السياسة الخارجية التركية وأسئلة ما بعد الحرب على غزة

ورقة تحاول تقدير ما إن كان هناك تحول جوهري في السياسة الخارجية التركية أم لا، وما إن كانت توجهات حكومة العدالة والتنمية تضر المصالح القومية التركية في المستقبل المنظور أم لا. كما تسعى إلى استكشاف النهج الأصوب للتعامل العربي مع هذه التوجهات.







 

بشير نافع


ظهرت ملامح وقسمات السياسة الخارجية التركية الجديدة التي اعتمدها حزب العدالة والتنمية بجلاء خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، وفتحت الباب واسعا أمام المراجعة والبحث والنقد والاستنتاج والتتبع لهذا التغيير وجذوره وتداعياته، مما دفع مركز الجزيرة للدراسات للاهتمام بالملف التركي في أبعاده المختلفة ويندرج هذا التقرير الذي كتبه الباحث بشير نافع في هذا الإطار.


ويمكن الاطلاع على ملخصه في الفقرة التالية أو يمكن تجاوزه لقراءة التقرير كاملا. اضغط لتجاوز الملخص إلى التقرير.


*     *     *


ملخص التقرير
أعاد حزب العدالة والتنمية صياغة العلاقات الخارجية لتركيا، التي قامت بعد الجمهورية على أساس المحافظة على سلامة الكيان التركي الجديد المولود من رحم الدولة العثمانية وتجنب دوائر الصراع، ثم تطور في الحرب الباردة ليجعل من تركيا دولة مواجهة ضد الخطر السوفيتي إلى أن تصبح بعد زوال هذا الخطر جسرا بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي.


وقامت صياغة العدالة والتنمية بزعامة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان على تجاوز فكرة الجسر لتكون تركيا مركزا إقليميا بما يعني أن توسع من دائرة علاقاتها الخارجية لتشمل إضافة إلى الغرب عددا أكبر من الدوائر، لا سيما تلك التي تربطها بها روابط جيوبوليتكية، ثقافية، وتاريخية.


وأثارت بعض التطبيقات العملية لهذه النظرية وخاصة بعد أعقاب الحرب على غزة الكثير من التساؤلات من الصديق والعدو، ومن الداخل التركي وخارجه.


ويخلص التقرير إلى إسداء النصح للجانب العربي، الرسمي وغير الرسمي، أن يتعامل مع السياسة الخارجية التركية الجديدة وفق المعطيات التالية:


1- إن ثوابت السياسة الخارجية التركية التقليدية لن تتغير في شكل جوهري، وما تشهده حاليا هو إعادة ضبط وليس تحولاً مفصلياً. فتركيا لن تقطع علاقاتها بإسرائيل، ولن تخرج من حلف الناتو، ولن تغير من توجهها نحو عضوية الاتحاد الأوروبي، وستتزايد التحولات فيها استجابة للمصالح القومية للدولة ولضغوط الرأي العام التركي.



2- ستعمل تركيا جاهدة لتأكيد دورها الإقليمي، وتعزيز علاقاتها العربية والإسلامية وبالشعوب ذات الأصول التركية في إعادة تموضع جزئية، ولكنها هامة بلا شك. ويجب على الجانب العربي أن يتعامل مع تركيا على هذا الأساس، محاولاً رؤية ما يمكن أن يعود على العرب بالفائدة من العلاقات التركية الغربية والإسرائيلية، بدلاً من رؤية هذه العلاقات باعتبارها عائقاً أمام تقدم العلاقات العربية – التركية.



3- سياسة حكومة العدالة والتنمية لا تستبطن مشروعاً للسيطرة، وليس لديها توجهات إيديولوجية معينة تسعى إلى فرضها، ولا دوافع إثنية أو طائفية، فما تطمح إليه هو تعزيز المصالح التركية الإقليمية وتوفير بدائل لسياسة التوجه غرباً السابقة؛ ويدرك الأتراك أن مثل هذه الطموحات لا يمكن تحقيقها بدون تبادل.



4- السبيل لتعظيم المنافع العربية من السياسة الخارجية التركية الجديدة هو مقابلتها في منتصف الطريق، أي رؤية هذه السياسة باعتبارها فرصة تاريخية، لا خطراً داهماً، ولا بد أن تقابل التوجهات التركية للتعاون الاقتصادي والتجاري، بتوجهات مماثلة، والترويج السياحي التركي في الجوار العربي لا بد أن يقابله ترويج سياحي عربي؛ كما لا بد من استكشاف مجالات التعاون العسكري والتعليمي والتقني.  فكلما ترسخت الروابط التركية بالجوار العربي، كلما أصبحت تركيا، دولة وشعباً، أكثر حساسية تجاه ما يمكن أن يمس هذه الروابط ويؤثر عليها سلباً.



5- يجب عدم النظر إلى تركيا من زاوية المحاور العربية، فالانفتاح التركي يشير بوضوح إلى أن أنقره لا تريد ولا ترغب في انتهاج سياسة محاور. وعليه يجب النظر إلى اتفاق تركيا أو اختلافها مع مصر أو سورية أو السعودية، في هذه المسألة السياسية أو تلك، من زاوية تلك المسألة وحسب، وليس من زاوية التمحور السياسي.



6- ثمة دوائر قومية وعلمانية في تركيا، وفي أوساط نخبتها الحاكمة، لا تقل خوفاً من العلاقة مع الجوار العربي من مثيلاتها العربية؛ وتخشى هذه الأوساط إحياء عربياً وإسلامياً شاملاً في تركيا يؤدي في النهاية إلى طمس الهوية التركية القومية وتقويض الميراث الجمهوري. ولاحتواء هذه المخاوف، على العرب الرسميين وغير الرسميين أن لا يقتصروا في علاقاتهم التركية على مسؤولي حزب العدالة والتنمية وأنصاره، بل وأن ينفتحوا على كافة الاتجاهات الأخرى.


*     *     *


نص التقرير
أثارت المواقف التركية الخارجية مؤخرا الكثير من الجدل سواء داخل تركيا، في جوارها العربي  والإسلامي، أو في الدوائر الغربية. ورغم أن تولي حزب العدالة والتنمية الحكم في نهاية 2002 آذن بانعطافة في السياسة الخارجية للجمهورية التركية، فإن ما أطلق الموجة الأخيرة من الجدل كان الموقف التركي من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.


من الجسر إلى العمق الإستراتيجي
الستينيات وبداية المراجعة
تداعيات الستينيات في التغيير
العلاقات التركية العربية والتغيير
انتقادات للسياسة المتعددة الأبعاد
واقعية السياسة الجديدة
توصيات واستنتاجات


لم يخف رئيس الوزراء التركي رجب الطيب أردوغان رد فعله الحاد على الحرب منذ اليوم الأول لاندلاعها. وقد بدا أردوغان غاضبا على حجم الضحايا الفلسطينيين من ناحية، ومن ما وصفها بالإهانة التي وجهت لتركيا من ناحية أخرى.





على الرغم من أن تولي حزب العدالة والتنمية الحكم في نهاية 2002 آذن بانعطافة في السياسة الخارجية للجمهورية التركية، فإن ما أطلق الموجة الأخيرة من الجدل كان الموقف التركي من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة
ما ولد الشعور بالإهانة أن أردوغان كان قد استقبل رئيس الوزراء الإسرائيلي قبل أيام قليلة فقط من بدء الحملة الإسرائيلية على قطاع غزة، واضعا كل الثقل التركي خلف هدف تطوير مباحثات السلام السورية الإسرائيلية غير المباشرة.

خلال أسابيع الحرب الثلاثة، تواصل الشجب التركي الرسمي للحملة الإسرائيلية، بينما انطلقت حركة تضامن تركية شعبية غير مسبوقة مع الفلسطينيين. وقام رئيس الوزراء التركي بجولة عربية واسعة للعمل على تطوير موقف عربي تركي مشترك من الحرب، كما أوفد مستشاره للشؤون الخارجية د. أحمد داود أوغلو للمشاركة في المفاوضات بين الوسيط المصري من ناحية، وحركة حماس والدولة العبرية من ناحية أخرى.


التحقت تركيا بمؤتمر قمة الدوحة العاجل لبحث الحرب على غزة، واستقبلت عددا من الجرحى الفلسطينيين في مستشفيات العاصمة، كما أرسلت قوافل من المساعدات العينية لأهالي قطاع غزة. وحتى زوجة رئيس الوزراء لم تتوان عن المشاركة في الحملة التضامنية مع غزة، عندما دعت للقاء تضامني شارك فيه عدد من زوجات الزعماء العرب والمسلمين.


وقد أثار أردوغان إعجاب قطاع واسع من الشارع العربي، وردود فعل إسرائيلية معاكسة، عندما وجه انتقادات حادة للسياسة الإسرائيلية في ملتقى دافوس الاقتصادي وانسحب من جلسة جمعته بالرئيس الإسرائيلي شيمعون بيريز يوم 29 يناير/كانون الثاني 2009. عند عودته فجر اليوم التالي إلى مطار إسطنبول الدولي، وجد أردوغان في استقباله عشرات الألوف من مواطنيه، مشيدين بموقفه في دافوس ورافعين شعارات التأييد للقضية الفلسطينية.


لم يمر موقف الحكومة التركية من الحرب على غزة بلا جدل وردود فعل من نوع آخر. عدد من المعلقين في الصحف العلمانية الرئيسية في تركيا اعتبر أن الموقف الذي اتخذه أردوغان يهدد مصالح تركيا وعلاقاتها التقليدية مع الدولة العبرية، ويدفع نحو تحول قوى الضغط اليهودية في الولايات المتحدة إلى العمل ضد تركيا.


كما أثار معلقون آخرون أسئلة حول ما إن كانت حكومة أردوغان قد عادت إلى جذورها الإسلامية الأصولية وبدأت في تقويض علاقات وروابط تركيا الغربية.


وبينما عاد الحديث من جديد عن العثمانية والعثمانية الجديدة إلى أعمدة الصحف والدوائر السياسية التركية، ألقى قائد القوات البرية الإسرائيلية الميجر جنرال آفي ميزراحي كلمة في مؤتمر عقد في الدولة العبرية (14 فبراير/شباط الماضي) هاجم فيها الموقف التركي، ودعا الأتراك إلى النظر في المرآة، قائلا إن ما تقوم به تركيا ضد الأكراد، وما ارتكبته ضد الأرمن، واحتلالها لشمال قبرص، لا يؤهلها لانتقاد السياسة الإسرائيلية.


وقد جاء الرد على الجنرال الإسرائيلي هذه المرة من قيادة الأركان التركية، التي أصدرت بيانا ندد بالتصريحات الإسرائيلية.


ولكن التوتر الذي شاب العلاقات التركية الإسرائيلية منذ بدء الحرب على غزة سرعان ما تم احتواؤه، بعد لقاء جمع وزيري خارجية البلدين واعتذار قائد الأركان الإسرائيلي لنظيره التركي عن تصريحات الجنرال ميزراحي. أو هكذا بدا الوضع.


تحاول هذه الورقة تقدير ما إن كان هناك تحول جوهري في السياسة الخارجية التركية أم لا، في ضوء التوجهات التركية الخارجية الإقليمية من ناحية، وفي ضوء القواعد المستقرة لهذه السياسة منذ الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي من ناحية أخرى. وتحاول، إضافة إلى ذلك، تقدير ما إن كانت توجهات حكومة العدالة والتنمية تضر المصالح القومية التركية في المستقبل المنظور أم لا. وتسعى إلى استكشاف النهج الأصوب للتعامل العربي مع هذه التوجهات.


من الجسر إلى العمق الإستراتيجي 


تقوم السياسة الخارجية لحكومة العدالة والتنمية على ما يعرف بمفهوم العمق الإستراتيجي والسياسة المتعددة الأبعاد، التي تفترض رؤية تركيا لذاتها باعتبارها دولة مركزية. وجاء هذا الإطار المرجعي للسياسة الخارجية في كتابات سابقة لأحمد داود أوغلو، الذي يحتل موقع مستشار الشؤون الخارجية لرئيس الوزراء ووزير الخارجية (انظر، مثلا كتابه: العمق الإستراتيجي: مكانة تركيا في السياسة الدولية، باللغة التركية).


ما يعنيه هذا التصور بالسياسة المتعددة الأبعاد أن تركيا يجب أن تتطور علاقاتها الخارجية من الاقتصار على الدائرة الغربية (أوروبا الغربية والولايات المتحدة) إلى عدد أوسع من الدوائر، لا سيما تلك التي تربطها بتركيا روابط جيوبوليتكية وثقافية وتاريخية.





تقوم السياسة الخارجية لحكومة العدالة والتنمية على ما يعرف بمفهوم العمق الإستراتيجي والسياسة المتعدة الأبعاد التي تفترض رؤية تركيا لذاتها باعتبارها دولة مركزية
طوال حقبة الحرب الباردة، سيما بعد أن أصبحت عضوا في حلف الناتو، رُئيت تركيا باعتبارها دولة مواجهة مع الكتلة الشيوعية، وحلقة ضرورية في الإستراتيجية الغربية لاحتواء التوسع الشيوعي والوقوف أمام محاولات الاتحاد السوفياتي مد نفوذه جنوبا.

بعد نهاية الحرب الباردة، أصبحت تركيا ترى باعتبارها مجرد جسر بين الشرق والغرب، جسر أوروبا الموحدة نحو آسيا والشرق الأوسط، ونافذة شعوب الشرق ووسط آسيا على أوروبا. وما يقوله داود أوغلو بأن تركيا أكبر من دولة مواجهة أو جسر، تركيا دولة مركزية، تقع في الوسط من البلقان والقوقاز ووسط آسيا والمشرق العربي.


وهي مركزية ليس بالمعنى الجغرافي وحسب، بل بالمعنى التاريخي والثقافي والقومي، تربطها بدول القوقاز ووسط آسيا والبلقان والمشرق العربي واحدة أو أكثر من الروابط القومية والثقافية والدينية والميراث العثماني. وبتوثيق علاقاتها بهذه الدوائر، بدون أن تتخلى عن علاقاتها الغربية التقليدية، يمكن لتركيا أن تصبح خلال عقود قليلة دولة محورية ولاعبا رئيسيا على المسرح العالمي.


يمثل هذا التصور تطورا بارزا في القواعد التي ارتكزت عليها سياسات الجمهورية التركية الخارجية خلال القرن العشرين، بدون أن يقطع معها كلية.


ولدت الجمهورية التركية في 1923 باعتبارها دولة قومية، مستبطنة رفض توجه الجامعة الإسلامية الذي كان يأمل بإعادة بناء السلطنة العثمانية، وتوجه الجامعة التركية (أو الطورانية) الذي كان ينادي ببناء دولة جامعة لكل الشعوب التركية من سيكيانغ إلى وسط آسيا، ومن القوقاز إلى البلقان.


في قلب رؤية مصطفى كمال وصحبه للجمهورية التركية، كان الاقتناع بأن توازن القوى بعد نهاية الحرب الأولى لا يسمح للأتراك سوى بالحفاظ على ما تبقى من الدولة العثمانية.


ولأن حرب الاستقلال التي قادها كمال انطلقت من الأناضول بأغلبيته التركية، ولأن سنوات الحرب الأولى وحرب الاستقلال أدت إلى ترحيل الأغلبية العظمى من السكان الأرمن واليونان، فإن الهوية التركية أصبحت الخيار المنطقي للدولة الجديدة. وقد كان تأسيس الجمهورية ضمن حدودها الحالية يعني بالضرورة إعطاء القومية التركية جغرافية محددة.


خلال سنوات العشرينيات، اختط مصطفى كمال سياسة خارجية تقوم على النظر إلى الغرب الأوروبي باعتباره مثالا للتحديث والعصرنة، بدون أن يقدم تنازلا ما لتوجهات القوى الأوروبية الإمبريالية.


وتلخص عبارة كمال الشهيرة: "سلام في الوطن، وسلام في العالم" الهدف الرئيسي لسياسة الجمهورية الخارجية في سنواتها الأولى: الحفاظ على سلامة تركيا واستقرارها، وتجنب عوامل وأسباب ودوائر الصراع والحرب في الخارج.


في عقد الثلاثينيات، شهدت تركيا الجمهورية حوارا واسعا حول المشتركات التي تربط النظام الجمهوري بالأنظمة الفاشية الصاعدة، لا سيما الفاشية الإيطالية، بالنظر إلى الإعجاب المتزايد بإنجازات الأنظمة الأوروبية الجديدة وإنجازاتها على صعيد إعادة بناء إيطاليا وألمانيا.


ولكن كتلة نافذة في حزب الشعب الجمهوري الحاكم، قادها جلال بايار، كانت تدعو إلى تعزيز المبادرة الذاتية للأتراك وتقليص سلطة الدولة، وقفت بقوة أمام دعوات التحالف مع القوى الفاشية.


في النهاية، كان على الرئيس مصطفى كمال أن يحسم الجدل، وقد جاء تدخله صريحا لصالح الكتلة الليبرالية، وهو ما تجلى في إقالة سكرتير حزب الشعب الجمهوري المؤيد للأيديولوجيا الفاشية، وتعيين بايار رئيسا للوزراء.


أدى هذا الموقف إلى أن تأخذ تركيا موقف الحياد خلال معظم سنوات الحرب العالمية الثانية، التي اندلعت بعد قليل من وفاة مصطفى كمال في 1938. ولكن التزام الحياد لم يؤسس على قاعدة فكرية وأيديولوجية بالضرورة، بل كان في جوهره نتاج تجربة الحرب الأولى المؤلمة واصطدام مصالح تركيا في بحر إيجة بالتوجهات التوسعية لإيطاليا.


وليس ثمة شك أن تركيا أفادت من موقفها الحيادي دعما بريطانيا فرنسيا من ناحية، ومساعدات ألمانية من ناحية أخرى. ولكن الحياد التركي كان حياداً براغماتيا ومركبا؛ ففي السنوات الأولى من الحرب، عندما بدا أن ألمانيا توشك على كسب الحرب، قدمت المؤسستان العسكرية والأمنية التركية عونا استخباراتيا لألمانيا النازية، وما أن تأكدت أنقرة من هزيمة ألمانيا حتى قررت الخروج من معسكر الحياد والانضمام للمعسكر الأطلسي.


عززت تركيا ما بعد الحرب من انتمائها للمعسكر الغربي الليبرالي بإصلاحات سياسية، أفسحت المجال للتعددية الحزبية والتداول على السلطة. ولكن تحول العلاقة مع المعسكر الغربي الليبرالي إلى تحالف لم يحدث إلا بعد العضوية في حلف شمال الأطلسي (ناتو) في 1951.





جاء الاعتراف التركي بالدولة العبرية في 1949 كتعبير عن حسم التوجهات التركية الخارجية، وعن الاندفاعة التركية باتجاه المعسكر الغربي الليبرالي
 والحقيقة أن عضوية تركيا في حلف الناتو كانت وليدة التهديد السوفياتي المتعاظم بعد نهاية الحرب الثانية، الذي تمثل في مطالبة ستالين بتعديل الحدود التركية مع جورجيا السوفياتية، وبموافقة تركيا على وجود عسكري سوفياتي في مضيقي البوسفور والدردنيل.


التهديد السوفياتي لتركيا واليونان أدى إلى إعلان مبدأ ترومان، الذي تعهد بحماية استقلال البلدين، ودفع الأتراك في النهاية إلى عضوية الناتو، ومن ثم تحول تركيا إلى دولة مواجهة رئيسية في خارطة الحرب الباردة.


وقد جاء الاعتراف التركي بالدولة العبرية في 1949 كتعبير عن حسم التوجهات التركية الخارجية، وعن الاندفاعة التركية باتجاه المعسكر الغربي الليبرالي.


أصبحت تركيا بالتالي ركنا رئيسيا في الإستراتيجية الغربية في الشرق الأوسط، وفي أنظمة التحالف الغربية، وفي المؤامرات على الدول العربية القومية المناهضة للسياسات الإمبريالية الغربية، وفي توفير مجال إقليمي للدولة العبرية.


ولم يكن مستغربا أن ترتبط تركيا بتحالف دفاعي مع الدولة العبرية في 1958، عرف باسم الحلف المحيط (the peripheral pact). لا تزال تفاصيل هذا الحلف، الذي لم يعش طويلا، محاطة بالسرية، ولكن المعتقد أنه جاء تلبية لرغبة إسرائيلية في الانفتاح على الدول الرئيسية الجارة للعرب، وردا تركيا على الوحدة المصرية السورية وعلى انهيار النظام الملكي في العراق.


الستينيات وبداية المراجعة 


منذ النصف الثاني من الستينيات، بدأت تركيا تعيد النظر في سياسة الانحياز المطلق للكتلة الغربية، تحت تأثير قيام الولايات المتحدة بسحب صواريخ جيوبتر النووية من تركيا، كجزء من الصفقة التي وضعت نهاية للأزمة الكوبية، وبفعل رسالة لندون جونسون لأنقرة في 1964، التي عبر فيها الرئيس الأميركي عن رفضه دعم الموقف التركي تجاه قبرص.


استبطنت الخطوتان اعتبار تركيا مجرد ورقة في التدافع السوفياتي الغربي، وعمقتا من الشكوك التركية في درجة الالتزام الغربي بأمن تركيا وسلامتها.


لذا، فقد أخذت أنقرة في استكشاف إمكانية إعادة بناء العلاقات بالاتحاد السوفياتي على أسس جديدة، وتلمس إمكانيات انفتاح جزئي على الجوار العربي.


في 1967، قطعت العلاقات التركية الإسرائيلية لفترة وجيزة بعد حرب يونيو/حزيران من العام نفسه. وفي 1969 شاركت تركيا في المؤتمر التأسيسي لمنظمة القمة الإسلامية. وفي 1979 سمح بتأسيس مكتب لمنظمة التحرير في العاصمة التركية أنقرة.


أصبح الانفتاح على الجوار العربي جزءا من سياسات كل الحكومات التركية خلال العقدين التاليين، ولكن هذا الانفتاح لم يتجاوز الحقل الاقتصادي بكثير.


الحقيقة، أن تركيا الثمانينيات والتسعينيات عادت مرة أخرى إلى توثيق علاقاتها بالمعسكر الأوروأميركي وبالدولة العبرية، هذا إذا استثنينا عهد حكومة أربكان (1996-7) الذي لم يستمر أكثر من عام واحد.


أسباب الانعطافة
أحد أهم أسباب هذا المنعطف الجديد/القديم في السياسة الخارجية التركية كان انتصار الثورة الإسلامية في إيران وتصاعد مخاوف النخبة العلمانية التركية من التيار الإسلامي السياسي، وانفجار المسألة الكردية، وتصاعد التوتر في العلاقات السورية التركية على خلفية دعم سوريا لحزب العمال الكردستاني، وتبني حكومات تورغوت أوزال سياسة ليبرالية في الحقل الاقتصادي، وتعزيز ارتباط الاقتصاد التركي بالسوق الغربية.


عقدت تركيا ثلاث اتفاقيات دفاعية وأمنية محدودة مع الدولة العبرية في 1992 و1993 و1994. وفي 1996 وقعت الدولتان على اتفاقية دفاعية وصناعية عسكرية واسعة النطاق. أسست الاتفاقية لتعاون في حقول التدريب العسكري وتبادل الموارد الاستخباراتية، ومشاركة الدولة العبرية في مناورات الحورية الموثوقة (Reliant Marmaid) البحرية، وصقر الأناضول الجوية، إضافة إلى استخدام الدولة العبرية للفضاء التركي وتدريب الطيارين الإسرائيليين على الطلعات الجوية من قاعدة قونيا.


خلال السنوات التالية، تكفلت الدولة العبرية بتطوير طائرات F4 ودبابات M60 التركية، كما تبادلت الدولتان معلومات استخباراتية ضد الإرهاب.


على الرغم من التقلبات الجزئية، فالذي أسس للسياسة الخارجية التركية طوال معظم القرن العشرين كان مبدآن رئيسيان: الحفاظ على الوضع الراهن، أي الحفاظ على وحدة تركيا وحدود الجمهورية التي استشعرت النخبة التركية العسكرية والمدنية دائما أنها محل تهديد؛ والتوجه الغربي، أو استمرار عملية التحضير بمعناها الغربي.


العضوية التركية في حلف الناتو، وفي مجلس أوروبا، وفي اتحاد أوروبا الغربية، وفي السوق الأوروبية المشتركة، دفعت كلها بدوافع الحفاظ على الجمهورية وحماية حدودها، وليس بدوافع ديمقراطية وليبرالية.


والمؤكد أن الجدل الذي شهدته تركيا في الثلاثينيات لم يخرج عن هذين المبدأين، وحتى عندما بدأت الشكوك التركية في مصداقية الالتزام الغربي بأمن تركيا في الستينيات، لم ينجم عن هذه الشكوك تحول جذري في السياسة الخارجية التركية، وظل الانفتاح التركي على الاتحاد السوفياتي في حدود الدائرة الأمنية.


ولكن هذه الانعطافة لا يمكن التقليل من أهميتها، على أية حال، ولا من دورها في تبلور مبدأ السياسة الخارجية المتعددة الأبعاد الذي انتهجته حكومة العدالة والتنمية.


تداعيات الستينيات في التغيير 





العضوية التركية في حلف الناتو، وفي مجلس أوروبا، وفي اتحاد أوروبا الغربية، وفي السوق الأوروبية المشتركة، دفعت كلها بدوافع الحفاظ على الجمهورية وحماية حدودها، وليس بدوافع ديمقراطية وليبرالية

العوامل الموضوعية التي فرضت إعادة النظر في السياسة الخارجية التركية في منتصف الستينيات، لم تتوقف عن الفعل. فمنذ منتصف الثمانينيات تطورت السوق الأوروبية المشتركة من مشروع اقتصادي إلى مشروع سياسي، وأصبح على تركيا الاستجابة لمطالب أوروبية إصلاحية واسعة النطاق في بنية الدولة والمجتمع، قبل أن تتقدم بعضويتها الأوروبية.


مثل هذه الإصلاحات لم يكن من الممكن للطبقة العلمانية القومية التركية الحاكمة أن تستجيب لها، وهو ما أدى إلى أن تقف هذه النخبة، التي قادت سياسة التوجه غربا طوال القرن العشرين، موقف المعارضة من الشروط الأوروبية.


وما أن تحولت السوق إلى اتحاد أوروبي حتى أصبح من الواضح أنه حتى إن استجابت تركيا للمطالب الأوروبية فإن عضويتها في الاتحاد ليست مؤكدة، نظرا لمعارضة قوى أوروبية نافذة للعضوية التركية الكاملة لأسباب ثقافية ودينية.


ومن ناحية أخرى، جاءت نهاية الحرب الباردة لتضعف إلى حد كبير من الموقع الإستراتيجي الذي احتلته تركيا خلال حقبة المواجهة بين كتلتي الحرب.


وبدلا من الحديث عن الدور التركي الحيوي في مواجهة التوسع السوفياتي الشيوعي، لم يعد حتى أحرص المتعاطفين الغربيين يرى في تركيا بعد الحرب الباردة أكثر من جسر ثقافي واقتصادي، إلى جانب جسور أخرى، بين آسيا وأوروبا.


إضافة إلى ذلك، فقد كان على تركيا في نهاية التسعينيات أن تواجه أزمة اقتصادية مؤلمة، ليس ثمة شك أن سياسة أوزال الاقتصادية ساهمت مساهمة كبيرة في ترسبها.


ولا يمكن، إلى جانب ذلك كله، التقليل من المواقف الغربية المثيرة لقلق أنقرة من انفجار العنف في المنطقة الكردية لتركيا منذ منتصف الثمانينيات من المسألة الأرمنية، ومن مسألة الأقليات في تركيا في شكل عام.


بهذا المعنى يعتبر مبدأ السياسة المتعددة الأبعاد انعكاسا لوعي متزايد بأهمية المواريث الثقافية والتاريخية لتركيا، واستجابة لموازين ما بعد الحرب الباردة، وردا على قوى موضوعية كانت تدفع نحو تهميش الدور والموقع التركيين.


والحقيقة، أن السياسة المتعددة الأبعاد كانت القوة الرئيسية خلف تعاظم الدور التركي منذ 2002، وفي تصعيد التوتر بين تركيا وحلفائها السابقين، الذين توقعوا ربما أن تقبل أنقرة بالتهميش خلال ما بعد الحرب الباردة باعتباره نتيجة طبيعية، وفاجأتهم الحيوية المتزايدة في السياسة الخارجية التركية.


ولكن من الضروري ملاحظة أن السياسة المتعددة الأبعاد لا تعني قطيعة مع التقاليد التركية السابقة للسياسة الخارجية؛ بل إن جوهر السياسة المتعددة الأبعاد هو الحفاظ على مكاسب تركيا من سياستها الخارجية الكلاسيكية، مع توسيع نطاق هذه السياسة لتصل دوائر ومجالات كانت قد انسحبت منها طوال العهد الجمهوري، أو أنها لم تنشط فيها بالقدر الكافي.


أفادت تركيا إستراتيجيا من انحسار حدود روسيا إلى أعلى شمال القوقاز، وأقامت علاقات اقتصادية وسياسية وثقافية مع أذربيجان وجورجيا، بل إن العلاقات التركية الآذرية تكاد تصل إلى حد التحالف.


وبالنظر إلى الروابط الإثنية بين تركيا وشعوب الجمهوريات السوفياتية السابقة في وسط آسيا، فقد عززت تركيا علاقاتها بهذه الجمهوريات. سمحت هذه الشبكة المتسعة من العلاقات بأن تصبح تركيا مصبا لأنابيب النفط والغاز، والمنافس الرئيسي لروسيا في مجال التحكم بإمدادات الطاقة من منطقة بحر قزوين.


ولم تغفل تركيا علاقاتها بدول البلقان، لا سيما بعد انحسار نفوذ موسكو عن المنطقة وانفجار الصراعات القومية. فإلى جانب النشاطات التركية الاقتصادية الواسعة في بلغاريا ورومانيا، ترتبط تركيا بعلاقات وثيقة بمسلمي البوسنة، وكانت من أوائل الدول التي اعترفت باستقلال كوسوفو.


ورغم التنافس الإيراني التركي التقليدي، تجاوزت حكومة العدالة والتنمية مخاوف الطبقة التركية الحاكمة منذ انقلاب 1980 وبادرت إلى تعزيز العلاقات بإيران، سواء على الصعيد الاقتصادي والتبادل التجاري، أو على صعيد إمدادات الطاقة.


وبعد أن كانت المؤسسة التركية الأمنية قد وفرت الرعاية للأفغان الأوزبك خلال حكم طالبان، أكدت تركيا دورها الأفغاني بالمشاركة في قوات الناتو في أفغانستان، بدون أن تتعهد بدور محارب، مما وفر مناخا مواتيا للعلاقة بين وحدات الجيش التركي والشعب الأفغاني.


العلاقات التركية العربية والتغيير 


ولكن القفزات الرئيسية يمكن رصدها في العلاقات التركية بالجوار العربي، الذي أصبح ساحة تدافع وصراع هائلة منذ تولي إدارة بوش الابن مقاليد الإدارة الأميركية.





القفزات الرئيسية يمكن رصدها في العلاقات التركية بالجوار العربي، الذي أصبح ساحة تدافع وصراع هائلة منذ تولي إدارة بوش الابن مقاليد الإدارة الأميركية
منذ تولي العدالة والتنمية الحكم في 2002، أكدت تركيا على سياسة العمق الإستراتيجي المتعددة الأبعاد بسلسلة زيارات تركية للعواصم العربية.

في 2004 ضغطت أنقرة لتولي التركي أكمل إحسان أوغلو رئاسة سكرتارية منظمة القمة الإسلامية.


وفي 2006 ألقى رئيس الوزراء أردوغان كلمة في مؤتمر القمة العربي بالخرطوم، أكدت على توجهات تركيا الجديدة.


وما إن اندلعت الحرب الإسرائيلية على لبنان حتى أظهرت أنقرة تعاطفا واضحا مع اللبنانيين، وبادرت بالتالي، بترحيب لبناني، إلى المساهمة في قوة حفظ السلام الدولية في جنوب لبنان.


وقد تسارعت عجلة التبادل الاقتصادي بين تركيا وأغلب الدول العربية، إلى جانب التصاعد في حجم التجارة التركية مع روسيا والصين.


وطبقا لتقرير مجموعة أوكسفورد أناليتيكا، فإن حجم التبادل التجاري بين تركيا والدول التي تشكل الاتحاد الأوروبي انخفض في 2008 للمرة الأولى منذ عقود إلى ما دون 50% من حجم الصادرات التركية ودون 40% من الواردات.


(في الفترة بين 1999 و2007، كان 56 إلى 58% من صادرات تركيا يذهب لدول الاتحاد الأوروبي، بينما كان حجم واردات تركيا في 1996 من دول الاتحاد 56% من مجموع وارداتها).


بالمقارنة، أصبح الشرقان الأوسط والأدنى في 2008 مصدر 8.7% من جملة الواردات التركية، وسوقا لـ 19.3% من صادراتها.


وفي خطوة بالغة الدلالة، بدأت أنقرة في تنظيف حقل الألغام الذي يفصل تركيا عن سوريا بطول 450 ميلا منذ 1952، واتفقت مع دمشق على تأسيس منطقة تجارة حرة بين البلدين، أصبحت حافزا لحيوية اقتصادية غير مسبوقة على جانبي الحدود.


ومنذ 2009 بدأت اتفاقية الوحدة الجمركية في العمل بين تركيا ومصر، وأعلن في القاهرة عن بدء عشرات من الشركات التركية في نقل جزء من عملياتها إلى منطقة غرب القاهرة الصناعية.


هذا، إلى جانب العديد من الشركات التركية الأخرى التي تنشط في كافة الدول العربية من شمال العراق إلى الخليج إلى شمال أفريقيا.


افتتحت حكومة العدالة والتنمية عهدها بتصويت البرلمان التركي (حيث تمتع الحزب الحاكم بالأغلبية) على عدم السماح للقوات الأميركية باستخدام الأراضي التركية في غزو العراق.


في الملف العراقي
وخلال السنوات التالية للاحتلال، أصبح العراق واحداً من أبرز مسائل السياسة الخارجية التركية. في خطوة غير واضحة الأبعاد تماما، وافقت تركيا على نشر قواتها في العراق، سيما في المناطق العربية السنية، ولكن معارضة قوى المقاومة والقوى القومية الكردية أجهضت الفكرة. وعندما تصاعدت المقاومة في العراق، شجب رئيس الوزراء التركي العنف الأميركي في الفلوجة، في وقت بدا أن الأميركيين في العراق يغضون النظر عن وجود مجموعات حزب العمال الكردستاني التركي في شمال العراق.


ولكن هدف تركيا الرئيسي منذ بدأ تبلور النظام العراقي الجديد كان تعزيز وضع السنة العرب، ومنع إيران من الاستفراد بالنفوذ الإقليمي في العراق، والمحافظة على وحدة العراق ومنع انقسامه، وتقليص حجم المقدرات المتوفرة للقوى الكردية، بما في ذلك الوقوف أمام سعي الأكراد للسيطرة على كركوك.


لتحقيق هذه الأهداف، فتحت تركيا قنوات اتصال واسعة النطاق مع القوى والقيادات العربية السنية والشيعية، بما في ذلك قوى المقاومة، وأصبحت تركيا عضوا في لقاءات الدول المجاورة للعراق.





حجم التبادل التجاري بين تركيا والدول التي تشكل الاتحاد الأوروبي انخفض في 2008 للمرة الأولى منذ عقود إلى ما دون 50% من حجم الصادرات التركية ودون 40% من الواردات
على أن التوتر الذي شاب العلاقات الأميركية التركية، لم يسمح لتركيا بتحقيق أهدافها ولا لعب دور مؤثر في العراق، وليس حتى الشهور الأخيرة من 2007، عندما أخذت إدارة بوش تراجع جملة سياساتها في العراق والشرق الأوسط، وتراجع نفوذ المحافظين الجدد وحلفائهم في واشنطن، إذ بدأ الأميركيون في التعاون بجدية لمحاصرة قواعد حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، ووافقوا بالفعل على تأجيل الاستفتاء على مستقبل كركوك إلى أجل غير مسمى.


خلال الفترة المتبقية من إدارة بوش، أخذت تركيا في تعزيز دورها في العراق على مستوى العلاقة مع حكومة المالكي، وعلى مستوى المعارضة العراقية للاحتلال والمالكي، على السواء.


في الملف الفلسطيني
في الملف الفلسطيني كانت الأمور أشد صعوبة وتعقيدا، فمن ناحية كان حجم التعاون التركي الإسرائيلي في المجال العسكري والاقتصادي قد خطا خطوات واسعة، ومن ناحية أخرى أثار وصول العدالة والتنمية للحكم عدم ارتياح واضح في الأوساط الإسرائيلية.


شهد العام الأول من حكم العدالة والتنمية زيارات إسرائيلية عالية المستوى لأنقرة، واستمر التعاون العسكري بين البلدين على مستواه المقر في الاتفاقات السابقة.


وفي تصريح لرئيس الوزراء الإسرائيلي أثناء زيارته أنقرة في فبراير/شباط 2007، قال أولمرت إن حجم التجارة بين البلدين وصل إلى 2.83 مليار دولار، وإن 152 شركة إسرائيلية تعمل في تركيا.


ولكن رئيس الوزراء أردوغان فاجأ الإسرائيليين بشجبه العنيف لحادثة اغتيال مؤسس حركة حماس الشيخ أحمد ياسين، واصفا أياها بإرهاب الدولة.


غير أنه في 2005 قام أردوغان بزيارة مفاجئة لكل من الدولة العبرية وسلطة الحكم الذاتي الفلسطينية. في لقائه مع رئيس الوزراء شارون، اقترح أردوغان قيام تركيا بدور وسيط بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولكن شارون لم يكن معنيا بمثل هذا الدور.


أما في رام الله، فقد وصف أردوغان العلاقات التركية الفلسطينية بأنها تاريخية، مفتتحا بذلك مسارا تركياً نشطا في الشأن الفلسطيني.


ورغم أنه ليس من الواضح ما إن كانت أنقرة قد قامت باتصالات مبكرة بحركة حماس أم لا، فإن فوز الأخيرة في الانتخابات التشريعية الفلسطينية في يناير/ كانون الثاني 2006 أتاح لرئيس مكتب حماس السياسي تلقي دعوة لزيارة العاصمة التركية والالتقاء بوزير الخارجية التركي عبد الله غل.


منذ تلك الزيارة، حافظت تركيا على اتصالات مستمرة بحماس، رغم المعارضة الغربية والإسرائيلية، وتبنت حكومة أردوغان موقفا رسميا يدعو إلى فتح قنوات الحوار مع حماس وضمها إلى الحركة السياسية والدبلوماسية لإيجاد حل للقضية الفلسطينية.


بيد أن التحرك التركي حافظ على توازن حذر في العلاقة مع الفلسطينيين والإسرائيليين.


في 2004 وقعت تركيا والدولة العبرية صفقة لتصدير 50 مليون متر مكعب من المياه التركية للدولة العبرية خلال العشرين عاما التالية.


وفي 2005 وبعد زيارته للدولة العبرية، استضاف أردوغان اللقاء العلني الأول بين مسؤولين إسرائيليين وباكستانيين.


في فبراير/شباط 2007 قام رئيس الوزراء الإسرائيلي أولمرت بزيارة أنقرة، حيث أقنعه أردوغان بقبول لجنة تركية للتحقيق في الحفريات الإسرائيلية تحت المسجد الأقصى. ولكن تقرير اللجنة، الذي جاء في غير مصلحة الإسرائيليين، أعلن بدون ضجيج كبير في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه.


وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2007 أيضاً، استضافت أنقره لقاء بين الرئيس الفلسطيني عباس والإسرائيلي بيريز، وقد منح بيريز استقبالا غير مسبوق عندما سمح له بتوجيه خطاب للبرلمان التركي.


في الشهر نفسه، شاركت تركيا في مؤتمر أنابوليس بالولايات المتحدة، الذي استهدف إعادة إطلاق مفاوضات الحل النهائي بين الفلسطينيين والإسرائيليين.


ويعتقد أن الطائرات الإسرائيلية التي دمرت الموقع السوري في 2007، الذي أشيع بأنه كان منشأة نووية، استخدمت المجال الجوي التركي.


وطبقا لصحيفة تركية، فإن الاتفاقات العسكرية بين البلدين بلغت منذ تولي حكومة العدالة والتنمية 2 مليار دولار، ضمنها صفقة لشراء تركيا طائرات استطلاع إسرائيلية الصنع ومحطات تحكم أرضية.


سياسة التوازن الحذر هذه وفرت لتركيا دورها الرئيسي في الصراع العربي الإسرائيلي، عندما أصبحت الوسيط والمضيف للمباحثات السورية الإسرائيلية غير المباشرة في 2008. ولكن هذا التوازن بدا كأنه اختل لصالح العلاقات مع الفلسطينيين والمنطقة العربية أثناء أسابيع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، عندما اتخذت أنقرة موقفا متضامنا مع الفلسطينيين بتأييد واسع وغير مسبوق من كافة فئات الشعب التركي.


انتقادات للسياسة المتعددة الأبعاد 


لكن نظرية العمق الإستراتيجي والسياسة المتعددة الأبعاد التي تحرك السياسة الخارجية للعدالة والتنمية تواجهها انتقادات من كافة الاتجاهات.





التوتر الذي شاب العلاقات الأميركية التركية لم يسمح لتركيا بتحقيق أهدافها ولا لعب دور مؤثر في العراق
فالإسلاميون الأتراك، لا سيما دوائر حزب الفضيلة، يصفون السياسة التركية الخارجية في عهد العدالة والتنمية بأنها مجرد محاولة تجميلية للسياسة التركية منذ ما بعد الحرب الثانية، التي وضعت لخدمة أهداف حلف الناتو والسياسة الأميركية على وجه الخصوص، مقابل مكاسب ضئيلة للمصالح التركية القومية.

الدوائر القومية، من جهة أخرى، بما في ذلك تعبيراتها الأكثر علمانية التي وضعت أسس السياسة الخارجية التقليدية للجمهورية في توجهها نحو الغرب وسعيها للحفاظ على الوضع الراهن، تتهم سياسة العدالة والتنمية الخارجية بالانحياز المفرط للولايات المتحدة وأوروبا الغربية، الانحياز الذي يكاد يمس سلامة الجمهورية ومصالحها الأولوية.


كلا هذين الانتقادين يحمل دوافع سياسية وانتخابية بحتة، ويعكس ملامح الصراع على السلطة والحكم، بعد فوز العدالة والتنمية بدورتين برلمانيتين متتاليتين، بدون أن تبدو على وضعه الشعبي ملامح تراجع وضعف ملموسة. الانتقادات الأكثر جدية تنبع من وجهتي نظر أكاديميتين تركيتين.


الأولى،
تنظر إلى السياسة الخارجية التركية الجديدة وأسسها النظرية من زاوية تقاليد السياسة الخارجية منذ استقرارها بعد الحرب الثانية.


تقول وجهة النظر هذه إن تأكيد سياسة العدالة والتنمية الخارجية على المحيط العربي الإسلامي، سيما الدائرة العثمانية السابقة، يمس بالفعل مبدأ علمانية الجمهورية، ذلك أن هذه السياسة تعلي من موروث تاريخي ذي طابع ديني، وتجعل منه محددا رئيسيا لسياسة الدولة الخارجية، وإن نظرية العمق الإستراتيجي والسياسة المتعددة الأبعاد تضع العلاقات التركية الخارجية مع المحيط العربي والإسلامي في مرتبة واحدة مع العلاقات مع أوروبا الغربية والولايات المتحدة، وهو ما يعني تقويضا للمبادئ الأولوية لسياسة الجمهورية الخارجية التي جعلت التوجه غربا جزءا من الهوية التركية الحديثة، ومن انتماء تركيا الحضاري والثقافي، وإن هذه السياسة تمس العلاقة بالدولة العبرية، التي أصبحت منذ نهاية الأربعينيات أحد ثوابت المنظومة الخارجية التركية.


الثانية،
أما وجهة النظر الثانية، فذات طابع براغماتي وعملي، تنظر إلى سياسة العدالة والتنمية الخارجية وإطارها النظري من زاوية الإمكانيات والنتائج الواقعية، وقد أخذت من السياسة التركية خلال الحرب على غزة نموذجا لها. تقول وجهة النظر هذه إن سياسة حكومة العدالة والتنمية ليست عميقة إستراتيجياً بالدرجة الكافية، وإن طموح أنقرة للتحول إلى دولة مركزية، تقود الجوار الإقليمي وتؤسس للسلم والازدهار ليست أكثر من أمنيات.


طبقا لوجهة النظر هذه، فكرة الدور المركزي لا تختلف كثيرا عن تركيا الجسر، كل ما في الأمر أن الجسر هذه المرة أصبح كالنجمة، وأن تركيا لن تستطيع اكتساب دور إقليمي قيادي في الوقت الذي تقود أغلب الأنظمة العربية المجاورة حكومات غير ديمقراطية تمثل النمط الذي جاء العدالة والتنمية لتجاوزه، وأن قدرة تركيا على التأثير في القضايا الإقليمية الرئيسية قدرة محدودة، فمن غير الممكن، مثلاً، تغيير سلوك الدولة العبرية السياسي بدون الولايات المتحدة، كما أن المقصود بعملية السلام في المنطقة هو استمرار العملية وليس التوصل إلى السلام.


البديل إذن هو سياسة "الصبر النشط"، أي قيام تركيا بما تستطيع في مجال التنمية الإنسانية في المنطقة، وفي عملية إعادة البناء بعد الصراعات.


ثمة قدر من الصواب في كلٍ من وجهتي النظر هاتين، ولكن الانتقادات التي توجهها للسياسة الخارجية التركية تبدو تبسيطية إلى حد كبير، وتتجاهل مساحة ملموسة من تعقيدات الداخل التركي والواقع الإقليمي والطبيعة السائلة للتوازنات الجيوبوليتيكية العالمية.


الجدل حول ما تعنيه علمانية الدولة هو شأن مستمر في تركيا منذ أكثر من نصف قرن، والموقع الذي تحتله السياسة الخارجية في هذا الجدل هو موقع محدود، ولا يخفى أن الأغلبية التركية تتجه نحو إعادة النظر في الكثير مما وصف دائما بالمسلمات العلمانية في بنية الدولة والمجال العام.


ليس من القطعي ولا الحتمي أن يكون للتوجهات الجديدة للسياسة الخارجية التركية أثر على هذا الجدل؛ ولكن إذا ساهمت السياسة الخارجية في هذا الجدل فإن هذه المساهمة لن تكون حاسمة بأي حال من الأحوال. يعود الانفتاح على المحيط العربي في بداياته، مثلاً، إلى زعماء أتراك مثل إيجيفيت، الذي لم يكن هناك مجرد شك في التزامه العلماني.


الأبرز في سياق السياسة الخارجية المتعددة الأبعاد وفكرة العمق الإستراتيجي أنها تستجيب لمتغيرات عالم ما بعد الحرب الباردة، في حين يرفض منتقدوها أخذ هذه المتغيرات في الاعتبار.






واقعية السياسة الجديدة


أما إلى أي حد تبدو هذه السياسة واقعية ومنتجة، فليس من الممكن تقديم إجابة قاطعة، ولا بد أن ينظر إلى هذه السياسة في اللحظة الراهنة على اعتبار أنها عملية مستمرة (process)، وليست مشروعا ناجزا.


ولكن من الضروري، ربما، ملاحظة التالي:



  1. إعادة التأكيد الروسي على الدور والموقع، ومغامرات السياسة الأميركية خلال عهد إدارة بوش الابن، والنمو الاقتصادي الصيني الهائل، والأزمة الاقتصادية/المالية العالمية، تشير كلها إلى انتقال النظام العالمي إلى التعددية القطبية، حتى على افتراض أن الولايات المتحدة ستكون القوة الأكبر والأكثر تأثيرا. في النظام العالمي التعددي، ستتسع الهوامش المتاحة أمام القوى الإقليمية الرئيسية. وعلى تركيا، ربما، أن تعمل على المساهمة في بناء إقليمي فعال، أو أن تقوم بهذا الدور قوى أخرى، إقليمية أو دولية.

  2. إنه بينما كان دور تركيا كدولة مواجهة أو جسر قد تبلور من خلال رؤية الخارج لتركيا، فإن تصور الدور المركزي هو خيار تركي ذاتي، بكل ما يستدعيه هذا الخيار من حشد للمقدرات والجهود الذاتية على المدى القصير، وعلى مستوى الاستثمار السياسي الطويل المدى. الخيارات السياسية للدول لا تتحقق بمجرد توفر الظروف الموضوعية المواتية.

  3. إن السياسة الخارجية لحكومة العدالة والتنمية، على الرغم من أنها بدت أحيانا كأنها تؤثر سلبا على علاقات تركيا الغربية، فإنها في الحقيقة عززت من دور تركيا الإقليمي والعالمي.

    فعلى سبيل المثال، في أول اتصال هاتفي مع الرئيس ورئيس الوزراء التركيين، بدا الرئيس أوباما كأنه يؤكد على دور تركي واسع في العراق، كما أقر بدور تركيا الإقليمي المتعاظم، وكانت أنقرة واحدة من المحطات الرئيسية في جولة المبعوث الأميركي للشرق الأوسط، رغم أن تركيا ليست طرفا في الصراع العربي الإسرائيلي، كما حرصت وزيرة الخارجية الأميركية على زيارة أنقرة في أول جولة لها بالمنطقة، حيث أعلنت أن تركيا ستكون أول محطة في جولة أوباما العالمية الأولية بعد مشاركته في قمة العشرين بلندن.

    من جهة أخرى، ورغم التوتر الذي تسببت به الحرب على غزة على العلاقات التركية الإسرائيلية، فقد حرصت كافة المستويات الإسرائيلية السياسية على محاصرة التوتر، مؤكدة تصميمها على الحفاظ على العلاقات الإسرائيلية التقليدية مع أنقرة.

    في مرحلة تصاعد القوة الإستراتيجية الروسية، والتعاظم الهائل لوزن الصين الاقتصادي، واستمرار التورط الأميركي في العراق وأفغانستان والملف النووي الإيراني، لا تملك واشنطن كثيرا من الخيارات في تعاملها مع تركيا. أما تدهور العلاقات الإسرائيلية مع تركيا فسيترك تأثيرا بالغ السلبية على وضع الدولة العبرية الإقليمي.

  4. إن السياسة الخارجية التركية الحالية لا يجب أن ينظر إليها من منظار المنطقة العربية وحسب، فقد اكتسبت تركيا مقعد العضوية غير الدائمة بمجلس الأمن بـ80% من أصوات الجمعية العامة. وبعد توتر مكتوم، سببته الأزمة الجورجية والتنافس على خطوط أنابيب الغاز والنفط في المنطقة، وقع رئيسا تركيا وروسيا في منتصف فبراير/شباط إعلانا مشتركا لتعميق الصداقة والتعاون بين البلدين، وصفه الروس بالإعلان الإستراتيجي.

    وبينما تحتفظ تركيا بعلاقات متميزة مع أذربيجان، فإن الجهود الدبلوماسية مستمرة لتجاوز العقبات التاريخية في العلاقات مع أرمينيا. وتلعب تركيا دورا متزايدا في أفغانستان، وفي العلاقات الباكستانية الأفغانية والباكستانية الهندية. هذا في الوقت الذي يتواصل الجهد التركي للتقدم بملف العضوية التركية في الاتحاد الأوروبي.

  5. في نهاية مارس/آذار الماضي شهدت تركيا انتخابات محلية هامة. أهمية هذه الانتخابات أنها قدمت صورة عن وضع حكومة حزب العدالة والتنمية الشعبي بعد أكثر من عام ونصف العام على فوزه الثاني في الانتخابات البرلمانية. وقد أظهرت الانتخابات تراجعاً ضئيلا في شعبية العدالة والتنمية، للمرة الأولى منذ تسلمه مقاليد الحكم في 2002. ولكن من الصعب إرجاع هذه النتيجة إلى سياسات العدالة والتنمية الخارجية.

    الحقيقة، إن السياسة الخارجية للحكومة التركية قد تكون ساعدت على أن يظل التراجع الانتخابي محدودا، سيما أن أغلب الأصوات التي خسرها العدالة والتنمية ذهبت إلى حزبي الفضيلة والحركة القومية، اللذين يعتبران أكثر منه تشددا على المستويين القومي والإسلامي. مشكلة حكومة أردوغان الحقيقية ليست في سياستها الخارجية، بل في الآثار الطاحنة للأزمة المالية/الاقتصادية العالمية على الوضع الاقتصادي التركي، حيث وصل معدل البطالة إلى أكثر من 13%، ويتوقع تراجع نمو الاقتتصاد التركي هذا العام إلى ما دون الصفر، وتخوض تركيا مباحثات صعبة مع صندوق النقد الدولي للاتفاق على قرض مالي احتياطي عند الضرورة.

توصيات واستنتاجات 


كيف يمكن إذن للجانب العربي، الرسمي وغير الرسمي، التعامل مع السياسة الخارجية التركية الجديدة؟





تركيا لن تقطع علاقاتها بالدولة العبرية، ولن تخرج من حلف الناتو، ولن تغير من توجهها نحو عضوية الاتحاد الأوروبي
أولا- إن من المهم إدراك أن ثوابت السياسة الخارجية التركية التقليدية لن تتغير في شكل جوهري، حتى مراجعة الستينيات لم تؤد إلى قطيعة أو انقلاب راديكالي في هذه السياسة. ما تشهده السياسة الخارجية التركية هو إعادة توجيه (re-adjustment)، وليس تحولاً مفصليا.


تركيا لن تقطع علاقاتها بالدولة العبرية، ولن تخرج من حلف الناتو، ولن تغير من توجهها نحو عضوية الاتحاد الأوروبي. المزيد من التحولات في السياسة الخارجية التركية سيأتي استجابة للمصالح القومية للدولة ولضغوط الرأي العام التركي. ولكن تركيا، إلى جانب ذلك، ستعمل جاهدة من أجل تأكيد دورها الإقليمي، وتعزيز علاقاتها العربية والإسلامية وبالشعوب ذات الأصول التركية.


هذه إعادة تموضع جزئية، ولكنها بارزة وهامة بلاشك، إن أخذنا في الاعتبار التقاليد التي أرساها النظام الجمهوري للعلاقات الخارجية طوال معظم القرن العشرين. ما ينبغي على الجانب العربي هو التعامل مع تركيا على هذا الأساس، محاولاً رؤية ما يمكن أن يعود على العرب بالفائدة من العلاقات التركية الغربية والإسرائيلية، بدلا من رؤية هذه العلاقات باعتبارها عائقا أمام تقدم العلاقات العربية التركية.


ثانيا- إن المخاوف التي أثارتها السياسة الخارجية التركية النشطة مؤخرا في بعض الدوائر القومية العربية أو الدوائر الرسمية مخاوف مبالغ فيها. سياسة حكومة العدالة والتنمية لا تستبطن مشروعا للسيطرة، ليست لديها توجهات أيديولوجية معينة تسعى إلى فرضها، ولا دوافع إثنية أو طائفية.


ما تطمح إليه هذه السياسة هو تعزيز المصالح التركية الإقليمية وتوفير بدائل لسياسة التوجه غربا السابقة، ويدرك الأتراك أن مثل هذه الطموحات لا يمكن تحقيقها بدون تبادل، سواء على مستوى المصالح السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية. مشكلة السياسة هو كيف يمكن أن تصبح نهجا غير قابل للرجوع عنه، بغض النظر عن الحزب الحاكم في أنقرة، وليس في تحولها إلى سياسات هيمنة توسعية.


ثالثا- إن السبيل لتعظيم المنافع العربية من السياسة الخارجية التركية الجديدة هو مقابلتها في منتصف الطريق، أي رؤية هذه السياسة باعتبارها فرصة تاريخية، لا خطرا داهما.


التوجهات التركية للتعاون الاقتصادي والتجاري لا بد أن تقابلها توجهات مماثلة، والترويج السياحي التركي في الجوار العربي لا بد أن يقابله ترويج سياحي عربي، كما لا بد من استكشاف مجالات التعاون العسكري والتعليمي والتقني.


كلما ترسخت الروابط التركية بالجوار العربي أصبحت تركيا دولة وشعبا أكثر حساسية تجاه ما يمكن أن يمس هذه الروابط ويؤثر سلبا عليها.





سياسة حكومة العدالة والتنمية لا تستبطن مشروعا للسيطرة، وليست لديها توجهات أيديولوجية معينة تسعى إلى فرضها، ولا دوافع إثنية أو طائفية
رابعا- إن على الدول العربية تجنب رؤية تركيا من زاوية المحاور العربية. الانفتاح التركي الواسع النطاق على الدول العربية، من الخليج إلى شمال أفريقيا، يشير بوضوح إلى أن أنقرة لا تريد ولا ترغب في انتهاج سياسة محاور.


اتفاق تركيا أو اختلافها مع مصر أو سوريا أو السعودية، في هذه المسألة السياسية أو تلك، لا بد أن ينظر إليه من زاوية تلك المسألة وحسب، وليس من زاوية التمحور السياسي.


المنهج الأمثل، بالطبع، هو تخلص العرب من سياسة المحاور والتعامل مع دول الجوار والحلفاء والأصدقاء بسياسة عربية موحدة.


خامسا- ثمة دوائر قومية وعلمانية في تركيا، وفي أوساط نخبتها الحاكمة، لا تقل خوفا من العلاقة مع الجوار العربي من مثيلاتها العربية؛ وتخشى هذه الاوساط إحياء عربيا وإسلاميا شاملا في تركيا يؤدي في النهاية إلى طمس الهوية التركية القومية وتقويض الميراث الجمهوري.


لاحتواء هذه المخاوف على العرب الرسميين وغير الرسميين أن لا يقتصروا في علاقاتهم التركية مع مسؤولي حزب العدالة والتنمية وأنصاره، بل أن ينفتحوا على كافة الاتجاهات الأخرى.






_______________
هوامش

1- Today’s Zaman, 16 February 2009.
2- Ahmet Davutoglu, Stratejik Derinlik Turkiye’nin Uluslararasi Konumu (Istanbul: Kure Yayinlar, 2001).
ولدراسة حول هذه السياسة، انظر:
Alexander Murinson, “The Strategic Depth Theory of Turkish Foreign Policy,” Middle Eastern Studies 42, no. 6 (November 2006), pp. 945 –964.
3- Feroz Ahmad,  “Historical Background of Turkish Foreign Policy,” in Lenore G. Martin and Dimitris Keridis (eds.), The Future of Turkish foreign Policy (Cambridge, Mass.: MIT Press, 2002), 9-33.
4- Ofra Bengio, The Turkish – Israeli Relationship: Changing Ties of Middle Eastern Outsiders (New York: Palgrave, 2004), 42-4.
5- Bulent Aras, Palestinian and Israeli Peace Process and Turkey (Commack; Nova Science Publishers, 1998.), 119.
6- Oxford Analytica, “Turkey: Trade Shifts Away from Europe,” International Herald Tribune, 19 February 2009.
7- Basheer M. Nafi, “The Arabs and Modern Turkey: A Century of Changing Perceptions,” Insight Turkey, 11, 1 (2009): 76.
8- محسن صالح وبشير نافع (محرران)، التقرير الإستراتيجي الفلسطيني، 2005 (بيروت: مركز الزيتونة للدراسات، 2006)،116- 120؛ محسن صالح (محرر)، التقرير الإستراتيجي الفلسطيني، 2006 (بيروت: مركز الزيتونة للدراسات، 2007)، 178- 184.
9- Today’s Zaman, 20 January 3009.
10- Soner Cagaptay, “Secularism and Foreign Policy in Turkey: New Elections, Troubling Trends,” Washington Institute for Near Eastern Studies, Policy Focus, 67, April 2007.
11- Mehmet Kalyoncu, “[Israel's invasion of Gaza]: A litmus test for Turkey's new foreign policy,” Today’s Zaman, 6 January 2009.