أميركا: انعطاف إستراتيجي مؤجل.. ولكنه قادم

يؤكد الكاتب في هذا التقرير أن قوى المواجهة استطاعت أن تعرقل المشروع الأميركي في المنطقة ويرصد تغيرا مقبلا في توجهات الإدارة الأميركية الجديدة.








 
د. منذر سليمان



لشهور خلت، وقبل تردد الاهتزازات التي أحدثها زلزال الأزمة المالية العالمية في مركزها الأمريكي، تصرفت الإدارة الأمريكية على أساس أنها الوريث المنتصر لحقبة الحرب الباردة، يحق لها تزعم النظام الدولي بوصفها القطب المهيمن.



وساعدها في محاولة تكريس الهيمنة:




  • قدرتها على التحرك المنفرد، استنادا إلى فائض قوتها العسكرية والتقنية المتفوقة.


  • موقعها المؤثر في شبكة النظام المالي والاقتصادي العالمي.


  • وترسيخها لقناعة –كانت إلى حين لا تقبل الشك- لدى حلفائها وخصومها معاً، بأن نموذجها الاقتصادي الرأسمالي ليس ناجحاً فحسب، بل يتوجب على الآخرين اتباعه أو استنساخه.


قبل شبه الانهيار التام الذي نشهده حاليا،ً بعد انفجار الفقاعات والألغام الكامنة في قطاعات العقارات والائتمان وسوق الأوراق المالية، قدمت أميركا نفسها بوصفها القلعة الاقتصادية الآمنة والمغرية لجذب الاستثمارات والودائع، والقادرة على امتصاص الهزات الاقتصادية من حين لآخر، وساعدها على خلق هذا الانطباع:




  • قدرتها على المعالجات المسكنة أو المؤقتة لأزمات الإفلاس والتراجع الموسمي لكبريات الشركات المالية والاستشارية والحسابية المتعددة في العقدين المنصرمين.


  • إضافة إلى استحضارها المقولة الجاهزة التبريرية بأن النظام الرأسمالي يختزن القدرة على التصحيح التلقائي.





قبل شبه الانهيار المالي التام الذي نشهده حاليا،ً قدمت أميركا نفسها بوصفها القلعة الاقتصادية الآمنة والمغرية لجذب الاستثمارات والودائع، والقادرة على امتصاص الهزات الاقتصادية من حين لآخر
وشكل غياب الاتحاد السوفيتي السابق، وعدم توفر قوة أخرى أو تكتل دولي وازن ينافس الولايات المتحدة على إدارة النظام الدولي، إغراء لصياغة رؤية إستراتيجية مفرطة في تفاؤلها، وفي فعالية قدرتها على رسم خريطة عالمية جديدة تكرس القبضة الأمريكية، على ما تم وصفه بالقرن الأمريكي الجديد.


وشكلت إستراتيجية الأمن القومي المعلنة في عام 2002 والمعدلة في عام 2006، المحطة المفصلية في إطلاق هذه الرؤية، حينما دعت إلى ضرورة احتفاظ الولايات المتحدة بقوات مسلحة متفوقة على أي قوات مسلحة أخرى، مع تميزها بقدرات قتالية، تعتمد على سرعة الحركة والمناورة على امتداد الكرة الأرضية، إضافة إلى الاحتفاظ بدرجة عالية من الاستعداد للرد السريع، في مجابهة أي طارئ، والأخذ بالضربات الاستباقية ضد أي عدو يحتمل أن يشكل خطراً على الولايات المتحدة، حتى لو لم يكن هذا الطرف قد أظهر نية عداء أو مارس فعلاً ما يهدد المصالح الأمريكية.



من هنا يتوجب فهم الطابع الهجومي لسياسة إدارة بوش على المسرح الدولي، وشنه للحروب على كل من أفغانستان والعراق، والتدخلات العسكرية الأخرى، واستخدامه لهجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول كذريعة ساهمت في تسريع الانتقال الهجومي الذي كان ينتظر الإنضاج. كذلك يمكننا فهم سعي واشنطن لتوسيع حلف الناتو إلى التخوم الروسية والصينية والتحرر من بعض الالتزامات والاتفاقيات الدولية السابقة المبرمة مع الاتحاد السوفيتي في السابق.



بالطبع اختارت إدارة بوش المسرح العربي/الإسلامي كونه البطن الرخو المسلوب الإرادة السياسية المستقلة، والحاضن لأهم مخزونات الطاقة، ميدانا للإستراتيجية التي لم تكن لتتوقف عند حدود أفغانستان والعراق، لولا نجاح قوى المقاومة في ردعها، وعرقلة هجومها الإستراتيجي لإعادة تشكيل المنطقة.


وفي المحصلة نقف أمام مشهد لم تتحقق الهزيمة الكاملة فيه حتى الآن، لمشروع الهيمنة الأميركي وأدواته الصهيونية والعربية معاً في منطقتنا، ولكن بالتأكيد، تمكنت القوى المجابهة له من إدخاله في حرب استنزاف مكلفة عرقلت قدرته على التمدد، وأربكت أدواته الإقليمية التي لا تزال تتحين الفرص لاستغلال وجوده العسكري المباشر، لتعديل البيئة الإقليمية، بما يكفل الاحتفاظ بمواقعها وضمان أمنها.


مدارس التفكير الإستراتيجي الأمريكي
رغم أن جذور التفكير الإستراتيجي الأميركي المعاصر لا تزال متأثرة بنتائج الحرب العالمية الثانية، والتي ضمنت موقفاً مميزاً ومتفوقاً للولايات المتحدة حينما كانت تساهم في حوالي 57% من الإنتاج العالمي، إلا أنه ومع انتهاء الحرب الباردة، والادعاء بانتصار حاسم، تجد أميركا نفسها الآن لا تساهم بأكثر من 23% من الإنتاج العالمي، وقد شهدت العقود الأخيرة ما يمكن وصفه بثلاث مدارس أو مقاربات من التفكير الإستراتيجي الأمريكي، يمكن استخلاصها من متابعة عينات من الإنتاج الفكري والبحثي الذي صدر في العقدين الأخيرين عن أبرز مفكريها، ونستطيع من خلال تفحصها ولو بلمحة سريعة توقع المسار الأكثر ترجيحاً في توجه الإدارة الجديدة، أما المدارس الثلاث فيمكن حصرها على النحو التالي:




  1. المدرسة التقليدية المحافظة، (Traditional Conservatives).


  2. المدرسة التدخلية الحازمة (الأحادية الجانب) ( Assertive Interventionalists).


  3. المدرسة التدخلية المتدرجة (الانتقائية) بالشراكة، (Progressive Multilateralist).

المدرسة التقليدية المحافظة
وتجدر الملاحظة إلى إمكانية اعتبار المدرسة التدخلية الانتقائية والمدرسة الواقعية مساراً واحداً في حقل الممارسة. وأبرز مفكري المدرسة الأولى وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، ويمكن مطالعة آرائه بالعودة إلى كتابيه: "الدبلوماسية (1994)"، "هل تحتاج أميركا سياسة خارجية؟ نحو دبلوماسية القرن الواحد والعشرين (2001)". أما المفكر الآخر فهو ريتشارد هاس، الذي كان آخر منصب رسمي له "مسئولية التخطيط السياسي في الخارجية الأمريكية"، ويمكن العودة إلى كتابه: "الفرصة، لحظة أمريكية لتعديل مسار التاريخ (2005)".


والجدير بالذكر أن كتابات هاس في السنوات الأخيرة تلقى صدى واسعاً، وهو يشغل حاليا منصب رئيس المركز البحثي السياسي بمجلس العلاقات الخارجية، وصاحب مقولة "عالم بلا أقطاب". ورغم التفاوت النسبي في مقاربات كل من كيسنجر وهاس لما يجب أن تكون عليه السياسة الخارجية الأمريكية، إلا أنهما يشتركان في نظرة أكثر واقعية، مفادها أن الخطر الأساسي الذي يواجه أميركا هو عدم استقرار وتوازن العلاقات بين القوى الرئيسية في العالم، ويعتبران أن دور التحالفات والشراكة أساسي بينها. ويركز هاس على ضرورة تطوير شراكة عالمية بين أمريكا، أوروبا، الصين، اليابان، والهند بصورة أساسية. كما يتوجب على واشنطن اعتماد القوة العسكرية والدبلوماسية معاً، والسعي لإقامة توازن دولي مستقر، وفيما يتعلق بالشرق الأوسط لا يبديان حماساً لدعم إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، رغم قبولهما لهذا التوجه كوسيلة من وسائل إدارة أفضل للصراع العربي الإسرائيلي.


المدرسة التدخلية الحازمة



يتقاطع مفكرو المدرسة التدخلية الحازمة في نظرتهم إلى أن التهديد الأخطر الذي يواجه الولايات المتحدة هو ما يمكن تسميته بحزام الفوضى الجنوبي من الكرة الأرضية والإرهاب
ينتمي أبرز مفكري المدرسة التدخلية الحازمة عموماً إلى ما اتفق على تسميته بالمحافظين الجدد، الذين وقعوا على وثيقة القرن الأمريكي الجديد، ولكن ليس كل الأسماء التي لمعت في الإعلام الأميركي مثل بيرل، وولفويتز، وفيث، وورمزر كاغان، وولسي، وكروثهامر، وكريستول وليدين..... الخ . وينسب إليهم تقديم وجهات نظر متماسكة ومعبرة مثلما قدم كل من والتر راسل ميد في كتابه: "القوة، الإرهاب، السلام، والحرب: خطر محدق باستراتيجية أمريكا في العالم ( 2004)"، أو نيال فرغوسون في كتابه: "ثمن الإمبراطورية الأمريكية (2004)" ،أو روبرت ليبير: "العصر الأمريكي: القوة الاستراتيجية في القرن الواحد والعشرين (2005)".


ويتقاطع هؤلاء في نظرتهم إلى أن التهديد الأخطر الذي يواجه الولايات المتحدة هو ما يمكن تسميته بحزام الفوضى الجنوبي من الكرة الأرضية والإرهاب، ولا يعلقون أهمية كبرى على دور التحالفات والشراكات، ويؤمنون بأحقية التدخل العسكري المنفرد للولايات المتحدة حسب رغبتها، ولا يقيمون وزناً فعلياً لدور الأمم المتحدة، أو حتى لحلف الناتو، إذا لم يتفقا مع ما يعتبرونه المصلحة الأمريكية الخاصة.


ويعتبرون أن استخدام القوة العسكرية الأمريكية والعقوبات الاقتصادية وسائل مشروعة دائماً للاستخدام بصورة منفردة، وبهدف القضاء على التهديدات، وترويج الأفكار والنماذج الديمقراطية، ويدعون الولايات المتحدة للعب دور قيادي مع حلف الراغبين وبصورة انتقائية حسب الطلب في مواجهة كل حالة معينة، ولا يكترثون بمن يعتقد بحدود أو ضوابط للقوة العسكرية والاقتصادية الأميركية، ويمكن وصفهم فعلاً في ضوء التجربة الميدانية خلال عهد بوش الابن -الذي نفذ رؤيتهم- عملياً بحلف المكابرين.


المدرسة التدخلية المتدرجة
ويمكن وصفها أيضا بالمدرسة الليبرالية المثالية، فيعد أبرز مفكريها زبيغنيو بريجينسكي، ونجد أفكارها في كتابين من كتبه العديدة وهما: "رقعة الشطرنج الكبرى: تفوق أميركا ومستلزماتها الجيوستراتيجية (1997)"، وكتاب: "الاختيار: هيمنة عالمية أم قيادة"، وجوزف ناي في كتابه: "القوة الناعمة: وسائل الفوز في عالم السياسة.


وتتقاطع نظرة هذه المدرسة مع مدرسة المحافظين الجدد في تحديد الخطر المهدد للولايات المتحدة باعتباره قوس الأزمات أو الفوضى الجنوبي، بالإضافة إلى الإرهاب ولكن تختلف في سبل المواجهة، إذ تعول المدرسة الليبرالية المثالية كثيراً على أهمية التحالفات والشراكة الدولية، وعلى استخدام القوة الناعمة والدبلوماسية في السياسة الخارجية الأميركية، لبناء إجماع إستراتيجي وتحالفات ضرورية والنظر إلى أن قيادة أمريكا للتحالفات الدولية يجب أن تكون مستندة إلى قناعة الآخرين الطوعية بها، ويعترف أصحاب هذه المدرسة بمحدودية القوة الأمريكية.


ويركز بريجينسكي على منطقة أوراسيا كميدان رئيسي لتوجه أمريكا الجيوستراتيجي، ويفرق بين التأثير على تلك المنطقة وبين السيطرة عليها ويعتبر أن سياسة إدارة بوش قاصرة عن تحقيق ذلك، وأنها ستكون المسرح الفعلي لمستقبل التوجه السياسي العالمي، ويحذر من أن عدم الحكمة في إدارة المسرح سيؤدي إلى أن تتحول أوروبا تدريجياً عن الولايات المتحدة وتدخل في نزاع سياسي مع روسيا.


ويدعو بريجينسكي إلى تشجيع التوسع لحلف الناتو والاتحاد الأوروبي شرقاً لضم أوكرانيا وبقية دول البلقان، مع اتباع سياسة توازن بين الحزم والتعاون مع روسيا، ويخشى من تنامي منافسة قطبية تستند إلى تعزيز الصين لدورها الإقليمي والعالمي مقابل تنامي المخاوف اليابانية في محيطها الحيوي، ويعتبر أنه من الحكمة اعتماد إستراتيجية تأخذ في الاعتبار مصالح الصين المشروعة وتخفيف أية اندفاعات محتملة لها نحو طموحات إمبريالية.


وينتقد البعض تركيز بريجينسكي المفرط على أوراسيا أكثر من الشرق الأوسط وعلى دعوته الصريحة للتساهل مع كل من الصين وفرنسا وألمانيا، مقابل تصميمه على احتواء وضم الدول التي انسلخت عن الإمبراطورية السوفيتية سابقاً.





وتتقاطع نظرة المدرسة الليبرالية المثالية مع مدرسة المحافظين الجدد في تحديد الخطر المهدد للولايات المتحدة باعتباره قوس الأزمات أو الفوضى الجنوبي، بالإضافة إلى الإرهاب ولكن تختلف في سبل المواجهة
ويحذر بريجينسكي من التركيز أو التضخيم لخطر ما يسمى بالإرهاب أو اعتماد المقاربة العسكرية الأحادية للتعامل معه، لأنه سيقود في نهاية المطاف إلى عزلة أمريكا،ويدعو إلى التمييز بين التدخل الاستباقي والتدخل الوقائي المدعوم بالشراكة والتحالف. كما يطالب بريجينسكي بأن تلعب أوروبا دوراً أكبر وتتحمل مسؤولية إضافية في احتواء أو إدارة الأزمات الأمنية العالمية، ويدعو إلى مقاربة جامعة وشاملة لحل المشكلات المعقدة في الشرق الأوسط وأوراسيا والبلقان لتحقيق الاستقرار.


وتتخلص مقاربة جوزيف ناي في أن أمريكا اعتمدت صورة مفرطة على القوة العسكرية ويتوجب عليها اعتماد القوة الناعمة إلى جانبها، ويعتبر أن عولمة الاقتصاد والإفراط في استخدام القوة الخشنة أحدثت ردات فعل سياسية واجتماعية تحمل الولايات المتحدة المسؤولية، وتشكل أحد أهم أسباب الغضب والعداء على مستوى عالمي ضد الولايات المتحدة.


وتقتضي النظرة الشاملة لمساهمات التفكير الإستراتيجي الأمريكي إلى عدم تجاهل الأصوات التي تصدر من حين لآخر، والتي تتقاطع مع بعض جوانب في تفكير المدرستين الليبرالية المثالية والمحافظة، والتي تدعو إلى عزلة جديدة لأميركا والتحول إلى الداخل، والسعي لإقامة توازنات إقليمية تخفف من حاجة الولايات المتحدة للتدخل الخارجي المكلف.


مدرسة الإدارة الجديدة
بعد تقديم هذه اللوحة المختصرة لحقل التفكير الإستراتيجي الأميركي الذي طبع السجال الأمريكي الداخلي، سأحاول إلقاء الضوء على ما يمكن أن نتوقعه من رؤية محتملة للإدارة الجديدة تشكل قاعدة لرسم إستراتيجيتها الجديدة، والإجابة على سؤال:


هل سترسم الإدارة مدرسة فكرية خاصة بها، أم ستعتمد على مدرسة من المدارس السابقة الذكر؟.


في تقديري أن إدارة أوباما ستكون أقرب فى صياغتها لإستراتيجيتها القادمة إلى المدرسة الليبرالية المثالية، مع تطوير انتقائي لها، وسيكون مضطراً إلى اعتماد إستراتيجية تمزج بين جوانب من المدرسة الواقعية المحافظة والمدرسة الليبرالية المثالية، بواقع الاضطرار وليس الرغبة.


ومن السهل توقع رؤية الإدارة الديمقراطية القادمة استنادا إلى طبيعة المستشارين المتحلقين حول أوباما إبان حملته الانتخابية، وكان أبرزهم -ولو عن بعد- بريجينسكي وجوزف ناي، بالإضافة إلى مسؤولين سابقين حفلت بهم إدارة الرئيس كلينتون، وينتظر أن يعتمد أوباما على فريق الأمن القومي الخاص به من مسؤولين سابقين في الحزب الديمقراطي، يتوزعون الآن على مراكز أبحاث ومؤسسات محسوبة على الحزب، ولا بد من الأخذ في الاعتبار أيضا أن تأييد شخصيات بارزة محسوبة على الحزب الجمهوري مثل الجنرال باول (وهو من المدرسة الواقعية المحافظة) رغم خدمته في المرحلة الأولى من عهد بوش الابن، يؤشر إلى إمكانية لجوئه إلى ضم بعض الجمهوريين من الذين ساهموا في صدور تقرير بيكر-هاملتون الشهير (مجموعة عمل العراق Iraq Study Group)، حول العراق والسياسية الخارجية الذي صدر في عهد بوش الابن الثاني، والذي استغله سياسياً وانتخابياً ووضعه على الرف من الناحية العملية، ومن المنتظر أن ينفض أوباما الغبار عن هذا التقرير ليوحي بأنه حريص على اتباع إستراتيجية إجماع وطني داخلي، رغم أنه سيجري عليه دون شك تعديلات، فالتقرير تضمن 79 توصية كانت يفترض أن تتحقق منذ صدوره في أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني 2006.





إدارة أوباما ستكون أقرب فى صياغتها لإستراتيجيتها القادمة إلى المدرسة الليبرالية المثالية، مع تطوير انتقائي لها، وسيكون مضطراً إلى اعتماد إستراتيجية تمزج بين جوانب من المدرسة الواقعية المحافظة والمدرسة الليبرالية المثالية، بواقع الاضطرار وليس الرغبة
إن أي مراجعة لهذه التوصيات تبين أن معظمها لم يتحقق، وأن القليل الذي تحقق جاء متأخراً جداً وأن بعضها قد تجاوزه الزمن، وأعتقد أنه توجد فائدة من مراجعة التوصيات التي صدرت عن التقرير لأنها قد تعطي مؤشرات على سياسته المحتملة تجاه العراق، خاصة وأنه أعلن خلال حملته الانتخابية بأنه يرغب في سحب القوات الأمريكية من العراق خلال العامين الأولين من عهده وعلى مراحل، ولن يبقيَ إلا على قوات ضرورية لتدريب القوات العراقية ولحماية الدبلوماسيين مع إبقاء قوات تتمركز في دول الجوار للتدخل السريع عند الحاجة.


أهمية تقرير بيكر– هاملتون أنه يحظى بإجماع الواقعيين في الحزبين الجمهوري والديمقراطي ولم يقتصر على وضع تصورات محددة تتعلق بالعراق، بل ربطها بمجمل أوضاع المنطقة وقدم تفصيلات لكيفية التعاطي مع دول المنطقة والصراع العربي الإسرائيلي، وأفرد أبوابا خاصة لكيفية التعامل مع كل من سوريا وإيران، وركز على ضرورة المبادرة بما أطلق عليه الهجوم الدبلوماسي الشامل نحو قضايا المنطقة.


مؤشرات على انعطاف قادم
مع اقتراب موعد نهاية عهد الرئيس بوش الابن في دورته الثانية شهدنا اندحارَ وتساقطَ العديد من رموز المدرسة التدخلية للمحافظين الجدد كما تتساقط أوراق الشجر اليابسة في الخريف، وبدا الأمر ملفتاً عندما أغلقت مؤسسة القرن الأمريكي الجديد أبوابها بعد أن كانت مرتعا ًلشلة المحافظين الجدد، وطالت عملية الانكفاء والتراجع معظم المراكز البحثية المحافظة بعد سيطرة شبه مطلقة على الخطاب الفكري والسياسي والإعلامي في الساحة الأمريكية.


وانطلقت بعض المبادرات الرافضة لسيطرة المحافظين الجدد وسعت للمواجهة والتحدي حتى قبل الانتخابات النصفية في عام 2004، حيث انطلقت مجموعة وازنة في موقفها الأكاديمي والخبرة السياسية من المحسوبين على التيار الوسطى المحافظ المتمثل بمعهد كاتو، والليبراليين من الحزبين من سبق لهم الخدمة في إدارات جمهورية وديمقراطية سابقة، أطلقوا على أنفسهم اسم "تحالف من أجل سياسة خارجية واقعية"، وأصدورا بيانين متلاحقين في الشهور الأخيرة من عام 2003 وقع عليهما أكثر من 50 شخصية أكاديمية وسياسية مرموقة، تحت عنوانين بارزين الأول "مخاطر الإمبراطورية"، والثاني "مخاطر الاحتلال".


وتلاحقت المبادرات الأخرى لتشكيل مراكز بحثية ومؤسسات استشارية تعبر عن التوجه الديمقراطي، وخاصة الجناح "اليساري" بالمعيار الأميركي طبعاً داخل الحزب، مثل مركز التقدم الأمريكي "Center of American Progress "، ومركز الأمن الأميركي الجديد Center for New American Security""، وسرت حالة من الحيوية والانتعاش في أوصال بعض المراكز البحثية المحسوبة على الحزب الديمقراطي، وارتفعت وتيرة الانتقاد لسياسة الرئيس بوش ومخاطرها في وسائل الإعلام الأمريكية المختلفة.


وسارعت بعض المراكز البحثية إلى تشكيل فرق عمل مشتركة من مفكرين إستراتيجيين ومسؤولين سابقين من الحزبين، لتقديم رؤى ودراسات وبرامج جديدة تعالج مختلف الجوانب السياسية والإستراتيجية، ومن أبرز الدراسات التي صدرت مؤخراً عن مركز الدراسات الدولية والإستراتيجية CSIS تحت عنوان A smarter more secure America "أميركا أذكى وأكثر أماناً"، أو بعبارة مختصرة: القوة الذكية.


وشكلت الدراسة عملياً إدانة صارخة لنهج وسياسة الرئيس بوش وهي وإن تجنبت اتهامه صراحة باستخدام "القوة الغبية" إلا أن الكتابة كانت على الجدران كما يقول المثل. وتشكل الدراسة تطويراً لمقولة "القوة الناعمة" التي أطلقها جوزيف ناي، وهو من الذين شاركوا في صياغة الدراسة بالإضافة إلى بريجينسكي وريتشارد أرمتياج وغيرهم.


وملخص هذه المقولة تشير إلى أنه يتوجب على أمريكا أن تعيد إحياء قدرتها على "زرع الأمل والإقناع" حول العالم، بدلا من الاعتماد على قوتها العسكرية وحدها. فبالرغم من هيمنتها وتفوقها في امتلاك القوة القاسية (Hard Power) فهي محدودة القدرة في مواجهة تحديات السياسة الخارجية, فمركز وهيبة أميركا في العالم في تلاشِ متسارع، وتجاهلت إلى حد كبير استخدام الوسائل التقليدية للقوة الناعمة (Soft Power)، ولا تزال تفتقد إلى رؤية إستراتيجية تمكنها من مزج القوتين "الناعمة والقاسية"، وتحويلها إلى "قوة ذكية" لمواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية، ويتوجب عليها اغتنام الفرصة السانحة للانخراط في حوار وطني شامل داخلي حول أفضل السبل لاجتذاب دعم أصدقائها وحلفائها في خدمة وضمان مصالحها للأمن القومي.


وباشر مركز الدارسات الدولية والإستراتيجية CSIS منذ صدور هذه الدراسة في عام 2007 إلى عقد سلسلة من المحاضرات الدورية تحت هذا العنوان "القوة الذكية" وكان ملفتاً أيضاً أن يصدر في صيف عام 2008 كتاباً جديداً لتيد غيلن كاربنتر، أحد أبرز خبراء ومحللي شؤون الأمن القومي في معهد كاتو، تحت نفس عنوان: "القوة الذكية: نحو سياسة خارجية حكيمة لأمريكا". ويتناول فيه بصورة أساسية مخاطر وثغرات الاعتماد الأمريكي المفرط على القوة العسكرية، ويدعو إلى ضرورة إعادة النظر بالانتشار العسكري المكلف للولايات المتحدة، ويطالب بضرورة تقليص الميزانية التي تنفقها الولايات المتحدة على الشؤون العسكرية والأمنية.





يتوجب على أمريكا أن تعيد إحياء قدرتها على "زرع الأمل والإقناع" حول العالم، بدلا من الاعتماد على قوتها العسكرية وحدها
ولاستكمال لوحة التفكير الإستراتيجي الذي ساد الأوساط الأمريكية في السنوات الأخيرة -مع الاعتراف بأنني قدمت هنا عينة مختصرة وغير وافية لكل ما صدر حول الموضوع- يتوجب تسليط الضوء على "مشروع إصلاح الأمن القومي" Project on National Security Reform الذي صدر التقرير الأولي عنه في يوليو 2008، ويشكل أهم مراجعة حول إستراتيجية وهيكلية الأمن القومي الأمريكي منذ عام 1947.


وتحول المشروع عملياً إلى مؤسسة دائمة تمول من الكونغرس ومن مؤسسات أهلية مستقلة وتحظى بتأييد ومساندة الحزبين ويشارك في إعداد الدراسة عشرات الخبراء والباحثين من الحزبين أيضاً وبالتعاون مع مركز دراسة الرئاسة الأمريكية "The Center for the Study of the President".


وكما أسلفنا صدر التقرير باستنتاجات أولية في يوليو/ تموز 2008، وتحوي قائمة المراجعين العديد من الشخصيات التي سبق ذكرها من الحزبين في مشاريع الدراسات الأخرى المعنية بطرح مفهوم "القوة الذكية"... وتم وضع عنوان فرعي لهذه الدراسة: "ضمان الأمن في عالم مضطرب: الحاجة الملحة لإصلاح الأمن القومي"


Ensuring Security in an Unpredictable World: The urgent need for National Security reform


يهدف هذا المشروع التاريخي وغير المسبوق إلى تقديم توصيات تتحول إلى مشاريع قوانين في الكونغرس، للمصادقة على تعديلات جوهرية في طرق عمل وتنظيم هيكلية الأمن القومي الأمريكي بانعكاساتها الخارجية والداخلية. ينطلق أصحاب المشروع من تصور أن المناخ الدولي المعقد والتطورات المتسارعة في مطلع القرن الواحد والعشرين قد كشفت عن تقادم نظام الأمن القومي الأمريكي، وتخلف هيكليته التنظيمية، فالفجوة بين قدرة النظام والمهمات الملقاة على عاتقه أضحت أكثر اتساعاً، وما هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول وتعقيدات عمليات بناء الدول بعد احتلالها في كل من العراق وأفغانستان، مضافة إلى العجز الفاضح عن مواجهة تداعيات إعصار كاترينا، سوى محطات أخيرة في مسلسل من الفشل والتراجع في العمليات والأداء المشترك للأجهزة الحكومية الأمريكية، ولم تنفع كثيراً الجهود المضنية للقائمين على الأجهزة الحكومية المعنية في منع هذه الإخفاقات والنواقص، لأنها تضيع هباء بسبب الاختلال الوظيفي للنظام نفسه.

وتهدف هذه المراجعة الشاملة إلى تحديد مكامن القصور والضعف، وتقديم البدائل لنظام الأمن القومي بإسقاطاته على الصعيدين الخارجي والداخلي، ويعلن أصحاب المشروع أن هدفهم المركزي "أن يتم تبنى النظام الجديد للأمن القومي في مرحلة مبكرة من عهد الإدارة الجديدة". وستشمل التعديلات المقترحة مجالات الأوامر التنفيذية الصادرة عادة عن الرئيس، قانون جديد للأمن القومي، وقواعد عمل ورقابة مجلس النواب والشيوخ.


تجدر الإشارة إلى أن المشروع انطلق في شهر سبتمبر/ أيلول عام 2006 وشارك في إعداده أكثر من 300 خبيرًا في شئون الأمن القومي من مسئولين حكوميين حاليين وسابقين ومن القطاع الخاص (مراكز أبحاث، جامعات... الخ)، وتوزع العمل على 13 مجموعة عمل مختلفة فحصت بالتفصيل أكثر من مائة حالة سابقة ومتنوعة تعاملت معها أجهزة الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ عام 1947، وقيمت أداءها المشترك، كما قامت بتحليل أكثر من 20 قضية دستورية وقانونية رئيسية، ووقفت أمام المشاكل التي واجهتها وأسبابها والنتائج المترتبة عليها، وجدير بالذكر أنه تم تقديم ملخص عن التقرير والتوصيات في مؤتمر خاص عقد فى22 أكتوبر/تشرين أول 2008 بمعهد هدسون في العاصمة الأمريكية.


العهد الجديد والكوابح... والألغام



هناك حالة من القلق الشديد وخيبة الأمل تعتمل في الداخل الأميركي، ورغبة أشد في إجراء مراجعة شاملة لكيفية عمل الأجهزة الأمريكية، وإحداث تغيير في طبيعة عملها تطال السلطتين التنفيذية والتشريعية
على الرغم من المكابرة التي تميزت بها إدارة بوش الابن في تجاهل حقائق الفشل والتعثر في سياستها الداخلية والخارجية، تفيدنا الأمثلة التي تم عرضها حتى الآن أن هناك حالة من القلق الشديد وخيبة الأمل تعتمل في الداخل الأميركي، ورغبة أشد في إجراء مراجعة شاملة لكيفية عمل الأجهزة الأمريكية، وإحداث تغيير في طبيعة عملها تطال السلطتين التنفيذية والتشريعية، وليس صدفة أن يتمكن المرشح الديمقراطي أوباما من البروز والتقدم في صفوف حزبه، وعلى المستوى الوطني، رغم الحواجز والعقبات الكبيرة التي اعترضته، فهناك توق حقيقي وحاجة ملحة لدى الشعب الأمريكي نحو التغيير.


فالتغيير هو الشعار الرئيسي الذي عنون فيه أوباما حملته الانتخابية، وبالطبع ينشد الشعب الأمريكي التغيير لشعوره بالإحباط والفشل مما هو قائم، ولكنه لا يجمع على طبيعة وحجم التغيير ومداه، فحتى ماكين حاول في الأسابيع الأخيرة لحملته الانتخابية أن يركب الموجة، ويتحدث عن كونه مرشح التغيير أيضا، واضعا مسافة فاصلة بينه وبين الرئيس الجمهوري الحاكم من حزبه.


حتما،ً أميركا مقبلة على تغيير يشكل انعطافة في توجه أميركا الإستراتيجي بقطع النظر عمن يحتل البيت الأبيض، والفرق بين رئيس ديمقراطي ورئيس جمهوري في الوتيرة وفي درجة الاستعداد للاعتراف بالحقائق المرة التي تواجه أميريكا وتقديم خيارات ملائمة لحل معضلاتها، فالرئيس أوباما سيكون أكثر قدرة على الحركة من الجمهوري الذي ستثـقله تركة الرئيس بوش الابن، وتجعله أكثر حذراً وبطء في التعامل مع تداعياتها. لكن تركة بوش الابن هي حفنة من المشاكل المستعصية التي سيرثها الرئيس الديمقراطي أيضا، وينتظر منه الشعب الأمريكي أن يقدم لها حلولاً منطقية تساعد في استعادة ثقته شبه المفقودة بمجمل المؤسسة الحاكمة بجناحيها في واشنطن.


الرئيس الجديد رغم الآمال الكبيرة المعقودة عليه داخلياً وخارجياً لا يملك عصا سحرية تمكنه من تجاوز وفك الألغام التي زرعتها إدارة بوش في طريقه على الصعيدين الداخلي والخارجي، فبعد أن تتوقف احتفالات النصر التاريخي الذي أحرزه الرئيس الجديد، ويخلد إلى المكتب البيضاوي سيشعر بثقل المسؤولية، وتنوع الملفات العاجلة التي يتوجب عليه معالجتها.


وفي تقديري أن أبرز المعوقات التي تواجه ساكن البيت الأبيض الجديد هي درجة التفاؤل المفرط السائدة بين مؤيديه ومريديه، داخلياً وخارجياً، فحتى الذين يشككون بقدرته أو استعداده لاتخاذ القرارات الصعبة، يعتقدون بأنه سيجترح المعجزات استنادا إلى شبه المعجزة التي حققها بفوزه أصلا. ولكن النظرة الواقعية للمشهد الأمريكي تدفعنا إلى توخي الحذر وعدم الوقوع في التفاؤل المفرط لأن الإحباط والخيبة سينتظرنا على المفرق القادم.


هناك كوابح بنيوية وموضوعية، ستحول دون قدرته على إحداث تغييرات جوهرية وسريعة في المسار الإستراتيجي الأمريكي القائم، لاشك أنه سيحاول تعديل المسار من حيث الأسلوب والأولويات في تحقيق نفس الأهداف، ولكن ذلك ليس كافياً لفتح مسار جديد أو إحداث قطيعة تامة مع الذهنية الموروثة لمؤسسة حاكمة، تتناسل جيلا بعد جيل نخبة تؤمن بثقافة التفوق والسيطرة الكونية المنفردة وبتعبئة مشحونة بكراهية الخصوم المحتملين، والسعي لإخضاعهم بكافة الوسائل بما فيها القوة، والخصوم هم تحديداً المسلمون والروس والصينيون، وفي الدرجة الثانية باقي شعوب القارات الثلاث وبدرجات تتفاوت حسب فهم الأمريكيين لحجم المصالح والتهديدات التي تعنيهم.


يدرك من لديه بصيرة أن أميركا تعيش مخاض انكشاف عجزها وتعثر مشروعها الإمبراطوري للهيمنة، ولكن هل تولدت قناعة أو رغبة لدى النخبة الحاكمة بما فيها من ينتقد سياسة ونهج إدارة بوش الابن بالتسليم بالأمر الواقع، والمباشرة في إدارة انحسار الإمبراطورية وتنازلها عن العرش المنفرد للنظام الدولي؟ لا توجد خبرة أمريكية سابقة ولا حتى خبرة عالمية مماثلة أعلنت فيها قيادة المشروع الإمبراطوري اعترافها بالفشل، واستعدادها لتنظيم عملية التراجع والانتقال من الدور المنفرد إلى دور الشريك الأساسي مع آخرين في إدارة النظام الدولي.


بالطبع هناك قاعدة المخاطرة مقابل المردود، التي قد تساهم في تكوين هذه القناعة الجديدة بأن كلفة التمدد والانتشار الأميركي أضحت أعلى بكثير من مردودها المادي والمعنوي، ولكن الذهنية السائدة لا تزال تعبر عن اختيار وضعية التكيف والتراجع التكتيكي أحيانا بواقع الاضطرار، وتحت ضغط التعثر الميداني أو الأزمات المالية المتفجرة.





أميركا لم تعد بمأمن من تفجر أزمات داخلية تفرض على سيد البيت الأبيض التفاتا أكبر نحو الداخل على حساب الاستمرار في رعاية مشروع إمبراطوري يترنح في الخارج
ولو دققنا بالمراجعات التي سبق ذكرها والتي تضمنت الترويج لمفهوم القوة الذكية أو إصلاح شامل هيكلي في نظام الأمن القومي، ولو سلمنا أن الإدارة الجديدة ستعتمدها لوجدنا أن التفكير الإستراتيجي لا يزال يتحرك في دائرة التعديل والضبط وسد الثغرات والنواقص واختلالات التنسيق، وليس دائرة التفكير الإستراتيجي نحو تحولات جذرية. فالذهنية السائدة لدى المؤسسة الحاكمة والجهاز البيروقراطي الراسخ الأقدام في بنية النظام وطرق عمله، اعتادت على خدمة القوى والمصالح النافذة في المسرح الأميركي ممثلة بالمجمعات الصناعية العسكرية والاستشارات والمال والنفط، ولن يكون الرئيس الجديد مهما بلغت شعبيته أو ذكاؤه أو نزعته الفطرية نحو التغيير قادراً على الإفلات من القبضة الحديدية لهذه المصالح، نعم قد يتمكن من فتح كوة في الجدار مشحونة بالأمل والتمنيات، لكنه سيبقى أسيراً للمرحلة التحضيرية لأفول نجم المشروع الإمبراطوري وليس نهايته.


وفي تقديري أن المسرح الدولي الراهن يوفر فرصة غير عادية للقوى والتكتلات الرئيسية والدول الإقليمية الوازنة شعبياً واقتصادياً لتقصير هذه الفترة التحضيرية، وإرغام الرئيس الأمريكي الجديد على التسليم بقدوم عالم جديد أكثر توازناً ويحقق شراكة نشطة في مواجهة التحديات العالمية الرئيسة، كالفقر والبطالة والمرض وتدمير البيئة والنزاعات الإقليمية.


على أية حال لو عجزت الدول والتكتلات المنافسة أو مناطق الاستنزاف العسكري والمادي لأميركا على إرغام القيادة الأمريكية بانتهاج طريق جديد، فالاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية الأمريكية ستسهم عاجلاً -وليس آجلاً في- فرض ثقلها ومستلزماتها بتحقيق الانعطاف القادم، وإلا كيف يمكن لأمريكا أن تستمر بمعالجة الأزمة المالية الطاحنة التي تولدت عن اقتصاد الاستهلاك والخدمات والمضاربات والمشتقات المالية بمسكنات مؤقتة؟ وهي تنوء بثقل دين يتجاوز 12 تريليون دولار وعجز في الميزان التجاري يتجاوز فعلياً 700 مليار دولار سنوياً، وميزانية أمن قومي تتجاوز تريليون دولار سنوياً، وإفلاس قائم فعليا لصندوق الضمانات الاجتماعية والصحية العاجز عملياً إلى الآن عن توفير 50% من الأموال اللازمة المتوجبة لجيل المتقاعدين.


كيف ستحل أمريكا مشكلة تقادم بنيتها التحتية التي كشفتها الكوارث الطبيعية مثل إعصار كاترينا؟


وكيف ستعيد التوازن للقوات المسلحة التي تمددت في مهمات أكبر من حجمها وقدرتها لا يمكن أن تسده بشرياً إلا بالتجنيد الإجباري، ولا يمكن أن تجدد معداتها العسكرية المتقادمة إلا بإنفاق جديد يصل إلى أرقام فلكية!


كيف ستتعامل أميركا مع مشكلاتها الاجتماعية؟ في ظل شبح الكساد الأعظم المهدد، والذي سيجعل من مدنها وتجمعاتها البشرية الرئيسية عرضة لنشوب اضطرابات وأعمال عنف في شوارعها، لتنامي بؤر الفقر والبطالة، تشحن فيها بطاريات الكراهية والعداء والعنصرية على أساس ديني وعرقي، وتعبئة غير مسبوقة ضد الأجانب تحت ستار الدعوة لمعالجات جذرية لمسألة ملايين المهاجرين غير الشرعيين.


ألم تكشف حملة ماكين الانتخابية عن مدى الشحن للتزمت الديني والعداء العنصري الكريه الكامن تحت السطح البراق لمجتمع" الحرية، والعدالة، وسلطة القانون، وفصل الدين عن الدولة، والتنوع الإثني والثقافي"!


أميركا لم تعد بمأمن من تفجر أزمات داخلية تفرض على سيد البيت الأبيض التفاتا أكبر نحو الداخل على حساب الاستمرار في رعاية مشروع إمبراطوري يترنح في الخارج.
_______________
خبير في شؤون الأمن القومي الأميركي