة والرياض. وعندما فشلت الجهود المصرية لعقد مصالحة فلسطينية، توفر تفويضاً فلسطينياً وطنياً لدور عباس التفاوضي، لم يخف الأردن سعادته بفشل جهود المصالحة.
اتسمت السياسة العربية للقاهرة منذ صيف هذا العام بحيوية غير عادية. أحد أسباب هذه الحيوية يعود إلى الضغوط المتصاعدة من الرأي العام المصري على خلفية اتهامات للحكم بإهمال المصالح المصرية وتراجع الدور المصري في المنطقة؛ والثاني إلى رغبة رسمية بتوكيد الدور المصري في ترتيب شؤون المنطقة قبل تولي إدارة أميركية جديدة مقاليد الحكم في واشنطن.
ولكن هذه الاندفاعة المصرية تصادمت على نحو ما مع دور الشريك السعودي. فانفتاح القاهرة المزدوج على حكومة المالكي وعلى قوى المقاومة العراقية في الوقت نفسه صاحبه انتقاد مصري لبطء الحركة السعودية وعجز الرياض عن مجاراة التطورات في المنطقة. وقد أثار نشاط السياسة المصرية في لبنان ودعوة زعماء 14 آذار، الواحد منهم تلو الآخر، إلى القاهرة واستقبال الرئيس مبارك لهم، استياءً سعودياً. الرياض، التي رأت دائماً أن الموقف المصري ساهم في انهيار اتفاق مكة، لم تبذل جهداً يذكر لإنجاح المساعي المصرية لعقد مصالحة فلسطينية؛ وعندما فشل الجهد المصري، وقفت الرياض موقف المتفرج، منتظرة على الأرجح أن تفسح الظروف مجالاً لجهد سعودي بديل. وقد جاءت تصريحات وزير المالية المصري لمحطة سي أن أن الأميركية (25 نوفمبر/ تشرين ثاني)، التي قال فيها أن السعودية لا تصلح لتمثيل المنطقة العربية في مؤتمر الدول العشرين حول الأزمة المالية/ الاقتصادية العالمية، لتثير رد فعل غاضب من الرياض.
لم يعد مشروع المصالحة المصري الذي استهدف توفير شرعية فلسطينية وطنية للتمديد لعباس وتفويض وطني لدوره وسياسته التفاوضية وتخلي حماس عن إدارة قطاع غزة يجد دعماً عربياً جماعياً |
ومن جهة ثانية، في الوقت الذي أعلنت قطر إرسال سفينة من المساعدات لقطاع غزة، لم يجد وزراء الخارجية العرب مناصاً من الاتفاق على تسيير حملة مساعدات عربية جماعية للقطاع؛ مما يدلل على بداية تشقق في سياسة استخدام الحصار لتركيع قطاع غزة وإجبار حماس على تغيير مواقفها. من ناحية أخرى، وبالرغم من توصية وزراء الخارجية العرب باستمرار محمود عباس في موقعه الرئاسي، فمن الواضح أن مشروع المصالحة المصري الذي استهدف توفير شرعية فلسطينية وطنية للتمديد لعباس، وتفويض وطني لدوره وسياسته التفاوضية، وتخلي حماس عن إدارة قطاع غزة، لم يعد يجد دعماً عربياً جماعياً.
يعود الارتباك المتزايد في معسكر الاعتدال العربي إلى عدد من الأسباب، أهمها:
- التراجع المطرد في الوضع الأميركي العالمي منذ الأزمة الجورجية إلى الأزمة المالية/ الاقتصادية.
- اضطراب السياسة الأميركية في المنطقة، الذي تجلى في العجز عن حماية الحلفاء في قطاع غزة في صيف العام الماضي ولبنان في مايو/ آيار من هذا العام، والعجز عن تعطيل الدور القطري في المصالحة اللبنانية، وبطء مسار أنابوليس وعدم الإيفاء بوعود التسوية قبل نهاية العام. ربما تجلى الإنجاز الأميركي الوحيد في توقيع الاتفاق الأميركي – العراقي مع حكومة المالكي، الذي ما كان له أن يوقع لولا الموافقة الإيرانية.
- التباين في مصالح وأهداف دول معسكر الاعتدال بحكم غياب الانسجام بين أجندة مكوناته وسلم أولوياتها.
- صمود أطراف المعسكر المقابل وصلابة تحالفها ودعم قواعدها الشعبية والالتفاف العربي الشعبي الواسع حولها.
- الإدارة السياسية الكفأة التي أظهرتها سورية وحماس والجهاد وحزب الله وإيران، والتي أبدت مرونة فيما يتعلق بالمتغيرات التفصيلية وصلابة وتمسكاً بالثوابت الاستراتيجية، وتلقت دعماً متفاوتاً من قطر والسودان والجزائر واليمن.
ما يمكن أن ينجم عن هذا الارتباك في معسكر الاعتدال هو أن تتبنى أطراف المعسكر المقابل سياسة هجومية محسوبة خلال الأشهر القليلة القادمة، تستهدف تعزيز المواقع والأوراق، بانتظار اتضاح سياسة الإدارة الأميركية القادمة ونمط اصطفاف القوى الدولية الرئيسية: الولايات المتحدة، أوروبا، روسيا، والصين.
_______________
مركز الجزيرة للدراسات
تقدير موقف تم إعداده في ديسمبر/ كانون الأول 2008