تأليف / روبن نيبلت
قراءة / منير البغدادي
حظي باراك أوباما باهتمام عالمي غير مسبوق، حتى ظهر ما عرف بالأوبامية، ولا شك أن جزءاً كبيرا من هذه الظاهرة قد ساهمت الإدارة السابقة للرئيس جورج بوش، في صنعها.
وانصب اهتمام العالم مع إقبال الإدارة الأميركية الجديدة في قراءة التغييرات الجذرية التي يمكن أن تحدث بين الرئيس المغادر وخليفته، واستطلاع الآمال الكبيرة التي يعلقها العالم على الدور الذي يمكن أن تلعبه واشنطن على الساحة الدولية خلال السنوات الأربع إلى الثماني القادمة.
ولأهمية الموضوع قدم مركز الجزيرة للدراسات قراءة في تقرير أعده معهد تشتمهاوس تطرق فيه للدور الأميركي العالمي مستقبلا، والسياسة الخارجية التي ستتبعها إدارة أوباما. ولتجاوز الملخص اضغط هنا للاطلاع على القراءة في التقرير.
* * *
ملخص:
باراك أوباما حظي باهتمام عالمي غير مسبوق حتى ظهر ما عرف بالأوبامية، ولا شك أن جزءاً كبيرا من هذه الظاهرة قد ساهمت الإدارة السابقة للرئيس جورج بوش في صنعها |
وقد اختار معهد تشتمهاوس (المعهد الملكي للشؤون الدولية) الذي يعد واحدا من أهم المراكز البحثية البريطانية، التطرق إلى التحول في الإدارة الأميركية من خلال سلسلة من التحليلات التي قام بإعدادها مدير المعهد بمساعدة عدد من الأكاديميين المنتسبين إلى المؤسسة، والتي ستناقش الدور الذي ستلعبه أميركا خلال هذه الفترة الانتقالية في سياساتها الخارجية، وكذا التحديات التي ستواجهها كل حكومات العالم، على أن يتم تجميع هذه التقارير في كتاب سيتم نشره لاحقاً هذه السنة.
ونشر المعهد تقريره الأول من هذه السلسلة على موقعه الإلكتروني لإعطاء نبذة مختصرة عن مختلف الفصول التي سيتطرق لها الكتاب، والخلاصات التي يمكن استقاؤها عن دور أميركا العالمي مستقبلاً.
كما يقدم التقرير إجابات من منظور خارجي عن السياسات الخارجية والإستراتيجيات التي ستتبعها إدارة الرئيس أوباما، بالإضافة إلى محاولة تقديم النصح والحلول للمشاكل التي من المتوقع أن تعترض هذه الإدارة في المستقبل القريب.
بيد أنه يتوجب التنبيه هنا إلى أن الهاجس الرئيسي الموجه لهذا التقرير يتركز أساسا حول كيفية محافظة الولايات المتحدة على دورها القيادي في العالم وتدارك مجمل الأخطاء والمطبات التي وقعت فيها خلال حقبة بوش وفريق المحافظين الجدد من حوله، وهو من هذه الناحية يعكس الرؤية الأنجلوسكسونية في التفاعل مع المتغيرات الناشئة في الوضع الدولي بالغ التعقيد من غير أن تفقد الولايات المتحدة ومن خلفها الشريك البريطاني دور الزعامة العالمية.
ومع ذلك يظل التقرير مهما بالنسبة للقارئ العربي من جهة كونه يساعده على تشكيل رؤية معمقة للوضع الدولي وطبيعة التوازنات الجدية الآخذة في التشكل، وكذا في فهم الخطوط العامة للسياسة الأميركية التي يمكن أن تنتهج في حقبة الرئيس أوباما.
وينطلق التقرير في تحليلاته وتوصياته بناء على اعتراف بأمرين:
- الأول:
أن زعامة الولايات المتحدة للعالم أصبحت موضع شك رغم إعلان الرئيس أوباما عن رغبته في عودة بلاده للعب هذا الدور، وهو شك أكده انهيار الاقتصاد الأميركي وفقدانه لصورة النموذج، كما عززه الفشل الأميركي في العراق حيث أدخل الأخير بعد غزوه عام 2003 ومنطقة الشرق الأوسط في حالة من عدم الاستقرار بدلا من أن تكون أميركا مساهماً خارجياً في نشر الأمن بالمنطقة.
وينضاف إلى ذلك تعثر طموح واشنطن في نشر الديمقراطية بين شعوب العالم في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/ أيلول، في الوقت الذي بدأت فيها قوى إقليمية أخرى وعلى رأسها الاتحاد الأوروبي والصين تنافس أميركا على الصدارة في حل القضايا الإقليمية والعالمية، مثل تغير المناخ والتعاون المالي الدولي.
كما أن التكتلات الإقليمية بدأت تحد كثيراً من نفوذ أميركا في تلك المناطق، بموازاة مع صحوة سياسية عرفتها شعوب العالم، أصبح معها من الصعب على حكومات الدول أن تنقاد بسهولة مع سياسات أميركا ومطالبها.
ويسلم التقرير أن كل هذه العوامل سوف تحد من قدرة أميركا على استرجاع المكانة الفريدة التي عرفتها خلال القرن الماضي.زعامة الولايات المتحدة للعالم أصبحت موضع شك رغم إعلان الرئيس أوباما عن رغبته في عودة بلاده للعب هذا الدور - الثاني:
أن أميركا ستبقى في الوقت الراهن القوة العظمى الوحيدة في العالم، وأنها رغم الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيش فيها اليوم، فإن مواردها الاقتصادية المتنوعة وحجم السوق الداخلي وقوتها العسكرية ستكون كلها عوامل ستسمح لها بأن تبقى في القمة على المدى المتوسط.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن حجم شركاتها العالمية الهائل ومؤسساتها غير الحكومية الناشطة على مستوى العالم يشكلان عاملين مؤثرين في نشر المعايير والممارسات الأميركية في باقي دول العالم. كما تبقى أميركا أيضاً الوحيدة، فيما عدا الاتحاد الأوروبي نسبياً، التي تجمع بين الطموح والإمكانيات الفعلية لتصبح قائدةً للعالم.
وتكمن المشكلة بالأساس في كون التحديات التي تواجه العالم مثل قضية تغير المناخ ومكافحة الأمراض المعدية والحد من الانتشار النووي وتحقيق النمو الاقتصادي المستديم والحد من الفقر، كلها تتطلب تعاوناً دولياً وطيداً لحلها.
وهذا في حد ذاته تحد كبير للولايات المتحدة التي ترى في نفسها القوة العظمى الوحيدة في العالم، وترى بعين العداء والشك مطالب باقي المجتمع الدولي في تقديم التنازلات والمرونة اللازمة التي يتطلبها العمل المشترك بين دول العالم.
ويرى الكثيرون في الرئيس أوباما شخصاً قادراً على تطويع كل هذه التناقضات، ومساعدة أميركا على التأقلم مع العالم المتغير الذي يحيط بها.
وبلا شك، سيتطلب هذا التحول خطوات معقدة وصعبة، وسيكون على أميركا أن تقود دول العالم بالقدوة الحسنة وليس بالتدخل أحادي الجانب وتجاهل شركائها، وأن تشجع على التغيير لا أن تفرضه.
وقد حدد التقرير ست خطوات يمكن لإدارة أوباما اتباعها لاسترجاع ريادتها للعالم، يمكن تلخيصها فيما يلي:
- أولاً- على أوباما وإدارته تحديد النبرة المناسبة في حديثهم عن دور أميركا القيادي، إذ أن هناك من سيجد في هذا الكلام تناقضاً صريحاً مع جهود التعاون الدولي، مما سيؤثر سلباً على علاقات أميركا بدول العالم.
- ثانياً- يمكن لإدارة أوباما أن تقدم تغييراً إيجابياً إلى الدول النامية من خلال ضمان التعاون الفعال بين مختلف وكالات وبرامج المساعدات الخارجية الأميركية، بالإضافة إلى فتح أسواقها في وجه منتجات تلك البلدان وضمان مواصلة تدفق الاستثمارات الأميركية إلى هذه البلدان.
- ثالثاً- على الولايات المتحدة أن تفهم خصومها جيداً، وفي نفس الوقت عليها أن تركز أكثر على كيفية دعم حلفائها في سياساتها الخارجية.
- رابعاً- على إدارة أوباما التركيز أكثر على مسلسل الإصلاح السياسي في الدول التي ترغب في إحداث التغيير الديمقراطي بها، عوض الاقتصار على دعم القادة والأحزاب السياسية.
- خامساً- يمكن لإدارة أوباما تعزيز التعاون متعدد الأطراف إن كانت راغبة في تقاسم الزعامة مع الآخرين في بعض المناسبات، أو حتى لعب دور شريك عادي في بعض المؤسسات الدولية في مناسبات أخرى.
وسيكون على هذه الإدارة أن تتأقلم مع دور الشريك إن هي أرادت إحياء الشراكة المتميزة مع أوروبا، أو دعم الصين والهند في لعب دور أكبر على الساحة الدولية. كما يمكنها أن تعزز من قوة المؤسسات الدولية والاتفاقيات الحالية مثل إصلاح المنظومة الأممية أو معاهدة منع الانتشار النووي، أو المساعدة في الوصول إلى توافق دولي بخصوص قضية تغير المناخ. - سادساً- على الولايات المتحدة أن تكون خير قدوة لحلفائها وشركائها، سواء تعلق الأمر بمعاملة الأسرى خلال النزاعات المسلحة أو دعم أنشطة المحكمة الجنائية الدولية أو في تحسين معايير الحفاظ على البيئة داخلياً، أو إنجاح خطة إنقاذ الاقتصاد الأميركي التي ستشكل بالتأكيد حافزاً لدول العالم على اتباع النموذج الأميركي في تنظيم الاقتصاد المفتوح.
* * *
يؤكد التقرير على الرغبة الأميركية للاستمرار في قيادة العالم أو العودة إلى ذلك إذا صحت الشكوك حول صحة استمرارها راهنا في أداء هذا الدور |
وهذا بمثابة تعبير صريح عن رغبته في تجديد زعامة أميركا للعالم باعتبار أنها لا تقود فقط من أجل نفسها ولكن "من أجل الصالح العام" لباقي البشرية، كما قال.
ويبدو أن هذا هو المنحى الجديد الذي قرر أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون السير فيه في سبيل استرجاع وضع أميركا كقائدة للعالم، إذ سيرسي الإستراتيجية الأميركية على أسس تلحظ تعزيز التحالفات القائمة الآن، وإنشاء شراكات جديدة، ومحاولة التحاور مع الخصوم متى أمكن ذلك، والتطرق للتحديات التي تهم المجتمع الدولي مثل قضية تغير المناخ ومنع انتشار الأسلحة النووية، بالإضافة إلى التعجيل بحل الأزمات المستعصية في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، دون إغفال أهمية خلق ترابط متين بين المبادئ والقيم العليا للشعب الأميركي وجعلها تنعكس على سياسات البلاد الخارجية.
ويؤكد التقرير أن الهيمنة الأميركية الاقتصادية والعسكرية لن تكفي لتحقيق تلك الريادة، حتى وإن كان دورها فاعلاً وقوياً في قضايا شائكة مثل الصراع العربي الإسرائيلي.
أما في ظروف أخرى، فإن إدارة أوباما ستجد نفسها مضطرة إلى تقاسم الزعامة مع الآخرين، وأحياناً أن تتأقلم مع دور التابع، كما سيتوجب عليها أن تشارك في مؤسسات ومعاهدات أنشأتها دول أخرى غيرها.
عوائق أمام قيادة أميركا للعالم
قدرة القوة الأميركية على الصمود
مبادئ استخدام القوة الأميركية في المستقبل
عوائق أمام قيادة أميركا للعالم
ويعدد التقرير العقبات والعوائق التي ستعترض محاولات الإدارة الجديدة لإعادة وضع أميركا في منصبها الريادي العالمي كما كانت عليه في ذروة الحرب الباردة والمرحلة التي أعقبتها، وهي:
أميركا المشكلة وليست الحل
بدأ العديد من دول العالم يرى في الولايات المتحدة مصدراً للمشاكل التي يتخبط فيها العالم عوض أن تكون طرفاً في حلها، فأميركا:
- بيئياً: تبقى في نظر العديد من المنظمات الدولية أكثر بلدان العالم إضراراً بالبيئة، وهو ما وعد أوباما بإيجاد حل سريع وعملي له فوراً خلال فترته الرئاسية.
- اقتصاديا: تكفلت الأزمة المالية الخانقة التي يعيشها العالم بتقليص مصداقية الولايات المتحدة كقائد لدول العالم للخروج من هذه الأزمة. وحتى الدول الأوروبية ترى في نزعة أميركا لتشجيع سوق منفتحة أكثر من اللازم مصدراً لعدم الاستقرار يجب تفاديه مستقبلاً.
- دبلوماسيا وعسكريا: فقد أصبحت الولايات المتحدة عنواناً لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط. فإضافة إلى الاستياء العربي من موقف الإدارات الأميركية المتعاقبة المساند لإسرائيل، جاء الدمار والخراب مع غزو أميركا للعراق ليشكك أكثر في مدى أهليتها العسكرية والسياسية للعب دور القائد في العالم.
كما يرى البعض أن تدخل الولايات المتحدة المباشر في العراق قد زاد من حدة "التوجه الأصولي في المجتمعات الإسلامية" وحتى في البلدان الأوروبية حيث توجد تجمعات مهمة للجاليات المسلمة.
الهوة بين الطموح والمصالح
بدأ العديد من الدول يرى في الولايات المتحدة مصدراً للمشاكل التي يتخبط فيها العالم عوض أن تكون طرفاً في حلها |
وازداد الإحساس بهذه الفجوة العميقة بين المبدأين في منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص، حيث لجأت إدارة بوش إلى تجميد مشاريع نشر الديمقراطية وانغمست في حربها ضد الإرهاب.
وفي النهاية، غلبت مصلحة أميركا في الحفاظ على روابط متينة "مع أنظمة غير ديمقراطية مثل مصر والمملكة العربية السعودية" لأنها تلعب دوراً محورياً في التصدي "للتطرف الديني" وتجاهلت ضغوطها السابقة للانفتاح الديمقراطي.
وبدلاً من ذلك، عمدت هذه الدول بدعم من الولايات المتحدة إلى الدفع "بالقادة السياسيين الليبراليين (وأحياناً العلمانيين) إلى الواجهة" وبقي دور المعارضة "الديمقراطية" للأحزاب والحركات "الدينية والأصولية" مثل جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وحركة حماس في الأراضي الفلسطينية، وحزب العدالة والتنمية في المغرب.
أما في دول آسيا الوسطى، فقد بدأت العلاقات الإيجابية بين تلك الدول وأميركا -التي تميزت بها بداية هذا العقد- تذوي أمام تخلي قادة تلك البلدان عن المسار الديمقراطي الذي رأوا فيه تهديداً لأنظمتهم ومصدراً لانعدام الاستقرار في دولهم.
ويبدو أن كل بلدان آسيا الوسطى الخمس قد تعلمت فن تغيير الولاء والانتماء، جاعلة كلاًّ من أميركا وروسيا والصين في الواجهة تتناطح فيما بينها لتمتص منها أكبر قدر ممكن من المكاسب.
ظهور نشطاء إقليميين
مع تكشف حدود قوة الولايات المتحدة الاقتصادية والعسكرية خلال السنوات الثماني التي مضت، استطاعت دول أخرى ومؤسسات غير حكومية أن تتعرف على قدراتها الحقيقية، وبدأ "عصيانها" يزداد ضد قوة أميركا وريادتها للعالم، واتخذ في ذلك شكلين:
1- منافسة القوى الصاعدة
بدأت القوى الصاعدة، وعلى رأسها روسيا والصين والهند، تبدي امتعاضها من هيمنة أميركا الإقليمية والعالمية، وبدأت توسع نطاقها الدبلوماسي والعسكري في محيطها الجغرافي بالإضافة إلى تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع دول أخرى.
2- الاتجاه نحو القيادة الإقليمية
ساد انطباع لدى الجميع بأن تدهور وضع أميركا على الصعيد العالمي يجب أن يقابله تكتل لباقي الدول للعب أدوار طلائعية على الصعيد العالمي أو الإقليمي.
ويمكن تلخيص هذه التكتلات وتوجهاتها فيما يلي:
- خلق الاتحاد الأوروبي تكتلات إقليمية مثل "الشراكة الشرقية" والاتحاد المتوسطي، والتي من شأنها تأسيس إطار عمل لإدماج دول أوروبا الشرقية وشمال أفريقيا وبعض دول الشرق الأوسط في الاقتصاد العالمي.
- وفي آسيا، تصاعد نفوذ الصين في دول المنطقة، خصوصاً مع نزعة هذه الدول إلى تطوير هوية آسيوية شمولية تميزها عن باقي العالم.
- وحتى في دول الشرق الأوسط بدأ الشعور يزداد بضرورة الاعتماد على النفس في مواجهة التحديات التي تعترض هذه البلدان، وعلى رأسها "الهيمنة" الإيرانية على المنطقة وتنامي قوة "الجماعات المتطرفة" وانتشار العداء الشعبي لأميركا وإسرائيل الذي يمكن لخصوم أميركا التقليديين: إيران وسوريا على الخصوص، والمنظمات الثائرة مثل القاعدة وحماس وحزب الله، أن يستغلوه في زعزعة أنظمتها.
هذا التخوف (في نظر التقرير) دفع بالجامعة العربية إلى التعجيل بإيجاد حلول واتفاقيات بين الفصائل الفلسطينية وبين القوى المتنافسة داخل لبنان، بل وحتى بين إسرائيل وحماس وسوريا. وعلى الصعيد الاقتصادي، لجأت دول الخليج الغنية إلى الاستثمار في مشاريع تنموية كبرى في البنية التحتية لبلدان شمال أفريقيا. - وفي أميركا اللاتينية، بدأت دول المنطقة تتكتل في منظمات وتحالفات اقتصادية وعسكرية. كما لم تعد هذه الدول مرتبطة بأميركا اقتصادياً، حيث وسعت نطاقها لتشمل آفاقاً جديدة خصوصاً مع الصين.
- وحتى في أفريقيا، بدأت أميركا تفقد نفوذها لصالح الصين والهند بعد أن فقدت بلدان القارة الأمل والثقة في الاعتماد على الولايات المتحدة للارتقاء بها نحو اقتصاد مستديم ومزدهر.
الصحوة السياسية العالمية
يرى البعض أن تدخل الولايات المتحدة المباشر في العراق قد زاد من حدة ما سمي التوجه الأصولي في المجتمعات الإسلامية وحتى في البلدان الأوروبية حيث توجد تجمعات مهمة للجاليات المسلمة |
ففي الشرق الأوسط مثلاً، رافق حضور أميركا العسكري في المنطقة تغطية إعلامية مكثفة، سواء من خلال البث التلفزيوني الحي لما يجري على الساحة أو من خلال منتديات الحوار والنقاش على الإنترنت، وصار هامش حرية الحكومات في عقد صفقات سرية مع أميركا من وراء شعوبها ضيقاً جداً.
نفس الشيء بالنسبة للصين، حيث الارتفاع المضطرد لمستخدمي الإنترنت، والذي عِوض أن يساهم في تقويض دعائم النظام الشيوعي الحاكم كما كان الغرب يتمنى، زاد من شعور الناس بانتمائهم القومي للصين، وبالتالي وضع أميركا مرة ثانية في خانة المعادي لمصالح الشعب.
غير أن التقرير يشير إلى أن هذا الانفتاح الإعلامي لن يساهم بالضرورة في خلق أجواء ديمقراطية، فنجد مثلاً أن "حكومات الشرق الأوسط غير الديمقراطية" قد سخرت هذا الانفتاح لخدمة مصالحها، حيث اتخذت من التدخل الأميركي في العراق والصدام القوي مع تنظيم القاعدة ذريعة لزرع فكرة مفادها: أن محاولة إطاحتها من السلطة، قد ينجم عنها مصير مشابه لما تعانيه العراق وأفغانستان اليوم من عدم استقرار وفتنة.
فراغ ديمقراطي؟
جاءت إدارة أوباما في فترة صارت معظم حكومات العالم تشكك في نجاعة نهج سياسة نشر الديمقراطية في العالم.
فبالنسبة للعديد من تلك الحكومات، أصبح نموذج تحقيق الازدهار الاقتصادي قبل الشروع في الانتقال الديمقراطي أكثر جاذبية وقابلية للتنفيذ، خصوصاً بعد نجاح النموذج الصيني والطفرة الاقتصادية التي عرفتها البلاد مؤخراً.
ويبقى السؤال الذي يطرحه التقرير هو ما الذي ستختاره إدارة أوباما كسياسة في هذا الإطار: مواصلة تشجيع الانتقال الديمقراطي في دول العالم، أم التخلي عن الفكرة؟
فربما يكون الاحتفاظ بدعم دول ديمقراطية حليفة مثل أوروبا أو اليابان أو إسرائيل أمراً جيداً ومطلوباً، ولكن الحث على أجواء ديمقراطية أكثر في مناطق مثل الشرق الأوسط قد يتسبب في نتائج عكسية لا يمكن التكهن بها قد تضر بمصالح أميركا الإقليمية والعالمية.
وعليه، يرى التقرير أنه ربما يكون من المفيد بالنسبة لإدارة أوباما التركيز على الأهداف قصيرة المدى والتحالف مع "الحكومات غير الديمقراطية" على حساب شعارات حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية، بغية الوصول إلى الهدف طويل المدى المتمثل في عالم تسوده الديمقراطية.
لقد صارت هناك حاجة أكيدة (في نظر التقرير) إلى إعادة النظر في قيادة أميركا، فمن الواضح أن على الولايات المتحدة أن تتخلص من الصورة السلبية التي لصقت بها كمصدر لمشاكل العالم ودولة بمعايير مزدوجة، تنادي بقيم ومبادئ رفيعة ثم تتورط في أفعال معاكسة تماماً.
كما سيكون عليها أن تتأقلم مع القوى العظمى الصاعدة الجديدة، بالإضافة إلى احتواء السخط المتزايد لدى شعوب العالم على سياساتها الخارجية، في نفس الوقت الذي تَقلص فيه هامش الحركة لدى حكومات الدول غير الديمقراطية الموالية لها.
قدرة القوة الأميركية على الصمود
بحسب التقرير، فسوف يكون أول عائق في وجه إدارة أوباما لاسترجاع ريادة أميركا العالمية هو الصعود المتنامي لطموحات دول أخرى بدأت تتحسس قوتها، إما في شكل كيانات مستقلة أو تكتلات إقليمية متحدة.
الصين تتراجع:
فهناك الصين وهي الأقرب إلى أميركا من حيث القوة والنفوذ، وذلك انطلاقاً من عدد السكان وحجم اليد العاملة والناتج المحلي الإجمالي وخصوصاً قدرتها على الاندماج في الاقتصاد العالمي. غير أن ما يهم الصين الآن ليس محاولة انتزاع الريادة العالمية من أميركا بقدر ما تهتم بتطوير اقتصادها أكثر، بحيث يصل إلى مرحلة الاستدامة ويقلص من اعتمادها على استيراد السلع ومصادر الطاقة.
روسيا مشلولة:
بحسب التقرير، فسوف يكون أول عائق في وجه إدارة أوباما لاسترجاع ريادة أميركا العالمية هو الصعود المتنامي لطموحات دول أخرى بدأت تتحسس قوتها إما في شكل كيانات مستقلة أو تكتلات إقليمية متحدة |
فاقتصادها يعتمد بشدة على عائدات صادرات الطاقة، وتعوزه المرونة الكافية للازدهار وجلب الاستثمارات الأجنبية وتنويع الصادرات، بالإضافة إلى الحاجة الماسة إلى تحديث بنيته التحتية.
كما تشير التوقعات إلى أن عدد سكان روسيا سيتقلص من 140 مليوناً سنة 2010 إلى 120 مليوناً سنة 2035. ومن الناحية الإستراتيجية، فإن روسيا تفتقد الحلفاء الأقوياء عكس أميركا.
الاتحاد الأوروبي في المهد:
في حين يُعتبر الاتحاد الأوروبي هو القادر فعلا على تحدي زعامة أميركا العالمية، فمجموع الناتج المحلي الإجمالي لدوله يفوق الآن نظيره لدى الولايات المتحدة، كما أن سكانه يفوقون سكان هذه الأخيرة بحوالي 200 مليون فرد، كما أن تنوع اقتصادات دول الاتحاد وقوتها يجعل منها لاعباً بارزاً في السوق العالمية خصوصاً مع عملتها القوية والمستقرة (اليورو).
ولكن يبدو أن دول الاتحاد ما تزال منقسمة على نفسها فيما يخص الاضطلاع بدور القائد العالمي، وتوسيع نفوذها عالمياً.
الجار الضعيف خير من القوي:
كل هذه الأطراف الثلاثة، أو أي من القوى الصاعدة الأخرى مثل الهند واليابان وإيران، ربما تكون قادرة على تحدي أميركا نوعاً ما، خصوصاً حين لعب دور رئيسي في محيطها الجغرافي، ولكنها مع ذلك تبقى غير قادرة على تجاوز هيمنة أميركا العالمية، ولا يمكن أن تجاريها في طموحاتها للزعامة، سواء كانت عالمية أو إقليمية.
ويرى التقرير أن العائق الرئيس أمام تلك القوى الصاعدة، باستثناء الوضع الخاص للاتحاد الأوروبي، يكمن في أن طموحاتها يمكن أن تفجر ردات فعل عكسية ضدها، خصوصاً من الدول المجاورة لها، والتي ستجد بالتأكيد في تلك التطلعات خطراً مباشراً يتهدد كياناتها ومصالحها.
وبالتالي يكون الخيار الأول الذي لا يوجد أفضل منه بالنسبة لهذه الدول الضعيفة، هو الدخول في تحالفات أو علاقات تعاون وطيدة مع أميركا لنيل حمايتها.
وهذا الحرص على عدم خسارة دعم الولايات المتحدة يتجلى حتى لدى الاتحاد الأوروبي الذي، وإن كان يسعى إلى تقليص اعتماده على زعامة الولايات المتحدة للعالم، يحرص على الحفاظ على المنافع الأمنية التي يجنيها من حلف الناتو والدعم المادي والعسكري الكبير الذي تخصصه الولايات المتحدة له.
وكذلك الحال بالنسبة لدول الشرق الأوسط التي يؤكد التقرير أن لا مناص لها من الحفاظ على علاقاتها المتميزة مع أميركا، بالرغم من معارضة الشعوب القوية لها، لضمان قدرتها على التصدي للتهديدات الإستراتيجية المحتملة لكل من إيران و "الجماعات الإسلامية المتطرفة".
فمن الواضح أن كل حلفاء أميركا ربما يتمنون أن تكون هذه الأخيرة أكثر تعقلاً في تصرفاتها على الساحة الدولية، ولكنهم كلهم لا يرغبون في أن يروها ضعيفة.
أميركا تبقى الأقوى رغم الأزمات
تبقى أميركا أقوى دولة في العالم رغم أزمتها الاقتصادية الراهنة، وتبقى على مستوى من القوة لا يجاريها فيها أحد، فلديها من الموارد البشرية والاقتصادية والسياسية والعسكرية ما يمنحها القدرة على الدفاع عن مصالحها على الصعيد العالمي |
ومع ذلك تبقى أميركا أقوى دولة في العالم رغم أزمتها الاقتصادية الراهنة، وتبقى على مستوى من القوة لا يجاريها فيها أحد، فلديها من الموارد البشرية والاقتصادية والسياسية والعسكرية ما يمنحها القدرة على الدفاع عن مصالحها على الصعيد العالمي، ويمكن تلخيصها فيما يلي:
- قُدّر الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة سنة 2008 بحوالي 14.5 تريليون دولار، بينما وصل في الصين إلى 7.8 تريليونات وفي الاتحاد الأوروبي 15 تريليونا. ورغم أنه من المتوقع أن يتقلص هذا الإجمالي خلال سنة 2010، إلا أن تداعياته ستمس الآخرين أيضاً، وبالتالي سيبقى التوازن الاقتصادي الحالي قائماً.
- تبقى الولايات المتحدة غنية بالمصادر الطبيعية، حيث تنتج عُشُر إنتاج العالم من النفط الخام (وإن كان يكفي لسد أقل من نصف الطلب الداخلي) وتتوفر على أكبر احتياطي في العالم من الفحم الحجري، وهي أيضاً من أكبر منتجي الأغذية ومصدري المنتجات الزراعية في العالم.
- حتى مع الأزمة الاقتصادية الحالية، تبقى الشركات الأميركية متعددة الجنسيات ومؤسساتها المالية من أهم المستثمرين الأجانب في العديد من دول العالم، ويمكن لعلاقاتها التجارية الخارجية أن تؤثر سلباً أو إيجاباً على اقتصادات الدول الأخرى.
- قوة أميركا الاقتصادية تؤثر على العلاقات السياسية الدولية أيضاً، فهي تمتلك القوة للضغط على سياسات صندوق النقد والبنك الدوليين، كما أنها تساهم بأكبر حصة في ميزانية الأمم المتحدة.
- الميزانية العسكرية الأميركية تقدر بحوالي 515 مليار دولار خلال السنة المالية 2009، يمكن أن تُضاف إليها ما بين 70 و100 مليار أخرى عند الضرورة لتغطية العمليات في أفغانستان والعراق. هذه الميزانية تعادل اليوم ما يخصصه باقي العالم أجمع لنفقاته العسكرية.
- القوة العسكرية الأميركية تتعدى الموارد المالية المخصصة لها. فهناك نظام متطور ومعقد يجمع أسلحة الجو والبحر والأرض في شبكة منظمة واحدة مجهزة بأحدث الأنظمة وأكثرها تعقيداً لضمان المرونة اللازمة للتدخل والحركة أينما وكلما دعت الضرورة ذلك.
- يدعم القوة العسكرية جهاز دبلوماسي وأجهزة استخبارات حصلت على موارد مالية أكبر منذ هجمات 11 سبتمبر/ أيلول، سخرتها في توسيع عملياتها وتطوير بنياتها.
وأزمتها الاقتصادية هي أزمة للعالم أيضاً، حيث جاءت الأزمة الاقتصادية الحالية لتؤكد أن اقتصادات دول العالم، سواء منها المتقدمة أو الناشئة، تعتمد كلية على بقاء الاقتصاد الأميركي بصحة جيدة.
ويبقى الجميع حالياً بانتظار القرارات التي ستتخذها الإدارة الأميركية لتحفيز اقتصادها وإعادة هيكلته باتجاه نمو مستديم.
وهناك مزايا ثلاث ستسمح بإعادة إنعاش الاقتصاد الأميركي:
- النموذج الاقتصادي المنفتح الذي سمح باستقطاب أعداد كبيرة من المهاجرين من ذوي المهارات والطموح من كل أنحاء العالم بفضل البيئة الاقتصادية المتطورة التي ساعدتهم على الاندماج والإنتاج.
- النظام التعليمي الذي يعتبر من بين الأفضل في العالم، والذي يبقى الوجهة المفضلة للعديد من المهاجرين بفضل العدد الكبير للمؤسسات التعليمية ذات السمعة العالمية.
- الولايات المتحدة تبقى أكبر مركز للإبداع التقني في العالم، حيث كانت منبع معظم الابتكارات التقنية التي عرفها العالم خلال القرن العشرين. وهي الآن تسعى إلى أن تصبح رائدة في مجال الطاقة النظيفة والتقنيات المتجددة.
هناك حذر أميركي من التورط في الخارج، إذ يسود اعتقاد داخل الولايات المتحدة بأن اعتمادها على الغير يحد من حركتها وقد يضر بمصالحها |
وكذلك الحال بالنسبة للشركات الأميركية العملاقة التي ساهمت بشكل كبير في نقل النموذج الاقتصادي الأميركي إلى الخارج، بما في ذلك التقنيات الحديثة والتنافسية ومعايير الجودة وحتى تطوير مهارات اليد العاملة.
ويرى التقرير أنه من الضروري الحفاظ على قوة أميركا، حيث يوجد هناك إجماع داخلي لدى العامة والساسة في الداخل على أهمية الحفاظ على مستويات عالية من الإنفاق العسكري، حتى مع الأزمة الاقتصادية الراهنة، خصوصاً بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول.
وتحظى المؤسسة العسكرية الأميركية باحترام الجميع في البلاد، في حين تصل الميزانية المخصصة للدفاع ما بين 4 و4.5% من الناتج المحلي الإجمالي.
وقد ورثت إدارة أوباما الآن جهازاً عسكرياً متمرساً من خلال حروب العراق وأفغانستان، بالإضافة إلى أنظمة تكنولوجية حربية وبرامج دفاع تم اختبارها جيداً على أرض المعركة.
وهناك حذر أميركي من التورط في الخارج، إذ يسود اعتقاد داخل الولايات المتحدة بأن اعتمادها على الغير يحد من حركتها وقد يضر بمصالحها، واعتبرت إدارة بوش الابن في موقف صريح المؤسسات الدولية عائقاً أمام مصالح البلاد ومصالح العالم.
ولكن لا يمنع هذا أن هناك أسباباً أخرى تفسر هذا الموقف منها:
- انعدام الثقة داخل الولايات المتحدة ساسة وشعباً، في أهمية القانون الدولي.
- قوة النظام القضائي في الولايات المتحدة تمنع الحكومة من التورط في أية معاهدات أو اتفاقيات دولية قد تؤدي إلى إشكالية قانونية مع دستور البلاد.
- طبيعة المجتمع الأميركي ستضع الحكومة في مأزق كبير مع المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي يمكن أن تنجم عنها عواقب قضائية، إذ سيلجأ المتضررون خصوصاً منهم جماعات الضغط الاقتصادية، إلى رفع دعاوى قضائية للحصول على تعويضات هائلة.
ولكن من جهة أخرى فإن هذه الحالة قد تتغير، لأن إدارة أوباما جاءت في فترة تقلص فيها نفوذ أميركا داخل الأمم المتحدة وباقي المؤسسات الدولية، بالإضافة إلى تنامي الوعي الداخلي بالمشاكل المطروحة على الصعيد العالمي، خصوصاً مشكلة تغير المناخ التي عرفت تحركات واسعة داخل المجتمع المدني من أجل الضغط على الحكومة الفيدرالية والكونغرس لاتخاذ موقف إيجابي تجاه هذه المشكلة، كما ساهمت الأزمة الاقتصادية العالمية في إبراز الاعتماد الأميركي على باقي دول العالم، حيث أن الصين صارت اليوم أكبر مالكي سندات الخزينة الأميركية (حوالي 580 مليار دولار في المجموع) كما أنها تمتلك أكبر مخزون عالمي من الدولار الأميركي خارج الولايات المتحدة، بحيث تشكل هذه العملة 70% من قيمة احتياطي العملات الصعبة لديها والمقدر بحوالي 2 تريليون دولار.
وربما تبقى أميركا استثناء في قوتها، ولكنها تبقى أيضاً عادية في اعتمادها على غيرها.
فرغم الضغوط الخارجية التي تحول دون حفاظها على ريادتها للعالم، هناك أيضاً عدد من نقاط القوة التي ستمنعها من السقوط، فهي تمتلك قدرة على خلق تحالفات وعلاقات ثنائية وطيدة مع دول جوار منافسيها المباشرين، وطبيعة اقتصادها المنفتح ومؤسساتها غير الحكومية المؤثرة على الصعيد العالمي سوف تساهم بالتأكيد في إعادة إنعاش اقتصادها وإخراجه من انتكاسته الحالية.
وهو ما يؤكد أن أميركا قد تكون استثنائية في قوتها الاقتصادية والسياسية، ولكنها تبقى عادية مثل غيرها في اعتمادها على باقي دول العالم.
مبادئ استخدام القوة الأميركية في المستقبل
وليحث التقرير الولايات المتحدة على التعاون مع الدول الأخرى، يشير إلى مضمون تقرير آخر صدر عن مجلس الاستخبارات الوطني الأميركي يقول: إن العالم قد دخل في فترة تتميز بتعددية الأقطاب واعتماد الدول على بعضها البعض، وأنه من المرجح أن تنبذ فيها الدول مبدأ زعامة الدولة الواحدة.
ومن هذا المنطلق يقترح تقرير تشتمهاوس أنه سيكون من صالح الولايات المتحدة أن تغلب دوراً بناءً من هذا المنطلق، وهو ما يوجب على إدارة أوباما أن تجد له حلاً خلال العقد القادم.
وهذا ما دفع بكاتب التقرير إلى تقديم ستة مبادئ إرشادية تغطي النقاط المهمة التي يتوجب على الولايات المتحدة اتباعها:
1- التحدث بصراحة
ساهمت الأزمة الاقتصادية العالمية في إبراز الاعتماد الأميركي على باقي دول العالم حيث أن الصين صارت اليوم أكبر مالكي سندات الخزينة الأميركية، كما أنها تمتلك أكبر مخزون عالمي من الدولار الأميركي خارج الولايات المتحدة |
وأصبحت آمال الجميع معلقة الآن على إدارة أوباما لخلق تغيير جديد وإيجابي في العالم وإيجاد حلول مناسبة لمشاكل العالم، وعلى رأسها الصراع العربي الإسرائيلي والحد من تغير المناخ.
وكلها تبقى قضايا شائكة وتحتاج إلى كثير من الجهد والوقت لمعالجتها، بينما تبقى أهم أولويات أوباما حالياً هي خدمة مصالح بلاده وحماية مواطنيه، وليس إرضاء حلفاء أميركا وريادة جهود التعاون الدولي فقط من أجل الريادة.
كما يتوقع التقرير أن يحتم الظرف الراهن مثلاً على إدارة أوباما توطيد علاقاتها أكثر مع الدول غير الديمقراطية في القوقاز وآسيا الوسطى لضمان تنوع مصادر الطاقة، وفتح طرق آمنة لتعزيز وجودها بأفغانستان، كما ستحتاج إلى تعاون الصين وروسيا معها في إيجاد حل دبلوماسي لقضية إيران النووية.
كل هذه الخطوات يجب أن تتبعها خطوات جادة مماثلة للعمل على تغيير سمعة أميركا السيئة لدى شعوب العالم، وإقناعها بأنها ستتخلى عن سياسة النفاق والمعايير المزدوجة التي كانت تبررها حقبة الحرب الباردة والفترة التي تبعتها مباشرة.
2- التأقلم مع العوائق الجديدة لعلاقات أميركا الثنائية
تبقى زعامة أميركا أساسية في الكثير من القضايا الدولية العالقة، وعلى رأسها توصل العرب والإسرائيليين إلى سلام دائم وحل لدولتين بين إسرائيل والفلسطينيين، والوصول إلى حل مقبول لبرنامج إيران النووي، وربما أيضاً برنامج الأسلحة النووية لكوريا الشمالية.
وسيكون على أميركا أن تخلق توازناً بين مساعداتها الاقتصادية وتشجيع الإصلاح السياسي في الدول النامية، ففي القارة الأفريقية مثلاً، سوف يكون من التهور دعم أحزاب المعارضة والمنظمات الحقوقية بينما تواصل الصين دعم الحكومات من خلال الاستثمار في اقتصادات بلدانها.
وتستطيع الإدارة الأميركية أن تتجاوز هذه المشكلة من خلال تحفيز بلدان بعينها على السير قدما نحو التغيير الإيجابي، وهذا يعني التركيز على المساعدات الإنسانية وبناء القدرات المحلية، بالإضافة إلى تشجيع الاستثمارات الأميركية في الخارج وفتح الأسواق الداخلية.
3- فهم أفضل للخصوم ودعم أكبر للحلفاء
يرى التقرير أنه ربما يكون من الأنجع بالنسبة لأميركا محاولة فهم الأسباب الكامنة وراء معارضة بعض الدول لسياساتها. وهذا ما تعتزم إدارة أوباما على ما يبدو القيام به بعد أن أعلن الرئيس نيته الدخول في حوار مع خصوم أميركا.
كما سيكون عليها أيضاً أن تدعم حلفاءها أكثر. فعليها مثلاً أن تعزز علاقاتها الأمنية مع دول الخليج وباقي الدول العربية بتوازٍ مع سياستها الرامية إلى إعاقة برنامج إيران النووي، كما سيكون عليها تقوية قدرات أوكرانيا وجورجيا العسكرية ومؤسساتها السياسية إلى جانب إحياء آمالهما في الانضمام إلى حلف الناتو.
ويجب عليها أيضا إعادة تقوية العلاقات مع تركيا بعد أن تضررت كثيراً في عهد إدارة بوش، ومساعدتها على أن تصبح عصباً إستراتيجياً للاستقرار الأمني بالمنطقة.
نفس النهج على أميركا أن تسلكه في علاقاتها بأميركا اللاتينية، كأن تدعم مثلاً طموح البرازيل لعضوية دائمة في مجلس الأمن، وهو ما سيساعدها كثيراً على الحد من نزعة العداء تجاه أميركا والتي تروج لها فنزويلا.
هذا بالإضافة إلى المنافع التي يمكن أن تقدمها البرازيل في مجال مكافحة تغير المناخ، وذلك باستيراد المزيد من الإيثانول منها أو دعمها في المحافظة على الغابات في منطقة الأمازون.
وعلى صعيد القارة الآسيوية، يمكن لإدارة أوباما أن تسعى إلى تقوية علاقاتها الثنائية مع دول المنطقة من خلال لعب دور الشريك وليس القائد في المؤسسات المحلية.
4- التركيز على برامج التغيير السياسي عوض القادة والأحزاب
يكمن أحد أهم نقاط التحول في تغيير أولويات القيادة الأميركية للعالم (حسب التقرير) في ضرورة التركيز على خلق مؤسسات سياسية وقانونية تدعم النهج الإصلاحي في الدول المعنية بسياسات أميركا الخارجية، عوض التركيز على تشجيع أحزاب أو أشخاص سياسيين بعينهم.
يرى التقرير أنه ربما يكون من الأنجع بالنسبة لأميركا محاولة فهم الأسباب الكامنة وراء معارضة بعض الدول لسياساتها |
وهناك أيضاً مشكلة اعتماد كبار مسؤولي البيت الأبيض على العلاقات الشخصية في صياغة سياسات البلاد الخارجية، والتي تعتمد في كثير من الأحيان على الآراء الشخصية للمنفيين وجماعات المعارضة المتمركزة في أميركا.
ويبدو أن اهتمام الرئيس أوباما بتعزيز دور وزارة الخارجية، وهو موقف أيده وزير الدفاع روبرت غيتس، يصب في تغيير هذه السياسات خصوصاً مع تعيينه هيلاري كلينتون لتكون على رأس هذه الوزارة، بالإضافة إلى تعيين موفد خاص إلى الشرق الأوسط وممثل خاص لأفغانستان وباكستان.
ويشير التقرير إلى أنه من الضروري ألا يكون هؤلاء المبعوثون الخاصون مصدر تعزيز لسياسات أميركا الخاطئة على حساب الدولة المعنية، بل أن يساهموا في خلق فريق من الخبراء قادر على التنسيق بين أنشطة كافة وزارات الإدارة الأميركية ووكالاتها.
كما سيكون من اللازم زيادة ميزانية وزارة الخارجية من أجل إنجاح هذا التوجه، ومن أجل قطع الطريق أمام البيت الأبيض ووزارة الدفاع لفرض هيمنتهما مرة ثانية على السياسات الخارجية للبلاد.
5- تعزيز التعاون متعدد الأطراف
ومع تقلص نفوذ الولايات المتحدة داخل المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة، بدأ بعض الساسة الأميركيين يفكرون جدياً في إمكانية خلق كيان سياسي دولي جديد تجتمع فيه كل الدول التي تتقاسم نفس الأهداف مع أميركا.
هذا لا يمنع أن حلفاء أميركا يرغبون أن تبقى الأخيرة قوية وقادرة على قيادتهم في التعامل مع باقي القوى الصاعدة في العالم.
فالتقرير يؤكد ضرورة تجديد الشراكة مع أوروبا، حيث أن معظم دولها تتمنى أن تجدد الشراكة مع أميركا، على أن تتخلى هذه الأخيرة عن هيمنتها في اتخاذ القرارات حسب القضايا التي تطفو على السطح.
فمن البديهي أن تبقى أميركا هي القائدة فيما يخص قضية أفغانستان، بينما من المحتمل أن تكون أوروبا أفضل أداء في قضية تغير المناخ.
ولكن ما هو واضح هو أن على الاثنين أن يخلقا تحالفات أكبر لبلوغ الأهداف العالمية المشتركة، مثل تحقيق السلام في الشرق الأوسط ومكافحة تغير المناخ والقضاء على الفقر وتعميم الرعاية الصحية في دول العالم.
كما سيتعين على أميركا إشراك الصين وإقناعها بالدخول في مثل هذه الشراكات، بالإضافة إلى محاولة إقناعها بالتفكير فيما هو أبعد من مصالحها القومية المباشرة.
فمساهمة الصين، ومعها الهند أيضاً، صارت ضرورية وحتمية في تنمية دول جنوب الصحراء في أفريقيا. كما أن إقناعها بتعديل قراراتها الوطنية الخاصة بالجيل الجديد من محطات إنتاج الطاقة، بحيث تخدم قضية تغير المناخ، سوف يكون من شأنه حث كل من روسيا والهند على السعي إلى الالتزام من جانبهما أيضاً بهذه القضية.
من المهم حسب التقرير، العمل على تحديث المنظومة الأممية، فقد أعرب الرئيس أوباما عن رغبته في تعزيز دور الأمم المتحدة في قضايا السلام والأمن العالمية |
لهذا، سيكون من الضروري أن تعكس مجموعة الـ20 تطلعات الدول المشاركة فيها لتفعيل عضويتها وإبراز دورها في قمم المجموعة، وسيكون على أميركا أن تتأقلم مع منطق تشارك القيادة في القضايا التي كانت في العادة تحتكر القرار فيها.
ومن المهم أيضاً (حسب التقرير) العمل على تحديث المنظومة الأممية. فقد أعرب الرئيس أوباما عن رغبته في تعزيز دور الأمم المتحدة في قضايا السلام والأمن العالمية.
وهناك عدد من الخطوات التي يمكن لإدارته أن تقوم بها لتفعيل هذا الدور، وهي:
- لعب دور حيوي في إصلاح مجلس الأمن الدولي، خصوصاً إعطاء العضوية الدائمة لبعض القوى الإقليمية في العالم.
- خلق أجواء من الشفافية والتشاور داخل مجلس الأمن، وتفادي تجاوز الجمعية العامة للأمم المتحدة قدر الإمكان لاكتساب الشرعية في اتخاذ القرارات.
- دعم الشفافية في اختيار الأمين العام للأمم المتحدة.
- ترشيح ممثلين بمجلس حقوق الإنسان بما يضمن المشاركة الفاعلة للدول العظمى التي تدافع عن حقوق الإنسان.
- تخطي تحفظات أميركا على آليات فض النزاعات في ميثاق الأمم المتحدة الخاص بقانون البحار والمشاركة فيه، والاستفادة من التشريعات الخاصة بالقطب الجنوبي، خدمة لمختلف مصالح أميركا الداخلية من حرية التحرك العسكري إلى جماعات حماية البيئة.
ثم تأتي مسألة تعزيز حظر الانتشار النووي، فرغم أهمية التعجيل بإيجاد حلول للبرنامج النووي لكل من إيران وكوريا الشمالية والمناوشات الثنائية بين الهند وباكستان، فإن على إدارة أوباما ألا تركز كل جهودها على هذه القضايا فقط، بل أن تعيد إحياء السياسة القديمة لحظر الانتشار النووي متعدد الأطراف ومراقبة التسلح لإعادة النظام في المجتمع الدولي. وهناك خطوات سريعة يمكن اتخاذها في هذا الشأن:
- بالإضافة إلى تعديل معاهدة حظر التجارب النووية الشاملة، يجب التفكير أيضاً في الوصول إلى اتفاق مع روسيا لمزيد من التقليص في الرؤوس الحربية وإعادة إحياء معاهدة المواد الانشطارية.
- يمكن لأميركا أن تعزز دور الشراكة العالمية لمجموعة الـ8 في الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل لتشمل مناطق أخرى من العالم.
- فيما يخص الأسلحة التقليدية، يمكن لأميركا أن تدعم معاهدة دولية خاصة بتجارة الأسلحة لتثبت بها عزمها على تغيير سياساتها الخارجية.
- في أفق المراجعة الدورية لمعاهدة حظر الانتشار النووي سنة 2010، يجب على إدارة أوباما أن تفكر في إيجاد حوافز تقدمها للدول التي لا تمتلك أسلحة نووية لإقناعها بضرورة البقاء في هذه المعاهدة.
وأخيراً، يجب إحراز تقدم في قضية تغير المناخ، إذ على إدارة أوباما ألا تفوت فرصة الولاية الرئاسية الأولى لإحراز تقدم في هذا الشأن، والوصول إلى الغاية المنشودة التي اتفقت عليها معظم دول العالم والمتمثلة في تقليص انبعاثات ثاني أكسيد الكربون إلى النصف مقارنة بمعدلات سنوات التسعينيات.
وهناك عدد من الخطوات التي ينصح بها التقرير إدارة أوباما لاتباعها في هذا الصدد:
- على كل حكومات العالم التقيد بنسب تخفيض انبعاثات الكربون التي اتفقت عليها.
- على أميركا وباقي الدول المتقدمة أن تحث القوى الاقتصادية الصاعدة مثل الصين والهند على اتخاذ تدابير جدية لتقليص انبعاثات الغازات لديها مستقبلاً.
- يجب الوصول إلى اتفاق عالمي تقتنع به جميع الدول وليس فقط القوى العظمى مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين واليابان والهند.
- ضرورة إنشاء مؤسسة دولية تحت رعاية الأمم المتحدة لمراقبة التزام جميع دول العالم بالتزاماتها تجاه قضية تغير المناخ.
- التعجيل بالتوصل إلى اتفاق وشيك تشارك فيه الولايات المتحدة لتحقيق نسب منخفضة من انبعاثات الغازات على المدى المتوسط، بغية تحقيق أهداف سنة 2050 المنشودة.
6- كُن خير قدوة
يبقى أحد أهم التحديات في وجه إدارة أوباما هو إعادة الاعتبار للنموذج الغربي وجاذبيته لدى باقي الشعوب. وسيكون ذلك (من وجهة نظر كاتب التقرير) ممكناً على ثلاثة مستويات في صناعة السياسة الأميركية:
أولا: احترام المبادئ العليا لأميركا، فعلى إدارة أوباما أن تعيد الاعتبار لمبادئها السامية بعد أن لطختها إدارة بوش خلال "حربها على الإرهاب" والخروقات الهائلة التي تخللتها على حساب حقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية. وعليه، سوف يكون على الولايات المتحدة أن تعترف بالبروتوكول الأول من معاهدات جنيف الخاصة بحقوق الإنسان، كما على الرئيس أوباما أن يضمن تطبيقها حتى في مرافق الاعتقال التابعة لأميركا في الخارج.سيكون على أميركا مستقبلاً أن تنسق تحركاتها مع حلفائها وباقي الدول التي تتوافق مصالحها معها بالإضافة إلى تعزيز دور المؤسسات الدولية
ورغم أنه من المستبعد أن تنضم الولايات المتحدة إلى المحكمة الجنائية الدولية في المستقبل المنظور، يبقى هناك عدد من الخطوات الفعالة التي يمكن لأميركا من خلالها أن تتفاعل مع هذه المحكمة وتثبت عدم معارضتها للمبادئ التي تأسست عليها هذه المؤسسة الدولية. فمثلاً، يمكن لأميركا أن تستفيد من كون المحكمة الجنائية الدولية تُعتبر آخر ملجأ لتطبيق العدالة، وتضمن بذلك محاكمة مواطنيها داخل أراضيها في إطار تطبيق قوانين المحكمة الدولية.
ثانياً: من الضروري تحريك عجلة الملف البيئي، فهناك العديد من المبادرات الوطنية التي يمكن لإدارة أوباما الاستفادة منها في إعطاء زخم للتحرك الدولي نحو إيجاد حلول لمشكلة تغير المناخ. إذ يمكن لأميركا تقديم مساعدات حكومية أكبر في مجال المحافظة على البيئة، مثل تمويل عمليات المحافظة على الغابات خصوصاً في أميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا وأفريقيا.
كما تستطيع المؤسسات الحكومية في الولايات المتحدة أن تدعم الشركات الأميركية في علاقاتها الدولية المرتبطة بقضايا البيئة، مثل إنشاء معايير دولية خاصة بالبيئة ينبغي احترامها خلال الالتزام بمشاريع خارج الولايات المتحدة، خصوصاً وأن إدارة أوباما تعتزم بالفعل إنجاز مخطط وطني لتقنين تجارة انبعاثات الغازات وتأسيس بنية تحتية لها. ومن الضروري أيضاً أن تصاحب هذا المخطط خطوات جادة لتعزيز ميزانية الأبحاث في وزارة الطاقة وتمويل البحث والتطوير في أساليب الاستهلاك الفعال للطاقة.
ثالثاً: أهمية إنعاش الدينامية الاقتصادية لأميركا، فعلى هذه الأخيرة إعداد برنامج وطني لإنقاذ الاقتصاد من أزمته الحالية وإدخاله في نمو مستديم، وفي نفس الوقت تجعل منه مثالاً للسوق الدينامية المفتوحة والمقننة التي يمكن لباقي بلدان العالم اتباعه. وأهم نقطة في هذا الاتجاه تجنب اتخاذ إجراءات حمائية فيما يخص التجارة والاستثمار في الداخل والخارج كوسيلة لإنعاش الاقتصاد المحلي، إذ سينجم عن هذه السياسة سياسات وقائية مشابهة لدى دول العالم من قبيل "شجّع المنتجات المحلية، استثمر في وطنك".
ويخلص التقرير إلى أنه صار من الحتمي والضروري التحول نحو أسلوب جديد في مفهوم القيادة الأميركية للعالم.
وسوف يكون على أميركا مستقبلاً أن تنسق تحركاتها مع حلفائها وباقي الدول التي تتوافق مصالحها معها، بالإضافة إلى تعزيز دور المؤسسات الدولية.
كما سيكون عليها أن تدعم التغيير وتشجع عليه، لا أن تتدخل فيه وتفرضه، وسيتوجب عليها أيضا أن تكون قدوة للآخرين ومثالاً يُحتذى به في احترام القيم والمبادئ الإنسانية والديمقراطية التي تريد من دول العالم أن تطبقها.
_______________
تقرير أعده مدير معهد تشتمهاوس، وقدم مركز الجزيرة للدراسات قراءة فيه، وللحصول على التقرير الأصلي:
Chatham House, Publications, Reports and Papers, Ready to Lead? Rethinking America's Role in a Changed World.