حلف قيم ومبادئ أم حلف عسكري؟

فصل يطرح السؤال عن موقع منظومة القيم في أطروحات حلف شمال الأطلسي ومخططاته، وما إذا كانت تجد طريقها إلى التطبيق في ممارساته على أرض الواقع، بالمنظور الإستراتيجي والسياسي الأمني كما في التوسع شرقا، وبالمنظور العسكري عبر خوض جولات عسكرية كما في أفغانستان.

يطرح هذا الفصل السؤال عن موقع منظومة القيم في أطروحات حلف شمال الأطلسي ومخططاته، وما إذا كانت تجد طريقها إلى التطبيق في ممارساته على أرض الواقع، بالمنظور الإستراتيجي والسياسي الأمني كما في التوسع شرقا، وبالمنظور العسكري عبر خوض جولات عسكرية كما في أفغانستان. ويستهدف السؤال استشراف ما إذا كانت مسيرة الحلف ستسفر في المستقبل المنظور عن تعزيز موقع منظومة القيم في إطار رؤيته لموقعه عالميا، بما في ذلك ما يشمل تعامله مع المنطقة الإسلامية.


منظومة القيم في حلف شمال الأطلسي
توسعة الحلف ومعيار منظومة القيم
عولمة القيم الأطلسية
باختصار


منظومة القيم في حلف شمال الأطلسي





لا يرى الحلف نفسه مجرد حلف عسكري، بل يؤكد أنه مجموعة ديمقراطية ليبرالية مؤسسة على مجموعة من القيم أهمُّها الديمقراطية، وعليه فقوامه دعامتان: هوياتية وعسكرية.
في مقدمة الوثيقة التأسيسية للحلف عام 1949، يأتي تأكيد جانب القيم أولا بعبارة تقول "إن الدول الأعضاء عازمة على حماية الحرية والميراث والحضارة عن طريق تشجيع الاستقرار والرفاهية، في المجال الجغرافي لشمال الأطلسي"، وبعد ذلك يأتي تأكيد الجانب الأمني العسكري بأن الدول الأعضاء عازمة "على توحيد جهودها من أجل دفاعها الجماعي والحفاظ على السلام والأمن".

ولا شك أن الارتباط التاريخي الحضاري الثقافي الديني الوثيق بين مجتمعات جناحي شمالي الأطلسي -أي أوروبا وأميريكا الشمالية- لعب دورا في تشكيل الأرضية المشتركة على الصعيد الأمني العسكري كما يمثلها الحلف، بما جعل نوعا من التواؤم بين منظومة القيم الثقافية والسياسية الليبرالية وبين المصالح الإستراتيجية الكبرى.


على أن هذه المقولة العامة تستدعي طرح تساؤلات محورية، في مقدمتها:



  1. باستثناءات محدودة، سادت العالم الغربي على ساحلي الأطلسي منظومة قيم متشابهة إن لم تكن متطابقة ومتجانسة، بدءاً بعالم الفلسفة، مرورا بالنهج الديمقراطي الحديث، وانتهاء بنشأة الرأسمالية منبثقة عن الفكر "الليبرالي". وسبق وجود هذه العناصر قيامَ حلف شمال الأطلسي، إذ يمكن القول إنه تأسس على أرضيتها، ولكن هل يمكن القول إنه كان المصدر لتحديد ملامحها وتثبيتها أثناء الحرب الباردة وبعدها، أو كان العنصر الفاعل في صنع "هوية" الدول الأعضاء فيه؟
  2. هل كانت منظومة القيم في أدبيات الحلف السياسية هي المنطلق لرسم سياساته وإستراتيجياته الأمنية، أم كانت توضع تبعا للاحتياجات الأمنية العسكرية، فكان ربطها بمنظومة القيم من وسائل إقناع المجتمعات الغربية لدوله الأعضاء بضرورة ممارساته العسكرية وفي الدرجة الثانية من وسائل الترويج لها عالميا؟

لا تسهل الإجابة على مثل هذه الأسئلة، إنما تساعد عليها المقارنة بين ما يقوله الحلف عن نفسه، وما يمارسه على أرض الواقع.


لا يرى الحلف نفسه مجرد حلف عسكري، بل يؤكد أنه مجموعة ديمقراطية ليبرالية مؤسسة على مجموعة من القيم أهمُّها الديمقراطية، وعليه فقوامه دعامتان: هوياتية وعسكرية. وقد تعززت الدعامة الهوياتية بمرور الزمن، خاصة مع تحول كل أعضاء الحلف إلى ديمقراطيات. كما أن توازن الرعب النووي فتح المجال للتركيز على الصراع السياسي والأيدولوجي لاستحالة المواجهة العسكرية المباشرة، فكان تعزيز القيم الديمقراطية الليبرالية في حد ذاته تعزيزاً للحلف.


تقسيم العالم إلى "أمم حرة" و"دكتاتوريات" الموروث عن الحرب الباردة، استمر بعد نهايتها ليترسخ في النسق العقدي للقادة الغربيين. ولم يكن الخوف من التهديد السوفياتي يخص الجوانب العسكرية فقط، بل كان يشمل إمكانية تخريب الأنظمة الديمقراطية من الداخل (أعمال انقلابية لأحزاب شيوعية). وهذا ما يعزز فكرة غلبة الدعامة الهوياتية على العسكرية، على الأقل من حيث مدركات التهديد. ويدل استمرار الحلف بعد اختفاء هذا التهديد على قوة الروابط الهوياتية، إذ لولا السند الهوياتي لما تمكنت المصالح الإستراتيجية وحدها من الإبقاء على الحلف.


بالمقابل لا تكفي منظومة القيم المشتركة، بل يجب توافر مصلحة مشتركة. واختلاف مصالح الحلفاء سبب حالة الارتياب الهوياتي التي يمر بها الحلف أحيانا، إلا أن الدعامة الهوياتية تبقي دائما على خط التضامن الضروري. وللحلف وظيفة أمنية، فهو يحافظ على استقرار أوروبا حائلاً دون عودتها إلى صراعاتها التقليدية، وبالتالي فإمكانية تعبئة المرجعية الهوياتية للمجموعة الديمقراطية الأوروأطلسية هي التي أعطت معنى جديداً للحلف الذي ينحو لتكون الغلبة فيه للبعد الهوياتي على الوظيفة العسكرية التقليدية.


وربما يكمن نجاح حلف شمال الأطلسي في أنه شدد على القيم المشتركة بين الدول الأعضاء لأنه لا جدال فيها، بينما المصالح قد تختلف، لذا كانت القيم المشتركة المحرك الأساسي للحلف ومبرره الشرعي، فأثر في سلوك أعضائه لأنه يذكرها بعمق هذه القيم المشتركة التي تُستدعى كلما اقتضت ضرورة الخلافات ذلك للإبقاء عليها تحت سقف منخفض ومحدود.


وهكذا يعمق الحلف وعي دوله بالانتماء إلى مجموعة أطلسية ذات هوية واحدة، مساهماً بذلك في صياغة وصقل الذات الأطلسية وبالتالي صياغة علاقتها البينية وعلاقتها مع الآخر. وحتى حينما تصل الخلافات إلى مستويات عالية (كما كان في غزو العراق)، فإن الحد الأدنى من التضامن الغربي البيني يبقى قائماً بفضل هذه الأرضية المشتركة من القيم والهوية الواحدة. فدول الحلف المناوئة للتدخل الأميركي في العراق لم تتمنَّ هزيمة الولايات المتحدة هناك، لأنها لا تريد ولا تتصور دعم هزيمة قيم الحرية والديمقراطية أمام الدكتاتورية بغض النظر عن الأهداف الإستراتيجية الأميركية. وقد ساهم الحلف بشكل كبير في هذا الوعي والهوية الإستراتيجيين.


إنما يلفت النظر ظهورُ انفصام بين النظرية والتطبيق على صعيد منظومة القيم منذ نشأة الحلف الأولى، فقيمة الديمقراطية في وثيقة تأسيسه لم تمنع أن تكون البرتغال من الدول المؤسسة له رغم طبيعة الحكم الاستبدادي العنيف فيها آنذاك، ويصعب تفسير ذلك بمقولة إن ذلك كان مدخلا لدفع البرتغال في اتجاه الديمقراطية، فمثل ذلك لم يُتّبع مثلا مع الدولة الإسبانية المجاورة، وكان استبعادها عن المشاركة في تأسيس الحلف في عهد حكم فرانكو الاستبدادي بذريعة عدم توافق هذا الحكم مع قيم الحلف.


هذا التناقض يزول عند النظر في متطلبات الجانب العسكري، أي حاجة الحلف عسكريا إلى موقع البرتغال على ساحل الأطلسي، بينما كان وجود الأسطول الأميركي في البحر الأبيض المتوسط مع اعتماده على السواحل الإيطالية، يغني إستراتيجياً عن موقع إسبانيا البحري.


ويسري شبيه ذلك على التعامل مع عضوية تركيا واليونان في الحلف، فقد كان العامل الحاسم هو الموقع الجغرافي من وجهة نظر أمنية عسكرية، ولم تلعب أوضاع تطبيق الديمقراطية في البلدين دورا كبيرا.


ويظهر الربط السببي بين منظومة القيم كما يراها الحلف وبين شبكة تطوير صيغه الأمنية العسكرية في مواجهة العدو، من خلال شعاره الدائم "اليقظة ثمن الحرية"، والمقصود هو اليقظة الأمنية العسكرية.






يمكن إذن تثبيت حقيقتين اثنتين:


أولاهما



يظهر الربط السببي بين منظومة القيم كما يراها الحلف وبين شبكة تطوير صيغه الأمنية العسكرية في مواجهة العدو، من خلال شعاره الدائم "اليقظة ثمن الحرية"، والمقصود هو اليقظة الأمنية العسكرية.
أن منظومة القيم لعبت فعلا دورا حيويا في إحداث الانسجام الداخلي بين أعضاء الحلف وتعزيز جبهته، خصوصا خلال الحرب الباردة في مواجهة حلفٍ مقابل (حلف وارسو) يقوم على صرامة الأيدولوجية. كما أن هناك اليوم رغبة في استعادة مقولة القيم الثقافية والسياسية ضمن سياق سعي الحلف إلى التوسع شرقا في الفضاء الإسلامي وعلى تخوم روسيا والصين، إلا أن منظومة القيم  تظل في نهاية المطاف خادمة -بشكل أو بآخر- للإستراتيجيات العسكرية والمصالح السياسية الكبرى، فالحلف الأطلسي في جوهره مظلة عسكرية إستراتيجية -وليس ناديا ثقافيا أو فكريا- تشغلها قضايا الأمن وتعزيز التفوق العسكري أكثر من سواها.

الثانية
أن الهويات لا تولد مكتملة بداية، بل هي صيرورة تاريخية تختلط فيها الثقافة والقيم بالمصالح السياسية والعسكرية. وعلى هذا الأساس، فمع التسليم بوجود هوية مشتركة بين دول الحلف، فإنها عند التحقيق نتيجة سياسات وخيارات كبرى للدول الفاعلة والمؤثرة في الحلف، وليست مجرد انعكاس آلي لمنظومة الثقافة والقيم السياسية. ففرنسا ديغول مثلا التي رفضت الانضمام إلى الحلف منذ تشكيله ليست مختلفة من ناحية الهوية والقيم عن بقية الدول الأعضاء، بقدر ما كانت مختلفة من جهة سياساتها الدفاعية والأمنية. كما أن تركيا حينما تم ضمها إلى الحلف لم تكن ليبرالية بمقاييس السياسة والاقتصاد، بقدر ما حكمت الحلف اعتباراتُ الإستراتيجية العسكرية الكبرى، وفي مقدمة ذلك جعلها بمثابة منطقة عازلة للخطر الشيوعي السوفياتي.


توسعة الحلف ومعيار منظومة القيم 


ما يسري على فترة التأسيس وحقبة الحرب الباردة يسري على ما بعدها، بما في ذلك التوسعة الجغرافية لحلف شمال الأطلسي، وهذا ما يسمح بالنظر إليها من أكثر من زاوية أيضا:



  1. الحلف الذي ضم خصومه السابقين في حلف وارسو -أي دول أوروبا الشرقية- صاغ أيضاً هويتها، وكان أداة أساسية في دمقرطتها إذ التوسع شرقا أكد الهوية الديمقراطية للحلف، ذلك أن الانضمام إليه كان مشروطاً بـ (مبادئ الديمقراطية، احترام الحريات الفردية وحقوق الإنسان، دولة القانون، فض النزاعات بالطرق السلمية، قدسية الحدود، مبدأ التحكم الديمقراطي في القوات المسلحة). وتعتبر هذه الدول الشرقية انضمامها إلى الحلف اعترافاً بانتمائها للعالم الديمقراطي.

    وكان قبول عضوية الدول الشرقية محكوماً بمعايير ديمقراطية وليس بمراعاة ما يمكن أن تقدمه للأمن الأطلسي فقط، وبالتالي تراجعت المعايير العسكرية لصالح المعايير القيمية الهوياتية، وفي هذا دلالة على تحول الحلف حتى في هويته، فهو لم يعد يقوم على البعد العسكري بالدرجة الأولى، وإنما على هوية ومنظومة قيمية تساهم في تحديد السلوك العسكري.

    وهذا يتوافق مع المقاربة البنائية القائلة بأن الهوية هي التي تحدد المصالح، إذ رغم دوافع الحلف الإستراتيجية فإن تدخلاته هوياتية المحتوى أيضا، بمعنى أنه يتدخل لأن هويته تجعله يتصرف بهذا الشكل، فالتدخل في أفغانستان مثلا هو في نظر دول الحلف تعزيز للتضامن بين الديمقراطيات، وفي نهاية المطاف الدفاع عن قيمها وهويتها.


  2. غير أن قائمة شروط انضمام دول جديدة والتي تفرض ترسيخ الديمقراطية ودولة القانون واحترام حريات الإنسان وحقوقه وحقوق الأقليات مع إجراءات عملية على الصعيد التطبيقي، لم تكن دوما هي العنصر الحاسم في خيارات التوسعة، ولم تكن موضع التزام بدرجة دقيقة.

    لقد كانت الدعوات الصادرة عن الأمين العام للحلف في مطلع تسعينيات القرن الميلادي العشرين مانفريد فورنر باتجاه الدول المستقلة عن الاتحاد السوفياتي، دعوات صريحة من حيث عدم ذكر قيم الحلف والتركيزُ على عنصر الأمن، كقوله: "اتجهوا إلى حلف شمال الأطلسي، وستجدون أنفسكم في ميناء سياسي أمني يحفظكم من أي عاصفة تهددكم".

صحيح أن ذكر القيم تواتر أثناء عملية التوسعة، ولكن يبقى السؤال قائما عن مدى تطابق الممارسات مع الصياغات، ويشهد على ذلك:



  • نص البيان الختامي لقمة بوخارست الأطلسية (3/4/2008) الذي حمل مع كل فقرة من فقراته الموزعة على بضع صفحات عبارة "قيمنا الديمقراطية المشتركة" فترددت أكثر من عشر مرات. ولكن تزامن انعقاد تلك القمة مع اكتمال انضمام بلغاريا ورومانيا إلى الحلف ومع انتقادات في الدول الأعضاء آنذاك بصدد عدم اكتمال الشروط ذات العلاقة بمنظومة قيم الحريات والحقوق وسيادة القانون في الدولتين العضوين الجديدين، إذ كانت الأولوية للعامل الأمني واقعيا، المتمثل في الانتشار العسكري في البلقان وباتجاه الشرق الآسيوي.

    كما كان العامل الأمني العسكري (تحديدا: تجنب ضم دولة فيها مشكلات أمنية) وراء الخلاف الداخلي الأطلسي حول ضم جورجيا وأوكرانيا. كما أن قرار الحلف عام 2009 بالتمهل بشأن هذه التوسعة، لم يرتبط بمنظومة القيم في البلدين، وإنما بالمخاوف الأمنية المنبثقة عن أحداث جورجيا 2008/2009.


  • أثناء عملية التوسعة بعد الحرب الباردة نشرت جامعة شتوتغارت الألمانية (11/6/2004)  دراسة ميّز عدد من الأساتذة المشاركين فيها بين اتجاهين رئيسيين لتعليل التوسعة وتسويغها:

    • اتجاه مَن يطلق عليهم وصف "الإيجابيين"، وينطلقون من "الفرضية" القائلة إن انضمام أي دولة إلى منظمة عالمية يصدر عن رغبتها في تحديد هويتها ومشروعيتها، ويستنتجون من ذلك سريان مفعول هذه الفرضية على الانضمام إلى الحلف أيضا.


    • اتجاه "الواقعيين" الذين يرون التوسعة لتحقيق الأمن الجماعي انطلاقا من معادلة المكاسب والخسائر، وهو الاتجاه الأوسع انتشارا ويشهد الواقع على صحته، ففي مقدمة ما كانت الدول الشيوعية سابقا تطرحه من أسباب لتعليل رغبتها في الانضمام إلى الحلف، الخشية من تجدد المطامع والمخاطر الروسية، وهذا معروف عن دول البلطيق وبولندا والتشيك وسلوفاكيا والمجر وغيرها.

وهذا ما يؤخذ أيضا من نصوص الكلمات التي تلقى في القمم الأطلسية، أو تلقى في لقاءات أخرى بتعبير أكثر صراحة، نظرا إلى عدم صدور قرارات رسمية عنها مثل المؤتمر السنوي للشؤون الأمنية الدولية في ميونيخ، فهنا يندر الربط بين منظومة القيم التي تُذكر في عبارات جانبية فحسب، وبين السياسات الجديدة أو المقترحة للحلف فضلا عن ممارساته العسكرية.


وقد شهدت حالة الحرب ضد صربيا (1998) بحجة الدفاع عن كوسوفا استثناء واضحا، فطُرح عنوان الدفاع عن حقوق الإنسان والأقليات بقوة أكثر من ذي قبل. ولكن السؤال المطروح في الأوساط الفكرية (والجامعية التخصصية) بإلحاح: ألم يكن هذا التعليل للتأثير على الرأي العام الغربي، ليتقبل خرق مبدأ سيادة الدولة لصالح ما يمكن وصفه بالعولمة الأمنية للحلف الأطلسي؟


يعزز ذلك أن إعادة النظر في موقع سيادة الدولة من القانون الدولي العام، بدأت تُطرح في تلك الفترة على نطاق غربي أوسع من الحلف، دون أن تجد حتى الآن تأييدا كافيا لتعديل ميثاق الأمم المتحدة.


وبالمقابل ثبت في هذه الأثناء، أن تلك الحرب كانت بوابة الحلف للخروج من مجاله الجغرافي إلى الساحة الدولية، وهذا قبل تثبيت ذلك رسميا في تعديل صياغة مهام الحلف خلال قمته الخمسينية عام 1999، وبقي الخلاف قائما من بعدها في ما إذا كان خوض حرب خارج المجال الأطلسي يتطلب قرارا واضحا من مجلس الأمن الدولي أو لا يتطلب.


عولمة القيم الأطلسية 


إذا كان نهج الديمقراطية سياسيا من أسس منظومة القيم الأطلسية، فلا ريب أن نهج الرأسمالية المنبثق عن الفكر الليبرالي اقتصاديا كان -ولا يزال- العنصر الأهم في هذه المنظومة، والسبب كامن في تغليب عامل المصالح المادية كما تراها الرأسمالية.





إذا كان نهج الديمقراطية سياسيا من أسس منظومة القيم الأطلسية، فلا ريب أن نهج الرأسمالية المنبثق عن الفكر الليبرالي اقتصاديا كان -ولا يزال- العنصر الأهم في هذه المنظومة.
ومع التأكيد أن الفكر الكامن في تطوير حلف شمالي الأطلسي فكر غربي، يظهر ما استقر عليه الحلف في نهاية القرن الميلادي العشرين بوضوح أكبر عند وضعه على أرضية معالم تطور جذري في سلّم أولويات القيم الغربية عموما خلال الفترة نفسها.

إن محور هذا التطور هو تقدم العنصر المادي على عنصر الإنسان أكثر مما مضى. ولبيان ذلك يُطرح السؤال عن الاختلاف القائم في النهج الغربي -وبالتالي الأطلسي- على أرض الواقع بين قطاع "نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان" من جهة، وقطاع "انتشار العولمة" ببعدها المالي والاقتصادي من جهة أخرى. ومعالم ذلك بإيجاز شديد:



  1. طرح الغرب تطوير العلاقة بين حقوق الإنسان والأقليات وسيادة الدولة تحت عنوان تطوير الأمم المتحدة، وبقي ذلك متعثرا على امتداد عقدين حتى الآن. وطرح الغرب العولمة -أو تحرك مباشرة على طريقها- عبر بوابتي المال والاقتصاد، فأوجد الرأسمالية المتشددة (أو المتوحشة كما أطلق عليها بعض المفكرين الغربيين)، ومارس الليبرالية الجديدة التي أصبحت في هذه الأثناء تُحمّل المسؤولية عن الأزمة الرأسمالية العالمية وعواقبها.


  2. يقول الغربيون إن الاستبداد في بلدان عديدة هو العقبة في وجه الجهود الغربية لنشر الديمقراطية وحقوق الإنسان وإعطائها الأولوية تجاه سيادة الدولة، ويبدو هذا التعليل ضعيفا، والأصح أن الحرص على المصالح الاقتصادية والمالية وضع المطالبة بالديمقراطية وحقوق الإنسان في مرتبة متأخرة، ومن المؤشرات على ذلك فتح الأبواب أمام ما تطلّبه نشر العولمة وفق الرغبات الغربية في بلدان ينتشر فيها الاستبداد والفساد.


  3. مثال نموذجي على ذلك: ما آل إليه الإلحاح الغربي على تطبيق الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان فيما سُمي "الشرق الأوسط الكبير"، فقد اقترن التراجع بانتشار الاقتناع في البلدان الغربية بأن الحصيلة لن تثبّت في السلطة أنظمة تحقق المصالح الغربية، بغض النظر عن تطبيق منظومة قيم غربية، إضافة إلى الاقتناع بخطورة أن توصل الديمقراطية إلى السلطة اتجاهات قد لا تراعي المصالح الغربية، لا سيما الاتجاه الإسلامي.


  4. إن أولوية المصالح المادية على القيم الأخرى في السياسات الغربية عالميا، انعكست في تطوير الحلف لنفسه بوضوح. تشهد على ذلك نصوص وثيقة المهام الجديدة الصادرة عن قمته الخمسينية بعد إعداد دام عشرة أعوام. صحيح أن الجانب الديمقراطي فيها لم ينحسر، ولكن تراجع لحساب الجانب الرأسمالي الليبرالي القائم على المصالح المادية. 

تذكر وثيقة تعديل المهام الأطلسية الصادرة عن قمة الحلف في واشنطن عام 1999 أسبابا للتدخلات الأطلسية المحتملة، من قبيل قطع الإمدادات بالمواد الحيوية كالنفط والخامات، وتفاقم تيارات الهجرة والتشريد، وحتى الإخفاق في تحقيق إصلاحات اقتصادية -كناية عن الأخذ بالنظام الرأسمالي- إلى جانب الأخطار الناجمة وفق معايير الحلف عن أزمات ذات أسباب اقتصادية، أو اجتماعية، أو عرقية، أو دينية، أو من جرّاء صراع على الأرض، أو بسبب خرق حقوق الإنسان، أو العمل على نشر أسلحة نووية أو كيمياوية أو حيوية، وكذلك الأعمال الإرهابية، والجرائم التخريبية والجريمة المنظمة.


بمنظور موقع منظومة القيم أطلسيا، لا يتبدل المغزى الأساسي في هذا التطور من خلال وضعه تحت منظور أمني أطلسي متبدل، وهو تراجع التهديدات العسكرية المباشرة (الأمن الصلب) وتوسع نطاق التهديدات الأخرى (ما يسمّى الأمن اللين أو الناعم).


إن جوهر تطور موقع منظومة القيم بعد الحرب الباردة في حلف شمال الأطلسي منبثق عن جوهر ما انتشر بهذا الصدد على المستوى الغربي عموما. والشاهد على ذلك: عندما سقط المعسكر الشرقي وظهرت سلسلة من النظريات الغربية المستقبلية، ورد الحديث عن انتصار العالم "الديمقراطي" لماماً، مقابل التركيز الكبير على اعتبار نهاية الحرب الباردة انتصارا للعالم "الرأسمالي"، وهو ما بلغ مداه في نظرية فوكوياما عن "نهاية التاريخ"، ليقول إن الرأسمالية الليبرالية ستنتشر نهائيا في أنحاء الأرض.


هذا الطرح النظري هو ما رافقته أو انبثقت عنه الدعواتُ إلى تثبيت وجود الحلف أداةً عسكرية لحماية مكتسبات الحضارة الغربية وثقافتها، وهو ما انعكس في وثيقة تعديل مهام الحلف في قمته الخمسينية. ثم مضى المحافظون الجدد أميركياً إلى ما لم يمض الحلف إليه سابقا، من حيث شرعنة استخدام القوة باسم نشر منظومة القيم على دعامتي الديمقراطية والرأسمالية، وأضافوا إلى ذلك صيغة الإملاء على الحلفاء الآخرين، أي إما أن يتبع الحلف (والأمم المتحدة أيضا) هذا الطريق بزعامة أميركية، أو تتجاوزهم الولايات المتحدة الأميركية في صناعة القرار وتنفيذه.


ويتطلب تحديد موقع منظومة القيم أطلسيا، وتفسير ما يظهر أحيانا في شكل تناقضات بين التأكيد عليها والممارسات التطبيقية، استيعاب ما تعنيه كلمة القيم اصطلاحيا على الأرضية المعرفية الغربية. ففي الدائرة الحضارية العربية الإسلامية تبدو كلمات معينة من قبيل: الحق، والعدالة، والمساواة، والحرية، وما شابهها هي الغالبة على فهم كلمة "القيم" مصطلحا، وبالمقابل نجد مفهوم الكلمة نفسها في الدائرة الحضارية الغربية يتداخل مع مفاهيم أخرى نعرفها تحت عناوين "مبادئ ومناهج ونظم"، كالديمقراطية والرأسمالية الليبرالية.


باختصار.. 


نشأ حلف شمال الأطلسي حلفا عسكريا دفاعيا، وشمل ذلك أرضية ترتبط بمنظومة القيم كما يراها العالم الغربي، وفي مقدمتها الديمقراطية سياسيا والرأسمالية اقتصاديا، إنما بقيت الأولوية في مرحلة التأسيس وطوال الحرب الباردة للجانب الأمني العسكري ومقتضياته، ولم يختلف ذلك كثيرا في مرحلة توسعه الجغرافي شرقا وتوسيع نطاق مهامه العسكرية دوليا، في حين اتخذت المصالح المادية مكانة متقدمة أكثر من ذي قبل، تحت عنوان النهج الرأسمالي الليبرالي في  منظومة القيم كما يراها الحلف.


في هذه الأثناء تطورت العلاقة السببية بين القيم والأمن العسكري، فإضافة إلى المهام الأمنية العسكرية وحماية مصالح مادية، بدأ تطوير صياغة المهام الأطلسية يتجه إلى توظيف الحلف "دفاعا" عن منظومة القيم الغربية الأطلسية، و"سعيا" لنشرها عالميا.


عودة للصفحة الرئيسية للتقرير