العدو البديل.. أمني أم حضاري؟

يطرح هذا الفصل سؤالين محوريين، أحدهما عن طبيعة التطور الداخلي في الحلف بشأن تحديد العدو. والسؤال الثاني عن معالم العلاقات الأطلسية بالمنطقة العربية والإسلامية، وتأثرها سلبا وإيجابا بعملية تحديد العدو داخل الحلف نفسه.

يطرح هذا الفصل سؤالين محوريين، أحدهما عن طبيعة التطور الداخلي في الحلف بشأن تحديد العدو (التهديدات الخارجية) وأين تكمن العوامل المؤثرة على ذلك في المعادلة الجامعة على الأرضية الغربية الحاضنة له، بين العناصر الأمنية السياسية، والمادية الاقتصادية، ومنظومة القيم على الأرضية الديمقراطية. والسؤال الثاني عن معالم العلاقات الأطلسية بالمنطقة العربية والإسلامية، وتأثرها سلبا وإيجابا بعملية تحديد العدو (التهديدات الخارجية) داخل الحلف نفسه. 





كان في مقدمة العلامات الفارقة عقب الحرب الباردة، أن العالم الغربي أصبح مصدر القسط الأعظم من ديون الدولة الروسية الوليدة على أنقاض الاتحاد السوفياتي.
اعتمادا على ما سبق يساهم في التمهيد للإجابة على هذين السؤالين تثبيت الصبغة الرئيسية لمراحل تطوير الحلف بعد الحرب الباردة وإعادة صياغته بنيويا وإستراتيجيا، إذ كانت تسعينيات القرن العشرين مرحلة إعداد أولى انطوت على التقريب بين التصورات المتعددة لِما ينبغي أن يكون عليه الحلف بعد زوال عدوّه الشرقي القديم.

وفي المرحلة التالية ألحقت الحروب الأميركية في السنوات الثماني الأولى من القرن الميلادي الحادي والعشرين اضطرابا كبيرا بالحلف، وبالتالي على صعيد دوره الجديد عالميا. وفي عام 2009 أعطت القمة الستينية للحلف أولى المؤشرات (عودة فرنسا والتفاهم مع روسيا وتغيير لهجة الخطاب في العلاقات الأوروبية الأميركية) لتوجهات مرحلة ثالثة تتميز ببذل جهود مكثفة لتثبيت أركان وحدة الحلف داخليا، وتوجهاته لأداء مهام جديدة عالميا.


أبعاد اقتصادية في الصياغات الأمنية
بين زعامة أميركية وتعدد الأقطاب
الصين الشعبية بمنظور أطلسي
المنطقة الإسلامية بمنظور أطلسي
العدو المستقبلي
العلاقات الأطلسية مع دول عربية وإسلامية
تعدد مستويات التعامل الأطلسي مع العالم الإسلامي
باختصار..


أبعاد اقتصادية في الصياغات الأمنية 


لا يعتمد تفسير نهاية الحرب الباردة بانتصار الغرب على الشرق على تأكيد التفوق العسكري بقدر ما يعتمد على تأكيد العنصر الاقتصادي، إذ كان هو العامل الحاسم لتمييز العالمين الرأسمالي والشيوعي. حتى سباق التسلّح الذي بلغ درجة قصوى ابتداء من سبعينيات القرن الميلادي العشرين، كان يسير في نظر معظم الدارسين الغربيين باتجاه مرحلتي الانفراج فالوفاق دوليا، إذ كان سبب إنهاك العالم الشرقي ماليا واقتصاديا. من هنا كان في مقدمة العلامات الفارقة عقب الحرب الباردة، أن العالم الغربي أصبح مصدر القسط الأعظم من ديون الدولة الروسية الوليدة على أنقاض الاتحاد السوفياتي.


مع نهاية الحرب الباردة حملت العلاقات الغربية مع الشرق عنصرين متوازيين:


أولهما، استيعاب التوسعة تنظيميا في حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وبالتالي ربط هذه الدول سياسيا وأمنيا بالغرب، دون أن يشمل ذلك الاتحاد الروسي بما يتجاوز علاقة "الشراكة" الأشبه بالتنسيق غير الملزم أمنيا وسياسيا، وقام عنصر التوسعة على خلفية الديمقراطية ودولة القانون وحقوق الإنسان في إطار  منظومة القيم الغربية.


أما العنصر الثاني فيدور حول تطوير الأوضاع الاقتصادية في الدول الشرقية باتجاه تبني النظام الرأسمالي الغربي، وهذا ما لم يقف عند الحدود الروسية، واستهدف تكوين شبكة من المصالح المالية والاقتصادية مع الدول الشرقية، على غرار ما تكوّن بين ساحلي الأطلسي بعد الحرب العالمية الثانية وأصبح الأساس للبنية السياسية الأمنية المشتركة، وفي مقدمتها حلف شمال الأطلسي، وقام هذا العنصر الاقتصادي على خلفية الليبرالية، أو الرأسمالية المنبثقة عنها في منظومة القيم الغربية.


ويظهر في العنصرين ازدياد مفعول منظومة القيم الغربية القائمة على دعامتي الديمقراطية والرأسمالية (الليبرالية).


بين زعامة أميركية وتعدد الأقطاب 


لم يكن الخلاف داخل حلف شمال الأطلسي غائبا في هذه الصورة الإجمالية للمسيرة الأطلسية، بل غلب على مظاهرها منذ عام 1989 حتى عام 2009 دون انقطاع، وبلغ درجة مواجهة علنية في حالات معدودة.


ويمكن تعداد عناوين رئيسية لذلك في حدود ما يتطلبه استشراف ما ينتظر في المرحلة التالية، مع السؤال المطروح حول القمة الستينية تخصيصا: هل وضعت نهاية لهذا الخلاف، أم ستبقى محطة على الطريق دون تغيير كبير؟


1- هل يوجد ما يستدعي بقاء الحلف؟
سؤال سيطر على العلاقات الأوروبية الأميركية عامي 1989 و1990، ورافقته مساعٍ فرنسية (وروسية) لتحويل ثقل السياسات الأمنية من حلف شمال الأطلسي إلى منظمة الأمن والتعاون في أوروبا المنبثقة عما حمل الاسم نفسه في صيغة "مؤتمر" من قبل، وكانت ساحة تحقيق الانفراج بين الشرق والغرب. ولم يضمحل هذا الخلاف إلا عبر حرب البلقان بعد سنوات، واستعراض تجدد الحاجة الأوروبية إلى الولايات المتحدة الأميركية عسكريا.


2- من هو العدو البديل؟



الشواهد على السعي الأميركي للزعامة معروفة، وتابعها عدد كبير من المؤلفات الأميركية والأوروبية على مدى سنوات تحت عنوان "إمبراطورية أميركية جديدة".
أُعلنت أطروحة "الإسلام عدو بديل" لأول مرة على لسان ديك تشيني في مؤتمر ميونيخ للشؤون الأمنية عام 1990 (كان وزيرا للدفاع في عهد بوش الأول)، فشهدت رفضا أوروبيا مباشرا اضمحل عبر حلول وسطية بدلت العنوان من الإسلام إلى الأصولية الإسلامية خلال السنوات التالية.

3- هل يتحقق التميز الأوروبي أمنيا؟
كانت المعارضة الأميركية شديدة في البداية لتكوين طاقة عسكرية أوروبية متميزة وفق مشروع بدأ بين فرنسا وألمانيا وشمل دولا أوروبية أخرى لاحقا، مقابل تأكيد واشنطن أن تكون الأولوية الأمنية المطلقة للحلف. وبلغ الخلاف درجة التهديد الأميركي علناً على هامش قمة روما الأطلسية عام 1991 بتحويل مركز ثقل العلاقات الاقتصادية والتجارية والمالية إلى جنوب شرق آسيا ومنطقة المحيط الهادي.


4- هل يتوسع الحلف على حساب العلاقات مع روسيا؟
بقي هذا السؤال مطروحا باستمرار، أثناء المعارضة الأميركية المبدئية لخطوات التوسع الأطلسي والأوروبي شرقا، مراعاة لتطوير العلاقات الأميركية الروسية عقب الحرب الباردة، ثم كان تبني هذه التوسعة منذ حرب البلقان، مع عدم مراعاة المصالح الأمنية الروسية، وعادت العلاقات الأطلسية الروسية إلى مجراها (أو بدأت عودتها) عام 2009.


5- ما هي المهام الجديدة للحلف؟
استدعى الخلاف على صياغة مهام جديدة سلسلة مفاوضات بدأت عام 1991 وأوصلت عام 1999 إلى اتفاق وسطي على بنود أساسية، مع اختلاف علني في تفسيرها، ظهر في تناقضاتٍ حملتها تصريحات الرئيس الأميركي بيل كلينتون، والفرنسي جاك شيراك، والمستشار الألماني غيرهارد شرودر، والأمين العام للحلف الأطلسي مانفريد فورنر، وسرعان ما تكررت المطالبة بتعديلات جديدة تحت تأثير الحروب الأميركية، ولا تزال مطروحة وموضع مفاوضات إلى الآن.


6- أين تقع حدود ساحات القتال أطلسياً؟
انطلقت بعد البلقان مسيرة خوض القتال خارج نطاق المجال الجغرافي للحلف، وبدأت بتوافق شامل بعد تفجيرات نيويورك وواشنطن عام 2001، واستهدفت أفغانستان، ولكن سرعان ما اضمحل التوافق بغزو العراق عام 2003 واندلاع المواجهة السياسية العلنية الأكبر في تاريخ الحلف. ومنذ الغزو حتى عام 2009 لم تنقطع الخلافات بشأن تفاصيل التعامل مع الحربين، ولا تزال تهدئة هذه الخلافات عبر القمة الستينية على محك التجربة العملية للمرحلة المقبلة.


في إطار هذه الصورة الإجمالية توجد خلافات فرعية عديدة، مثل تعثر التنسيق مرارا بين تشكيل أكثر من قوة تدخل سريع، وإعادة تشكيل البنية الهيكلية للقيادات الأطلسية، والبحث عن حل وسطي للعلاقة العسكرية -قرارا وتنفيذا- بين القوى الأوروبية والحلف، وغير ذلك. لكن يمكن القول إن القاسم المشترك بين جميع الخلافات الرئيسية والفرعية، يقوم على أمرين:



  • الأول: سعي واشنطن لتثبيت زعامة انفرادية دولية أمنيا وسياسيا بما يشمل الجانب الاقتصادي.
  • الثاني: الإصرار الأوروبي على المشاركة "الندّية" أطلسيا، مع متابعة التنافس الاقتصادي عالميا.

الشواهد على السعي الأميركي للزعامة معروفة، وتابعها عدد كبير من المؤلفات الأميركية والأوروبية على مدى سنوات تحت عنوان "إمبراطورية أميركية جديدة". إنما الأهم من ذلك بمنظور المخاوف الأوروبية، ما أوردته وثيقة المحافظين الجدد تحت عنوان "الإستراتيجيات الأميركية للقرن الـ21"، وقد وُضعت بصيغتها المبدئية عام 1991، ونُشرت رسميا مع وصول جورج بوش الابن إلى منصب الرئاسة. وكان مما تضمنته نصًّا الحيلولة دون بروز دول منافسة اقتصاديا، لاسيما ألمانيا واليابان، والسيطرة على منابع الطاقة عالميا، ونشر القواعد العسكرية الأميركية حتى أواسط آسيا، بالإضافة إلى الهدف المشترك مع القوى الدولية الأخرى تحت عنوان حظر انتشار أسلحة الدمار الشامل.


كما لم تنقطع الشواهد على المواقف الأوروبية بشأن المشاركة الندية أطلسيا عبر جميع القمم الأطلسية، خاصةً قمم إسطنبول وريغا وبوخارست أعوام 2004 و2006 و2008، وكذلك في مؤتمرات دولية أمنية -لاسيما المؤتمر السنوي في ميونيخ- وبقي ذلك مستمرا حتى القمة الأطلسية عام 2009.


السؤال المفتوح حاليا:
هل ستستمر المساعي الأميركية لتثبيت زعامة انفرادية ولكن بصيغة جديدة، أم ستقبل بتحقيق ما يردده الساسة الأوروبيون بصدد نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، وهو ما يلتقي مع التطلعات الروسية والصينية، ويفترق عند رغبة الأوروبيين في بقاء الحلف في هذا الإطار ساحة مشتركة لصناعة القرار الأوروبي والأميركي على قدم المساواة، وفي أن يجاوره وجود قوة عسكرية أوروبية متميزة؟


الصين الشعبية بمنظور أطلسي 


كان من معالم الحرب الباردة أيضا سعي الولايات المتحدة الأميركية لموازنة بدايات الانفراج الغربي عبر ما عرف بمؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا مع موسكو والدول الأوروبية الشرقية، فخطت خطوة موازية وحاسمة (في السبعينيات) باتجاه الانفتاح على الصين الشعبية أيضا التي كانت على خصومة شديدة مع الاتحاد السوفياتي، ويُستبعد أن تكون المنطلقات الأميركية قد وضعت في حسابها آنذاك صعود الصين السريع نسبيا إلى مستوى قطب اقتصادي دولي بقدرات عسكرية متنامية.


الموقع الجديد للصين الشعبية عالميا، وقدراتها الاقتصادية التي اخترقت الأسواق التقليدية للغرب خارج حدوده وداخلها، والطاقات العسكرية المتنامية، جميع ذلك يرجح في الأصل أن تكون هي العدو المستقبلي المحتمل للحلف.





الخطر الصيني بالمنطق الإستراتيجي هو الخطر المستقبلي على الغرب، وبالتالي على حلفه الأطلسي، لأن قدرات الصين الذاتية مع وحدة أراضيها يمكن أن تضع حداً لهيمنة الغرب على العالم.
وعليه فإن الخطر الصيني بالمنطق الإستراتيجي هو الخطر المستقبلي على الغرب، وبالتالي على حلفه الأطلسي، لأن قدرات الصين الذاتية مع وحدة أراضيها يمكن أن تضع حداً لهيمنة الغرب على العالم.

أما الخطر الروسي فهو نسبي وظرفي، ولهذا تتجه العلاقات الغربية الروسية عموماً نحو المزيد من التعاون والتكامل، علاوة على أن روسيا قوة تقليدية مثلها مثل القوى الغربية بمنظور موازين القوى العالمية. أما الصين فتنتمي إلى جيل جديد من القوى، إذ تزداد قوتها دون أن تظهر لها  طموحات إستراتيجية أو أن تطرح بدائل للمنظومة القيمية (الديمقراطية والليبرالية) الغربية.


الجدير بالذكر أن رؤية الصين عدوّاً إستراتيجياً بعيد المدى للغرب بزعامته الأميركية على مدى القرن الواحد والعشرين وربما أبعد من ذلك، لا تنفي أنها ما زالت من الناحية الواقعية بعيدة المنال عن إمكانيات وقدرات الحلف الحالية والمستقبلية، ما لم ينضم إلى عضويته كل من اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا في وقت لاحق، أو في إطار ما يسمى الشراكة المباشرة، بالإضافة إلى دول مختارة من منطقة جنوب شرق آسيا، المتميزة بعلاقات قوية (مع الولايات المتحدة وأوروبا) بهدف الإحاطة الإستراتيجية بالصين وإحكام الطوق عليها من الشرق والجنوب، وإضعاف خياراتها الإستراتيجية مستقبلا.


إنما حتى في حال تحقيق ذلك ستبقى اعتبارات إستراتيجية أخرى حاسمة في تقدير موازين المواجهة المحتملة، فحسم المواجهات المباشرة لا ينفصل في المدارس الإستراتيجية الحديثة عن تقدير موازين القوى غير العسكرية أيضا، والعنصر الحاسم هنا هو أن الصين لا تسعى ولا تفسح المجال لمواجهة بقوى عسكرية غير متكافئة توظف فيها قدراتها الاقتصادية أثناء المواجهة، بل هي توظف هذه القدرات "استباقيا" في مواجهة "ناعمة" على الساحة العالمية، مما يمكن أن يصبح لاحقا سندا كبيرا إذا وقعت مواجهة عسكرية ما.


المنطقة الإسلامية بمنظور أطلسي 


إذا كان المنطق الإستراتيجي يفرض على الحلف أن يضع الصين في خططه المستقبلية، فإن التطور الجاري على أرض الواقع، وترجيح أن يكون لمنظومة القيم دور أكبر في توظيف الحلف غربيا، يدفعان للسؤال عما إذا كان يستهدف المنطقة الإسلامية أو لا وعلى المدى البعيد.



  1. أثناء الحرب الباردة كان الحلف معتادا على وجود عدو معروف ومحدد جغرافيا، يمكن تقدير خططه وتحركاته مسبقا لأن له نفس الثقافة الأمنية والعقلانية الإستراتيجية الغربية (ينفع معه مثلاً الردع النووي).


  2. مع نهاية الحرب بدأ الحلف يرصد مصادر أخطار تختلف بطبيعتها عن العدو التقليدي، فأعداء اليوم هم من جيل جديد، دون قاعدة جغرافية واضحة الحدود، ويمزجون بين أدوات صراع تقليدية وربما غير تقليدية (التخوف من حيازة جماعات إرهابية لمواد انشطارية).


  3. هذا ما أوجد حالة ارتباك إستراتيجية في الحلف، لاعتياده في وضع إستراتيجياته على أساس تحديد دقيق لهوية العدو وتموقعه جغرافيا وسياسيا (ضمن حدود سياسية دولية).


  4. عناوين مصادر الخطر (العدو) التي حددها الحلف تركزت على: الإرهاب، وأسلحة الدمار الشامل، وانتشار الصواريخ البعيدة المدى، إضافة إلى مصادر أخرى تتجاوز الجانب الأمني العسكري إلى الجانب الاقتصادي، مثل الخلل في التوازنات البيئية، وطرق إمدادات الطاقة والمواد الخام، والطرق التجارية، والهجرات الجماعية، وغيرها.


  5. جميع ذلك (أو معظمه) واقع في نطاق المنطقة الإسلامية (والجدير بالذكر أن دول الحلف اعتبرت امتداد الوجود البشري الإسلامي في دول أوروبية كمنطقة البلقان، وداخل دوله الأعضاء امتدادا لمواطن الخطر) فسعت للسيطرة عليها أو ضبطها في معادلات خاصة بها.


  6. في إطار اختلاف منظومة القيم بين منطقة وأخرى (حددها هنتنغتون بثماني مناطق في العالم)، لا تبلغ درجة التناقضات مستوى الخطر المباشر كما كان بعضها تاريخيا، يسري ذلك على المنطقة الجغرافية التي تتركز فيها المسيحية الأرثوذكسية مثلا، أو لا تصل التناقضات إلى مستوى توظيف اختلاف القيم كعوامل فاعلة في المواجهة، كما في منطقة الديانات والثقافات الشرقية، الكونفوشيوسية والهندوسية.


  7. لا يسري ذلك على المنطقة الإسلامية، لاعتبارات تاريخية لها عناوينها المعروفة (الأتراك على أبواب فيينا، الأندلس، الحروب الصليبية، الاستعمار التقليدي)، إضافة إلى أن الاختلاف قائم في أساس منظومتي القيم الإسلامية والغربية وما ينبثق عنها تطبيقيا من اختلاف في أنماط الحياة وفي الخيارات الثقافية والمجتمعية.





  8. شمل تحديد العدو البديل المجال الجغرافي لمصدر التهديدات المتعددة البديلة بمنظور الأطلسي، وهو ما أطلق عليه "هلال الأزمات".
    ساهمت الحقبة التاريخية الأخيرة في إيجاد وعي معرفي وثقافي عدائي متبادل، في الغرب تجاه المنطقة الإسلامية وبالعكس، بغض النظر عن أسباب نشأته وتعليلاته.


  9. أصبح العالم العربي الإسلامي يمثل بحكم التاريخ والجغرافيا والقيم، الآخر الحضاري والثقافي بالنسبة للغرب، بينما تمثل روسيا والصين الآخر الإستراتيجي، مع التمييز بين قابلية إعادة صياغة الهندسة الأمنية في أوروبا بالتعاون مع روسيا، وليس ضدها أو على حسابها، وبقاء العلاقات مع الصين مفتوحة تجاه تطورات مستقبلية.

تطرح هذه المعطيات السؤال التالي:
هل تكتسب المدرسة التقليدية في صياغة الإستراتيجيات العسكرية للأحلاف مكانة مركزية في حلف شمال الأطلسي، فيغلب على صياغة مهامه وخططه المستقبلية وضع الخطر الإستراتيجي الصيني الأكبر اقتصاديا وعسكريا في محورها، أم يكتسب مفعول منظومة القيم والحرص الغربي على نشرها عالميا، وتقليص احتمالات مواجهتها بمنظومة مغايرة، المكانةَ المركزية في تلك الصياغة، مما يجعل المنطقة الإسلامية هي المستهدفة؟


إن الإجابة على هذا السؤال تتطلب دراسات متعمقة، يمكن طرحها على ثلاثة محاور: أولها تطور نظرة الحلف نفسه إلى طبيعة "العدو"، وثانيها ما يشهده الواقع التطبيقي في سياسات الحلف وممارساته في المرحلة الراهنة، وثالثها التمييز الدقيق بين نقاط التلاقي ونقاط المواجهة في علاقات الحلف مع المنطقة الإسلامية، باعتبارها لا تشكل تكتلا سياسيا أو عسكريا أو دولا متجانسة على الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية.


العدو المستقبلي 


كان العامل الاقتصادي أبرز من سواه في تحديد توجهات الحلف في المرحلة الأولى وتطوره عقب الحرب الباردة، بينما غلب العامل العسكري على "محاولات" توجيهه في المرحلة الثانية أثناء الحروب الأميركية، ومن المرجح أن يكون ميدان القيم (ونشرها) بمنظورها الغربي عنصرا مؤثرا في صياغة الإستراتيجيات الأمنية في المرحلة التالية، التي يمكن تأريخ بدايتها بقمته الستينية عام 2009.


وقد هيمنت توسعة الحلف على معالم تطوره في المرحلتين الأولى والثانية، ولم تصل إلى نهايتها بعد، إلا أن التطلع إلى تثبيت جملة من التصورات لعلاقات الحلف بمناطق أخرى من العالم، سيهيمن غالبا على المرحلة التالية في المسيرة الأطلسية، وستتأرجح هذه التصورات بين السعي لعقد تحالفات مشاركة وتنسيق دون مستوى العضوية، وبين العمل للسيطرة على الوضع الأمني خارج المجال الجغرافي للحلف وما يقتضيه ذلك على الأصعدة السياسية والاقتصادية وعلى صعيد نشر منظومة القيم الغربية، وهذا ما يشمل بشقيه المنطقة العربية والإسلامية.


لا يمكن الفصل بين تطوير البنية الهيكلية لحلف شمال الأطلسي تطويرا كبيرا خلال السنوات العشرين الماضية، وتحويله من حلف دفاعي في الحرب الباردة، إلى حلف ردع وتدخل على المستوى الدولي، وبين ما شاع وصفه بالعدو البديل عن العدو الشيوعي القديم، إذ لا توجد صيغة إستراتيجية عسكرية جديدة اعتباطيا، وكل تغيير إستراتيجي أطلسي كان يعني ترجمة قرار سياسي إلى خطة عسكرية وتنفيذها، وهو القرار الذي يُتخذ على مستوى اللقاءات الدورية لوزراء الخارجية والدفاع، ولقاءات القمة.


يسري ذلك على إلغاء مراكز قيادات وتشكيل بديل عنها، وتخفيف الاعتماد على نوع من التسلح وتنشيط صناعة نوع آخر، وتعديل ما يسمى "الكتاب الأبيض" الذي يحدد عقيدة القوات العسكرية ومهامها على المستويات الوطنية لعدد من الدول الأعضاء في الحلف وغير ذلك من الإجراءات، فجميع ذلك يعتمد على لجان عسكرية متخصصة دائمة وأخرى تتشكل خصيصا لمهمة محددة.


في هذا الإطار:



  • أولا: تبدل مفهوم العدو أطلسياً من صراع اقتصادي بين رأسمالية وشيوعية إلى صراع قيم حضارية، وازداد التخوّف من خطر أمني مستقبلي، أي أن "يصبح" الآخر حضاريا قادرا على توظيف ما يوصف بمصادر التهديد الليّنة.


    بالمقابل بدأ يتطور مفعول التفوق العسكري التقليدي، فلم تعد التجهيزات وحجم القوة الضاربة كافية كمعيار للحسم، كما يؤخذ من التجارب الأطلسية والأميركية في أفغانستان والعراق.


  • ثانيا: مع التسليم بأن الرؤى الأطلسية على المدى المتوسط والبعيد قابلة للتبدل إذا تبدلت المعطيات التي ترتكز عليها، ففي استشراف ما يستهدفه الحلف في المستقبل المنظور كعدو، لا بد من الاعتماد على معطيات الواقع الآني.

وتشمل هذه المعطيات حاليا:



  1. التنظير، أي ما يصدر عن الحلف مباشرة أو عن دائرة الغرب الحضارية الحاضنة له من توجهات معلنة.
  2. التخطيط والتطوير، وهما في الوقت الحاضر متوافقان مع الصياغات الموثقة أطلسياً بشأن استهداف المنطقة الإسلامية (وليس الصين بالضرورة).

يتبين ما سبق في العناصر التالية:



  1. وثائقيا: بقي القاسم المشترك فيما صدر عن الحلف حتى قمة 2009 متركزا على أطروحة "الإسلام عدوّ بديل"، ولئن أثارت اعتراضا أوروبيا عام 1990، فقد كان تجاه الصياغة وليس المضمون، كما تبين في القمم الأطلسية التالية (روما 1991، وبروكسل 1994، وواشنطن 1999)، فاستقر استهداف "الأصولية" الإسلامية، بدلا عن ذكر "الإسلام" مباشرة، واستخدم هذا التعبير في السنوات التالية في تعديل صياغات "الكتاب الأبيض" حول المهام العسكرية على المستويات الوطنية -لاسيما في ألمانيا وفرنسا- ووصل إلى وزارة الدفاع الروسية لاحقا. أما استخدام تعبير الإرهاب، وتحديدا "الحرب ضدّ الإرهاب الإسلامي"، فبدأ في أواخر القرن الميلادي العشرين ومطلع الحادي والعشرين، واستقر نهائيا منذ  تفجيرات نيويورك وواشنطن عام 2001.





  2. بقي القاسم المشترك فيما صدر عن الحلف حتى قمة 2009 متركزا على أطروحة "الإسلام عدوّ بديل"، ولئن أثارت اعتراضا أوروبيا عام 1990، فقد كان تجاه الصياغة وليس المضمون.
    عسكريا:
    مع تثبيت استهداف "الأصولية" ثبتت قمة بروكسل (1994) تعديل البنية الهيكلية العسكرية للحلف، بما يشمل توجيه رأس حربته جنوبا بعدما كانت متجهة شرقا (مثل البرمجة الإلكترونية لأهداف الصواريخ العابرة للقارات)، ورافق ذلك تشكيل عدة فرق أوروبية وأطلسية للتدخل السريع في المنطقة الإسلامية تحديدا، مثل قوّة تدخل رباعية من فرنسا وأسبانيا وإيطاليا والبرتغال، هدفها الرسمي "مواجهة الأزمات المحتملة في الشمال الإفريقي"، كما كشفت صحيفة لوموندو الإسبانية في 4/12/1997 النقاب عن وثيقة أطلسية إسبانية حدّدت ما يجب أن تضطلع به إسبانيا من مهامّ عسكرية بما فيها ضمان إنزال عسكري بري في منطقة الشمال الإفريقي.


    ولا ينفصل عن ذلك تطور "إستراتيجي" يتمثل في ازدياد الاستعداد لاستخدام أسلحة نووية ميدانية "ضد الإرهاب"، وأول ما ظهر للعلن من ذلك هو الكشف عن قرار أميركي في فبراير/شباط 1996 (أي قبل تفجير السفارتين الأميركيتين في إفريقيا بعامين وتفجيرات نيويورك وواشنطن بخمسة أعوام) شمل برامج جديدة لتدريب الجنود الأميركيين على استخدام السلاح النووي عند الحاجة، حسبما نشرته وكالة الأنباء الألمانية وصحيفة "زود دويتشه" في ميونيخ يوم 24/8/1998، نقلا عن دراسة قام بها "مركز المعلومات عن الأمن الأطلسي" في برلين و"المجلس البريطاني الأميركي للمعلومات السرية" في لندن.


    وتزداد خطورة هذا المجال عند ربطه بالسياسة الرسمية المعلنة لأقطاب الشمال، لمنع التسلّح المتطور عن أي بلد خارج ما يسمى النادي النووي (وهذا ما يشمل البلدان الإسلامية عموما)، وهو ما اتخذ صيغة "العنصر الأبيض تحت السلاح" حسب تعبير جريدة ذي غارديان البريطانية، بمعنى احتكار أسلحة الدمار الشامل والأسلحة المتطوّرة، أو الحيلولة دون امتلاك قوة رادعة تجاه هجوم خارجي محتمل.


  3. تطبيقيا: بغض النظر عن التفاصيل والأحداث المرحلية التي استهدفت جميع التحركات العسكرية بعد الحرب الباردة (أي الأطلسية والأميركية المقترنة بمحاولة دفع الحلفاء الأطلسيين واستجابة بعضهم للمشاركة فيها) مواقعَ في المنطقة الجغرافية الإسلامية، بدءاً بالقصف الصاروخي للسودان وأفغانستان، مرورا بالتدخل في البلقان، ثم الحرب في أفغانستان، فحرب احتلال العراق، وحتى التدخل الأطلسي البحري لمكافحة القرصنة قرب سواحل الصومال وفي البحر العربي، فبغض النظر عما يقوله قادة الحلف أو يصرحون به، تشهد حركة الجيوش والقواعد العسكرية على اتجاه الحلف نحو تركيز أولوياته في الرقعة الإسلامية.


  4. جغرافيا: شمل تحديد العدو البديل المجال الجغرافي لمصدر التهديدات المتعددة البديلة بمنظور الأطلسي، وهو ما أطلق عليه "هلال الأزمات". ولهذا التعبير جذور فكرية أميركية مبكّرة، وأوّل من أعطاه مضمونا سياسيا المستشار السابق لشؤون الأمن القومي الأميركي بريجنسكي، وأوّل من أعلن نقله إلى مستوى التخطيط العسكري، الأمين العام الأسبق للحلف مانفريد فورنر، في مقابلة له مع مجلة "دير شبيغل" الألمانية عام 1991، وعندما سئل عن المقصود، ذكر المنطقة الممتدة ما بين المغرب وإندونيسيا.


  5. حضاريا (أو بمعيار منظومة القيم): تعزيزا لما سبق يلاحظ (خارج نطاق الأمن والسياسة) كيف تعددت مظاهر التعبير عن توجهات العلاقة الغربية والأطلسية بالعالم الإسلامي، مثل حملات "تعديل المناهج" وما سمي "مشروع الشرق الأوسط الكبير"، ودعوات التغيير تحت عنوان الديمقراطية وحقوق الإنسان والتراجع عنها مع ظهور المخاوف من التغيير باتجاه ما سمي "الإسلام السياسي".




نظرا لافتقاد الخطر العسكري الفعلي على الغرب، ظهرت أطروحات "الحروب الوقائية" أميركياً والتي وجدت المعارضة أوروبياً، في حين تطلّب تسويغها تصعيدَ الخلط بين الإرهاب والمقاومة.
الجدير بالذكر أن الأطروحات الأطلسية تحت عنوان المشاركة منذ قمة إسطنبول 2004 (لاسيما مع الشمال الإفريقي ومنطقة الخليج) تجمع بين البعد السياسي الأمني وبُعْدِ التقسيم الإقليمي للمنطقة الإسلامية جغرافيا تبعا لذلك. ويلاحظ أن ما عُرف من قبل (منذ 1994) بالحوار الأطلسي المتوسطي، لم يسفر خلال 15 عاما تالية عن نتيجة مرئية أمنيا في الشمال الإفريقي من حيث تطوير الطاقات العسكرية الذاتية كما في شرق أوروبا، أو من حيث منظومة القيم تحت عنوان تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان. ويسري شبيه ذلك على منطقة الخليج حديثا، مع إضافة ما تعنيه المشاركة الأطلسية في الإطار الأوسع في خريطة التطورات الأمنية أطلسياً، والتي تركز على ثلاثة عناوين: العراق وأفغانستان وإيران.

ومن الملاحظ أن استهداف المنطقة الإسلامية يجد على صعيد الرأي والتحليل في الدول الأطلسية تأييدا ومعارضة، ولكن من زاوية الاستشراف المستقبلي دون نفي أنه جزء من الواقع القائم في الوقت الحاضر، وهنا لا يُقارَن "العدو البديل" بالعدو الشيوعي الشرقي القديم من ناحية القدرات العسكرية، بل ينطلق الاستهداف من اعتبار المنطقة الإسلامية منطقة أزمات، أو منطقة تجمع مصادر "التهديدات الأمنية اللينة"، أي رغم افتقاد عنصري التكتل والقوة العسكرية الرادعة.


هذا ما بدأ اعتماده في وقت مبكر، كما يشير إلى ذلك الحديث عن "حرب المستقبل" على لسان وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت، وهي حرب تريد واشنطن أن تستخدم فيها "جميع الوسائل المتوافرة" على حدّ تعبير وكيلها الوزاري توماس بركرينغ آنذاك، ويمكن أن تسبّب في المستقبل خسائر أكبر ممّا كان حتى الآن، كما تنبّأ مدير المخابرات المركزية الأميركية السابق روبرت غيتس مؤكدا أنه "يجب إعطاؤها الأولوية على سائر ما عداها في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والمالية والأمنية".


ونظرا لتفاوت موازين القوى وافتقاد الخطر العسكري الفعلي على الغرب، ظهرت أطروحات "الحروب الوقائية" أميركياً والتي وجدت المعارضة أوروبياً، في حين تطلّب تسويغها تصعيدَ الخلط بين الإرهاب والمقاومة. ويصل تعبير بعض الجهات الغربية عن واقع التعامل مع "العدو البديل" إلى أبعد من ذلك، كقول الأستاذ الجامعي في جامعة كاليفورنيا سابقا فرانس شورمان إن ما يجري "حرب كبرى ضد الإسلام والمسلمين، بدأت في السودان وأفغانستان".


العلاقات الأطلسية مع دول عربية وإسلامية 


بغض النظر عن ترجيح استهداف المنطقة الإسلامية أطلسياً، ينبغي أن لا يغيب التساؤل عن موقع نموذج العضوية التركية، وحديثاً الألبانية أيضا، إضافة إلى بعض ميادين التعاون مع دول مجلس التعاون الخليجي والدول المتوسطية.


بحكم موقعها وتاريخها وهويتها، تعتبر تركيا همزة وصل بين حلف شمال الأطلسي والعالم العربي والإسلامي، لكنها في الوقت نفسه همزة فصل بين الإقليمين الأوروأطلسي المتكامل اقتصادياً والمندمج إستراتيجياً، والعربي الإسلامي المفكك المفاصل.


هذه النظرة العامة قد تحجب الرؤية عن مسائل جوهرية، أولاها أن عضوية تركيا في الحلف تبقى حالة خاصة مقارنة ببقية الأعضاء، ويبدو أن البند الخامس من ميثاق الحلف (القائم على مبدأ الدفاع الجماعي) لا ينطبق بشكل تلقائي على تركيا. فإبان الحرب الباردة لم تتردد دول أوروبية في حصر تطبيقه على تركيا في حالة تهديد سوفياتي فقط، رافضة استخدامه من قبل تركيا في صراعاتها مع جيرانها الشرق أوسطيين، وعليه كانت تركيا تعتمد أساساً على أميركا أكثر مما تعتمد على الحلف.


في أزمة الخليج الأولى رفضت دول أوروبية حليفة أي تغطية عسكرية لتركيا تحت عنوان نفس البند تحسباً لهجوم عراقي، وعاد الجدل مجدداً إلى الواجهة عام 2003، حيث رفضت فرنسا وألمانيا وبلجيكا الطلب التركي للمساعدة، لكن الحلفاء اتفقوا في نهاية الأمر على مهمة أطلسية (نشر نظم دفاعية مضادة للصواريخ وعتاد دفاع كيميائي وبيولوجي ومراقبة جوية) في جنوب شرق تركيا مطلع العام 2003 تحسباً للتهديد المترتب عن الأزمة العراقية. وعليه فالوضع الجغرافي لتركيا جعلها منكشفة أمام مثل هذه الاختلافات التي بينت أن المظلة الأطلسية تبقى نسبية بالنسبة لها.


بالمقابل لم تشارك تركيا في القتال على الساحة الأفغانية، ورفضت التدخل في الحملة العسكرية الأميركية لاحتلال العراق عام 2003، وتدل مواقف الحكومة التركية مؤخراً إبان حصار القوات الإسرائيلية لقطاع غزة -رغم علاقاتها الإستراتيجية مع إسرائيل خلال السنوات العشر الماضية- على أن مواقفها السياسية لن تتأثر بحلف شمال الأطلسي أو بإسرائيل أو حتى بالاتحاد الأوروبي الذي تسعى للانضمام إليه بكافة السبل منذ مدة طويلة.


أما ألبانيا فهي دولة صغيرة الحجم وقليلة الموارد ومحدودة السكان، ولا تشكل هدفاً مريباً للحلف ولا شراكة مرهوبة الجانب من قبله، وجاءت عضويتها لأسباب إثنية وجغرافية، وليس لكونها ذات أغلبية سكانية مسلمة.


فالدلالة الإستراتيجية لعضوية دولتين مسلمتين في الحلف هي أنهما مواليتان لمصالحهما المشتركة وليس للعالم الإسلامي، إلا أن الحلف بإمكانه استثمار هذه الخاصية الإسلامية لصالحه على المدى البعيد، عندما تتهيأ بعض الدول الإسلامية فيما بعد ولظروف متقاطعة، لأن تنضم إلى برامج الشراكة أو إلى عضوية الحلف.


وسبقت الإشارة إلى أمثلة أخرى على التعامل الأطلسي مع دول عربية وإسلامية بعينها (مبادرة إسطنبول للتعاون، والحوار الأطلسي المتوسطي)، وتستتبع هذه النماذج السؤال عن قابلية وجود علاقات أطلسية عربية وأطلسية إسلامية خارج دائرة الاستهداف والعداء، وما مدى تأثيرها المحتمل على استبعاد صدام ما؟


تعدد مستويات التعامل الأطلسي مع العالم الإسلامي 


العنصر الحاسم في العداء بين المعسكرين الشرقي والغربي سابقا، هو الافتراق في ميادين سياسية واقتصادية وأمنية منبثقة عن اختلافات فكرية فلسفية داخل دائرة فكرية حضارية مشتركة. ولا يسري ذلك على تعامل الغرب وبالتالي حلفه الأطلسي مع الإسلام والمنطقة الإسلامية، أو الدائرة الحضارية الإسلامية.





ينبغي عدم الاستهانة بمقولة "الإسلام عدو بديل"، رغم أنها صارخة من حيث إن الإسلام دين وليس خطرا عسكريا بالمفهوم الإستراتيجي للكلمة.
إن منظومة القيم الغربية صادرة عن أرضية ثقافية غربية مشتركة تاريخيا، من قبل وصول زمام قيادة الحضارة الغربية إلى الولايات المتحدة. والارتباط التاريخي الحضاري الثقافي الديني الوثيق أنتج تشابه أطياف الثقافة الغربية وتطابقها، مما تعبر عنه شعارات معروفة، مثل الحياة على الطريقة الغربية، وأصبح هذا الإرث التاريخي القاعدة القوية والمرجعية الأولى لأمن الحضارة الغربية، مقابل التباين مع أطياف الحضارات والثقافات والأديان الشرقية بدرجات متفاوتة.

وانطلاقا من تقسيم هنتنغتون في نظريته حول صدام الحضارات العالمَ إلى ثماني مناطق: غربية، وروسية أرثوذكسية، وصينية، وهندية، وفارسية، ويابانية، وإفريقية، وعربية إسلامية، بقي ترجيحه لصدام الحضارات مستقبلا مركزا على الدائرتين الصينية والإسلامية، وأصبح الحلف على هذه الأرضية التاريخية هو الجسر الوثيق للارتباط الأميركي الأوروبي حضاريا، فلا استغناء عن مكوناته وقدراته كأداة عسكرية لحماية مكتسبات الحضارة الغربية وثقافتها.


ينبغي إذن عدم الاستهانة بمقولة "الإسلام عدو بديل"، رغم أنها صارخة من حيث إن الإسلام دين وليس خطرا عسكريا بالمفهوم الإستراتيجي للكلمة، علاوة على أن الدول ذات الغالبية الإسلامية لا تمثل تكتلا أو مكونات تكتل تنطوي على خطر عسكري إستراتيجي.


إن مدلول الكلمة الأمني مطابق لمدلولها اللغوي بمنظور ارتباط التصورات الإستراتيجية الغربية بمنظومة القيم والخشية من خطرها "مستقبليا"، سواء كان خطرا موهوما أو حقيقيا، ولا يتناقض ذلك مع ما يوجد على صعيد الأسرة البشرية عموما من قواسم مشتركة ذات طبيعة إنسانية، وإن غيّبتها الحقبة الماضية الحافلة بالصدامات.


على أن ترجيح استهداف المنطقة الإسلامية في المرحلة التالية لا يعني انعدام عوامل عديدة تقيّد الإجراءات التنفيذية المحتملة عسكريا، وهذا مما يمكن استخلاصه من عنصرين:



  1. الأول: التجربة الأطلسية السلبية في أفغانستان.
  2. الثاني: واقع الطاقات العسكرية الأطلسية.

الحرب في أفغانستان لم تصل إلى نهاية بعد، إنما كان عدم حسمها بعد سنوات من اندلاعها ورغم تفاوت القوى تفاوتا كبيرا، أظهر حدود القدرات العسكرية الأطلسية على أرض الواقع. وهذه القدرات التي يعتمد عليها الحلف في المرحلة المقبلة (سواء في التعامل مع المنطقة الإسلامية أو خارج نطاقها) هي وفق ما شهد من تطوير هيكلي في السنوات الماضية:



  1. قوة الناتو للرد، وأول من طرح فكرتها وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رمسفيلد في وارسو يوم 24 سبتمبر/أيلول 2002، وأعلن القرار بتشكيلها في اجتماع براغ في نوفمبر/تشرين الثاني 2002، واختُصرت لاحقا لتتكون من 25 ألف جندي، وتركز دورها الرئيسي المعلن على مكافحة الإرهاب ومنع انتشار وتهريب ونقل مواد أسلحة الدمار الشامل، إلا أن دورها الحقيقي يتمثل في بناء نواة لقوة أطلسية عسكرية قابلة للانتشار السريع ضد أي موقع على خريطة الساحة العالمية، والقتال فيه والاستمرارية خلال مرحلة ما بعد جولة الصراع المسلح. وتظهر حدود مفعول قوة الردّ عند الإشارة إلى تلكؤ دول الحلف الأوروبية لعدة سنوات في الاستجابة للمشاركة الفعالة فيها، مما دفع إلى اختصار حجمها.


  2. شكلت الولايات المتحدة خلال السنوات العشرين الماضية قوات تحالف، وقوات متعددة الجنسيات، وائتلافَ الدول الراغبة، فضيعت أدوارا مؤثرة وفرصاً كبيرة على الحلف، وهو مما أبرزت حرب أفغانستان عواقبه.


  3. تختلف أجندة الاتحاد الأوروبي عن الأجندة الأميركية والأطلسية، ومن بين 28 دولة عضوا في الحلف توجد 21 دولة في الاتحاد الأوروبي الذي يتطلع إلى قوة عسكرية مستقلة لنفسه.


  4. من المتوقع أن تعمّق الأزمة الاقتصادية العالمية الخلافات الأطلسية، لاسيما في حال الفشل المرجح بأفغانستان، ومن هنا تعددت الأصوات داخل الحلف ألاّ يكون مستقبلا "قوة عالمية" بما يفوق قدراته وإمكانياته.

يمكن انطلاقا مما سبق تحديد العلاقة بين النظرة الأطلسية الإجمالية للمنطقة الإسلامية، وبين تعدد نماذج تعامله مع بعض دولها، فالنظرة الإجمالية ترى الدول العربية والإسلامية منطلقات جغرافية وقواعد للإرهاب العالمي، وترى أن الأنظمة السياسية العربية والإسلامية متخلفة تحتاج إلى عمليات إصلاحية جذرية، وبالتالي لا ينظر الحلف إلى الدول العربية والإسلامية التي يختارها في بناء علاقات الشراكة معها، نظرتَه إلى الآخرين في أوروبا وآسيا وأستراليا.


باختصار.. 


إلى جانب الأرضية الاقتصادية الحاسمة في صياغة السياسات الأمنية الأطلسية، ورغم تبدل المعطيات الدولية في اتجاه تعدد الأقطاب، يبقى البعد الحضاري مؤثرا على منظور الحلف للعدو المستقبلي، وهذا مما يجعل المنطقة الإسلامية مستهدفة في المرحلة المقبلة، سواء في صيغة علاقات احتواء تحت عنوان المشاركة -وهذا ما تزال تجربته جارية على مستويات ثنائية وإقليمية- أو في صيغة ما يوصف بإجراءات وقائية واستباقية، للحيلولة دون أن تصبح المنطقة الإسلامية مصدر خطر على المنجزات الحضارية الغربية بالمنظور الأطلسي، وهذا ما ينعكس في تفاصيل العمل لتطوير الحلف وقدراته العسكرية.


عودة للصفحة الرئيسية للتقرير