قراءة في أزمة إيران وتداعياتها

ليس الصراع في إيران استقطابا سياسيا بين المحافظين والإصلاحيين بل هو صراع اتجاهات ولفهمه لا ينبغي أن نقف على علاقة التيارين المتنافسين فقط بل لا بد من النظر إلى التيارات السياسية الممثلة لاتجاهات تتنافس في إطار سياسي ولا تمتلك هيكلا تنظيميا مستقرا







محمد عباس ناجي



الصراع الحالي في إيران ليس صراع استقطابات سياسية ولكنه صراع اتجاهات داخل نظام الجمهورية الإسلامية مما يعني أن اختصار الأزمة الإيرانية في كونها مجرد استقطاب بين إصلاحيين ومحافظين، يتسم ينوع من التسطيح لواقع الحالة السياسية الإيرانية التي تشهد حراكا في أنماط التحالفات والائتلافات لدرجة يمكن القول معها أن وحدة تحليل الحياة الحزبية في إيران لا تتمثل في الأحزاب الموجودة على الساحة، وإنما في التيارات السياسية التي تنتمي إليها هذه الأحزاب التي تمثل اتجاهات تتنافس في إطار بناء سياسي واحد ولا تمتلك هيكلا تنظيميا مستقرا.



ويمكن أن نقرأ بين سطور هذه الأزمة أن النظام الإسلامي في طهران لم يعد في مأمن من مخاطر الانقسام وربما الانهيار، الأمر اذي فجر السؤال الأهم في إيران الآن وهو: نظام الجمهورية الإسلامية إلي أين؟ هل إلى مزيد من الانغلاق والتشدد والارتداد مرة أخرى إلى العهد الأول من الثورة بكل ما يعنيه ذلك من طغيان الطابع الأيديولوجي على السلوك والسياسة الخارجية للدولة، أم إلى إحداث تغيير في أنماط السلوك الإيراني الداخلي والخارجي؟


أزمة داخل النظام لا خارجه
تداعيات داخلية للأزمة
ارتباك في أداء أحمدي نجاد
سيناريوهات متعددة
حدود ضيقة للتغيير خارجيا



أزمة من داخل النظام لا من خارجه





يلتزم الجناح الأصولي من التيار المحافظ الذي ينتمي إليه الرئيس أحمدي نجاد حرفيا بالثوابت التي قام عليها النظام الإسلامي ويؤمن بالنظام السياسي والثقافي المنغلق رافضا استيراد القيم الثقافية الغربية وهو  يري أن الشعب لا دور له في اختيار المرشد الذي لا يعتبر مسؤولا أمام الشعب
كشفت التطورات والتداعيات المتلاحقة للأزمة السياسية التي فجرتها نتائج انتخابات الدورة العاشرة لرئاسة الجمهورية الإيرانية التي أجريت في 12 يونيو الماضي عن حقيقتين مهمتين سوف تحكمان إلي حد بعيد مسار التفاعلات السياسية الإيرانية في المرحلة المقبلة:

أولاهما، أن هذه الأزمة لم تكن بين نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية ومعارضيه، بل هي بين أبناء وأنصار هذا النظام، أي أنها أزمة من داخل النظام وليست من خارجه. وهذا فارق غاية في الأهمية، لأنه يعني أن مفجري الأزمة الأخيرة من الإصلاحيين والمحافظين التقليديين المعترضين علي نتيجة الانتخابات التي كرست فوز الرئيس أحمدي نجاد بفترة رئاسية ثانية، ليسوا رافضين للنظام ولا ساعين إلي تغييره، بل هم مؤمنون به وموالون له، لكنهم يهدفون في المقام الأول إلى تطويره بما يتواكب مع التطورات التي تمر بها إيران داخليا وخارجيا.




وثانيتهما، أن اختصار الأزمة الأخيرة في أنها مجرد استقطاب بين إصلاحيين ومحافظين، يتسم بعدم التسامح مع واقع الحالة السياسية الإيرانية التي تشهد نوعا من السيولة الشديدة في أنماط التحالفات والائتلافات لدرجة يمكن القول معها أن وحدة تحليل الحياة الحزبية في إيران لا تتمثل في الأحزاب الموجودة على الساحة، وإنما في التيارات السياسية التي تنتمي إليها هذه الأحزاب التي تمثل اتجاهات تتنافس في إطار بناء سياسي واحد ولا تمتلك هيكلا تنظيميا مستقرا، وقد ساهم وجود عباءة دينية تعمل في إطارها هذه الأحزاب في إضفاء مزيد من الصعوبة في إيجاد حدود فاصلة فيما بينها.



من هنا يمكن تفسير أسباب ترشح مير حسين موسوي علي قائمة الإصلاحيين، رغم أنه ليس إصلاحيا خالصا، فهو أقرب إلي تيار المحافظين التقليديين، حيث يجمع بين الإصلاحات وسياسة المحافظين ويتبني أفكار مؤسس الجمهورية الإمام الخميني، وهو ما يعني أن ما جمعه بالإصلاحيين كان أكبر وأكثر اتساعا بكثير من مجرد الاستقطاب بين إصلاحيين ومحافظين.



فالصراع الحالي في إيران ليس صراع استقطابات سياسية ولكنه صراع اتجاهات داخل نظام الجمهورية الإسلامية، يبرز منها اتجاهان رئيسيان: الأول، هو اتجاه التغيير الذي يقوده المعتدلون من داخل النظام، وينتمون إلي التيار الإصلاحي والجناح التقليدي من التيار المحافظ، ويرى ضرورة إجراء تغييرات داخل نظام الجمهورية الإسلامية بما يجعله أكثر قدرة على التوافق مع التطورات التي تمر بها إيران داخليا وخارجيا، ويدعو إلي تغليب المصلحة على الأيديولوجيا، ويعتبر أن المرشد الأعلى (الولي الفقيه) ليس خليفة الله في الأرض ولا منزها عن الأخطاء، بل يمكن محاسبته ومراقبته من خلال الدستور.



أما الاتجاه الثاني، الذي يقوده الجناح الأصولي من التيار المحافظ الذي ينتمي إليه الرئيس أحمدي نجاد، فيلتزم حرفيا بالثوابت التي قام عليها النظام الإسلامي منذ الثورة عام 1979، ويؤمن بالنظام المنغلق في مجال السياسة والثقافة، ويدافع عن تدخل الدولة في المجال الاقتصادي، ويرفض استيراد القيم الثقافية الغربية والانفتاح الثقافي، كما يؤمن بنظرية المؤامرة، والأهم من ذلك أنه يري أن الشعب لا دور له في اختيار المرشد الذي، في رؤيته، لا يعتبر مسؤولا أمام الشعب.



تداعيات داخلية للأزمة






تفضيل خامنئي لأحمدي نجاد يعود إلي أن الأخير غير مثير للمتاعب بالنسبة للمرشد فلم يسع إلى زيادة صلاحياته على حساب صلاحيات وسلطات المرشد، مثلما فعل الرئيس السابق محمد خاتمي، ولم يدع إلي فرض رقابة دستورية على صلاحيات المرشد، مثلما فعل مير حسين موسوي
هذه الحقيقة تعني أن النظام الإسلامي لم يعد في مأمن من مخاطر الانقسام وربما الانهيار، فالأداء المرتبك الذي اتسم به تفاعل القيادة العليا في إيران مع الأزمة، فضلا عن دخول المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي على خط الأزمة برفض كل مطالب الإصلاحيين والمحافظين المعتدلين بإعادة إجراء الانتخابات، وتكريس فوز الرئيس أحمدي نجاد بفترة رئاسية ثانية، كل ذلك فجر السؤال الأهم في إيران الآن وهو: نظام الجمهورية الإسلامية إلي أين؟ هل إلى مزيد من الانغلاق والتشدد والارتداد مرة أخرى إلى العهد الأول من الثورة بكل ما يعنيه ذلك من طغيان الطابع الأيديولوجي على السلوك والسياسة الخارجية للدولة، وهو الخيار الذي يدعمه فوز الرئيس أحمدي نجاد بفترة رئاسية ثانية، أم إلى إحداث تغيير في أنماط السلوك الإيراني الداخلي والخارجي، من خلال تنفيس حدة الاحتقان التي أنتجتها الأزمة واختيار شخصيات تنتمي لتيارات مختلفة قادرة علي تحدي ضغوط القوى الداخلية المتشددة التي ترفض أي تطوير للنظام، وقادرة أيضا علي احتواء الضغوط الخارجية التي تستغل التشدد في السياسة الخارجية الإيرانية لفرض مزيد من القيود علي إيران؟


هذا السؤال يكتسب وجاهة خاصة في ضوء حالة الجدل التي أنتجتها الأزمة الأخيرة حول صلاحيات المرشد الأعلى للجمهورية (الولي الفقيه) الذي اتسم موقفه بالتحيز، حيث أعلن دعمه من البداية للرئيس أحمدى نجاد.



تفضيل خامنئي لأحمدي نجاد يعود إلي أن الأخير رئيس غير مثير للمتاعب بالنسبة للمرشد، إذ لم يسع إلى زيادة صلاحياته على حساب صلاحيات وسلطات المرشد، مثلما فعل الرئيس السابق محمد خاتمي، ولم يدع إلي فرض رقابة دستورية على صلاحيات المرشد، مثلما فعل مير حسين موسوي.



فضلا عن ذلك، فإن خامنئي يري أن مواقف أحمدي نجاد المتشددة في السياسة الخارجية ساعدت كثيرا على نجاح إيران في الحفاظ علي برنامجها النووي دون إذعان للضغوط أو التراجع عنه بسبب العقوبات الدولية المفروضة علي إيران أو التهديدات بشن حرب ضدها.



دخول خامنئي على خط الأزمة لصالح أحمدي نجاد فتح الباب علي مصراعيه لانتقاد موقف المرشد الأعلى وظهور دعوات إلي فرض رقابة دستورية على صلاحيات الولي الفقيه. ولم يكن ظهور شعار "مرگ بر خامنئى" (الموت لخامنئى) في طهران إلا مؤشرا على أن المعارضين للانتخابات باتوا ينظرون إلى أن التحدي الأساسي أمامهم في المرحلة المقبلة يتمثل في السعي لتقليص صلاحيات المرشد الأعلى للجمهورية، وربما استبدالها بقيادة جماعية تقود البلاد في هذه الظروف الحساسة التي تمر بها داخليا وخارجيا.



بعبارة أخرى، أفرزت أزمة الانتخابات تحديا صريحا لمكانة المرشد الأعلى للجمهورية وإرادته، وهذا تطور جديد وخطير في النظام السياسي الإيراني، خصوصا مع دعم بعض علماء الدين لهذا التوجه وخروج بعض آيات الله في "حوزة قم" للتأكيد على ضرورة فرض رقابة على تصرفات خامنئي بما يعني أن صدقية خامنئي أصبحت مثارا للتشكك وفقدت "اليقينية" التي كانت تتمتع بها.



فقد أكد هؤلاء على أن "ولاية الفقيه" تسقط عن أي شخص منحاز ويقف ضد إرادة الناس، ولا يجوز الاستمرار بحكم ولاية الفقيه ليوم واحد من خلال ممارسة الكبت وإرسال مئات الآلاف من قوى الأمن والحرس والتعبئة لقمع المحتجين، في حين أن أئمة الشيعة كانوا دوما يسمحون لخصومهم ببيان رأيهم ويحترمون مواقف وإرادة الآخرين.



وكان إقدام صحيفة "آفتاب" (الشمس) الإصلاحية على إسقاط لقب "المرشد الأعلى" عن خامنئي واصفة إياه بـ "قائد إيران"، فضلا عن توجيه مجموعة من النواب الإصلاحيين السابقين رسالة إلي مجلس الخبراء يطالبون فيها بالنظر في أهلية المرشد لقيادة البلاد، مؤشرا مهما على أن مصداقية خامنئي و"قدسية" موقع الإرشاد في النظام الإيراني بدأت تتعرض للتآكل.


مجمل ما سبق يؤكد أن الأزمة السياسية التي سببتها نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية فجرت بدورها معارك سياسية أكثر سخونة وأوسع انتشارا.



فقد بدا المرشح الخاسر في الانتخابات مير حسين موسوي عازما على مواصلة معارضته لنتائج الانتخابات، حيث كرر موقفه السابق من أنه لن يسكت على ما وصفه بعمليات تزوير الانتخابات وقتل الأبرياء، لكن الخطوة الأهم التي قام بها موسوي تمثلت في قراره بتشكيل جبهة سياسية قانونية للدفاع عن الحقوق وأصوات المواطنين.



أما الرئيس السابق محمد خاتمي، فقد بدا جليا أنه يتجه إلى تبني نهج جديد ربما يكون أكثر بعدا عن نهجه السابق الملتزم بولاية الفقيه وبمبدأ الديمقراطية الدينية، خصوصا بعد ثبوت فشل رهان الإصلاحيين للتوفيق بين مبدأ الحاكمية للشعب ومبدأ ولاية الفقيه. فقد انتقد خاتمي مسار الانتخابات ونتيجتها، لكن التحرك الأهم من جانبه تمثل في دعوته إلى إجراء استفتاء عام حول الانتخابات، حيث قال أن هذا الاستفتاء هو السبيل الوحيد لاستعادة ثقة الشعب الإيراني في نظام الحكم في البلاد وإنهاء الأزمة التي أعقبت الإعلان عن نتائج تلك الانتخابات.



فيما بدأ مهدي كروبي يطلق انتقادات لاذعة لبعض مؤسسات الدولة، على خلفية السياسة المتشددة التي انتهجتها السلطات مع المتظاهرين، خصوصا ما أشيع عن يتعلق اعتداءات جنسية على المعتقلين، والتي شبهها بالسياسات القمعية الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، وهو ما يمكن أن يعرضه لملاحقات قضائية، بعد هجوم بعض رموز المحافظين من أمثال علي لاريجاني رئيس مجلس الشورى وآية الله أحمد خاتمي إمام جمعة طهران عليه، واصفين تصريحاته بأنها "منحرفة وأفرحت أمريكا وإسرائيل".



أما رئيس مجلس الخبراء رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام هاشمي رفسنجاني، فقد حاول إمساك العصا من الوسط بين المختلفين تحت مظلة واحدة طارحا ما يشبه "خريطة طريق" لتجاوز الأزمة وإعادة الثقة بالنظام، من خلال العمل في إطار القانون، وإطلاق سراح المعتقلين ونشر التسامح، وتقبل الرأي الآخر، وإجراء المناظرات الحرة في الإذاعة والتليفزيون، وتخفيف القيود على الصحافة.



مثل هذه الرؤية كان يمكن أن تخلق منافذ لاحتواء الأزمة، لولا الرفض الحاسم لها الذي كان أقرب إلى التخوين، والذي جاء على لسان المرشد علي خامنئي، حيث وجه حديثه ضمنيا لرفسنجاني بقوله: "الشعب سيطرد أي شخصية أيا كان منصبها وموقعها إذا أرادت السير بأمنه نحو الكارثة".



تصريحات خامنئي التهديدية دشنت حملة للمحافظين على رفسنجاني وأنصاره، حيث دعا 50 عضوا بمجلس الخبراء المؤلف من 86 عضوا، هاشمي رفسنجاني في بيان إلي إظهار قدر أكبر من الطاعة للمرشد الأعلى، وقال البيان: "الكثيرون يتوقعون من رئيس المجلس الذي ساعد دائما الزعيم في تذليل المشكلات والعراقيل في السابق أن يظهر تأييدا أكبر وأكثر وضوحا للزعيم في هذه الأوقات الحساسة".



هذا التطور الأخير تحديدا يعطي مؤشرا مهما حول حدود حركة هاشمي رفسنجاني وهامش المناورة المسموح له، إذ أن معارضة 50 من 86 عضوا في مجلس الخبراء لتصريحاته، تعني أن الأغلبية لخامنئي وليست لرفسنجاني، بما يعني أن تحركات رفسنجاني لها حدودها وأنه ربما لن يستطيع الاستمرار حتى النهاية في مناطحته للمرشد الأعلى.



ما سبق بيانه يعني أن القيادة العليا في إيران حسمت موقفها من الأزمة باتجاه المواجهة وليس باتجاه البحث عن حلول وسط وبدأت في التحرك لتضييق الخناق على معارضيها بدءا من رفسنجاني وانتهاء بأنصار المرشحين المعارضين لنتائج الانتخابات موسوي وكروبي مرورا بخاتمي.



وقد أثارت الاعترافات التي أدلى بها محمد علي أبطحي، الذي شغل منصب نائب الرئيس السابق محمد خاتمي، في بداية أغسطس الحالي، أزمة سياسية حادة كان لها وقع الصدمة على التيار الإصلاحي، حيث قال أن فوز أحمدي نجاد كان نتيجة انتخابات "نظيفة"، وأن قادة الإصلاحيين خانوا المرشد الأعلى خامنئي، مضيفا أن خاتمي وموسوي ورفسنجاني "أقسموا على العمل بشكل جماعي"، مشيرا إلى أن "التزوير كان كلمة السر للبدء في الاضطرابات"، وزاد أبطحي على ذلك بالقول أن أحزابا مثل "جبهة المشاركة أجرت اتصالات مع أفراد من فريق الحمائم الأمريكيين".



تصريحات أبطحي فتحت الباب أمام توجيه اتهامات وإطلاق ملاحقات قضائية بحق قادة إصلاحيين بارزين، فقد قال رئيس مجلس صيانة الدستور أحمد جنتي في خطبة الجمعة في 31 يوليو الفائت، أنه سيأتي اليوم الذي يحاكم فيه الإصلاحيان مير حسين موسوي وهاشمي رفسنجاني. كما طالب حسين شريعتمداري رئيس تحرير صحيفة "كيهان" (الدنيا) المحافظة الناطقة بلسان المرشد الأعلى علي خامنئي بمحاكمة "مسؤولين أكبر" وسط الحركة الإصلاحية.



هذه الحملة العنيفة التي شنها المحافظون المتشددون ضد المعترضين على نتائج الانتخابات تكشف عن ثلاثة مضامين مهمة: الأول، هو سعي القيادة العليا في إيران إلي تكثيف الضغوط المفروضة على المعترضين للقبول بالأمر الواقع والاعتراف بالحقيقة التي كرستها نتائج الانتخابات وهي فوز الرئيس أحمدي نجاد بفترة رئاسية ثانية. والثاني، أن هذه القيادة لم تتسامح مع مفجري الأزمة الأخيرة، خصوصا أنها نالت من مكانة ومصداقية الولي الفقيه صاحب المنصب الأرفع في النظام السياسي الإيراني. والثالث، أن هذه الاعترافات ربما تستخدم كمبرر لاتخاذ إجراءات متشددة بهدف سد الطريق أمام أية محاولات لاستثمار الأزمة أو استغلال حالة الارتباك التي سببتها لتحقيق مكاسب سياسية في الاستحقاقات القادمة وأولها انتخابات الدورة التاسعة لمجلس الشورى التي سوف تجري في عام 2012.



ارتباك في أداء أحمدي نجاد






إقدام الرئيس على حملة الإقالات قبل وقت قصير على حلفه اليمين، يعطي انطباعا بوجود أزمة وصراعات عنيفة داخل الحكومة، ويقدم مؤشرات على أن موقف الرئيس أصبح ضعيفا على خلفية أزمة الانتخابات
ورغم أن الرئيس أحمدي نجاد حاول إعطاء انطباع بأن الأزمة السياسية التي أنتجتها انتخابات الرئاسة ليست عميقة ولا تهدد النظام الإسلامي، إلا أن مؤشرات عديدة تؤكد أن آثار الأزمة بدت واضحة على أداء الرئيس الذي اتسم بالارتباك والتضارب في بعض الأحيان.


أولي هذه المؤشرات تتمثل في الأزمة التي أثارها قراره بتعيين اسفنديار رحيم مشائي نائبا أول له. فعلي خلفية ذلك اندلعت أزمة سياسية جديدة داخل تيار المحافظين حتى من جانب أقرب حلفاء الرئيس الإيراني الذين أخذوا عليه تعيين مشائي الذي صرح قبل ذلك بأن إيران صديقة للشعبين الإسرائيلي والأمريكي وإقامته حفلا راقصا لفتيات يرفعن المصحف، خلال توليه منصب مساعد الرئيس لشؤون التراث والسياحة.



هذه الأخطاء الفادحة التي ارتكبها مشائي في الفترة الرئاسية الأولي لأحمدي نجاد ساهمت في استقطاب أعداء جدد للرئيس خصوصا من داخل نخبة رجال الدين في حوزة قم. وعلى خلفية ذلك، أصدر المرشد الأعلى علي خامنئي أوامره للرئيس بإقالة نائبه الأول.



عند هذا الحد كان يمكن للرئيس استيعاب كل الضغوط والمطالبات بإقالة مشائي من منصبه ومن ثم تجاوز أزمة سياسية كبيرة تمثل تحديا مهما أمامه في وقت مازال يعاني فيه من جراح أزمة التشكيك في فوزه بالانتخابات. لكن تعاطي الرئيس مع هذه الأزمة صعد من حدتها ولم يتجاوزها، حيث تأخر إلى حد كبير في الاستجابة لدعوة المرشد علي خامنئي بإقالة مشائي لفترة دامت حوالي أسبوعا، وهو ما أعطي انطباعا لدى أوساط المحافظين والإصلاحيين أيضا بأن المرشد الأعلى للجمهورية أصبح أضعف الآن من أي وقت سابق بسبب أزمة الانتخابات لدرجة تأخر رئيس الجمهورية في الاستجابة لأوامره لمدة أسبوع.



وقد دعم من هذا الاحتمال إقدام أحمدي نجاد على شن حملة تطهير داخل أجهزة الاستخبارات والشرطة ردا على قيام المرشد بإبعاد بعض كوادر وقادة القوات المسلحة والحرس الثوري من المقربين من الرئيس.



المهم أن تأخر أحمدي نجاد في الاستجابة إلى تعليمات المرشد أثار استياء حلفاءه قبل خصومه، حيث هاجمه نواب مجلس الشورى من المحافظين وطالبوه بإطاعة أوامر المرشد. وقد استجاب أحمدي نجاد للأمر في النهاية، لكنه حاول الالتفاف على القرار من خلال إقالة مشائي، لكن مع تكليفه بإدارة مكتب الرئيس، ونقل صلاحيات النائب الأول إليه.



ثاني مؤشرات حالة الارتباك التي وسمت أداء أحمدي نجاد بعد الأزمة تمثل في حملة الإقالات التي قام بها تجاه بعض وزراء حكومته الأولى، فقبل حوالي أسبوع من أدائه اليمين لتولي فترة رئاسة ثانية، قام أحمدي نجاد بإقالة وزير الاستخبارات والأمن غلام حسين محسني آجئى، وكان على وشك إصدار قرار بإقالة ثلاثة وزراء آخرين هم وزير الثقافة والإرشاد ووزير العمل والشؤون الاجتماعية ووزير الصحة، وذلك بسبب معارضتهم لتعيين مشائي نائبا للرئيس، لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة، لاسيما أن هذا الإجراء كان سيؤدي في حالة اتخاذه إلى سحب الثقة من الحكومة بعد تجاوز الإقالات أكثر من 50% من أعضاء الحكومة.



إقدام الرئيس على حملة الإقالات قبل وقت قصير على حلفه اليمين، يعطي انطباعا بوجود أزمة وصراعات عنيفة داخل الحكومة، ويقدم مؤشرات على أن موقف الرئيس أصبح ضعيفا على خلفية أزمة الانتخابات.



سيناريوهات متعددة



وفي كل الأحوال فإن المؤشرات توحي بأن الأزمة أصبحت مفتوحة علي ثلاثة سيناريوهات محتملة: الأول، أن يستمر المعارضون في نضالهم ضد نتائج الانتخابات، وأن يتصرفوا باعتبارهم الفائزين الحقيقيين فيها، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى مزيد من المصادمات بين السلطات الإيرانية وأنصارهم. أما الخيار الثاني، فيتمثل في انخراط مؤيدي موسوي، أو على الأقل بعض منهم، في حزب أو جماعة سياسية ومواصلة النضال في انتخابات مجلس الشورى القادمة التي ستجري عام 2012.


إذ أن محاولة التلاعب في انتخابات مجلس الشورى أصعب من التلاعب في الانتخابات الرئاسية، ومن ثم فقد تتمكن جماعة موسوي من تأمين مكانة لها في الهيئة التشريعية تستطيع من خلالها مناطحة حكومة أحمدي نجاد، بيد أن هذا الخيار يستلزم أن يقدم موسوي خطة للمعارضة الموالية له داخل النظام حتى لا تشهد إيران أزمة تزوير أخرى في الانتخابات التشريعية القادمة.



ويبقي الخيار الثالث، وهو الأصعب بل والأقرب إلى الانتحار السياسي في ظل معادلات توازن القوى الحالية داخل النظام الإيراني ويتلخص في السعي لإحداث انقلاب كامل على نظام الجمهورية الإسلامية الحالي واستبداله بنظام آخر أقرب إلى الجمهورية منه إلى الإسلامية أو نظام يحقق التوازن بين ما هو جمهوري وما هو إسلامي ولكن دون خضوع لمبدأ ولاية الفقيه وتحجيم دور رجال الدين في الحكم، وإعطاء كل السيادة للشعب، لكن مثل هذا الخيار سيضع المعارضة في مواجهة كاملة ليس فقط مع النظام ورجاله ولكن مع الشعب حيث ستكون تهمة العمالة والخيانة هي التكييف الجاهز لخلاص النظام من كل معارضيه.



حدود ضيقة للتغيير على المستوي الخارجي






تتداخل الاعتبارات وتتعد السيناريوهات التي سوف ترسم معالم المرحلة المقبلة في إيران التي ربما تشهد صراعات سياسية أكثر قوة وأشد سخونة من أزمة الانتخابات، التي وضعت مستقبل نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية أمام اختبارات صعبة
وفي كل الأحوال، فإن فوز أحمدي نجاد بفترة رئاسية ثانية يعني أن التعاطي الإيراني مع قضايا السياسة الخارجية لن يشهد تغييرا كبيرا، لاسيما إزاء الملف النووي الإيراني، لأكثر من اعتبار: الأول، أن الكلمة الأخيرة في صنع القرار الإيراني هي للمرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي وليس لرئيس الجمهورية الذي تتمثل مهمته في اختيار البدائل المناسبة لتنفيذ السياسة التي يحددهها المرشد.


ذلك لا يعني أن دور الرئيس هامشي في عملية صنع القرار الإيراني سينتفي، إذ يمكنه بالفعل التأثير والمساهمة في توجيه السياسة العامة، مثلما حدث خلال عهد الرئيس السابق محمد خاتمي الذي ضغطت حكومته من أجل وقف عمليات تخصيب اليورانيوم في عام 2005. لكنه يعني أن الظروف الحالية التي تمر بها إيران لا تسمح بأي تراجع خصوصا في الملف النووي. فقد نجح النظام في تحويل هذه القضية إلى تحد حقيقي مع الغرب والاستكبار، بما يجعله غير قادر في الوقت الحالي على إبداء تنازلات في هذه القضية الحيوية.



فضلا عن ذلك، فإن إيران حتى الآن نجحت في إدارة أزمة ملفها النووي مع الغرب، واستطاعت كسب التحدي مع الإدارة الأمريكية السابقة التي لوحت بإمكانية توجيه ضربة عسكرية لمنشآتها النووية، وهو ما سيجعلها في الفترة القادمة أشد تصلبا في مواجهة إدارة أمريكية هي في أشد الحاجة لإجراء حوار معها لتسوية المشكلات العويصة التي تسببت فيها الإدارة اليمينية السابقة.



تشدد إيران في الفترة المقبلة بدت مؤشراته جلية، عندما أعلن أحمدي نجاد رفض بلاده فكرة "التجميد مقابل التجميد" أي تجميد إيران عمليات تخصيب اليورانيوم مقابل تجميد فرض أي عقوبات جديدة عليها، حيث قال في هذا الصدد: "إن محادثاتنا مع القوى الكبرى ستكون فقط في إطار التعاون للتعامل مع قضايا عالمية وليس لشيء آخر. لقد أعلنا ذلك بوضوح". وأضاف "إن القضية النووية منتهية بالنسبة لنا. ومن الآن فصاعدا سنواصل مسيرتنا في إطار العمل الخاص بالوكالة الدولية للطاقة الذرية".



لكن ذلك لا يعني أن إيران سوف ترفض الدعوة الأمريكية لإجراء حوار، بل ربما يكون العكس هو الصحيح. فقد كانت إيران من أشد المتحمسين لمجيء إدارة ديمقراطية "معتدلة" إلى البيت الأبيض وانعكس ذلك في رسالة التهنئة غير المسبوقة التي بعث بها أحمدي نجاد إلي الرئيس الأمريكي. كما حرصت إيران في الفترة الأخيرة قبيل الانتخابات مباشرة، على توجيه رسائل عديدة إلى الخارج تفيد تجاوبها مع دعوة الحوار، منها الترحيب بهذا الحوار المحتمل مع ربطه بضرورة إجراء تغييرات في السياسة الأمريكية، ومنها إفراج السلطات الإيرانية عن الصحفية الأمريكية (الإيرانية الأصل) روكسانا صابري، بعد إدانتها بتهمة التجسس لصالح الولايات المتحدة الأمريكية.



كما أعلنت إيران، علي لسان وزير الخارجية منوشهر متكي، أنها تعد حزمة جديدة بشأن القضايا السياسية والأمنية والدولية لطرحها علي الغرب، موضحا أن الحزمة يمكن أن تكون أساسا جيدا للمحادثات الغربية مع طهران حول الملف النووي والملفات الإقليمية والدولية.



إيران تهدف من ذلك إلى كسب مزيد من الوقت وتحقيق أكبر قدر ممكن من التقدم في البرنامج النووي، ومن ثم فهي تحاول احتواء المهلة التي حددها الغرب، وهي سبتمبر القادم، للتفاوض حول الملف النووي، من خلال توسيع هامش هذا الحوار ليتجاوز حدود الملف النووي إلى قضايا دولية عديدة سوف تؤدي إلي إنهاك المفاوض الغربي وبالتالي كسب مزيد من الوقت وتجنب فرض عقوبات جديدة ضدها.



تطورات الوضع على هذا النحو تشير إلى أن أزمة الملف النووي باتت مفتوحة علي سيناريوهين كلاهما ينتجان تداعيات سلبية على أمن ومصالح الدول العربية لاسيما دول مجلس التعاون الخليجي: السيناريو الأول، هو تعرض إيران لعقوبات صارمة، مثل حظر تصدير البنزين، الذي يمكن أن ينتج تداعيات داخلية عنيفة على النظام السياسي الإيراني تتلاقح مع حالة الضعف التي يعاني منها بسبب أزمته الداخلية، وربما تتطور الأمور إلى توجيه ضربة عسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية سواء من جانب الولايات المتحدة أو من جانب إسرائيل، في حالة رفض إيران لأية تسويات سياسية للأزمة النووية.



احتمالات حدوث هذا السيناريو بدت جلية في مؤشرين: أولهما، إصرار واشنطن على عدم استبعاد أي خيار في التعامل مع إيران بما فيها الخيار العسكري حتى مع تأكيد الإدارة الأمريكية الجديدة بأنها تفضل الحل الدبلوماسي لتسوية هذه الأزمة. وثانيهما، حالة التحفز التي تبدو عليها إسرائيل تجاه أزمة الملف النووي الإيراني، والتي تعكسها الجهود التي تبذلها لمحاصرة واشنطن في خياراتها ضد إيران والضغط عليها لعدم استبعاد الخيار العسكري.



فيما يتمثل السيناريو الثاني في التوصل إلى تسوية سلمية للأزمة بين إيران والغرب. هذه التسوية المحتملة ربما تتم من خلال التوافق على نقاط مشتركة في "حزمة الحوافز الغربية" التي قدمتها دول مجموعة "5+1" (الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن إضافة إلي ألمانيا) لإيران، والمقترحات التي ستقدمها الأخيرة في المقابل، يتم على أساسها بدء عملية تفاوض جديدة قد تؤدي في النهاية إلى العمل بـ"الاقتراح السويسري" القائم على التجميد المزدوج أي تجميد إيران عمليات تخصيب اليورانيوم، مقابل تجميد العقوبات المفروضة عليها خلال ستة أسابيع هي مدة التفاوض يتم بعدها تقييم نتائج المفاوضات.



هذه التطورات في مجملها تؤكد أن الدول العربية، وخصوصا دول مجلس التعاون الخليجي ستكون أول من سيدفع ثمنها أيا كان سيناريو الحل المتصور.



ففي حالة تطور الأزمة إلى شن ضربة عسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية، فإن دول المجلس ستكون عرضة للخطر، فقد تلجأ إيران إلى تلغيم مياه الخليج، وستقوم بإغلاق مضيق هرمز كلية لخلق أزمة نفطية عالمية. كما أن القواعد العسكرية الأمريكية الموجودة في أراضي دول المجلس وفي مياهها الإقليمية ستكون أهدافا مؤكدة لإيران في وقت باتت تمتلك فيه الأخيرة ترسانة قوية ومتطورة من الصواريخ والأسلحة البحرية.



أما في حال التوصل إلى تسوية سلمية للأزمة، فإن ذلك يعني أنه سيكون هناك قبول دولي بأمرين: الأول، تمكين إيران من امتلاك قدرات نووية سلمية تحت رقابة دولية مشددة، وفي هذه الحالة تتخوف دول المجلس من التلوث البيئي الذي يمكن أن يدمر المنطقة إذا ما حدثت نكسة تسرب إشعاعي من مفاعل بوشهر القريب من عواصم دول خليجية أكثر من قربه من طهران. وسيترتب على تشغيل هذا المفاعل وغيره من المفاعلات المخطط إقامتها وعددها 10 مفاعلات خلال السنوات العشر القادمة تسرب نفايات نووية إلى مياه الخليج وعلى الأخص باتجاه الكويت، حيث أن أغلب التيارات البحرية السفلية تجري باتجاه الكويت في أغلب أيام السنة، وهو ما يعني تلوث مياه الشرب بالمواد المشعة حيث تعتمد أغلب دول مجلس التعاون على تحلية مياه البحر للحصول على احتياجاتها من مياه الشرب، ناهيك عن تلوث الثروة السمكية.



والثاني، تقديم ضمانات أمنية لإيران، أو على الأقل ضمانات بمشاركة إيرانية في معادلة الأمن الإقليمي بموافقة وقبول أمريكي، وهو ما تضمنته سلة الحوافز الغربية التي قدمتها دول مجموعة "5+1" لإيران، وهذا يعني أن دول مجلس التعاون ستكون مطالبة خلال مرحلة ما بعد تسوية الأزمة بقبول الدخول في مفاوضات مشتركة مع إيران حول ترتيبات الأمن الإقليمي في الخليج، قبل أن تتم تسوية الخلافات الأخرى العالقة معها وعلى رأسها قضية الجزر الإماراتية الثلاث: طنب الكبرى، وطنب الصغرى، وأبو موسي، والتي تنتهج فيها إيران موقفا متشددا قائما على اعتبار الجزر الثلاث جزءا من الأراضي الإيرانية، وحصر الخلاف مع الإمارات في مجرد "سوء تفاهم"، وهو ما ترفضه الإمارات ومعها دول مجلس التعاون الخليجي، التي تؤكد أحقيتها في ملكية الجزر وتدعو إيران إلي إجراء مفاوضات أو رفع الخلاف إلى التحكيم الدولي وعدم حصره في نطاق سوء تفاهم بين البلدين.



اعتبارات متداخلة وسيناريوهات متعددة كلها سوف ترسم معالم المرحلة المقبلة في إيران التي ربما تشهد صراعات سياسية أكثر قوة وأشد سخونة من أزمة الانتخابات، التي وضعت مستقبل نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية أمام اختبارات صعبة.
_______________
باحث بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية