أثار التصريح الذي أدلى به نائب المرشد العام للإخوان المسلمين في مصر، د. محمد حبيب، مساء الأحد 18 أكتوبر/ تشرين أول، ضجة لم تخمد بعد، داخل مصر وخارجها، بما في ذلك كبريات العواصم الغربية. ما قاله حبيب هو أن الأستاذ المرشد، محمد مهدي عاكف (81 عاماً)، أوكل له معظم مهماته، نظراً لشعوره بالإرهاق، ولكن حبيب أكد في الوقت نفسه أن هذا القرار لا يعني استقالة المرشد العام من منصبه.
خلاف أجنحة
أسباب الأزمة مستمرة
خلاف حول التوجهات
ما العمل
وفي يوم الثلاثاء، 20 أكتوبر/ تشرين أول، وزعت وكالة الأنباء الفرنسية من مكتبها في القاهرة تقريراً حول هذه الأزمة، فيما يلي أهم ما جاء فيه:
محمد حبيب (الجزيرة-أرشيف) |
وأوضح أنه "أمر طبيعي أن النائب الأول يحل محل المرشد في حالة غيابه. لم أغير سلوكياتي لكنني تخففت من أعبائي." وتأتي تصريحات عاكف لتؤكد أن جماعة الإخوان المسلمين، أكبر قوة معارضة في مصر، تواجه أزمة داخلية كبيرة بين الجناحين المحافظ والإصلاحي، ما دفع مرشدها العام إلى الاحتجاج بشكل عاصف. وتابع المرشد العام للإخوان "المشكلة أن الناس ليست معتادة على أن يترك أي شخص أو قيادي منصبا يشغله".
وقال، رداً على أسئلة فرانس برس: "أليس من حقي حينما اختلف على قضية من القضايا أن أقول للإخوة شدوا حيلكم أنتم وأنا سأرتاح؟ ومع ذلك لم أقلها." وأوضح أن "الخلاف مع أعضاء مكتب الإرشاد كان حول تفسير اللوائح"، مشيراً إلى أنه كان يرى "التحاق عصام العريان عضواً بمكتب الإرشاد." ولكن المختلفين معه "يرون ضرورة انتخابه من مجلس شورى الجماعة." وقال إن "اللوائح ليست كل شيء والضغوط الأمنية لا تتيح لنا عقد مجلس الشورى، لأنني إذا جمعت ثمانين أو تسعين شخصا من أعضاء هذا المجلس سيتم القبض عليهم". واستطرد "أنا أحب عصام العريان واعتبر أنه متميز في أخلاقه ودينه والتزامه بالجماعة."
والعريان الذي تعامل معه الصحافيون المصريون والمراسلون الأجانب كمتحدث باسم الجماعة طوال السنوات السابقة، ينتمي إلى ما يعرف بجناح الإصلاحيين داخل الإخوان، في حين يمثل أعضاء مكتب الإرشاد جميعاً، باستثناء عبد المنعم أبو الفتوح المسجون حاليا، جناح المحافظين من "الحرس القديم." وأكد عاكف أن "صف الإخوان مبارك، لكنهم يخافون من التغيير من كثرة القهر الذي تعرضوا ويتعرضون له. فهناك 320 من أعضاء الصف الأول والصف الثاني للإخوان في السجون." وقال عاكف، الذي انتخب مرشداً عاماً للإخوان في 2004، أنه سبق أن "أعلن أنه لن يترشح مجدداً لمنصب المرشد" بعد انتهاء ولايته الحالية نهاية العام الجاري، مؤكداً أنه "ما زال ملتزماً بهذا الموقف."
طوال الثلاثاء، والأيام التالية، تحول نبأ الأزمة في مكتب إرشاد الإخوان المصريين، إلى نبأ عالمي. ولكن التفاصيل التي تم تداولها، سواء من المصادر الإخبارية، أو على لسان العدد القليل من المعلقين المصريين، لم تخرج كثيراً عن تقرير وكالة الأنباء الفرنسية. التطور الأهم كان في تباين التصريحات والمواقف اللاحقة، سواء تلك الصادرة عن الأستاذ المرشد، أو عن مصادر لم تشأ أن تصرح بأسمائها من داخل مكتب الإرشاد. في حديث لتلفزيون الحوار بلندن، أكد المرشد العام أنه فوض بعض مهامه وليس كلها لحبيب، كما يفعل عادة في توكيل بعض المهام لمعاونيه، وأن هذا الإجراء لا يعني، في أي شكل من الأشكال، تقاعداً مبكراً. حبيب، من ناحيته، أعاد التوكيد على مسألة التفويض؛ ثم سربت أنباء من مكتب الإرشاد، تفيد بأن المكتب أبلغ المكاتب الإدارية الفرعية للمحافظات المصرية، في تعميم رسمي، أن لا تنصاع لأية تعليمات من حبيب.
الوقائع الأقرب لما حدث يمكن روايتها كالتالي: أن لقاء الأحد 18 أكتوبر/ تشرين أول لم يكن اجتماعاً رسمياً لمكتب إرشاد الجماعة، كما أشيع، بل لقاء المرشد مع مساعديه وعدد من أعضاء مكتب الإرشاد الموكل إليهم مهمات خاصة، ترتبط بالمرشد. ولذا، فمن غير الصحيح القول إن المرشد واجه معارضة من كل أعضاء مكتب الإرشاد لاقتراحه ترقية د. عصام العريان إلى عضوية المكتب.
ولكن من الواضح أن مسألة عضوية العريان قد أثيرت بالفعل في لقاء الأحد الخاص، وأن المرشد توصل إلى قناعة بأن ثمة معارضة قوية لترقية العريان إلى مكتب الإرشاد، معارضة تستند إلى اللوائح الداخلية للجماعة، على الأقل في ظاهرها.
محمد مهدي عاكف (الجزيرة نت-أرشيف) |
مسألة عضوية عصام في مكتب الإرشاد ليست جديدة، ولكن شعور المرشد في لقاء الأحد الجزئي أن المكتب لن يستطيع تمرير هذه العضوية في مواجهة معارضة قوية من أعضاء المكتب، أدى به إلى طلب الاستعفاء المؤقت من مهامه اليومية، احتجاجاً على ذلك. خلال الأيام التالية، حتى يوم الأربعاء، الموعد الأسبوعي لاجتماع مكتب الإرشاد، مورست ضغوط قوية على المرشد من القيادات الإخوانية المصرية والعربية، أدت إلى تراجعه عن قراره.
ويعود التضارب في التصريحات بين المرشد ونائبه بالتأكيد إلى أن حبيب فوجئ بتخلي المرشد عن مهامه، كما فوجئ أيضاً بسرعة التراجع عن هذا القرار، وبالتحرك السريع من قبل الكتلة المحافظة بالمكتب، لإيقاف حبيب عن تولي مهام المرشد. وبخلاف الشائع، أيضاً، لا ينتمي حبيب للكتلة المحافظة؛ وهو أقرب إلى الشخصية التنفيذية؛ وبالرغم من حرصه على تجنب اتخاذ مواقف تعارض الكتلة المحافظة في المكتب، فإن هذه الكتلة لا تنظر إلى حبيب وإلى موقعه كنائب أول للمرشد بجدية.
مع نهاية أكتوبر/ تشرين أول، وخلال أسبوع من انفجار الأزمة، بدا وكأنها انتهت، واختفت من وسائل الإعلام واهتمام الدوائر السياسية والدبلوماسية، داخل مصر وخارجها. لكن في الحقيقة، ما تزال أسباب الأزمة قائمة.
التفسير المباشر للأزمة الإخوانية، والذي تداوله المعلقون ومراقبو الشأن الإخواني، يتلخص فيما يلي: إن القسم المصري من مكتب الإرشاد منقسم على نفسه بين أقلية إصلاحية مشكلة من عضو واحد في المكتب هو د. عبد المنعم أبو الفتوح، المعتقل حالياً على ذمة قضية جديدة، رفعتها النيابة الأمنية المصرية ضد مجموعة من الشخصيات الإخوانية القيادية، في حين أن الأغلبية العظمى من مكتب الإرشاد تنتمي إلى المعسكر المحافظ، الذي يقوده عضو المكتب محمود عزت.
ويميل المرشد في نظرته للأمور إلى نمط التفكير الإصلاحي؛ ومن هنا عطفه على عبد المنعم أبو الفتوح وحمايته له، وكذا محاولته تعزيز وضعه بالإتيان بعصام العريان، المعروف بتوجهاته الإصلاحية كذلك، إلى عضوية المكتب. أما محمد حبيب، فبالرغم من عدم اقتناعه بتوجهات المحافظين، فإنه يخشاهم، ويحاول بالتالي تجنب الصدام معهم؛ ويبتعد بالتالي عن اتخاذ مواقف محددة.
يعود الخلاف بين التوجهين الإصلاحي والمحافظ في صفوف الجماعة إلى لحظة إعادة بناء الجماعة في منتصف السبعينات؛ ولكن الواضح أن هذا الخلاف قد تفاقم مؤخراً. يسعى الإصلاحيون إلى انخراط الجماعة في الحياة السياسة العامة، ويعتبرون أن وزن الجماعة يحدده دورها في العمل العام والتفاف الجماهير حولها، بغض النظر عن حجم عضويتها التنظيمية.
أما المحافظون، فإن أولويتهم هي البناء التنظيمي، والمحافظة على تقاليد التنظيم وتوسعه وانضباطه؛ ويرون أن مستقبل البلاد يحدده التدافع بين تنظيم إخواني قوي وجهاز الدولة؛ وأن من العبث التعويل على القوى السياسية المعارضة الأخرى، أو على الحراك السياسي العام.
عصام العريان (الجزيرة-أرشيف) |
الواقع بالتأكيد أكثر تعقيداً؛ فالمرشد العام، الذي يتبنى وجهة نظر أقرب للإصلاحيين، هو أصلاً من أعضاء الجهاز الخاص؛ كما أن عدداً ممن يعرف بالمحافظين هو من جيل السبعينات الطلابي.
يسيطر المحافظون على مكتب شؤون التنظيم في الجماعة؛ ومن هنا تأتي قدرتهم على التحكم في العملية الانتخابية، ومن ثم سيطرتهم على أكثرية مجلس الشورى، وأكثرية مكتب الإرشاد. ولكن المدهش أن الأستاذ محمود عزت، الذي يقال أنه من يقود المعسكر المحافظ في مكتب الإرشاد، وصل أصلاً إلى عضوية المكتب بالترقية، وليس من خلال الانتخاب الاعتيادي من قبل مجلس الشورى؛ ما يعني أن العضوية بالترقية ليست بدعة، بل إجراء تم اللجوء إليه من قبل، سيما وأن أوضاع الجماعة ليست أوضاعاً حزبية اعتيادية. وهذا ما يرجح أن الخلاف حول عضوية عصام العريان في مكتب الإرشاد هو خلاف حول توجهاته السياسية وليس حول اللوائح.
بالرغم من أن التباين بين المحافظين والإصلاحيين ليس بالشأن الجديد أو الطارئ، فإن هذا التباين قد تفاقم مؤخراً، ولم يعد مجرد تعبير عن وجهات نظر حول أحداث عابرة. يعود هذا التفاقم إلى أن الجماعة تعيش أزمة كبرى ومتعددة الأبعاد، تتعلق بإستراتيجية عملها.
يتبنى نظام الحكم منذ سنوات، وعلى وجه الخصوص بعد انتخابات 2005 البرلمانية، سياسة الضربات الأمنية المتلاحقة للجماعة، التي تستهدف إبقاء الجماعة في حالة من فقدان التوازن. وقد طالت هذه الضربات مؤخراً عبد المنعم أبو الفتوح، عضو مكتب الإرشاد وأحد الشخصيات ذات الاعتبار الوطني، وليس الإخواني وحسب.
وليس ثمة مؤشر حتى الآن على أن النظام قد تزحزح عن موقفه الرافض للترخيص للجماعة بالعمل السياسي الشرعي. هذا في الوقت الذي يبدو وكأن أغلبية النخبة السياسية الحاكمة تدفع البلاد نحو سيناريو "التوريث"، الذي يعني تولي جمال مبارك، نائب رئيس الحزب الوطني ورئيس لجنة السياسيات بالحزب وابن الرئيس مبارك، رئاسة الجمهورية خلفاً لوالده. ولأن جسم المعارضة المصرية السياسية أضعف من أن يستطيع التصدي لسيناريو التوريث، الذي يجد معارضة سياسية وشعبية واسعة النطاق، فإن الأغلبية المصرية تحمل الإخوان المسلمين، أكبر القوى السياسية في البلاد على الإطلاق، مسؤولية تاريخية في الوقوف أمام هذا السيناريو.
السؤال الذي يقلق الإخوان يتعلق بكيفية التعامل مع هذا الكم الواسع من التحديات:
هل يلجأ الإخوان إلى تشكيل تحالف وطني عريض من القوى والشخصيات التي تتفق معهم حول برنامج عمل وطني مرحلي، أم أن مثل هذا التحالف لن يضيف للإخوان شيئاً، بل سيتطلب تقديم تنازلات جمة للحلفاء المحتملين؟
هل يتبنى الإخوان نهج عمل يرتكز إلى الحراك الشعبي الواسع، وصولاً إلى المظاهرات الجماهيرية، أم أن عليهم تجنب الصدام مع الحكم وإدخال البلاد إلى مناخ من عدم الاستقرار؟
هل جاءت اللحظة المناسبة لتبني برنامج عمل وطني شعبي من أجل التغيير، وإن انتهى بالصدام مع النظام، أم أن ضمانة مستقبل مصر هي في الحفاظ على الجسم الإخواني ما أمكن، إلى أن تتاح مثل هذه اللحظة المناسبة؟
هذه الأسئلة، وأخرى متفرعة منها، هي ما يشغل الإخوان، ويجعل كل قرار أو خطوة أو تغيير في موقع قيادي، مسألة محفوفة بالحساسيات والخلافات، فالانقسام والتدافع بين ما يسمى بالمحافظين والإصلاحيين هو في جوهره انقسام وتدافع حول مسائل أعمق: مسائل ما العمل، وكيف، وإلى أين تتجه الخيارات والأولويات السياسية؟
_______________
مؤرخ ومحلل سياسي