ترجمة/رشا حاتم
ملخص الدراسة
مفترق طرق
تغير المعيقات الأمنية
مخاطر الانتشار النووي
الأوضاع السياسية الداخلية
الحركات الجديدة
الإستراتيجية الأمنية
الاستنتاجات
بعد مرور ما يقرب من خمس سنوات على غزو الولايات المتحدة الأميركية للعراق، تجتاح المنطقة وبقية العالم هزات عنيفة ناتجة عن هذا الحدث، حيث ظهر جيل جديد من المتطرفين الجهاديين الذين بدؤوا باكتساب خبرة في ميادين القتال بالعراق، كما أصبحت السلطة السياسية تدار من طرف هذه الجماعات المقاتلة عبر فوهات البنادق.
ظلت جميع الدول المحيطة بالعراق ترقب تلك التطورات بمستويات متفاوتة من القلق. ويعتقد كثير من المعلقين أن غزو العراق أصبح أهم حدث إقليمي مؤثر في الشؤون السياسية والعسكرية للمنطقة منذ حرب الأيام الستة في عام 1967. لقد نتج عن هذه الحرب تغيير هائل في السياسات الداخلية في جميع أنحاء المنطقة، فتوثقت تحت الضغوط الجديدة آنذاك علاقة الأنظمة الحاكمة بالولايات المتحدة.
أما المهددات التي تمس وضع المنطقة اليوم فتمثل إطارا إستراتيجيا جديدا لا يتحدى الولايات المتحدة لوحدها فحسب، بل يهدد مصالح المجتمع الدولي الاقتصادية والسياسية الضامنة للاستقرار والأمن الإقليميين. ففي الآونة الأخيرة، اعتبر المنتدى الاقتصادي العالمي -على سبيل المثال- أن انعدام الاستقرار الجغرافي-السياسي في الشرق الأوسط يمثل تهديدا للاستقرار العالمي برمته.
تعد هذه الدراسة محاولة لاستكشاف الخلفيات المعقدة المحيطة بالمعيقات التي تواجه البيئة الأمنية في الإقليم، وخطوة أولى في سبيل بناء الإستراتيجية الأمنية، التي يمكن أن تخفف من فعالية خطر تلك التهديدات التي تطال الولايات المتحدة والمصالح العالمية.
" تستنتج هذه الدراسة أن أميركا بحاجة لإعادة إستراتيجيتها وسياستها، وخططها الدفاعية بما يتوافق مع البيئات الإقليمية إن كان لديها رغبة في التخفيف من الأخطار التي تهدد مصالحها عالما " |
إن طبيعة المخاطر التي يتعرض لها الأمن الإقليمي تنبع أساسا من مصادر معقدة ومتعددة الأبعاد داخل الدولة، وتشير هذه المخاطر إلى أنه يجب على الولايات المتحدة أن تبني إستراتيجية وسياسة جديدتين لحماية المصالح الإقليمية.
تهدف هذه الدراسة إلى تناول ثلاثة عناصر أساسية هي:
- تحليل معيقات الأمن الإقليمي والاستقرار عقب غزو العراق.
- تحديد ما إذا كانت إستراتيجية الولايات المتحدة تمثل أحد الأخطار المهددة للأمن الإقليمي.
- اقتراح خطوات عملية من شأنها ردم الهوة بين إستراتيجية الولايات المتحدة والبيئة الأمنية في الإقليم.
وهذه الدراسة تتعارض مع منهجية التخطيط الدفاعي المتبعة حاليا، والتي تدعو إلى تعزيز قدرات القوات العسكرية الأميركية لتمكينها من القتال في فضاءات بيئية مختلفة: مثل الحروب غير التقليدية ضد القوات غير النظامية أو الجماعات الإرهابية، والهجمات باستخدام أسلحة الدمار الشامل، ثم الهجمات غير المنتظمة باستخدام وسائل الحرب "السيبيرية" أو غيرها من التكنولوجيات المتقدمة.
كما تستنتج هذه الدراسة أن الولايات المتحدة بحاجة لإعادة إستراتيجيتها وسياستها، وخططها الدفاعية بما يتوافق مع البيئات الإقليمية، إن كان لديها رغبة فعلا في التخفيف من حدة الأخطار التي تهدد مصالحها، ليس في الشرق الأوسط فحسب، بل في جميع أنحاء العالم.
بعد ست سنوات من الصراع تجد الولايات المتحدة نفسها اليوم في فترة من ارتباك إستراتيجي واضح، مما يدفعها باتجاه البحث عن الأخطاء التي أدت إلى ذلك، سعيا منها لاستعادة موقعها القيادي كقوة عالمية. "
المجتمعات في منطقة الشرق الأوسط ليست مجتمعات قابلة للتغيير السياسي، وبالتالي من الأفضل تركها لوحدها من دون تدخل قوى خارجية
"
فالسؤال المشروع الموجه الآن للإستراتيجيين هو الآتي: هل يجب على الولايات المتحدة الأميركية أن تهتم وتشعر بالقلق إزاء الأخطار المحدقة التي تهدد أمن الخليج والشرق الأوسط برمته أم لا؟ فقد رصد المحلل الإستراتيجي إدوارد لوتواك في الآونة الأخيرة بعض الأقوال التي تدعي بأن الشرق الأوسط لا يهم الشؤون العالمية، وبالتالي لا يستحق الاهتمام من قبل الحكومة الأميركية والمجتمع الدولي وذلك للأسباب الآتية:
- فقدان النزاع العربي الإسرائيلي لأهميته الإستراتيجية وتحوله إلى ما يشبه الصراع الداخلي إلى حد كبير.
- التهديدات العسكرية في الإقليم ليست كبيرة.
- المجتمعات في منطقة الشرق الأوسط ليست مجتمعات قابلة للتغيير السياسي، وبالتالي من الأفضل تركها لوحدها من دون تدخل قوى خارجية.
- تعد هذه المنطقة راكدة اقتصاديا وثقافيا، بل متخلفة عن بقية دول العالم في معظم مجالات التنمية، ولذلك يستنتج "ما لم نشعر بوجود خطر داهم، ينبغي لنا التركيز على أراضي الحضارات القديمة والجديدة في أوروبا وأميركا، وفي الهند وشرق آسيا -الأماكن التي يتطلع أصحابها إلى المستقبل بدلا من الحلم بالماضي، وهم يعملون بجد وتفان من أجل بلوغ ذلك".
وعلى الرغم من أن هذه الاستنتاجات جديرة بالتفكير، فقد رفضت هذه الحجج من قبل معظم الأوساط الأميركية.
في أوائل عام 2007، على سبيل المثال، أفاد المنتدى الاقتصادي العالمي بأن هناك 23 خطرا أساسيا عالميا تهدد المجتمع الدولي في العقد القادم، ولم يقتصر الأمر في التقرير الذي نشره هذا المنتدى على حالة "عدم الاستقرار في الشرق الأوسط" وأثر ذلك على الأمن العالمي، بل إنه في ملحق التقرير المخصص لمعالجة القضايا الإقليمية على وجه التحديد، حدد المنتدى الاقتصادي العالمي بالتعاون مع مركز الخليج للأبحاث بعض الاتجاهات الإقليمية الحرجة التي تتعارض ضمنيا مع المصالح العالمية، مع الإشارة إلى أن "الشرق الأوسط يمثل مركز الأخطار العالمية، بقدر ما يمثل مركز التنسيق للتخفيف من آثارها".
بعض المعيقات التي رصدها التقرير:
- صدمات أسعار النفط أو تعطل إمدادات الطاقة.
- الإرهاب الدولي.
- انتشار الأسلحة النووية.
- الانخفاض الملحوظ في قوة الولايات المتحدة العسكرية ونفوذها السياسي في المنطقة.
- ظهور تحالفات لقوى دولية وغير دولية: إيران وسوريا وحزب الله وحماس.
- مواجهة الدول السنية لشرق البحر الأبيض المتوسط ودول الخليج للكتلة الشيعية بقيادة إيران.
- نجاح إيران في تحدي الولايات المتحدة والمجتمع الدولي في معركتها لتصير قدرة نووية.
- تعزيز قوة الحركات الإسلامية السياسية في جميع أنحاء المنطقة.
- قلق الدول المنتجة للنفط في الإقليم إزاء أمنها، فعلى الرغم من أنها لا تزال تعتمد على الحماية العسكرية الأميركية، تقوم ببناء شراكات سياسية واقتصادية وعسكرية مع بعض القوى الخارجية كالهند والصين وروسيا وباكستان.
تغير طبيعة المعيقات الأمنية في الشرق الأوسط
لقد تغيرت طبيعة المعيقات الأمنية في دول الإقليم نتيجة التغير الذي حصل في مجال توزيع السلطة، حيث تقوم كل دولة بتطبيق سياستها الدفاعية الذاتية؛ وهذه الإجراءات المتخذة من جانب الدول لحماية وتعزيز أمنها تؤدي إلى خلق حالة من انعدام أمن الدول المحيطة. "
برزت تاريخيا في الشرق الأوسط أربع دول هي إسرائيل ومصر والعراق وإيران وعاشت في بيئة يهيمن عليها الصراع والتنافس وقد تفشى نتيجة ذلك العنف والحرب
"
وقد تسعى الدول إلى تكديس الأسلحة والدخول في تحالفات أو علاقات عسكرية وسياسية مع دول أخرى قوية من أجل ضمان أمنها. كما أن السعي إلى امتلاك الأسلحة النووية، أو الدخول في شراكات مع دول نووية كبرى، يعد الضامن الأمني الوحيد أمام هذه الدول.
يقول كينيث والتز، صاحب نظرية "الواقعية الجديدة" إن آليات الحراك التي تطبع النظام الدولي في السعي نحو خلق بيئة أمنية مستقرة قد تؤدي إلى تزايد الدول النووية، وهو الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى مزيد من انعدام الاستقرار الأمني، حيث إن امتلاك الأسلحة النووية يزيد نتائج الحرب كارثية. وهو إلى جانب ذلك يدفع قيادة كل دولة إلى الوقوف مطولا عند تقدير النتائج المتمخضة عن أي حرب محتملة قبل الخوض فيها.
في منطقة الشرق الأوسط، برزت تاريخيا أربع دول هي إسرائيل ومصر والعراق وإيران، وعاشت دول هذا الإقليم في بيئة يهيمن عليها الصراع والتنافس، وقد تفشى نتيجة ذلك العنف والحرب.
وكما تتنبأ نظرية الواقعية، فإن عدم الاستقرار الإقليمي من شأنه أن يحفز الدول على اللجوء لشراء المعدات العسكرية، وعليه ليس غريبا أن تشكل المنطقة أكبر سوق للأسلحة التقليدية في العالم النامي على امتداد العقدين ونصف الأخيرين كما تؤكد الإحصائيات الأخيرة ذلك.
ومن الملاحظ أيضا أنه في كل أرجاء الشرق الأوسط والخليج، يفوق اهتمام النظم الإقليمية بعلاج التهديدات الداخلية، اهتمامها بمعالجة التهديدات الخارجية، والنتيجة هي أن تعيش دول المنطقة في حالة من انعدام التوازن العسكري بصورة دائمة.
لقد فشلت هذه النظم في الاستفادة من قيمة التعاون لحل معضلات الأمن التي تواجهها، ويقع هذا الفشل جزئيا أيضا على طغيان التهديدات الداخلية على مشاغل الأنظمة الإقليمية. وفعلا لو عملت هذه الأنظمة وفق نظرية الليبرالية الجديدة لمعالجة تهديدات الأمن، لاستطاعت أن تنشئ إطارا جماعيا لتحقيق التوازن الأمني المطلوب.
انعكست الجذور التاريخية لمعضلة الأمن في هذا الإقليم أيضا على السياسات النووية لهذه الدول. وتكمن المفاجأة عند مقارنة الانتشار النووي في الشرق الأوسط الآن بسياسة ضبط النفس التي تحلت بها دول المنطقة على امتداد الخمسين عاما المنصرمة على الرغم من وجودها في مركز صراع دائم شهد ثلاثة حروب إقليمية كبرى، وكذلك وجود دول أخرى مجاورة تتباهي بامتلاك الأسلحة النووية مثل الهند وباكستان.
أما فيما يخص سعي بعض دول المنطقة كالعراق وإيران وليبيا لامتلاك برنامج نووي فقد كان ذلك مدفوعا بأغراضها القومية الخاصة. لقد تعطل برنامج العراق بسبب الضربات الإسرائيلية في سبتمبر/أيلول 1980، ثم مرة أخرى في عملية التفتيش التي تلت حرب الخليج، أما برنامج إيران النووي، الذي بدأ في ظل الشاه، فقد بلغ الآن مرحلة متطورة من تخصيب اليورانيوم. ليبيا أيضا تتبع برنامجا نوويا وإن كان غير فعال، ولم يحظ قط بأي نجاح يذكر.
مخاطر الانتشار النووي على البيئة الأمنية في الإقليم
تغير الوضع النووي في المنطقة سمة تؤشر على قلق تجاه البيئة الأمنية. "
على الرغم من أن التحركات نحو إنشاء برامج نووية تعكس معضلة أمنية فإنها تعبر عن مواقف تبعث في مضمونها أكثر من رسالة
"
- في سبتمبر/أيلول 2006، أعلن نجل الرئيس المصري حسني مبارك وخليفته المتوقع، جمال مبارك، عن عزم مصر على إحياء برنامج الطاقة النووية الذي تم التخلي عنه عام 1986. وقد جاء ذلك نتيجة الضغط الذي مارسته عدة بيانات قوية من المعارضين السياسيين لنظام مبارك، البيانات الداعية إلى تطوير قدرات نووية خاصة بمصر.
- في نوفمبر/تشرين الثاني 2006، أعلنت الجزائر نيتها في توسيع الطاقة النووية الخاصة بها. وقد عرض الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد مساعدة الجزائر في برنامجها. وفي يناير/كانون الثاني 2007، زار وزير الصناعة والطاقة الروسي فيكتور كريستنكو الجزائر، حيث أبرم اتفاقية تعاون على تطوير الطاقة النووية.
كما ورد أن الجزائر وثقت العلاقة بكوريا الجنوبية من أجل التعاون النووي منذ منتصف 2006. وما فتئت الجزائر تعمل على تشغيل اثنين من مفاعلات البحوث تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية منذ منتصف التسعينات.
- في أبريل/نيسان 2006 أعلن المغرب عزمه توسيع برنامج الطاقة النووية، وقد تلقى هذا المشروع دفعة قوية أثناء زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الرباط في سبتمبر/أيلول 2006. حيث أشار المتحدث الروسي أثناء تلك الزيارة إلى أن وكالة الصادرات النووية الروسية ستدعم إنشاء أول محطة للطاقة النووية في الرباط والتي يأمل أن تصبح جاهزة بحلول 2016.
- في ديسمبر/كانون الأول 2006 أعلنت الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي عن خطط لتطوير قدراتها في برامج الطاقة النووية تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وفي أوائل عام 2007، أعلن الأمين العام لدول مجلس التعاون الخليجي عبد الرحمن العطية أن الخطط الأولية تشمل تشييد محطة للطاقة النووية بحلول عام 2009.
والمعروف أن المملكة العربية السعودية هي الدولة الوحيدة في مجلس التعاون الخليجي التي لديها نشاط نووي في مجال البحث فقط، ولا يعتقد أن أي دولة من دول المجلس تمتلك مفاعلات نووية. فجميع دول الخليج موقعة على معاهدة عدم الانتشار النووي.
- وأخيرا في يناير/كانون الثاني 2007، أعلن الملك الأردني عبد الله أن الأردن ستنضم إلى جيرانها من الدول العربية في اتباع برنامج تطوير الطاقة النووية.
وعلى الرغم من أن تلك المواقف والتحركات النووية تعكس معضلة أمنية أخرى -إذا أخذنا بعين الاعتبار التوزيع الإقليمي الجديد للسلطة، والذي يحتوي أكثر من فاعل في المنطقة- فهي مواقف تبعث في مضمونها أكثر من رسالة:
- تعزز الرسالة إلى طهران بأن دول الإقليم ليست مستعدة للوقوف موقف المتفرج إزاء تسلح إيران النووي وهيمنتها السياسية-العسكرية الرامية لتخويف المنطقة.
- ترسل إشارة إلى القوى الخارجية مثل روسيا والصين والهند مفادها أن عصر الهيمنة الأميركية يوشك على الانتهاء، وأن الفرصة مواتية لبناء علاقات سياسية وعسكرية واقتصادية يكون التعاون بشأن البرامج النووية أحد العناصر الداعمة في توسيعها.
- ترسل مجموعة من الرسائل إلى الولايات المتحدة الأميركية من بينها:
- أهمية إحباط مسيرة إيران تجاه الأسلحة النووية، والعواقب المحتملة لعدم التمكن من إيقافها.
- غضب المنطقة واستيائها من سياسات الولايات المتحدة في إطار إدارة بوش.
- إنه قد لا يكون من الممكن العودة إلى نهج "السياسات المعتادة" بين واشنطن ومختلف العواصم الإقليمية.
- بإمكان واشنطن التوصل إلى حل لهذه القضايا في السنوات الخمس أو السبع القادمة، أو أكثر، وهو عدد السنين اللازم لظهور هذه البرامج النووية إلى طور الوجود الفعلي.
- تعطي دلالة للدوائر السياسية على أن الأنظمة الداخلية لم تعد مرغمة على القبول بضمانات الولايات المتحدة الأمنية أو البقاء تحت ظل التهديدات النووية النابعة من تل أبيب أو طهران. فقد أضحى السعي لامتلاك برامج نووية رمزا هاما من رموز الهوية الوطنية، يكسب الدول هيبة في جميع أنحاء المنطقة.
- ترسل إشارات خفية إلى إسرائيل مفادها أن المنطقة سوف تكون قادرة على تحقيق القدرة النووية في وقت قصير، وهذا من شأنه أن يمثل نهاية الاحتكار النووي الإسرائيلي في المنطقة.
- إدارة برامج الأسلحة النووية تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية يمنح دول المنطقة مسحة من الشرعية، كما يضفي عليها ميزة سياسية في الساحة الدولية، مقابل استمرار إسرائيل وإيران في عدم الامتثال لمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية.
عدم استقرار الأوضاع السياسية الداخلية
يمكننا أيضا إعادة صياغة مخاطر الأمن الإقليمي في المنطقة، وكذا مجمل التغيرات الحاصلة في الوضع النووي وذلك في سياق ظاهرة انعدام استقرار الأوضاع السياسية الداخلية للدول، وهي الظاهرة التي تعد إحدى السمات المؤدية بدورها إلى غياب الاستقرار الجيوسياسي في عموم المنطقة، والأمثلة على ذلك كثيرة:"
يكشف الصراع بين حماس والسلطة الفلسطينية عن محاولات النخب الحاكمة البحث عن صيغة مناسبة لاستيعاب تزايد نفوذ الإسلاميين
"
- يكشف الصراع بين حماس والسلطة الفلسطينية في الأراضي المحتلة عن محاولات النخب الحاكمة البحث عن صيغة مناسبة لاستيعاب تزايد نفوذ الإسلاميين.
- تخبط المشهد السياسي العراقي ما بين سيطرة العلمانية والديكتاتوريات والملكيات.
- التخبط في تعيين النخب الحاكمة. فبينما اختار الرئيس المصري حسني مبارك ابنه جمال خلفا له، تمكن بشار ابن الرئيس حافظ الأسد، من حكم سوريا بالفعل، وفي الأردن، يواجه الملك عبد الله تبعات الحكم بدون امتلاك الشعبية والشرعية التي حظي بها والده، وفي البحرين أعلن الشيخ حمد نفسه ملكا في محاولة لضمان إبقاء الحكم لسلالة آل خليفة في جزيرة غالبيتها من الشيعة.
أما في المملكة العربية السعودية، فقد أصدر الملك عبد الله مؤخرا مرسوما يقضي بأن الخلافة ستحدد من جانب لجنة داخلية ولن تخضع بالضرورة للتسلسل الهرمي المعهود في المملكة. وفي الكويت، يتم ضمان بقاء الخلافة في أسرة الصباح عبر تكثيف الوجود في البرلمان الكويتي.
الحركات الجديدة الفاعلة سياسيا وعسكريا
تشهد المنطقة صعود المجموعات الشيعية، وتزايد ضغوطها الممارسة على الدول السنية، ويأتي ذلك في وقت تتصاعد فيه فئة جديدة من القادة السياسيين تسيطر عليها جماعات إسلامية ناشئة تسعى للهيمنة على السياسة الإقليمية. "
أصبحت البيئة الإقليمية عقب غزو العراق ملائمة للمصالح والأهداف الإيرانية وهذه سمة من سمات غياب الاستقرار الجيوسياسي في المنطقة
"
فالقادة الجدد مثل حسن نصر الله في لبنان وإسماعيل هنية في غزة ومقتدى الصدر في العراق يمثلون طلائع لحركات سياسية جديدة معادية للديمقراطية وتمارس السلطة عن طريق سياسة تعتمد على السلاح واستمالة القاعدة الشعبية.
هؤلاء القادة يرون أنفسهم بدائل مستقبلية للأسر أو الطوائف التي استولت على السلطة في المنطقة مع رحيل المستعمر المحتل قبل خمسين عاما.
الهيمنة الإيرانية
أصبحت البيئة الإقليمية عقب غزو العراق ملائمة للمصالح والأهداف الإيرانية وهذه سمة أخرى من سمات غياب الاستقرار الجيوسياسي في المنطقة. فقد تحقق هدف إيران التاريخي الرامي إلى الهيمنة على السلطة السياسية والعسكرية في المنطقة، وقد خدم احتلال الولايات المتحدة العسكري للعراق إيران بطريقين:
- أولا: أضعف القوة العسكرية للولايات المتحدة وقلل من التأثير الرادع لقواتها المنتشرة في المنطقة، فقد أظهر احتلال العراق محدودية سيطرة الولايات المتحدة الأميركية على المنطقة، بدلا من إظهار قوتها، على نحو ما كان يأمل المحافظون, وبالتالي شجع خصومها على المضي في سياساتهم.
- ثانيا: إن استنفاد القوة العسكرية للولايات المتحدة في العراق جعلها لا تشكل تهديدا سياسيا أو عسكريا قويا يحد من قدرات إيران النووية. وبدلا من ذلك، فقد أجبرت الولايات المتحدة على الاعتراف بهيمنة إيران، فهي التي تسيطر الآن فعليا على مستقبل العراق وليس الولايات المتحدة.
باختصار يمكن القول إن تزامن الاحتلال في العراق مع تضاؤل الجهد الأميركي لحل النزاع العربي الإسرائيلي، قد قلل من النفوذ السياسي للولايات المتحدة في جميع أنحاء المنطقة، مما أدى إلى بروز إيران بديلا مهيمنا على المنطقة.
الإستراتيجية الأمنية والتهديدات الإقليمية
"
من الملاحظ أن الولايات المتحدة لا تزال تواجه تلك التغيرات الأمنية في الإقليم عبر استخدام نفس الإستراتيجية التي جربتها في حربها الباردة، وهي الإستراتيجية التي اعتمدت على ثقل الوزن العسكري والسياسي كضمانات داعمة، إذ عمدت الولايات المتحدة إلى وضع البنية العسكرية الأساسية في جميع أنحاء العالم لدعم عملياتها العسكرية. ففي الخليج والشرق الأوسط، خاصة وبعد طرد صدام من الكويت في عام 1991، قامت بتأسيس عدة مرافق للتنمية في البحرين والكويت والإمارات العربية المتحدة وقطر والمملكة العربية السعودية.
في أواخر التسعينات بدأت فوائد الثورة الرقمية تتسرب إلى العمليات العسكرية الأميركية في جميع أنحاء العالم وساعدت الصور الرقمية من البر والبحر والجو في خلق وتعزيز القدرات التقنية لدى جيوش التحالف
"
وقد كان الوجود العسكري الأميركي في الخليج بمثابة أداة هامة للحفاظ على الأمن والاستقرار الإقليمي.
وتضم البنية التحتية للولايات المتحدة في المنطقة المكونات الرئيسية التالية:
- القيادة المركزية للقوات البحرية في المنامة، البحرين.
- القيادة المركزية للقوات الجوية في منطقة إسكان بالمملكة العربية السعودية قبل أن تنتقل لقاعدة الأمير سلطان الجوية ومن ثم لقاعدة العيديد في قطر في أغسطس/آب 2003.
- القيادة المركزية للجيش في الكويت.
- لواء المعدات الأرضية الثقيلة في قطر والكويت.
- لواء الصقر لمعدات القوات الجوية في السيب في عمان.
- قاعدة تزويد الوقود الجوي في دولة الإمارات العربية المتحدة.
وفي أواخر التسعينات، بدأت فوائد الثورة الرقمية تتسرب إلى العمليات العسكرية الأميركية في جميع أنحاء العالم. حيث ساعدت الصور الرقمية من البر والبحر والجو في خلق، وتعزيز القدرات التقنية لدى جيوش التحالف وفي جميع أنحاء الخليج. وبحلول حرب الخليج الثانية، كانت هناك شبكة عسكرية موسعة، مع إضافة عناصر جديدة في القيادة والمنظمات التنفيذية.
- قيادة القوات المشتركة في كابل بأفغانستان والتي تعمل مع القوة الدولية للمساندة الأمنية التابعة لمنظمة حلف شمال الأطلسي.
- في أفغانستان توجد الفرقة 76 التي توجه العمليات القتالية في جميع أنحاء أفغانستان.
- فرقة العمل المشتركة في القرن الأفريقي في جيبوتي لمساعدة بلدان المنطقة في مكافحة قوات التمرد أو الإرهاب.
- فرقة العمل المشتركة 150، وهي تجمع قيادات بحرية متعددة الجنسيات في المنامة وتضم تسع سفن من سبعة بلدان لحفظ الأمن في البحر الأحمر والمحيط الهندي.
- قيادة القوات الجوية المشتركة بالإضافة إلى مركز العمليات الجوية في العيديد بقطر.
- المقر المتقدم للقيادة المركزية، في مخيم السيلية بقطر.
- مقر القيادة المركزية للعمليات الخاصة في قطر.
- القوات متعددة الجنسيات في العراق.
- قيادة تدريب قوات الأمن الوطني متعددة الجنسيات.
- بعثة الناتو للتدريب والتي تركز على تطوير الضباط العراقيين.
- قيادة قوات التحالف الأرضية في الكويت.
- القيادة المركزية للنشر والتوزيع في الكويت.
- وحدة المعلومات والمراقبة والاستطلاع في قاعدة الظفرة الجوية في دولة الإمارات العربية المتحدة.
في أكتوبر/تشرين الأول 2004، خصص الكونغرس 63 مليون دولار لبناء منشآت عسكرية في الإمارات العربية المتحدة، وستين مليون دولار لتمويل تعزيزات إضافية لمطار العيديد في قطر. - في أفغانستان، أنفقت الولايات المتحدة 83 مليون دولار لحد الآن لتوفير تسهيلات جديدة في قاعدة باغرام الجوية (شمال كابل) وقاعدة قندهار الجوية.
- في أوائل عام 2006، وافق الكونغرس على مبلغ 413،4 مليون دولار لمشاريع البناء العسكري في العراق وأفغانستان في عام 2010.
- في العراق أنفقت الولايات المتحدة حتى الآن ما يقرب من 240 مليون دولار على بناء قاعدة البلد (شمال بغداد)، وهي القاعدة الجوية الرئيسية للنقل والإمداد، كما أنفقت 46.3 مليون دولار في قاعدة الأسد، التي تعد أكبر المراكز العسكرية الجوية ومركز الإمداد الرئيسي للقوات في الأنبار، و121مليون دولار في قاعدة التليل الجوية (جنوب العراق). كما أنفقت في المشاريع الأخرى 49.6 مليون دولار لمعسكر التاجي الذي يبعد عشرين ميلا فقط شمال غرب بغداد، و165 مليون دولار لبناء قاعدة للجيش العراقي قرب مدينة نومي، و150 مليون دولار لقاعدة الكسيك شمال الموصل.
ويلاحظ أن هذه المرافق التي تم بناؤها لتعزيز البنية التحتية على نطاق واسع قد قامت على فرضية أن الولايات المتحدة بحاجة إلى إنفاذ العديد من البعثات السياسية والعسكرية للأغراض التالية:
- الدفاع ضد التهديدات الخارجية.
- معالجة حالات الطوارئ الإقليمية.
- ردع القوى الخارجية التي تهدد المنطقة أو تسعى لزعزعة الاستقرار.
لتخفيف الأخطار التي تهدد الأمن في هذه المنطقة من العالم، يجب على الولايات المتحدة أن تسعى أولا وقبل كل شيء لتعزيز الروابط الداخلية بين دول المنطقة، فتضمن بذلك الأمن والاستقرار الإقليميين، فضلا عن القدرة على مواجهة المخاطر الأمنية التي تهدد المنطقة، كانتشار الأسلحة النووية والإرهاب الدولي. كما يجب على الولايات المتحدة في مواجهة هذه المخاطر إعادة ربط إستراتيجيتها الأمنية بالبيئة الإقليمية بحيث تدرك أنه لا يمكنها التعامل بسهولة مع مشاكل سياسية وعسكرية محكومة بتاريخ وظروف المنطقة، أي من دون أخذ هذه المعطيات بعين الاعتبار. "
حان الوقت بالنسبة لأميركا لمواجهة الآثار الناتجة عن سياستها البيروقراطية وهوسها بتنفيذ السياسة عن طريق استخدام القوة الأمر الذي أدى إلى رفض شعوب المنطقة لسياساتها
"
وكما ذكرنا في هذا التقرير فإن سلوك دول المنطقة يعد أحد المخاطر الأمنية فيها. حيث إن الضغوط السياسية الداخلية تجبر الدول الإقليمية على الامتناع عن الاستعانة بمصادر خارجية لتدعيم إستراتيجيتها الأمنية، ومن ثم تتحول هي نفسها إلى مهدد للأمن الخارجي. ولكي تتبنى الولايات المتحدة إستراتيجية أمنية تضمن حماية مصالحها في الإقليم ولتخفيف المخاطر التي يتعرض لها الأمن الدولي في نفس الوقت, فإنها تحتاج إلى إجراء تقييم إستراتيجي للمنطقة يبحث في القضايا التالية:
- الدور الذي يمكن أن تلعبه الضمانات الأمنية المقدمة من جانب الولايات المتحدة كجزء من إطار الأمن الإقليمي في حماية الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، ويبدو أن هذه الضمانات الأمنية تتضح اليوم من خلال الوجود العسكري الأميركي، والتدريبات المشتركة والمناورات العسكرية واللقاءات الثنائية المكرسة لقضايا الأمن والتطوير المستمرين لمرافق البنية التحتية للدول المعنية. من الواضح أن هذه الضمانات الأمنية يمكن أن تلعب دورا هاما باعتبارها جزءا من إطار الأمن الإقليمي الهادف إلى الحد من احتمالات الحرب بين الدول، أو انتشار الأسلحة النووية وما إلى ذلك من الضغوط السياسية والتهديدات القسرية التي قد تواجه المنطقة.
- على الولايات المتحدة وشركائها الإقليميين التصدي للتناقضات الحاصلة بين المخاطر التي يتعرض لها الاستقرار بسبب التوترات بين دول المنطقة من جهة، وتلك الناتجة عن التوترات مع دول العالم من جهة أخرى. الإستراتيجية السليمة لضمان الأمن الإقليمي هي تلك التي ترصد كل الجوانب التي من شأنها تهديد البيئة الأمنية، ثم تعالج القضايا عبر تحديد أفضل السبل في السيطرة على التوتر الذي يجمع ما بين المخاطر الخارجية والداخلية.
- وأخيرا، لقد حان الوقت بالنسبة للولايات المتحدة لمواجهة الآثار الناتجة عن سياستها البيروقراطية وهوسها بتنفيذ السياسة عن طريق استخدام القوة، الأمر الذي أدى إلى رفض شعوب المنطقة لسياساتها. فالولايات المتحدة قد شيدت اليوم سلسلة من القلاع المحصنة في جميع أنحاء الخليج الفارسي والشرق الأوسط وهذا ما جعل من الصعب أن تتعامل مع جماهير المنطقة بإيجابية. فهذه القلاع الأميركية عزلت الدبلوماسيين والعسكريين والمهنيين عن البيئات التي يجب أن يعملوا فيها، وجعلت من الصعب عليهم الاندماج بشكل فعال في المجتمعات المحلية، كما أن محاولة رفع هذه الحواجز من شأنه أن يؤدي إلى تعريض المرافق الأميركية العامة، وموظفيها لهجمات إرهابية.
_______________
مركز الجزيرة للدراسات
جميع الآراء الواردة في هذا التقرير تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي مركز الجزيرة للدراسات. وكاتب التقرير هو جيمس أ. راسل (James A. Russell) من معهد الدراسات الإستراتيجية الأميركية: مدرسة الحرب العسكرية (Strategic Studies Institute of the U.S. Army War College) وقد صدر بتاريخ 25 مارس/آذار 2008.