داود أوغلو والسياسة الخارجية الجديدة لتركيا

ثمة إجماع على أن داود أوغلو هو الذي غيَّر بصورة كبيرة في خطاب سياسة تركيا الخارجية وممارستها، وستكونُ لتعيينه وزيرا للخارجية في الأول من مايو/ أيار الماضي تأثيراتٌ تتجاوز تركيا في كل من المناطق المجاورة وفي المنظمات الدولية التي تشارك فيها تركيا بنشاط.







 

بولنت أراس


ترجمة: الطاهر بوساحية


يقدم التقرير الذي نشرته مؤسسة (سيتا) البحثية في أنقرة على موقعها الإلكتروني(*) رؤية داود أوغلو للسياسة الخارجية التركية عقب تعيينه وزيرا للخارجية في مايو/ أيار الماضي، ويناقش التقرير خط السياسة الخارجية التركية الجديد وأدواتها، لا سيما وسط مجهودات الدولة لحل المشكلات المتأزمة في المناطق المجاورة.


ويرى التقرير أن مهمة داوود أوغلو الآن ستكون التحول من التصميم الفكري للسياسات إلى انخراط أكثر واقعية في السياسة الخارجية، إضافة إلى أن عهده سيعمق انخراط تركيا في السياسة الإقليمية والمنظمات الدولية والسياسة العالمية.


كما يطرح التقرير التحديات والصعوبات التي ستواجه داود أوغلو في منصبه الجديد، ويقدم بعض التوصيات والملاحظات المهمة.


*       *       *


قام رئيس الوزراء التركي طيب رجب أردوغان بتعيين أحمد داود أوغلو وزيرا جديدا للخارجية في الأول من شهر مايو/ أيار 2009، وكان هذا الأخير وثيق الصلة بأردوغان وكبيرَ مستشاريه في السياسة الخارجية منذ 2003، والمعروف عنه أنه مهندس سياسة حزب العدالة والتنمية الخارجية، وكان له تأثير في عدد من التطورات الرئيسية فيها.


وثمة إجماع على أن داود أوغلو هو الذي غيَّر بصورة كبيرة في خطاب سياسة تركيا الخارجية وممارستها بحيث جعلها تتسم بالحراك وتعدُّد الأبعاد، فقد وضع لها رؤيةً وأسلوبا جديدين وإطارا لتنفيذهما.





نجحت رؤية داود أوغلو في الميدان ونالت سياستُه مشروعيةً لدى المنتقدين المشكِّكين داخل تركيا وخارجها، رغم أن مقاربَته ما زالت تثير الانتقاد.
غير أن رؤيته وأسلوبَه الجديدين كانا في البداية موضوعا لكثير من النقاش، فقد تساءل الكثيرون عما إذا كانا ملائمين لسياسة تركيا الخارجية، وبعد سبع سنوات انتقل النقاش أساسا إلى ما إذا كانت سياستُه ملائمةً بدون حزب العدالة والتنمية وبدونه هو في منصب المستشار.

لقد نجحت رؤية داود أوغلو في الميدان ونالت سياستُه مشروعيةً لدى المنتقدين المشكِّكين داخل تركيا وخارجها، رغم أن مقاربَته ما زالت تثير الانتقاد. ويعودُ تأثير داود أوغلو إلى إرادة وزير الخارجية الأسبق والرئيس الحالي عبد الله غل ورئيس الوزراء أردوغان في استغلالِ رؤيتِه في تنفيذ السياسة الخارجية.


ويحظى داود أوغلو بالتقدير في جوار تركيا ولدى اللاعبين الرئيسيين في النظام الدولي، وهو ما تبيَّن عندما طلب الرئيس الفرنسي ساركوزي من تركيا مساعدةَ الدبلوماسية الفرنسية في أزمة غزة. وستكونُ لتعيينه وزيرا للخارجية تأثيراتٌ تتجاوز تركيا في كل من المناطق المجاورة وفي المنظمات الدولية التي تشارك فيها تركيا بنشاط. وقد غطت وسائل الإعلام الرئيسية في الولايات المتحدة والشرق الأوسط تعيينه بصورة مكثفة، ويبدو أن الاهتمام الوثيقَ بخطوات داود أوغلو باعتباره وزيرا لخارجية تركيا أمرٌ وارد.


رؤية داود أوغلو في السياسة الخارجية
أدوات السياسة الخارجية الجديدة
أسلوب داود أوغلو في السياسة الخارجية
ملاحظات ختامية


رؤية داود أوغلو في السياسة الخارجية 


تَستنِد رؤيةُ داود أوغلو في السياسة الخارجية إلى التحوُّل الداخلي في تركيا، لا سيِّما توطيد الاستقرار السياسي والاقتصادي في البلاد، فقد سَمح الإصلاحُ الداخلي في تركيا وقدراتُها الاقتصادية المتناميةُ للبلاد بالبروز كراعٍ للسلام في المناطق المجاورة.


وقبلَ صعود نجم داود أوغلو كان الأمن في تركيا يُعامل إلى درجة كبيرةٍ على أنه مشكلة داخلية، وكانت السياسات الخارجيةُ امتداداتٍ للاعتبارات الداخلية، وهو الموقف الذي عادة ما كان مصحوبا بتوجُّه واضح نحو إضفاء الطابع الخارجي على المشكلات والبحثِ عن أعداء خارجيين. وقد تكون هناك فعلا، في بعض الحالات، أسبابٌ خارجية للمشكلات، لكنَّ النخبَ السياسية كانت تميلُ إلى المبالغة فيها واستغلالها للمحافظة على السلطة.


وقام داود أوغلو بصياغة سياسته الخارجية على أساس تصوُّرٍ جغرافيٍّ جديد وَضَع حدًّا لما يسميه "إبعاد" البلدان المجاورة لتركيا. ويكمنُ أحدُ المكونات الأساسية لرؤيته في جعل الصورِ السلبية والأفكار المسبقة، لا سيما تلك المتعلقة بالشرق الأوسط، شيئا من الماضي. وسمحَ هذا التحوُّل لتركيا بتحرير سياستها الخارجية تماما من أغلال الاعتبارات الداخلية(1).


ومَهَّدت رؤية داود أوغلو الطريقَ لبروز تصوُّر جديد يضع مختلفَ الفرضيات عن البلدان الإقليمية في أذهان صانعي السياسة، وتكمن المسألةُ الأساسيةُ في التحوُّل المشارِ إليه آنفا الذي أعاد تحديد خيارات السياسة الخارجية فاتخذت شكلا جديدا متأثرةً بما قام به داود أوغلو من إعادةٍ لتحديد دور تركيا في المناطق المجاورة وفي السياسة الدولية، أي في "عمقها الاستراتيجي"، بحيث توسَّعت الحدود إلى ما وراء البلادِ في الخريطة المعرفية لأذهان صانعي السياسة. وزالت في الذهنية الجديدة الحدودُ الإقليميةُ أمام الانخراط التركي في البلدان المجاورة، واكتسبت العلاقة بين "الجوار والآخر"(2) معنى جديدا بعد التخلُّص من ضغوط تصورات التهديد الداخلية في السياسة الإقليمية.


ومن شأن رؤية داود أوغلو أن تؤثر بشكل كبير في ثقافة الأمن القومي والثقافة الجيوسياسة، وهو ما يعني توسيعَ أفقِ صانعي السياسة وبروزَ بعضِ المواقف الجديدة في السياسة الخارجية. ويمكن أن يُفهَم التغيير بصورة أفضل في إطارٍ متعددِ الأطراف ينطوي على تغييراتٍ في المشهد الداخلي، وفي التفاعل الثنائيِّ لكل عنصر من عناصر التحول السياسي والاقتصادي والثقافي فيما يتعلق بخطِّ السياسة الخارجية الجديد الآخذ في النشوء. ومثال ذلك وجودُ مناخ داخلي أكثر أمانا يدخل في تفاعل ثنائيٍّ مع سياسةٍ خارجية تتسم بالثقة.


وتقوم هذه العملية بإعادة صياغةِ الأمن القومي وبإدراج عواملَ جديدةٍ في عملية صناعة السياسة الخارجية. ومثلما يشيرُ إليه كيريشتشي (Kirişçi)، استنادا إلى صانعي السياسةِ الأتراك، فإن "التطورَ السياسي والقدراتِ الاقتصادية والقوى الاجتماعيةَ النشيطة والقدرةَ على التوفيق بين الإسلام وبين الديمقراطية في الداخل هي ميزاتٌ تَمنحُ تركيا إمكانيةَ وضعِ سياساتٍ فعالة ومؤثرةٍ وتنفيذها"(3) في المناطق المجاورة وفي أماكن بعيدة مثل إفريقيا وآسيا.





تَستنِد رؤيةُ داود أوغلو في السياسة الخارجية إلى التحوُّل الداخلي في تركيا، لا سيِّما توطيد الاستقرار السياسي والاقتصادي في البلاد.
ويشير داود أوغلو إلى أن تركيا تتعهَّد بالمساهمة في أمن واستقرار ورفاه مجموعةٍ واسعة من الأقاليم البعيدة عن جوار تركيا المباشر، ويقول معلِّقا على نشاط تركيا المستقبلي في إفريقيا: "إن البلد الذي يقلل من شأن إفريقيا لا يمكن أن يكون له موقع عالمي"(4).

وتعد مصلحة تركيا الجديدةُ في هذه المناطق نتيجةً لترتيبِ بيتِها الداخلي واكتسابِ الثقة في النفس في العلاقات الدولية ووضعِ رؤيةٍ عالميةٍ للسياسة الخارجية والسعيِ إلى دور قيادي في السياسة العالمية.


ومثلما يقول أحمد داود أوغلو نفسُه "تحتلُّ تركيا من حيثُ الجغرافيا مكانا فريدا، فباعتبارها دولةً مترامية الأطراف وسط أرض واسعة بين إفريقيا وأوراسيا يمكنُ أن يتمَّ تعريفُها على أنها بلد مركزيٌّ ذو هويات إقليمية متعددة لا يمكنُ اختزاله في صفة واحدة موحدة. وعلى غرار روسيا وألمانيا وإيران ومصر لا يمكن تفسير تركيا جغرافيا أو ثقافيا بربطها بمنطقة واحدة. وتركيب تركيا الإقليمي المتعدد يمنحها القدرة على المناورة في العديد من المناطق، ومن ثم فهي تتحكم في منطقة نفوذ في جوارها المباشر"(5).


ومعنى هذا، رغم أن المسافةَ بين تركيا وبين البلدان الأخرى تبقى نفسَها، مثلما يقول داود أوغلو في كتابه المرجعيّ "العمق الاستراتيجي"(6)، إلا أن هناك اعترافا جديدا بجذور تركيا التاريخية والثقافيةِ في المناطق المجاورة لها أخذ يغيِّر تصوُّرات هذه الجغرافيات إلى تصورٍ جغرافي جديد، إذ لم يعُد للمسافة المادية والصعوباتِ السابقة في التعاطي مع هذه الجغرافيات معنى في دوائر السياسة وبين الناس. والشيء الذي برزَ هو عمليةُ اكتشاف "قرب" هذه الجغرافيات و"قابليتها" لانخراط تركيا فيها بوسائل تُذكِّر بالعلاقات الماضية وتكشِف عن الوشائج الحضارية والثقافية وتستكشف فُرص الانخراط.


وقد استَفادت سياسةُ الجوار التركية الجديدةُ من رؤيةٍ تقوم على تقليص هذه المشكلات في المناطق المجاورة لها، وهي الرؤية التي أطلق عليها داود أوغلو نفسُه سياسة "اللامشكلة" في حين تتفادى التورط في المواجهات الدولية(7).


وتعكسُ المعاني المتغيرة لآسيا أو إفريقيا في الخطابِ الجديدِ لصانعي السياسة الخارجية التفاعلَ النشطَ بين القوة والجغرافيا، وهنا تبرزُ إعادةُ التموقع التي تَضع تركيا في جغرافيا أوسع أو تجعلُ منها جزءا من المناطق الجديدة، وهي السياسة التي لا تجعلها تحتلُّ موقعا جغرافيا سياسيا هاما فحسب بل قادرةً أيضا على البروز كلاعب مهم في المجالات السياسية والاقتصادية.


واستَغلَّت نخبة الأمن والخارجية التركية والسياسيون في السلطة رؤية داود أوغلو، فقد بيّن رئيس الوزراء التركي طيب أردوغان عمق إستراتيجية داود أوغلو وخطابه حين قال: إن "اسطنبول ليست مركزا يجمع قارتين فحسب، إنها أيضا رمزٌ مركزي يجمع الحضارات ويختزلها"(8). ويضع أردوغان اسطنبول في قلب خريطة واسعة حيث لتركيا وجغرافيتِها وميراثِها الثقافي أهميةٌ في سياق إقليمي أوسع.


ومثلما يضيف داود أوغلو قائلا: "ستكون التزامات تركيا من التشيلي إلى إندونيسيا، ومن إفريقيا إلى آسيا الوسطى ومن الاتحاد الأوروبي إلى منظمة المؤتمر الإسلامي جزءا من مقاربة شاملة للسياسة الخارجية، وستجعل المبادراتُ تركيا فاعلا عالميا ونحن نقترب من العام 2023، الذكرى المئوية الأولى لإقامة الجمهورية التركية"(9).


وتَبرُز تركيا في هذه الذهنية باعتبارها لاعبا مؤثِّرا في جغرافيةٍ تمتدُّ من إفريقيا إلى الشرق الأوسط وما وراءهما.


ويميل المنتقدون إلى اعتبار رؤيةِ داود أوغلو نزعة عثمانية جديدة مؤكِّدين أن معظمَ سياسة تركيا الخارجية يجري في الأقاليم العثمانيةِ السابقة. والواقعُ أن سياساتِ داود أوغلو تشكِّل استمرارا لنشاط تركيا الفعَّال الذي أَخذ يتطور تدريجيا في عهد الرئيس الأسبق تورغوت أوزال، إلى جانب الخطواتِ الجذرية تجاه العضوية في الاتحاد الأوروبي التي اِتخذَتها حكومةُ الائتلاف التي سبقت حزبَ العدالة والتنمية.


ومضى داود أوغلو بهذه التوجُّهات قُدُما فصاغ رؤية أكثر شموليةً للسياسة الخارجية ووَضع آلياتٍ سياسية لمواجهةِ تحدياتِ العولمة في عصر ما بعدَ الدولة القومية. وتؤدِّي مقاربةُ داود أوغلو القاضية بجعل الحدود غير ذات معنى بحكم الواقع، في وقت تُحترمُ فيه السيادة الوطنية، إلى دواعٍ جيوسياسية للعودة إلى الفناء الخلفي للإمبراطورية العثمانية السابقة.


مثلما يقول إبراهيم كالين (Kalin): "تبدو تركيا ما بعد العصرنة كامنةً في ماضيها العثماني"(10).





يميل المنتقدون إلى اعتبار رؤيةِ داود أوغلو نزعة عثمانية جديدة مؤكِّدين أن معظمَ سياسة تركيا الخارجية يجري في الأقاليم العثمانيةِ السابقة.
وإذا كانت إشارةُ داود أوغلو إلى الوشائج التاريخية والثقافية لا تتجاهل ماضي تركيا العثمانيَّ، ولا تسعى إلى مجرد استغلاله باعتباره كذلك، فإنها توفِّر ميزة لتركيا في انخراطها في المناطق المجاورة. وعلى سبيل المثال فإنَّ قوله في كتابه "العمق الاستراتيجي" عن النزاع على القدس: إنه "لا يمكن حل أي مشكلة سياسية في المنطقة دون (استخدام) الأرشيف العثماني"(11)، قولٌ يهدِفُ إلى إعمال الماضي العثماني ليمنحَ تركيا موقعا في مسار السلام في الشرق الأوسط.

وكملاحظة أخرى عن واقعية رؤية داود أوغلو يؤكدُ "كيريشتشي" (Kirişçi) أولوية واحدةً للسياسة الخارجية الجديدة ألا وهي التركيزُ على الأهمية الناشئة للاعتماد الاقتصادي المتبادل(12). وفي هذا الصدد قد يكون النظر إلى النزعة العثمانية الجديدة باعتبارها الدافعَ الأولَ الكامنَ وراء تصور داود أوغلو الجيوسياسي أمرا مضلِّلا.


ولا تَفترضُ سياسة تركيا الخارجيةُ في المناطق المجاورة دورا مهيمنا لتركيا بل تهدفُ إلى مقاربة شاملةٍ لبناء السلام والأمن، مقاربة قائمةٍ على الحراك داخلَ هذه المناطق، وتبعا لهذا التفكير اكتسب صانعو السياسة الخارجية التركية ثقةً في النفس وإرادةً سياسية جديدتين للسعي وراء محاولات السلام في المناطق المجاورة، فها هي تركيا تستقبل زعماءَ الشرق الأوسط وأوراسيا وإفريقيا إلى جانب سياسيين ومسؤولين كبار من البلدان الغربية، كما تقومُ بتيسير الأرضيات لحلِّ النزاعات في أماكنَ عديدة.


ويحاولُ صانعو السياسة الأتراك التغلُّب على الخلافاتِ بين البلدان المتنازعة من خلال تدابيرِ بناء الثقة وأداء دور الوسيط والمسهِّل لإيجاد الحلول للمشكلات الإقليمية المزمنة.


وقد تمكَّنت تركيا بفضل مقاربتهم من البروز في دور صانعِ السلام على أطراف النظام الدولي. وبما أنَّ رؤية داود أوغلو هي القوةُ الدافعة الكامنةُ وراء هذه التطورات فإنها تهدفُ إلى إعداد الأرضيةِ لوعي جديد بالسلام في جغرافيا واسعةٍ تمتدُّ من الشرق الأوسط إلى أراضي الأستبس في أوراسيا.


أدوات السياسة الخارجية الجديدة 


يَعرِض داود أوغلو عددا من الآليات لتحقيق أهداف السياسةِ الخارجية المعلَنة في رؤيته الجديدة:


الآلية الأولى
هي مقاربة متكاملةٌ للسياسة الخارجية(13)، فاستنادا إلى داود أوغلو كانت تركيا بلدا يقومُ على الأولويات في سياسته الخارجية في حقبة الحرب الباردة حينما كان هناك نوعٌ من التراتبية في الأولويات في أذهان صانعي السياسةِ الخارجية الذين اِتّبعوا سياسةً مرتبطةً بهذه الأولويات الثابتة.


غير أن هذه التراتبية لم تعُد صالحة في الحقبة الحالية في نظر داود أوغلو، وعوض ذلك ثمة حاجة إلى وضع سياسةٍ جديدة تقوم على دمج قضايا السياسة الخارجية في إطارٍ واحد لصياغة السياسات. ولا يمكن لتركيا أن تُديرَ ظهرَها لبعض المناطق أو تفاديها مثلما فَعلت في الماضي، فهي تملك هوياتٌ إقليميةٌ متعددة، ومن ثم لها القدرة على اِتّباع سياسةٍ خارجية متكاملة لإدراج قضايا متعددةٍ في نفس الإطار، من مسار السلام في الشرق الأوسط إلى الاستقرار في القوقاز، مع منح الأولوية للقضايا الحالَّة دون أن تتجاهلَ الانشغالاتِ السياسةَ الخارجية الأخرى.


ووِفق هذا المنطق فإنَّ السياسة الخارجيةَ عبارةٌ عن مسار، وينبغي أن تُولَى اعتبارا من منظور أطول مدى مما كان عليه الأمرُ سابقا.


وعلى سبيل المثال فإن الخلافَ بشأن الاتحاد الأوروبي وقبرص كان على الأجندة في النصف الأول من العام 2004، وركَّزت السياسة الخارجية على العراق في النصف الثاني منه، بينما جاءت مأساة غزة على رأس الأجندة في أواخر 2008.


ومثلما يقول داود أوغلو، من الخطأ الإبقاءُ على أولويةٍ ما بصورة مصطنعةٍ في منطقة بعينها، وبدل ذلك ينبغي أن يبقى الانخراط التركي متجذِّرا في مبادئ العمق الاستراتيجي التي لا تزال سَلِسةً ومرنة بما يكفي للرد بصورةٍ ملائمة على التغييراتِ التي تحدثُ في أي وقت(14).


وفي سياق هذا النقاش أيضا يعارضُ داود أوغلو فكرةَ أن تكون تركيا مذنبةً بتغيير المحاور في السياسة الخارجية(15). وعلى سبيل المثال يمكنُ أن يَعتبر المرءُ أن اهتمام تركيا كان منصَبًّا على قبرص إذا ما نظر إلى نشاطها في 2004، أو على الشرق الأوسط إذا ما نَظر إلى نشاطاتها الديبلوماسية الكثيفة خلال أزمة غزة.


وقد تُشكِّل مثلُ هذه التصنيفاتِ خطأ في تقدير سياسة تركيا الخارجية في ظرف قصير، فتكون بذلك قاصرةً في فهمها على أنها مسار.


وتسعى تركيا وراء سياسة متكاملةٍ تجمَع كل مجالات السياسة الخارجية وقضاياها في صورة واحدة لصياغة السياسة. ويرفضُ داود أوغلو فكرةَ أن تركيا تحوّلت من محور الغرب إلى محورٍ شرق أوسطي مؤكدا أنها تحتل مقعدا غير دائم في مجلس الأمن وعضوٌ نشيط في مجموعة العشرين كما أنها تحافظ على التزامها بمسار العضوية في الاتحاد الأوروبي(16).


وتُعد هذه الالتزاماتُ المستمرة بالانخراط مع الغرب، في وقت تعمِّق فيه العلاقات مع الشرق، معالمَ مقاربةِ داود أوغلو للسياسة الخارجية المتكاملة.


الآلية الثانية



تجاوزت المساعدةُ التي تقدمها تركيا للتنمية 700 مليون دولار أمريكي عام 2008، وهي آخذة في البروز باعتبارها بلدا مانحا في الأمم المتحدة.
هي خطُّ سياسةٍ خارجية يقوم على المبادرة وتدعِّمه دبلوماسية متناغمة، وقد اِنتقدَ في كتابه المستوى المتدني للانخراط الدبلوماسي في منظمة المؤتمر الإسلامي، وهو ما يَعزوهُ إلى فرصةِ تركيا الضائعةِ لتنصيب مرشح تركيٍّ أمينا عاما للمنظمة عام 2000(17).

وقاد داود أوغلو السياسةَ الخارجية إلى درجة كبيرة من الانخراط مع انتخاب أمين عام في 2004 عندما كان كبير مستشاري رئيس الوزراء. وكانت النتيجةُ انتخابَ الأستاذ التركي إكمال الدين إحسان أوغلو أمينا عاما في تصويت ديمقراطي لأول مرة في تاريخ المنظمة(18). وبالإضافة إلى ذلك استقبلت عواصم المناطق المجاورة لتركيا عددا من نخب السياسة الخارجيةِ والسياسيين الأتراك في السنوات العديدةِ الماضية أكثرَ مما شهدته في العقود السابقةِ.


وكانت الدبلوماسية المبادِرة تهدف إلى بلوغ حالة "اللامشكلة" مع جيران تركيا ثم اِنطلقت إلى الخطوة الموالية، وهو ما أطلق عليه داود أوغلو "التعاون الأقصى" في أول ندوة صحفية له باعتباره وزيرا للخارجية. وتحتضن تركيا قمما رئيسيةً للمنظمات الدولية من منتدى المياه والبلدان الأقل نموا إلى المجتمع الكاريبي، وتجري بها أيضا محادثات مباشرة بين أطراف النزاعات من الشرق الأوسط إلى أراضي الأستبس في أوراسيا. وتشملُ الأمثلة المحادثاتِ غير المباشرة بين إسرائيل وسوريا والمفاوضاتِ المباشرةَ بين أفغانستان وباكستان.


وحصلت تركيا أيضا على مقعدٍ غير دائم في مجلس للأمن ومركزِ ملاحظٍ في الاتحاد الإفريقي والجامعة العربية وجمعية دول الكاريبي ومنظمة الدول الأمريكية.


وقد تجاوزت المساعدةُ التي تقدمها تركيا للتنمية 700 مليون دولار أمريكي عام 2008، وهي آخذة في البروز باعتبارها بلدا مانحا في الأمم المتحدة.


الآلية الثالثة
هي التواجد في الميدان، لا سيما في أوقات الأزمات(19). فمثلما يقول داود أوغلو: لا بد لتركيا أن تكون في الميدان سواء كان ذلك في الاتحاد الأوروبي أو الشرق الأوسط أو القوقاز، وذلك من منظور تركي.


وقد بَدَت هذه الآلية في حالات عديدة، ومؤخرا جدا خلال الأزمة الروسية الجورجية وأزمة غزة، فقد زار رئيس الوزراء جورجيا وأذربيجان وروسيا قبل أي زعيم آخر في المنطقة وفي أوروبا، وعَرضت تركيا أرضيةً للاستقرار وأدارت بحذر أزمةً محتملة بين الناتو وروسيا في البحر الأسود. كما زار "أردوغان" أربعة بلدان عربية في أعقاب هجوم إسرائيل على غزة مباشرة، وقاد فريق تركي برئاسة داود أوغلو نفسِه دبلوماسية مكوكية بين دمشق والقاهرة خلال الأزمة.


الآلية الرابعة
هي سياسة داود أوغلو الشاملة التي تقف على مسافة متساوية من الأطراف، ففي رأيه ينبغي أن تَرمي سياسةُ تركيا إلى ضم كلِّ الفاعلين المعنيين في ائتلاف واسع لحل المشكلات ووضع المبادرات.


وهذا يعني أن تسعى تركيا وراء دبلوماسيتها بحذر وتواضع، فصانعو السياسةِ الأتراك يقفون على نفس المسافةِ من كل الفاعلين ويتفادون المشاركةَ في أية أحلاف أو تجمعات إقليمية.


وتَستجيب سياسةُ تركيا الشاملةُ، وسياسة المسافة المتساوية، لانشغالاتِ الفاعلين الإقليميين وتُطمئِنُهم على الطبيعة البنَّاءة للسياسة التركية.


الآلية الخامسة
هي الأداءُ الكلي للسياسة الخارجيةِ الذي يعني الاهتمامَ بالمنظمات غير الحكومية، من مجتمعات الأعمال والمنظمات المدنيةِ الأخرى باعتبارها جزءا من رؤية السياسةِ الخارجية الجديدة، وتجنيدَ دَعمها وراءَ خطِّ السياسة الخارجية النشيط الجديد(20).


وقد أدى عامل التيسير الذي تتمتع به السياسة الخارجية الجديدة إلى زيادة دور مؤسسات المجتمع المدني في صناعة السياسة الخارجية. وأصبح بذلك دورُ هذه المؤسسات الجديدُ جزءا من فكرة الأداء الكلي، على خلاف الماضي عندما كان يتمُّ تصوُّر السياسةِ الإقليمية والعلاقاتِ الدولية بطريقة لا مجالَ فيها لهؤلاء الفاعلين في عمليةِ صناعة السياسةِ الخارجية.


أسلوب داود أوغلو في السياسة الخارجية 


أَطلق داود أوغلو عددا من المبادرات السياسيةِ بصفته كبير مستشاري رئيس الوزراء، من بينها الدعوةُ التركية إلى التعاطي مع حماس، وهي السياسة التي جلبت اهتماما أكبر من أية سياسة أخرى، وكانت مَركزَ الانتقاد الموجَّه إلى داود أوغلو.





يهدفُ صانعو السياسة الأتراك إلى الإبقاء على أزمةِ روسيا وجورجيا محصورةً في القوقاز والحيلولة دون انتشارها إلى منطقة البحر الأسود الواسعة.
فقد فَتحت انتصاراتُ حماس في الانتخابات المحلية عام 2005 والتشريعية عام 2006 عهدا جديدا في المسألة الفلسطينية، واُعتبر رفضُها الاعترافَ بإسرائيل مصدرا رئيسيا لقلق المجتمع الدولي، وبدأت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مناقشةَ إمكانيةِ اتخاذِ إجراءات لحمل حماس على الاعتراف.

بتوجيه من داود أوغلو فَسَّر حزبُ العدالة والتنمية الحاكم في تركيا انتصارَ حماس بصورة مختلفة وفضَّل دبلوماسية التعاطي معها لمنع المشكلات المحتملة.


ويقوم الموقفُ التركي، مثلما عبَّرت عنه وزارةُ الشؤون الخارجية، على أساس أنه ينبغي أن تَحترِم كلُّ الأطراف المعنية نتائجَ انتخاباتٍ تمت بصورة ديمقراطية، وأنَّ محاولة فاعلين خارجيين إضعافَ النظام المنتَخَب حديثا بفرض تدابيرَ اقتصاديةٍ على الإدارة الفلسطينية سيكون أمرا مخالفا للمبادئ الديمقراطية(21).


وحسبَ صانعي السياسة الأتراك فإن حماس كانت تبحث عن حلفاءَ في الشرق الأوسط لإنهاء الحصار السياسي والاقتصادي الذي كانت تواجهُه من النظام الدولي. وفي مثل هذا المناخ كانَ المنفَذُ الوحيد الممكن لحماس، دون التدخل التركي، هو محور سوريا، إيران، حزب الله(22).


ويقضي الموقف التركي بِضَمّ حماس إلى العملية السياسية، وكان أملُ داود أوغلو أن يُقنعها بالعودة إلى هدنة مقابلَ رفع إسرائيل الحصارَ عن غزة. وطلبَ صانعو السياسة الأتراك من حماس أن تُعلِن وقفا لإطلاق النار وتَعمل على تسويةٍ سياسية مع مختلف الفصائل الفلسطينية(23).


وقد التقى داود أوغلو مرتين في سوريا خالد مشعل، زعيم حماس في المنفى. وجاءت زيارته الثانية نتيجة طلبِ الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي مد يدِ المساعدة من أردوغان. وهذا يعني أن تركيا بدأت وساطةً بين حماس والفاعلين الدوليين في وقت حافظت فيه على الاتصالات مع حركة فتح والسلطة الفلسطينية ومحمود عباس.


وكانت مساهمةُ أنقرة في هذه المسألة هي تحفيز حماس على اتخاذ خطوات براغماتية وضمان حدوث تقارب بين الفصائل الفلسطينية.


وقد أكد الأستاذ ريتشارد فوك، مقرر الأمم المتحدة الخاص في الأراضي الفلسطينية المحتلة أهمية تعاطي تركيا مع حماس بإشارة خاصة إلى دعوة حماس في 2006 حيث وصف فشل المجهودات التي كانت محل انتقاد آنذاك بالفاجعة، معتبرا أنه بالعودة إلى الوراء سيجد المرء أنَّ رفاه سكان غزة المدنيين وأمن إسرائيل كانا سيستفيدان معا أيما استفادةٍ من استغلال المبادرةِ التركية والتحرك لتنفيذ استعدادِ حماس الالتزامَ بهدنة طويلة الأمد(24).


وشارك داود أوغلو في اجتماع ساركوزي مع الرئيس السوري بشار الأسد وخافيير سولانا مسؤول السياسية الخارجية والأمنية بالاتحاد الأوروبي الذي عقد في دمشقَ في يناير/ كانون الثاني 2009. وفي ندوة صحفية مشتركةٍ بين ساركوزي والأسد عبَّر الأول عن تقديره لمساهمة داود أوغلو الفعالة والعملية(25). وقد اِنضمَّت وسائل الإعلام الغربيةُ والشرق أوسطية إلى ساركوزي في هذا الاعتراف الاستثنائي بدور داود أوغلو مُشيرةً إلى دوره في الهدنة بين حماس وإسرائيل.


ولا يقتصرُ نشاط داود أوغلو في السياسة الخارجية على الشرق الأوسط فقط، فقد شهِدت السنواتُ السبعُ الأخيرة نشاطا مشابها في السياساتِ تجاه الاتحاد الأوروبي وقبرص والقوقاز.


وتعدُّ السياسة الخارجية التركية الجديدة تجاه القوقاز عشيةَ الأزمة الروسية الجورجية مثالا ساطعا على سياسات داود أوغلو في الممارسة وفي الميدان. ونتيجةً لسياسة تركيا الإقليمية الجديدة غداةَ هذه الأزمة طرحت أنقرة مبادرة دبلوماسية متعددة الأطراف، وهي: "أرضية الاستقرار والتعاون في القوقاز" التي تشمل روسيا وأرمينيا وأذربيجان وجورجيا وتركيا.


وتهدفُ هذه الأرضيةُ إلى وضع نظرة إقليمية مشتركةٍ إلى جانب الأدوات السياسيةِ للتعامل مع قضايا مثل السلام الإقليمي والأمن وأمن الطاقة والتعاون الاقتصادي. وقد أشار رئيسُ الوزراء رجب طيب أردوغان إلى أن هذه الأرضية ينبغي أن تَستغِل مبادئَ منظمة التعاون والأمن في أوروبا وقواعدَها، وأضاف قائلا: "إن فشل مجموعة 'مِنسك' في التوصل إلى أية نتائجَ أمرٌ يجعلنا نفكر... وستساهم أرضيةُ التعاون والاستقرار في القوقاز في الجهود لإقامة سلام واستقرارٍ في المنطقة"(26).


ويشيرُ موقفُ تركيا إلى أن أنقرة تفضِّل مقاربةً شاملةً للوضع. وقد رَدَّت أرمينيا والاتحاد الروسي وأذربيجان وجورجيا بالإيجاب على العرض وأَثنت على المشروع المقترَح باعتباره محاولة بنَّاءة(27).


وكانت مقاربة تركيا الجديدةُ بإدراج كلٍّ من أذربيجان وأرمينيا في جهود سلامٍ إقليميةٍ تهدف إلى إنهاء هيمنة نموذجِ الثنائيات المتعارضة القائم على أسلوب الحرب الباردة. وتعترفُ حكومة أرمينيا أيضا بالحاجة إلى وضع حدٍّ نهائي للأنماط العدائية التي تؤدي إلى دوائر عنف في المنطقة(28).


والتقى مسؤولون من البلدان الخمسةِ في هلسنكي لمناقشة أهداف "أرضية الاستقرار" ومبادئها وآلياتها على هامش اجتماعِ منظمة الأمن والتعاون في أوروبا في هلسنكي في ديسمبر 2008(29).


وتحاولُ أنقرة تفادي الانحياز إلى أية صراعات "روسية غربية"، بينما تقومُ بتطوير علاقاتها مع موسكو، وقد اِتَّبعت هذه السياسة بصورة نشطة في الأزمة الروسية الجورجية في أغسطس/ آب 2008.


وتصرَّف صانعو السياسة الأتراكُ بحذر من أجل تخفيف التوتر خلال الأزمة وطرحوا فكرةَ أرضيةٍ إقليميةٍ لتسوية المشكلات الإقليمية، فقد أشار رئيس الوزراء أردوغان خلال الأزمة إلى أهميةِ العلاقات مع روسيا حيث قال: إن "أميركا حليفُنا والاتحاد الروسي جارٌ مهم. روسيا شريكُنا التجاري الأول، فنحن نحصل على ثلثي طاقتنا من روسيا. إننا نتصرفُ وفق مصالحنا الوطنية (...). لا يمكننا تجاهل روسيا"(30).


لقد منح النزاعُ المسلح وتصعيدُ التوتر بين روسيا وجورجيا تركيا مسؤوليةً أكبر في المنطقة. وفي محاولةٍ للتوسُّط بين الأطرافٍ المختلفة في المنطقة واجهت تركيا اختبارا حرِجا لموقفها الحيادي عندما عَبَرت سفنٌ حربية أمريكيةٌ المضايق التركيةَ لتقديم المساعدة لجورجيا.


وباعتبار تركيا عضوا في حلف الأطلسي وأيضا جارا لروسيا فقد دعَّمت جورجيا اقتصاديا وسياسيا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي.


ويهدفُ صانعو السياسة الأتراك إلى الإبقاء على أزمةِ روسيا وجورجيا محصورةً في القوقاز والحيلولة دون انتشارها إلى منطقة البحر الأسود الواسعة.


وثمةَ توجُّه واضح في الوقت الحالي للبحث عن دعمٍ من فاعلين خارجيين ومن تحالفاتٍ إقليمية أوسعَ لتوفير الأمن في المنطقة، فأذربيجان وجورجيا تعتمدان على الناتو والقوى الغربيةِ وتسعيان إلى تحالفات إقليمية مع أوكرانيا ومولدوفا وتركيا، أما أرمينيا فتعتمدُ على روسيا، بينما تدعو روسيا "منظمة شنغهاي للتعاون" لدعم القضية الروسية في القوقاز(31).


وردا على ذلك اِقترحت تركيا "أرضية الاستقرار في القوقاز" لتهيئة حوار بين دول القوقاز الثلاث وروسيا وتركيا من أجل احتواءِ أية أزمة في المنطقة.





يقدِّم صانعو السياسة الأتراكُ البلادَ باعتبارها الدولةَ التي يمكنها اتباعُ علاقات بنّاءة مع كل الفاعلين العراقيين وجيران العراق،.
ويرى صانعو السياسة الأتراك أن هناك حاجة إلى وضع آلية لبناء الثقةِ لدعم تفاهُم إقليميٍّ على الأمن. وقد مَنح الاتحادُ الأوروبي الضوء الأخضر لهذه المبادرة حيث أشار تقريرُ التقدُّم الذي يصدره عن مفاوضاتِ انضمام تركيا بإيجابيةٍ إلى المشروع(32)، كما أن الناتو دعّم الأرضية باعتبارها خطوةً بنَّاءة في منطقة البحر الأسود مشيرا إلى خطِّ السياسة التركي خلال الأزمة(33).

وكمثال ثالث، وتحت التأثير القوي لصورة تركيا الإقليمية الجديدة، يقدِّم صانعو السياسة الأتراكُ البلادَ باعتبارها الدولةَ التي يمكنها اتباعُ علاقات بنّاءة مع كل الفاعلين العراقيين وجيران العراق، فقد أشار أردوغان إلى أنَّ حكومته تسعى إلى علاقاتٍ مستمرة ومتساوية مع كل المجموعات العرقية لحفزها على وحدة العراق ورفاهه(34).


ومن أجل المساهمةِ في الاستقرار السياسي في العراق سلكت تركيا أربعَة سبل متكاملة في العلاقات الديبلوماسية تعكس خطَّ داود أوغلو متعددَ الأبعاد في السياسة الخارجية والدبلوماسية المتناغمة: من خلال مجلس الأمن ومنظمة المؤتمر الإسلامي وجيران العراق والمجموعات العرقية والدينية في العراق.


ومن بين هذه المبادرات "أرضية لجيران العراق" التي كانت، ربما، أكثرَها أهمية. وقد اِجتمعت أطراف الأرضية أول مرة في إسطنبول يوم 23 يناير/ كانون الثاني 2003 لإيجاد حل سلمي وواصلت نشاطاتها بعد بداية حرب العراق.


وكجزء من هذه الأرضية التقى وزراءُ خارجية البلدان المعنية إحدى عشرة مرة بصورة رسمية وثلاث مرات غير رسمية في أماكنَ مختلفةٍ مثل اسطنبول وبغداد وطهران. واِتفق كلُّ جيران العراق من خلال الأرضية على سلامة العراق الإقليمية ووحدتِه السياسية.


وقد شارك في بعض الاجتماعات ممثلون عن اللجنة الأوروبية والأمم المتحدة إلى جانب الأمينين العامين لكلٍّ من الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي. واعتبر مجلسُ الأمن هذه الاجتماعات جادة وطالب بمزيد من التعاون الإقليمي بشأن المسألة العراقية. وقد اِستلهم الأمينُ العام للأمم المتحدة من هذه المبادرة فأنشأ مجموعةً تضم أعضاء الأرضية.


ولعبت تركيا دورا نشيطا أيضا في جعل الجامعةِ العربية ومنظمةِ المؤتمر الإسلامي أكثر شعورا بالمشكلة العراقية القائمة، ودخلت في دبلوماسية الكواليس بجَمْعها بين الأمريكيين وبين السُّنَّة في عدة مناسبات. وخلال أحد الاجتماعات، قَبْل الانتخابات في العراق، وافق السُّنة على إنهاء الهجمات، بينما وافق الأمريكيون على توفير الظروف لإجراء انتخابات نزيهة(35).


وبالإضافة إلى ذلك جمعت أنقرة بين شخصيات سنّية رئيسيةٍ معارضةٍ وبين مبعوثين أمريكيين لضمان مشاركة السُّنَّة في الانتخابات الوطنية العراقية يوم 30 جوان 2005.


والتقى طارق الهاشمي، وهو زعيم سني بارز ونائب الرئيس العراقي، المبعوثَ الأمريكي السابق زلماي خليل زاد في اسطنبول في مبادرة تهدف إلى إشراك كل الجماعات في العملية السياسية(36).


ونظَّمت تركيا أيضا برامجَ تدريبيةً لصالح 350 سياسي عراقي من أحزاب سياسية مختلفة، وذلك من أجل المساهمةِ في العملية الديمقراطية في العراق(37).


ومثلما تبيِّنه هذه المجهودات فإن النخبة الحاكمة في تركيا تتمتَّع اليوم بثقة في النفس طُوِّرت حديثا، وهي أن تركيا يمكنُها أن تلعب دورا بنَّاءً في الشرق الأوسط، بما في ذلك العراق.


وهكذا كانت سياسةُ تركيا المتعلقةُ بالعراق رصيدا في العلاقات التركية الأمريكية وحافزا جادا لمشروع الشراكةِ النموذجية للرئيس باراك أوباما المتعلقِ بعدد من القضايا تتراوح من مستقبل العراق إلى استقرار أفغانستان.


ملاحظات ختامية 


ليس من المبالغة في شيء القولُ إن منصبَ وزير الخارجية مهمةٌ محفوفة بالتحديات في تركيا، حتى بالنسبة إلى داود أوغلو الذي كان لمدة طويلة كبير مستشاري السياسةِ الخارجية لرئيس الوزراء أردوغان، وأكثرَ من كونه مستشارا فهو مهندس سياسة تركيا الخارجية الجديدة ومفكرها.





فكرة داود أوغلو في السياسة الخارجية المتكاملة فكرةٌ محفِّزة من حيث تبيُّنِ أجندة تركيا في السياسة الخارجية، غير أن صحَّة هذه الفكرة تتوقفُ على حجم الجمهور المتلقي.
وينطوي هذا الدورُ المزدوج على مزايا وعيوب في نفس الوقت، فالتصريحاتُ المعارضةُ والمؤيدة لسياسة تركيا الإقليميةِ القائمةِ على المبادرة ولعلاقاتِها الدولية المتنامية عادةً ما تَطالُ داود أوغلو نفسَه.

ورغم أن هذه التصريحات تقلِّل من شأن دور الخلفية المؤسساتية وتتجاهلُ أعوانا آخرين في السياسة الخارجية التركية إلا أن هناك إجماعا على أنَّ داود أوغلو لعب دورا مؤثِّرا في صياغة سياسة تركيا الخارجية منذ العام 2002.


وثمة عددٌ من التحديات والصعوبات أمامه في منصبه الجديد، وقد تساعدُ الملاحظات الآتية في تحديد المشكلات الماثلةِ في الأفق، كما قد تساعدُ التوصيات في تجاوز بعض منها:



  1. يملك داود أوغلو خلفية أكاديمية قوية في الفلسفة والعلوم السياسية والعلاقات الدولية، فهو على قدر كبير من الموهبة في بناء خطابٍ رصين للسياسة الخارجية أمام المشكلات في الميدان. وسيَنتقلُ العبء أكثرَ من الخطاب إلى الممارسة باعتباره وزيرا للشؤون الخارجية، وستكون هناك تطلعاتٌ أكثر لرؤية نتائج فعلية. ومن ثم سيَضطلع بمهمَّة مثقلة بالتحديات بما أن رؤيته تَعِد بدورٍ مركزي لتركيا في مجموعة جغرافية واسعة تمتد من إفريقيا إلى آسيا، وهي منطقة تضمُّ تقريبا كل التحديات الرئيسية للأمن الدولي.


  2. فكرة داود أوغلو في السياسة الخارجية المتكاملة فكرةٌ محفِّزة من حيث تبيُّنِ أجندة تركيا في السياسة الخارجية، غير أن صحَّة هذه الفكرة تتوقفُ على حجم الجمهور المتلقي. وثمة حاجةٌ إلى الاحتفاظ بمسار عضوية الاتحاد الأوروبي والإصلاح على الأجندة بطريقة تُيسِّر المحافظةَ على جمهور متلقٍ واسعٍ لآفاق السياسة الخارجية المتكاملة داخل تركيا وخارجها معا.


  3. ينبغي لداود أوغلو أن يَعتبِر ديمقراطيةَ تركيا المصدرَ الرئيسي لقوته الناعمة. وتكمنُ المهمة الصعبة في إدارة سياسة تركيا الخارجية بطريقة تحدُّ من تأثير إضفاء الطابع الأمني على عدد من المشكلات في السياسة الداخلية، مثل مشكلة قبرص وشمال العراق. وثمةَ بُعدٌ آخر لهذا التحدي هو الحاجةُ إلى دبلوماسية عامة في المناطق التركية المنخرطة بفعالية وإلى فتح قنوات اتصالٍ مع الرأي العام التركي. وعلى سبيل المثال أدَّت محاولاتُ التطبيع مع أرمينيا إلى ردٍّ أذربيجاني قوميٍّ وَجَد دعما له في تركيا بدعوى أن الحكومة التركية تخون أذربيجان. وينبغي أن تكون الحيلولةُ دون وجود هذا النوع من المُدخل السلبي مدرجةً في أجندة نشاط تركيا المتزايد في السياسة الإقليمية.


  4. سيضطلع داود أوغلو بسياسةِ تركيا الخارجية وسيديرُ وزارة الشؤون الخارجية في حقبة جديدة، ولن يَنعمَ بفتح ملفٍّ والعمل عليه، بل ستكون كلُّ ملفات السياسة الخارجية على طاولته. وربما لن تكون له فرصةُ التعاطي شخصيا مع كل المسائل والمشكلات، إذ سيعمل مع إطارات الوزارة أو يفوضهم في ذلك. ومثلما أشار إليه تيمل إسكِت (Temel İskit) قد يواجه مشكلاتٍ وعقباتٍ داخليةً كأداء في وقت يحاول فيه التوفيقَ بين رؤيته وبين الآليات البيروقراطية لسياسة تركيا الخارجية(38). وسيستمرُّ الضغط الشعبويُّ من كل من الحكومة وأحزاب المعارضة في تعقيد الوضع كما هي الحال بالنسبة إلى العقبات الخارجية.


  5. تبرُز قوة تركيا الناعمة، بالإضافة إلى التزامها بالديمقراطية، من تأثيرها الميداني في الشرق الأوسط والقوقاز إلى جانب قدراتها السياسية والثقافية والاقتصادية، فقد نالت تركيا مركزَها في المناطق المجاورة بتجريب سياستها الخارجية وإبراز الإنجازات على الأرض. والتحدي بالنسبة إلى داود أوغلو هو توطيد الإنجازات السياسية الإستراتيجية بالارتباطات الاقتصادية والثقافية، فالمهمة تكمن في خلق دولة تجارية ممكنة ومستدامة بالتعاون والتنسيق الوثيقين مع مجتمع الأعمال ومؤسسات الدولة.

  6. لقد ساهمت زيارةُ الرئيس الأمريكي أوباما في إبراز صورة قوةِ تركيا الناعمةِ على المستوى الدولي. وثمة حاجةٌ إلى تشكيل قاعدة صلبةٍ لفكرة أوباما عن الشراكة النموذجية من أجل ضمان الدعم والتعاون طويل المدى على الأرض مع الإدارة الأمريكية. ويكمنُ التحدي في استغلالِ المصالح الإقليمية والدولية المتقاربةِ بين تركيا وبين الولايات المتحدة في الحقبة الحالية من أجل خلق وضعٍ يعود بالفائدة على جميع الأطراف.

_______________
أستاذ العلاقات الدولية بجامعة "إتشيك" ومؤسسة البحث السياسي والاقتصادي والاجتماعي.


هامش


(*) يمكن الاطلاع على الورقة الأصلية كنسخة PDF والمراجع التي اعتمدت عليها على الموقع الإلكتروني لمؤسسة "سيتا" للأبحاث السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وللحصول على ملخص المادة إضغط هنا.


مصادر


1- Ahmet Davutoğlu, Stratejik Derinlik, (İstanbul: Küre, 2001), p. 49 and p. 409.
2- H. V. Houtum, “The Geopolitics of Borders and Boundaries,” Geopolitics, 10(4), 2005, p. 674.
3- Kemal Kirişçi, “Turkey’s Foreign Policy in Turbulent Times,” Chaillot Paper, 92, EU-ISS, Paris, September 2006, p. 96.
4-  “Ties with Africa Help Ties with EU,” Hürriyet Daily News, 28 February 2009
5- Ahmet Davutoğlu, “Turkey’s New Foreign Policy Vision,” Insight Turkey 10, No.1 (2008), p. 78.
6- Ahmet Davutoğlu, Stratejik Derinlik.
7- Ibid.
8- R. T. Erdoğan, ‘Speech to 38th annual meeting of the board of directors of the Asian Development Bank’, Istan¬bul, 5 May 2005, available at this link
9- Davutoğlu, “Turkey’s New Foreign Policy Vision,” p. 96.
10- İbrahim Kalın, “Turkey and the Middle East: Ideology or Geo-Politics?” Private View, No.13 (2008), p. 26.
11- Davutoğlu, Stratejik Derinlik, p. 333.
12- Kemal Kirişçi, “Transformation of Turkish Foreign Policy: The Rise of the Trading State,” New Perspectives on Turkey, No.40 (2009), pp. 29-57.
13- TRT 1 Enine-Boyuna Dış Politika Özel Programı, 23 Ocak 2009.
14- TRT 1 Enine-Boyuna Dış Politika Özel Programı
15- Sami Kohen, “Davutoğlu ile Yeni Dönem,” Milliyet, 3 May 2009.
16- TRT 1 Enine-Boyuna Dış Politika Özel Programı
17- Davutoğlu, Stratejik Derinlik, p. 264.
18- Bülent Aras, “Can Turkey Rouse the Muslim World?,” Daily Star, 18 June 2004.
19- TRT 1 Enine-Boyuna Dış Politika Özel Programı
20- Davutoğlu, Stratejik Derinlik, p. 83.
21- Fikret Bila, “HAMAS’ın Ankara Ziyaretinin Hassas Yönleri,” Milliyet, 17 February 2006.
22- Yasemin Çongar, “Meşal, Esad, Bush, Erdoğan,” Milliyet, 3 July 2006.
23- İsmail Küçükkaya, “Davutoğlu Erdoğan’ın Neden Öfkelendiğini Anlattı,” Akşam, 21 January 2009.
24- Richard Falk “Understanding the Gaza Catastrophe,” Today’s Zaman, 4 January 2009.
25-  “Gazze’de BM Okuluna Saldırı,” CNNTürk, available at this link.
26-  “Kafkasya İşbirliğine Aliyev Desteği,” Radikal, 20 August 2008.
27-  “Turkey Spearheads Creation of Caucasian Union,” Global Insight, 18 August 2008.
28-  “Gül’le Sarkisyan ‘Kafkaslar’ı Görüştü,” Dünya, 7 September 2008.
29- Hürriyet, December 5, 2008.
30- Fikret Bila, “Erdoğan: Rusya’yı Gözardı Edemeyiz,” Milliyet, 2 September 2008.
31-  أخبر الرئيس الروسي ميدفيديف رؤساء دول منظمة شنغهاي للتعاون عن الأزمة الجورجية يوم 28 أغسطس/آب،  ولم يحمل بيان دوشنبه دعما واضحا، بينما وجه دعوة غامضة إلى المفاوضات السلمية بشأن الأزمة، .Hürriyet, 29 August 2008
32- See Turkey 2008 Progress Report, available at this link.
33-  “Kafkasya İstikrar ve İşbirliği Platformu’na destek var,” Sabah, 19 August 2008.
34- Prime Minister’s Speech, 09 January 2007, available at www.basbakanlık.gov.tr.
35- Taha Akyol, "Neden Türkiye başardı,” Milliyet, 06 December 2005.
36- Semih İdiz, “Türkiye’nin ‘kolaylaştırıcı’ rolü ağırlık kazanıyor,” Milliyet, 05 December 2005.
37- Prime Minister’s Speech, 28 February 2006, available at www.basbakanlık.gov.tr.
38- Temel İskit, “Dış Politikada Berraklık Zamanı,” Taraf, 5 May 2009.