عرفت منطقة المغرب العربي اهتماما دوليا وإعلاميا متزايدا في السنوات الأخيرة. وقد لا نبالغ إذا قلنا إن هذا الاهتمام والمتابعة لهذه المنطقة كان ذو أبعاد أمنية بالدرجة الأولى بفعل نشاط ما يعرف بالجماعات الإسلامية المسلحة، والتي يمكن اختزالها أخيرا في ما يعرف بـ"تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، الذي أعلن عن نفسه منذ حوالي عامين، واستقطب الأضواء بسبب تصاعد نشاطاته المسلحة، التي غطت كل المنطقة، وتميزت في بعض الأحيان بدموية غير مسبوقة.
في خضم هذا التركيز الإعلامي على هذا البعد من المشهد العام في الساحة المغاربية، توارى وتضاءل حضور الحركات الإسلامية الرئيسية في المنطقة مؤقتا، على الأقل تحت ضربات الاجهزة الأمنية الموجعة، رغم أنها كانت المظهر الرئيسي للساحة السياسية والثقافية في هذا المشهد، لا سيما وأنها مثلت لفترة لا بأس بها اللاعب الأساسي إلى جانب الأنظمة في تشكيل ورسم معالم الحراك السياسي والثقافي وحتى الاجتماعي هناك.
تراجع التيار الإسلامي الرئيسي
إعادة رسم العلاقة مع النظام
وقد لا نبالغ إذا قلنا بأن الحركات الإسلامية الرئيسية في المنطقة قد تراجعت إلى حد بعيد في مركز الاهتمام الإعلامي والسياسي، لأسباب كثيرة لعلنا نعرض إليها في سياق تسليط الضوء على هذه الحركات والبحث في ما تواجهه من تحديات.
مثلت الحركات الإسلامية لفترة لا بأس بها اللاعب الأساسي إلى جانب الأنظمة في تشكيل ورسم معالم الحراك السياسي والثقافي وحتى الاجتماعي في الساحة المغاربية |
تونس
ومن بين تلك التحركات التي تعرضت لحملة أتت على القطاع الأوسع من مؤسساتها وإطاراتها تفكيكا، وعلى قياداتها وأعضائها اعتقالا هي حركة النهضة التونسية، فمن لم تصل إليه أجهزة الأمن غادر البلاد في هجرة جماعية، في أضخم هجرة سياسية في تاريخ البلاد الحديث، وبهذا انتهت النهضة كيانا موزعا بين المعتقلات في الداخل، والمنافي في الخارج.
الجزائر
وتزامنا مع هذا المشهد على الساحة التونسية تقريبا انطلقت في الجارة الغربية، الجزائر، عملية انتخابات حققت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ -كبرى التنظيمات الإسلامية في الجزائر- فوزا ساحقا قادها إلى الحظر القانوني بدلا من أن يقودها إلى السلطة، وتعرضت بدورها إلى حملة اعتقالات واسعة لقياداتها وإطاراتها، دمرت هيئة أركان الجيش الجزائري من خلالها بنيتها التنظيمية في محاولة لشطبها تماما من الخارطة السياسية في البلاد، ودفعت باتجاه تحقيق هذا الهدف بالعمليات الأمنية والعسكرية إلى حدودها القصوى أدت بالبلاد إلى حرب شبه أهلية، تجاوز عدد ضحاياها من القتلى أكثر من 200 ألف جزائري، إضافة إلى عشرات الآلاف من المتضررين.
ورغم نجاح هذه العملية القاسية في شطب الجبهة الإسلامية للإنقاذ من المشهد السياسي والإعلامي في البلاد، على الأقل إلى حد الآن، فما زالت تتمتع بحضور مختزن في أعماق المجتمع الجزائري.
واستثنت الحملة الأمنية مبدئيا تنظيمين إسلاميين آخرين، اختار أحدهما وهو التنظيم الإخواني الذي ينشط تحت اسم حركة مجتمع السلم "حمس" الالتحاق بما يعرف بجبهة الدفاع عن الدولة ومؤسساتها في وجه "المشككين والمتمردين"، في حين فضل الآخر وهو تنظيم حركة النهضة البقاء خارج لعبة الدوائر الرسمية، لتنجح أجهزة السلطة على ما يبدو في اختراقه، ومن ثم شق صفوفه مرتين على التوالي، مرة بعد أخرى.
المغرب
أما في الساحة المغربية فقد كان المشهد السياسي أقل حدة في المقاربة الأمنية في التعاطي مع الإسلاميين، إلا أن ذلك لم يمنع من محاولة تحجيم قوتهم، وفرض الإقامة الجبرية على زعيم جماعة العدل والإحسان الشيخ عبد السلام ياسين، وشن حملة اعتقالات طالت مئات الكوادر في الجماعة، لا سيما في التيار الطلابي الذي كان الأقوى على الساحة الجامعية.
وتزامن ذلك مع بروز اتجاه لتشجيع تيارات أقل تحديا للنظام من العدل والإحسان، على غرار الحركات الصوفية أو تلك التي تعبر عن ولائها للتاج والملك.
ليبيا
لم يكن مصير جماعة الإخوان المسلمين في ليبيا مختلفا عن نظرائها من الحركات الإسلامية في المغرب العربي، فقد جرت حملة اعتقالات واسعة في صفوف الجماعة، أنهت بشكل كامل أي حضور رموزهم على الساحة، ودفعت بمن تبقى منهم إلى التواري تحت الأرض، أو مغادرة البلاد بحثا عن ملاذ آمن من بطش حملات قادتها من طرف عناصر اللجان الثورية الأمنية.
موريتانيا
إذا تجاوزنا التغييرات الأخيرة في موريتانيا وعدنا للوراء قليلا، فقد شنت قوات أمنها هي الأخرى في وسط التسعينات حملة أمنية طالت القيادات الإسلامية البارزة في البلاد، شملت ممن شملت الداعية المعروف ولد الددو، ومحمد جميل منصور الذي يتزعم حاليا "حزب التواصل الديمقراطي"، وقد اتهمهم نظام ولد الطايع حينها بتكوين عصابة مفسدين والتخطيط لتغيير هيئة الدولة عبر أعمال مسلحة وتخريبية، وما لبثت السلطات أن تراجعت عنها لاحقا، لتطلق سراحهم بعد تعهدهم بالتوبة عن أفعال، أكدوا وأصروا على أنهم لم يرتكبوها أصلا.
سياسة التحجيم
فبحسب ما يظهر من هذا المشهد أن الأنظمة المغاربية على الرغم مما يبدو من اختلافات بينها، فإنها اختارت التعامل مع الحركة الإسلامية في إطار المربع الأمني، وخيار التحجيم وتقليم الأظافر.
وهي سياسة إذا ما نظر إليها في العلاقة بالحفاظ على المعادلات القائمة، وتحصين مصالح النخب الحاكمة، تبدو سياسة ناجحة في الظاهر وحققت أهدافها مؤقتا على الأقل.
فهذه الحركات التي تمثل في مجملها تحديا جديا للأنظمة تم تحجيمها مؤقتا، وباتت مشلولة ومنشغلة بتضميد جراحها أساسا، وغير قادرة على الفعل أو الاستئناف الطبيعي لدورها لحد الآن، وترافق ذلك مع ضرب هذه الحركات، عملية تفكيك لكل مقومات الصمود والدفاع في جدار المجتمع المدني والأهلي، وبسطت السلطة عبر آليات الدولة الحديثة سيطرتها الكاملة على الفضاء العام، بل وحتى الخاص.
وعلى الرغم من وجود بعض المحاولات المتواضعة في إعادة رسم علاقة مختلفة مع الأنظمة الرسمية، إلا أنها ظلت محاولات غير جريئة بما فيه الكفاية، وقوبلت أيضا بموقف رسمي من النخب الحاكمة يطبعه الرفض والتجاهل، وطغى عليه الحذر والتحفظ المستمرين.
- إما بسبب الخوف من استعادة هذه الحركات لدورها النشط في تأطير فئات وقطاعات كبيرة من المجتمع، وهو ما يهدد معادلات السلطة، ويهدد مصالح تلك النخب الحاكمة،
- أو بسبب وجود تحفظ أيديولوجي، في ظل وجود بعض النخب اليسارية المتطرفة في مؤسسات الدولة تحرص دوما على قطع الطريق أمام أي فرص للتصالح أو الوفاق بين الحكم والمعارضين الإسلاميين.
وقد تبنت السلطة بدلا من سياسة الاحتواء، ومنذ حوالي عقدين سياسة تقوم على الرفض الكامل للاعتراف بالإسلاميين، أو التعامل معهم، منتهجة سياسة "اللاتسامح" (Zero Tolerence) مع أي محاولة منهم لاستئناف نشاطاتهم، حتى تلك الأنشطة التي تبدو ضمن العمل الخيري.
خطاب النهضة
تبنت السلطة بدلا من سياسة الاحتواء، ومنذ حوالي عقدين سياسة تقوم على الرفض الكامل للاعتراف بالإسلاميين، أو التعامل معهم، منتهجة سياسة "اللاتسامح" مع أي محاولة منهم لاستئناف نشاطاتهم، حتى تلك الأنشطة التي تبدو ضمن العمل الخيري |
وهو موقف يذكّر به أقطاب السلطة في تونس بمن فيهم رئيس البلاد في كل مناسبة وخطاب، حيث يعتبرون الانغلاق السياسي الداخلي والانفتاح على الخارج مع ليبرالية اقتصادية وحرب على "الأصولية" هي فلسفتهم للحكم، ويروج لها كنموذج مطلوب تبنيه عربيا.
ولا نبالغ في هذا الصدد إذا قلنا أن هذا "الأنموذج التونسي" على ما فيه من خلل وما رافقه من أزمات سياسية واجتماعية مزمنة مازالت تعاني منها تونس إلى يومنا هذا، فقد أغرى بعض النخب الحاكمة في دول الجوار وحاز على إعجابها، لاسيما الجزائر التي عبر رئيسها عبد العزيز بوتفليقة عن إعجابه بهذا "الأنموذج"، وكذلك النظام الليبي النظام الليبي وبدرجة أقل النظام الموريتاني، مستلهما بعض ملامح هذا "المثال" ليس فقط في العلاقة بالداخل وإنما أيضا في العلاقة بالخارج.
خطاب إسلاميي الجزائر
بالنسبة للجزائر، رغم مضي حوالي عقدين على الأزمة السياسية التي دخلت فيها البلاد بعد إلغاء الانتخابات العامة التي فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ في العام 1991، إلا أن العلاقة بين نخبة الحكم والإسلاميين تكاد تراوح مكانها، وهي تقوم في جوهرها على النفي والاستبعاد الكامل من المنتظم السياسي.
حمس والتكيف مع السلطة
فقد حظرت السلطات الجبهة الإسلامية للإنقاذ كبرى التنظيمات الإسلامية بأي شكل من الأشكال، ورفضت عودتها حتى في إطار حزبي يقوده زعماء تاريخيون، على غرار حزب الوفاء الذي رفضت السلطة ترخصيه، وحفظت طلبه في الدرج. ونجح الحكم في الجزائر أيضا في احتواء تيار الإخوان في البلاد والممثل في حركة مجتمع السلم "حمس".
هذا الاحتواء فرضته من جهة مقتضيات احتواء الإسلام السياسي المتصاعد في الجزائر بعد شطب الجبهة الإسلامية، وسهلته المواقف التي اتخذتها "حمس" منذ حظر "الجبهة"، انحياز "حمس" لموقف الدولة والعسكر في الإجراءات التي اتخذت لطي صفحة جبهة الإنقاذ، أو لحماستها لإضفاء شرعية على المؤسسات التي أقامها عسكريو الجزائر ممثلين في هيئة الأركان التي تحولت إلى المسير الحقيقي لشؤون البلاد.
وقد برر زعيم الحركة الراحل الشيخ محفوظ نحناح سياسة التكيف هذه بمقتضيات وإكراهات الواقع، ورفع صوته عاليا في دعوة التيار الإسلامي الجزائري إلى الوقوف مع الدولة ودحر كل من يحاول تفكيكها، حتى ولو كان يرفع رايات الإسلام. وبعد رحيل الشيخ نحناح ترك خلفه حركة نجح بعض قادتها في تقلد وزارات، وإن كانت هامشية ،إلا أنها اعتبرت مكسبا مهما في نظر "حمس" وكانت بمثابة ثمن لمواقف – غير شعبية- كلفت الحركة الكثير من سمعتها، في الساحة الإسلامية داخليا وخارجيا.
حافظت "حمس" التي تفتخر اليوم بأنها من الحركات الإسلامية القليلة في المغرب العربي على رصيدها التنظيمي وحتى الشعبي ولكن بشكل محدود، تحولت معه اليوم إلى جزء من منظومة الحكم، ليس فقط بقرارات واختيارات من إرادتها، وإنما أيضا بما هو جزء من مقتضيات حفظ الكيان وعدم الاستهداف.
فهذه "الحركة الإخوانية"، التي يشغل رئيسها ومسؤولها الأول "أبو جرة سلطاني" وزارة بدون حقيبة منذ العام 2005، على الرغم من حرصها على حماية مشروعها وبرنامجا الحزبي، إلا أن توزير زعيمها حرمها من أي "موقع" تتمايز به عن النظام الرسمي.
وقد عبر سلطاني نفسه في أكثر من مرة وبسبب مقتضيات موقعه ووضع حركته في المشهد السياسي بالبلاد، بأنه لم يعد في موقع المعارضة لأنه ليس هناك ما يعارضه، فهذا وضع جعل حركة مجتمع السلم غير قادرة اليوم على تحديد موقعها من المشهد السياسي، وهو ما بدأ يثير قلقا داخليا متصاعدا قد يأتي على رصيد هذه الحركة.
وسلطاني من جهته يقول دفاعا عن موقفه وتبديدا لحيرة كوادر وأنصار حركته، إن "حمس" هي "موجودة في الحكم ولكنها ليست موجودة في السلطة"، وهذا توضيح قد لا يقنع الكثير من أنصاره، الذين لم يعودوا يلمسون أي خطاب معارض في حركتهم، ولكنهم في نفس الوقت، لا يجدون أنفسهم في الحكم.
وخلاصة مشهد "حمس" أنها بدت اليوم مقيدة بمجموعة من المواقف والسياسات، فرضتها عليها اختياراتها في التكيف والتعايش مع وضع جزائري معقد، صناع القرار فيه ممثلين أساسا في "هيئة الأركان" ويمسكون الأوضاع بقبضة من حديد، ويختارون نخبة الحكم بدقة، ولا يسمحون بالمناورة السياسية أو توسيع هوامش الكسب السياسي لمن قبلوا بلعبتهم، وقبِلوا أن يختاروا السلامة ويتكيفوا مع الإطار السياسي المرسوم والمحدد بدقة وصرامة العسكر.
انشقاقات وخطاب ممزق
يمكن القول إن حركة "حمس" ثم "الإصلاح والنهضة" تلخصان تجربة الزعيم الإسلامي الشيخ عبد الله جاب الله الذي كان قد اختار طريقا مغايرا لحركة "مجتمع السلم" واحتفظ لنفسه بمسافة بعيدة عن نخبة الحكم في البلاد |
وقد دفع الشيخ جاب الله ضريبة هذا الموقف مرتين، مرة عندما أقصي من حركة النهضة التي أسسها وقادها على مدى أعوام، ومرة أخرى عندما أسس حركة الإصلاح الوطني التي دفعت ضريبة استمرارها في المعارضة لنخبة الحكم.
فبعد أن حققت حركة النهضة في الانتخابات التشريعية لعام 2004 المرتبة الثانية، بأكثر من 40 مقعد، بادرت النخبة الحاكمة في البلاد إلى العمل على تحجيمها، فدفعت باتجاه تفجير صراع داخلها، يمكن القول أنه أنهاها وأنهى معها تجربة تيار إسلامي كان يريد أن يكون لاعبا مستقلا عن دائرة صناع القرار في البلاد.
وفعلا فقد انتهت حركة الإصلاح الوطني بقيادتها الجديدة التي زكاها وزير الداخلية والرجل القوي في الحكم "يزيد زرهوني" بعد أن أصبحت خارج الترتيب في الانتخابات التشريعية في نهاية 2007، إثر فوزها بمقعد واحد وحيد.
وعلق حينها الشيخ جاب الله على من أطاحوا به من داخل حزبه وتسلموا قيادة الإصلاح الوطني بالقول، "لقد دفنتهم الانتخابات". ولم يكن وضع النهضة بأحسن حال من وضع الإصلاح، فبعد أن ظل عدد برلمانييها لا يزيد عن أصابع اليد الواحدة، فقد زاد من تكبيلها والتحكم بها إيقاع خطابها في شباك مهادنة السلطة، عبر تعيين أمينها العام الأسبق حبيب آدمي سفيرا في السعودية، وتعيين عبد الوهاب دربال الذي يعد أحد قيادييها أيضا سفيرا للجامعة العربية لدى الاتحاد الأوروبي.
وحاول زعيمها الجديد فاتح الربيعي تفعيل حركته والتعبير عن مواقف ناقدة للوضع السياسي في البلاد بداية العام 2008، إلا أن الرموز القديمة داخل حزبه ذكّروه بـ"المكاسب" التي حققتها النهضة في مسيرتها، لاسيما في العلاقة بحكومات الرئيس عبد العزيز بوتفليقة.
أخوان ليبيا وإعادة التكيف
أما بشأن التيار الإسلامي في ليبيا متمثلا بجماعة الإخوان المسلمين، فرغم قدم حضور هذه الجماعة في الساحة السياسية بالبلاد، إلا أنها ظلت في غالب مراحل الدولة الحديثة الليبية على هامش الفضاء السياسي.
فالنظام الليبي القائم على الأيديولوجية الثورية و"النظام الجماهيري" يمنع بالكامل الأحزاب والتنظيمات السياسية، ويعتبرها ضربا من المحاكاة للديمقراطية الغربية، ومتناقضة مع مقولات الكتاب الأخضر التي تقول بضرورة انصهار كل القوى والطاقات في منظومة واحدة لتحقيق أهداف وقيم الثورة.
وهي في الحقيقة نظرية تتقاطع في نهاية الأمر مع كل النظريات التي سادت في حقبة الستينات من القرن الماضي في دول ما بعد الاستقلال، والتي اعتبرت فيها نظرية "الحزب الواحد" الطليعي أساسا لنهوض ومناعة البلاد.
ولئن تبنت ليبيا النظام الجماهيري، فإن كل دول الجوار لم تكن بدعا فقد تبنت هي الأخرى ما يعرف بالحزب الواحد، على غرار الحزب الاشتراكي الدستوري في تونس، وحزب جبهة التحرير الوطني في الجزائر.
وبالعودة لليبيا فبعد حملات الاعتقال لقيادة جماعة الإخوان وكوادرها منذ العام 1996، وإطلاق حملة إعلامية لتشويه صورة الجماعة واعتبارها مخربة ومتآمرة على "الثورة" ومبادئها، قرر النظام الليبي في العام 2006 الإفراج عن جميع معتقلي الجماعة وإعادتهم إلى وظائفهم، بل وحتى تقاضيهم رواتبهم بأثر رجعي.
بيد أن هذا الإفراج كان يحمل في طياته أيضا فرض شروط قاسية على قيادة الجماعة وكوادرها المفرج عنهم، بأن يتعهدوا بعدم مزاولة أي نشاط حزبي، وأن يلتزموا بالامتناع عن أي محاولة لاستئناف نشاط الجماعة داخل البلاد. وكل ما سمح لهم به هو العمل كأفراد ضمن ما يتيحه النظام السياسي القائم من عمل غير حزبي، وكانت الشروط واضحة في أن النشاط تحت يافطة جماعة الإخوان خط أحمر، ليس لهم تجاوزه.
وفعلا يبدو أن قيادة الجماعة في الداخل اختارت مبدئيا القبول والتكيف مع مقتضيات الحرية الشخصية والمدنية التي يسمح بها النظام، واختارت جميع قيادات الداخل الصمت، تاركة لما تبقى من الجماعة في الخارج تقدير حدود النشاط والحركة، وهو مجال يبدو ضيقا ومنحسرا في ظل انفتاح النظام الليبي على الخارج، خاصة وأن الدول المتطلعة للطاقة والاستثمار في ليبيا تخاف من أن تضحي بمصالحها إن هي احتضنت نشاطات هنا أو هناك لبعض الجهات الليبية المعارضة.
ويبدو أن الجماعة على الرغم من غيابها الإعلامي والسياسي اختارت المراهنة على ما تتيحه "الإصلاحات الجريئة" التي يبشر بها نجل الزعيم الليبي سيف الإسلام القذافي.
الحركة في موريتانيا وليد جديد
بالنسبة لوضع الحركة الإسلامية في موريتانيا فقد حصلت مع مجيء الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله إلى سدة الحكم، على الترخيص تحت اسم "تواصل" بقيادة الزعيم الشاب محمد جميل ولد منصور، والأخير شاب نشأ وترعرع في "المدرسة الإخوانية"، كما إنه من المتأثرين بقوة بالزعيم الإسلامي السوداني الدكتور حسن الترابي والزعيم الإسلامي التونسي الشيخ راشد الغنوشي.
ومع الانقلاب الأخير في موريتانيا فإن علاقة الإسلاميين مع الحكام الجدد من العسكر سيئة جدا، كما أن وضعهم في حقيقة الأمر لا يزال هشا. ولا نكون مبالغين إذا قنا إن أحد أبرز السيناريوهات التي ينفتح عليها مصير التيار الإسلامي المرخص له حاليا، عملية حل الحزب وتفكيك التنظيم.
ولا يعوز النظام الموريتاني الجديد إدراك بأنه يكفيه فقط ركوب موجة الحرب على الإرهاب والتطرف، ومحاربة الأصولية، حتى ينال الدعم الخارجي، لأنها ذريعة كافية للتخلص من الإسلاميين وإقصائهم من المشهد السياسي في البلاد. وهي موجة ركبتها من قبلهم أنظمة الجوار وكانت مثمرة.
ولا يخفى أن ارتفاع صوت الإسلاميين في العامين الأخيرين في بلاد شنقيط، في ظل تدافع أكثر من جهة للسيطرة على السلطة، قد مكنهم من تحقيق بعض المكاسب، بيد أن حسم المعركة على السلطة قد يكون بداية لتحديات قد لا تكون بالسهلة على هذا التيار الوليد ذي الجذور الممتدة طويلا، وإن كان محدودا تنظيميا وشعبيا، في بلد لا تزال فيه معادلة القبيلة تلقي بظلالها وتحجب ما دونها من عوامل ومفاعيل سياسية أخرى.
إسلاميو المغرب "الحالة الاستثناء"
أما في المغرب الأقصى، فرغم اندراج وضع الإسلاميين هناك في نفس سياق الحالة المغاربية عامة، فإن ثمة ما يمكن أن نطلق عليه على سبيل التجاوز "الحالة الاستثنائية"، وهي تتعلق بحزب العدالة والتنمية.
ولعله من المفيد أن نسجل في المغرب وجود تيارين إسلاميين يمكن إدراجهما ضمن تيار الحركة الإسلامية الرئيسي في المغرب العربي، ويتعلق الأمر هنا، بجماعة العدل والإحسان التي يقودها الزعيم الصوفي الشيخ عبد السلام ياسين، وحزب "العدالة والتنمية" الذي يقوده اليوم عبد الإله بنكيران، المرتبط بـ "حركة التوحيد والإصلاح".
العدل والإحسان وخطاب سلبي
يجمع المراقبون على أن العدل والإحسان من أكثر التنظيمات شعبية في المغرب، وإن لم تختبر شعبيتها بحكم رفضها المشاركة السياسية، ولكنها تبقى "قوة سلبية" في العلاقة بعملية التغيير السياسي في المغرب |
وللعدل والإحسان مواقف من مجمل القضايا، فهي ترفض المشاركة في النظام السياسي المغربي، وتطعن في مصداقيته، تعتبر المشاركة في العملية السياسية بمعادلاتها وشروطها القائمة لا يغير من واقع البلاد شيئا، وهي بالتالي ترفض التعاطي مع النظام السياسي في مجمله.
غير أن هذا الموقف من النظام السياسي لا يعني تبني الجماعة لخيار المواجهة أو الصدام مع الدولة، بل يسجل للجماعة تجنبها لأي احتكاك ورفضها لأي محاولات لاستدراجها للصدام مع الدولة، بل ترفض بشدة استعمال العنف والقوة كمنهج للتغيير، وتعتمد بدلا من ذلك منهج تربية الأفراد.
وعلى الرغم ما يعرف عن الشباب من حماسة للمشاركة السياسية عندما تتاح له الشرعية القانونية، إلا أن الكثير من الشباب المغربي يفضل "العدل والإحسان" على الأحزاب والتنظيمات السياسية الأخرى.
ويجمع المراقبون على أن العدل والإحسان من أكثر التنظيمات شعبية في المغرب، وإن لم تختبر شعبيتها بحكم رفضها المشاركة السياسية، ولكنها تبقى "قوة سلبية" في العلاقة بعملية التغيير السياسي في المغرب رغم شعبيتها ورغم "الطهورية السياسية" التي تمتاز بها بحكم عدم تلوثها بالواقع العام في البلاد.
وكذلك تظل هي قوة مثيرة لكثير من "القلق الداخلي"، في ظل استقرار قواعد اللعبة السياسية، وقبول كل الأطراف السياسية الأخرى بهذه القواعد، يمينها ويسارها إلا هي، إذ تضع الجماعة بموقفها "الزاهد" في العملية السياسية، الآلاف من أنصارها – كقوة للتغيير والحراك السياسي- في وضع "سلبي"، فلا هم قوة فاعلة ضمن العملية السياسية ولا هم خارجها.
ومن جهة أخرى لأن التحاق الشباب بالتنظيمات يقوم في العادة على خلفية التطلع إلى التغيير وإحداث التحولات الاجتماعية والسياسية التي ترتقي بأوضاع أولئك الشباب، فإن عدم توفره في حالة الجماعة، فإنه قد يغري الكثير من أنصارها بأن يولّوا وجوههم شطر التيار الإسلامي الذي اختار المشاركة في العملية السياسية، ألا وهو "حزب العدالة والتنمية".
فهكذا بالرغم من كل ما تحظى به "العدل والإحسان" من شعبية ومواقف ناقدة بقوة للنظام السياسي، تظل قوة كامنة ومحاصرة، كما أن تفعيل الدولة لأدواتها وأجهزتها الحديثة في التحكم والسيطرة قد حرم ويحرم هذه الجماعة من الكثير من المكاسب.
كما أن ارتياب السلطة من مثل هذه الجماعة، وما يستتبعه ذلك من ملاحقات أمنية مستمرة، ومراقبة دائمة سيقطع بالضرورة الطريق على الجماعة من أن تنمو بشكل طبيعي، وسيحرمها ويقلص من قدرتها على التمدد الأفقي والعمودي، كما أن "إستراتجية المتاركة الأحادية" قد تحرم الجماعة من فرص الاحتكاك بالواقع وبالتالي المراجعة والتطوير المستمرين.
وفعلا تواجه "العدل والإحسان" اليوم تحديات في علاقتها بنفسها تنظيما وخطابا وفي علاقتها بالخارج تواصلا واحتكاكا، ما قد يقوض الكثير من مكاسبها التي تحققت في حقبات تاريخية ماضية كان يتفهم فيها منطقها التنظيمي، وخطابها "الصوفي" المطل على السياسة باحتشام.
العدالة والتنمية وخطاب تركي
أما حزب العدالة والتنمية، فيسجل له رغم حداثة تجربته ما حققه من حضور "مدروس ومحسوب ومسموح به" على الساحة المغربية. فقد نجح هذا الحزب في أن يجد له مكانا في النظام السياسي المغربي، الذي كان محسوبا تاريخيا على "المخزن" واليسار، وتمكن الحزب من انتزاع مقاعد في البرلمان، وأخرى في المجالس المحلية على مستوى المحافظات والبلديات.
وتقبل هذا الحزب بقواعد اللعبة السياسية في المغرب بحماس، وأكد تكيفه الكامل مع النظام السياسي في البلاد، والذي يعتبر فيه الملك رأس الدولة وصاحب القرار والسلطة وفق ما ينص عليه دستور البلاد.
ولعل وعي الحزب بحدود المجال المتاح له التحرك فيه جعله حزبا حذرا غير مغامر، لا يقدم حتى على اكتساح ما هو مسموح به في اللعبة السياسية، ويمارس "رقابة-ذاتية" (Self-censured )، لاسيما وهو محل مراقبة من قبل خصومه خصوصا النخبة اليسارية، التي تحتمي هي نفسها بسبب ضعفها وشيخوختها بـ"المخزن" في مواجهة ما تسمية الزحف الأصولي.
ولعل تأكيد حزب العدالة والتنمية على أن الملك هو الضمانة الأساسية للنظام السياسي وأساس الشرعية فيه، قد حول هذا الخطاب مع الوقت إلى عائق أمام فرص دعم مسار الإصلاح السياسي في البلاد.
وجاء تقدم "العدالة والتنمية" كجزء من إستراتجية النظام المغربي لتأهيل وإدماج التيار الإسلامي- لما يمثله من تحد جدي للسلطة- ضمن الفضاء السياسي، ووجد النظام في حزب "العدالة والتنمية" الحماسة للاندراج بقوة ضمن هذه الخطوة بوعي وبدون وعي، في حين يعتقد "العدالة والتنمية" أن مضيه ضمن هذه الإستراتجية سيجعله شبيها بنظيره حزب العدالة والتنمية التركي.
الحركات الإسلامية في المغرب العربي تواجه تحديات كبيرة في العلاقة بذاتها من حيث تجديد رؤاها وخطاباتها وحتى أهدافها، أو في علاقاتها بالأنظمة في المنطقة، والتي تدور كلها في إطار معادلة الصدام الكامل أو التكيف الشامل |
وقد نجح "العدالة والتنمية" التركي في تجسيد إصلاحاته وسياساته على أكثر من صعيد، فنهض بالخدمات في البلديات والمحافظات التي فاز فيها في الانتخابات، ونهض باقتصاد البلاد فقلص من عجزها التجاري بأكثر من مائة في المائة، وخفض من التضخم بأكثر من 400%، وقضى على كثير من مظاهر الفساد والبيروقراطية، إلى جانب إصلاحات دستورية ضخمة في العلاقة بالنظام السياسي وحقوق الإنسان.
وانعكس نجاحه في الشعبية التي حظي بها فارتفعت نسبة الأصوات التي حصل عليها من حوالي 30% عام 2002 إلى حوالي 45% عام 2007.
أما "العدالة والتنمية" المغربي، فقد عجز عن إنجاز إصلاحاته حتى على المستويات المحلية في البلديات والمحافظات، فهو يتحرك ضمن نظام سياسي واقتصادي واجتماعي لا يخوله فرص الحركة باتجاه تنفيذ برامجه الإصلاحية، أو النهوض حتى بالقطاعات الخدمية، فهو في وضع يجعله جزء من الرسمية الحكومية، دون أن يمنحه أي سلطات حقيقية للفعل والإنجاز.
وهكذا فإن الحركات الإسلامية في المغرب العربي تواجه تحديات كبيرة في العلاقة بذاتها من حيث تجديد رؤاها وخطاباتها وحتى أهدافها، أو في علاقاتها بالأنظمة في المنطقة، والتي تدور كلها في إطار معادلة الصدام الكامل أو التكيف الشامل.
كما تبدو هذه الحركات على رغم ما يحسب لها من نقاط لصالحها ومن ذلك دفاعها عن هوية المنطقة وانتمائها العربي الإسلامي، إلا أنها مع ذلك بقيت معزولة عن بعضها البعض في مشهد غير طبيعي البتة في وقت جعلت هذه الحركات من "الوحدة الإسلامية" أهم شعاراتها، في حين أنها في الواقع تتصرف وفق مقتضيات الدولة القطرية والهموم المحلية، هذا في وقت تتطلع فيه شعوب المنطقة إلى أشكال من الوحدة المغاربية فشلت دول المنطقة في تجسيدها، رغم ما فيها من إمكانيات هائلة للنجاح.
فالمنطقة إذا ما اعتبرت مصر جزء منها، يبلغ عدد سكانها حوالي 170 مليون نسمة، ومساحتها الجغرافية أكثر من 7 مليون كلم مربع، في جغرافية مفتوحة على قارات ثلاث، إفريقيا وآسيا وأوروبا، وثروات طبيعية وبشرية متكاملة وهائلة.
_______________
باحث في شؤون المغرب العربي