الدور الخارجي في مسيرة الإصلاحات التركية

تشغل الحالة التركية الرأي العام العربي والعالمي نتيجة التحولات السياسية العميقة الأثر التي توحي بأن تركيا قد باتت على أعتاب جمهورية جديدة فلقد أفسحت تلك التطورات المجال لطرح تساؤلات عديدة من أبرزها ذلك المتصل بحدود الدور الغربي وتأثيره في هذا المضمار
1_1013783_1_34.jpg







بشير عبد الفتاح



حامى الوطيس هو الجدل الذي كثيرا ما تدور رحاه داخل الأوساط الفكرية والنخب السياسية بدول العالم الثالث بوجه عام، وفى القلب منها مجتمعاتنا العربية، حول دور العامل الخارجي في إحداث تغييرات أو إلحاق تطورات إيجابية مهمة في تلك البلدان على مختلف الأصعدة، لاسيما السياسية منها، وعبر وسائل شتى.


جدلية الداخلي والخارجي
اعتبارات دولية
تأثير الحلم الأوربي



جدلية الداخلي والخارجي





ذهب الباعض إلى أن التحول التركي الراهن نحو الديمقراطية إنما هو عمل تركي صرف تمخضت عنه تطورات وأحداث كان يعتمل بها الداخل التركي ووجدت إبان سني حكم حزب العدالة والتنمية فرصة ملائمة لبلورة المشروع الإصلاحي للدولة التركية ثم تحويله إلى واقع عملي بعد ذلك
ثمة من المفكرين والمثقفين من ذهبوا إلى الإدعاء بأنه يصعب، إن لم يكن يستحيل، على حكومات وشعوب بيئات كهذه إنجاز تطور ديمقراطي ناجع أو بلوغ نهضة حقيقية من دون وجود دور أساسي للعامل الخارجي، بحيث تسهم المساندة أو الدعم والتأييد التي قد تشرع دول غربية صديقة أو راغبة في نشر الديمقراطية وترسيخ احترام حقوق الإنسان و إرساء قيم التسامح السياسي والثقافي وقبول الآخر وتمكين المرأة وغيرها، في تحريك المياه الراكدة والدفع بعجلة التطور في هذا الاتجاه نحو الأمام، إن من خلال تقديم المشورة والمساندة للأنظمة الحاكمة والشعوب ومنظمات المجتمع المدني الطامحة لبلوغ تلك المقاصد، أو عبر ترغيب الحكومات المتوجسة من السير على هذا الدرب وحضها على المضي قدما فيه بوسائل شتى حتى لو اضطرت إلى ممارسة الضغوط عليها.

وإلى نتيجة مغايرة ذهب اتجاه آخر من المثقفين والساسة العرب وغيرهم، مدعين أن التحول نحو الديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها من القيم السامية إنما يتطلب بالأساس إرادة شعبية وتحرك جاد ومتواصل من قبل قوى شعبية مدنية وطنية تضم كافة أطياف الشعب وتستظل جميعها بمظلة التوق إلى الديمقراطية والتطلع إلى التعددية علاوة على البيئة الثقافية والسياسية الملائمة.


وإلى أبعد من ذلك ذهب فريق ثالث حينما شكك في جدوى الدور الخارجي في تحقيق التحول الديمقراطي بدول العالم الثالث عموما، والعربية منها على وجه الخصوص، ليس فقط لأن الأمر يتصل أساسا بثقافة هذه الشعوب أو تلك ومدى استعدادها وتقبلها لقيم الديمقراطية والتعددية وقبول الاختلاف، ولكن لعدم ثقة أنصار هذا الفريق في نوايا الأطراف الخارجية ومقاصدها الحقيقية غير المعلنة من إدعائها دعم التحول الديمقراطي والإصلاح السياسي في هذا البلد أو ذاك، كأن تخفى تحت مظلة هذا الدعم أهدافا أخرى تصب في مصلحتها هي بالأساس تخولها التدخل في شؤون هذه الدول والعبث بمقدراتها ومكتسباتها توخيا لبلوغ مآرب شخصية وتحقيق مصالح إستراتيجية ولو على حساب مستقبل شعوب هذه الدول ومصير أمنها واستقرارها.


وفي خضم هذا الجدل، أطلت برأسها الحالة التركية، التي تشغل الرأي العام العربي والعالمي هذه الأيام جراء ما تشهده تركيا من تحولات سياسية عميقة الأثر تشي وكأن البلاد قد باتت على أعتاب جمهورية جديدة. فلقد كان من شأن تلك التطورات الجوهرية اللافتة أن أفسحت المجال لطرح تساؤلات عديدة، كان أكثرها إلحاحا وأهمها بالنسبة لنا في هذا المقام، ذلك المتصل بحدود الدور الغربي وتأثيره في هذا المضمار.


فهناك من ذهب إلى الزعم بأن التحول التركي الراهن نحو الديمقراطية إنما هو عمل تركي صرف تمخضت عنه تطورات وأحداث كان يعتمل بها الداخل التركي على مدى عقود مضت ووجدت إبان سني حكم حزب العدالة والتنمية فرصة ملائمة لبلورة المشروع الإصلاحي للدولة التركية ثم تحويله إلى واقع عملي بعد ذلك.


ومن أبرز من بشروا بهذا الطرح الكاتبة والناشطة الأردنية توجان فيصل، التي كتبت تحت عنوان :"نموذج للإصلاح من الداخل"، في باب "تحليلات" بموقع "الجزيرة نت" الإليكتروني، أن التحولات والإصلاحات السياسية الداخلية التي تشهدها تركيا حاليا إنما هي نتاج لتحركات وتطلعات تركية بحتة من دون أي دور أو تدخل خارجيين، إن من جانب الولايات المتحدة أو أوربا، حيث ذكرت فيصل بالحرف :"والطريف أن هذا الإصلاح الذي أنجزته تركيا, هو وحده "النابع من الداخل", لدرجة أن أوروبا بدت وكأنها تضع العراقيل أمام ذلك الإصلاح بدلاً من تشجيعه, انتهاء بربط هذا الإصلاح "البنيوي" بمتطلب سياسي آني كالاعتراف بقبرص".


اعتبارات دولية





ما من شك في أن تطلع الأتراك المزمن والممتد نحو التعلق بتلابيب الغرب والتأسي به توخيا لاستلهام تجربته الحداثية والحضارية، وهو التوجه الذي ضرب بجذوره في أعماق التاريخ التركي إلى ما قبل إعلان الجمهورية في عام 1923 ليطال القرنين الأخيرين من العهد العثماني
وظني أن النظر إلى الأمر من زاوية واحدة إنما يفضى إلى رؤية منقوصة أو أحادية البعد لحقيقة ما يجرى، وإذا جاز لنا اعتبار ما يحدث في تركيا إبان حكم العدالة والتنمية محصلة لمجمل العوامل سالفة الذكر مجتمعة، بمعنى أنها جاءت نتاجا لتضافر إصرار حكومة العدالة والتنمية على التغيير والإصلاح السياسيين مع تقبل غالبية الشعب التركي ومساندته بالتزامن مع ترحيب الغرب ودعمه.

وانطلاقا من ذلك، يمكن الإدعاء بأن الطرح الذي يقصى الدور الغربي أو الدولي عن التحول الراهن في تركيا ربما يغمط العامل الخارجي، لاسيما الأوربي، قدره ويبخسه حقه كمتغير رئيس ومؤثر في مسيرة الإصلاحات السياسية والثقافية في تركيا خلال العقود التسع المنقضية التي تشكل، على وجه التقريب، عمر الجمهورية التركية الحديثة.


فبغير مبالغة، يمكن الإدعاء بأن المكون الفكري في تلك المسيرة لم يكن ليتبلور منذ البداية خلال القرن الثامن عشر من دون استلهام الرعيل الأول من المثقفين والدارسين الأتراك الليبراليين في أوربا لنموذج الحداثة والتنوير والنهضة الأوربي في تلك الفترة.وما كان لمسيرة الإصلاح التركية المعاصرة أن تنطلق أو تتواصل وتستمر من دون تقويض أو إجهاض طيلة ما يربو على عقدين من الزمن، لولا الدعم والتأييد الأوربيين لتلك المسيرة، وهى المساندة الأوربية التي اكتسبت زخما مهما مع تقبل الأوربيين، من حيث المبدأ، لفكرة دمج تركيا في منظومتهم الاقتصادية والسياسية والثقافية عبر تدشين الحوار معها توخيا لهذا المقصد بدءا من العام 1963، وهو الأمر الذي أسفر عن صوغ عملية متكاملة وممتدة لتأهيل تركيا سياسيا وثقافيا واقتصاديا من أجل الانضمام للإتحاد الأوربي تتابع دول الإتحاد خلالها وترعى جهود الإصلاح التي من المتعين على أنقرة الاضطلاع بها على كافة الأصعدة والمستويات.


فما من شك في أن تطلع الأتراك المزمن والممتد نحو التعلق بتلابيب الغرب والتأسي به توخيا لاستلهام تجربته الحداثية والحضارية، وهو التوجه الذي ضرب بجذوره في أعماق التاريخ التركي إلى ما قبل إعلان الجمهورية في عام 1923 ليطال القرنين الأخيرين من العهد العثماني، قد حمل في طياته بعض التأثيرات والمردودات الإيجابية على التطور السياسي للأتراك والدولة التركية في آن، برغم ما علق بأهداب هذا التطلع من تداعيات سلبية على أصعدة أخرى إلى الحد الذي أصاب الداخل التركي بالإرباك في أكثر من موضع.


فمع الأخذ في الاعتبار مساعي قوى شعبية وسياسية وتوق نخب ثقافية ودوائر فكرية تركية محلية إلى التحديث والعصرنة والديمقراطية على نحو ما هو سائد ومتبع في بلدان غرب أوربا أو الولايات المتحدة، يشي تاريخ التجربة السياسية التركية، في حقبتيها الحديثة والمعاصرة، بتعاظم تأثير العامل الخارجي عموما، والأوربي منه على وجه التحديد، في دفع عجلة الإصلاحات التركية الشاملة قدما نحو الأمام.فمثلما كانت الضغوط الأوربية على الدولة العثمانية في خريف عمرها هي أحد أهم العوامل التي أفضت إلى إصدار الباب العالي حزمة من القرارات التي اعتبرت الخطوات الأولى على درب الإصلاح الطويل والعسير، حيث عرفت تلك القرارات ب "تنظيمات" عام 1839، والتي فتحت الطريق أمام صدور فرمان عام 1856، الذي تضمن عددا من الإصلاحات، عرف الأتراك في العام 1876 ما يمكن اعتباره أول وثيقة دستورية حديثة أطلق عليها "نظام القانون الأساسي"، والتي أصدرها السلطان عبد الحميد على أثر قبوله الجلوس مع قادة الاتحاديين والليبراليين الأتراك المقربين من أوروبا والتفاوض معهم حول مسألة إطلاق حملة تغييرات وإصلاحات تحد من صلاحيات السلطان وتدعم إقامة مزيد من المؤسسات السياسية والمدنية المستقلة.


وفى عام 1908 وعندما نجح ضباط حركة "تركيا الفتاة" في تعزيز نفوذهم ومواقعهم في السلطة، أعادوا مجددا طرح موضوع الدستور الذي تعثر بسبب دخول البلاد في مواجهات مع الطامعين في اقتطاع أجزاء من أراضيها المترامية الأطراف، وما إن تسنى لهم صياغة هذا الدستور الجديد، حتى هموا بإدخال بعض التعديلات على بنود هذا الدستور أو "القانون الأساسي" كيما يكون أكثر حداثة وانفتاحا على أوروبا، التي ظل الإقتداء بها والاندماج فيها حلما لا يفارق مخيلاتهم.


وخلال عملية الانتقال من الإمبراطورية العثمانية إلى الجمهورية التركية الحديثة مع استلام أتاتورك دفة القيادة العسكرية والسياسية ودخول تركيا حرب الاستقلال والتحرير ومحاولة رسم سياساتها وبرامجها الداخلية بمعايير جديدة تستحوذ أوروبا على نصيب الأسد فيها، جاءت المحاولة الثالثة لوضع دستور دائم للبلاد في عام 1921، حيث تم التوصل إلى ما عرف في حينها بـ"دستور التشكيلات الأساسية"، الذي استلهمت غالبية مواده الكثير من التجارب الدستورية التي عرفتها عدد من الدول الأوربية آنذاك. وفى عام 1924، جاءت المحاولة الأقوى والأكثر جدية بعد إعلان الجمهورية التركية واختيار مصطفى كمال أتاتورك رئيسا للدولة وولادة دستور جديد شهد كثيرا من التعديلات والتغييرات ورافقته عشرات القوانين والتشريعات التي ابتغت لتركيا هوية أوربية تولى وجهها قلبا وقالبا نحو الغرب، الذي أضحى بمثابة البوصلة السياسية والاجتماعية والفكرية الجديدة للأتراك، بعد أن تجفف مجارى التواصل والارتباط مع الشرق.


وبعد تأسيس حزب الشعب الجمهوري كأول حزب سياسي حديث يعمل في ربوع الجمهورية العلمانية الوليدة توطئة للتأسي بالتجارب السياسية الأوربية في حينها، قدر للحرب الكونية الثانية أن تشكل نقطة تحول مهمة في مسيرة تطور الدولة التركية محليا وإقليميا.فلقد كان للضغط الغربي المتأثر بقوانين الأمم المتحدة بالغ الأثر في إجبار حكومة حزب الشعب الجمهوري على القبول بإقرار الحرية السياسية والتعددية الحزبية بعد أن وضعت تلك الحرب أوزارها. ومع شيوع الفكر الديمقراطي عالميا وتنامي النقد الذاتي داخل حزب الشعب الجمهوري وبروز تيار داخله ينادى بالتعددية السياسية، وتغيير تركيا لوجهتها من دول المحور إلى الحلفاء حيث قطعت علاقاتها مع دول المحور في فبراير 1945 وأعلنت الحرب على ألمانيا أيضا يوم 23 من نفس الشهر، جاءت مكافأة الغرب لتركيا بقبولها عضوا في الجمعية العامة للأمم المتحدة.


وقد أعطى توقيع تركيا على معاهدة إنشاء الأمم المتحدة في مؤتمر سان فرانسيسكو عام 1945 قوة دفع مهمة لقوى المعارضة التركية البازغة وقتذاك لنظام الحزب الواحد والمطالبة بالعروج بتركيا من مستنقع الديمقراطية الانتقائية الشكلية المنقوصة إلى آفاق الديمقراطية الحقيقية التعددية والتنافسية على غرار ما هو سائد في أوربا، فلقد أمد هذا الحدث الهام قوى المعارضة التركية بالحجج القانونية وحصنها بالأسانيد السياسية التي رسخت أقدامها وعززت موقفها في مواجهة نظام الحزب الواحد والديمقراطية المقيدة إلى الحد الذي فاقم من ثقة الجماهير فيها ووسع من قاعدة التأييد الشعبي لها والانضواء تحت لوائها، وهو ما أسفر في نهاية المطاف عن إطلاق التعددية الحزبية في تركيا عام 1946. ففي خطابه الرئاسي في الأول من نوفمبر عام 1945، أشار عصمت إينونو، الذي كان يشغل وقتها رئيس الجمهورية وزعيم الحزب الجمهوري الحاكم في آن، أنه "قد حان الوقت لإجراء عدالة سياسية رئيسية في نظام الحزب الواحد، لكي نجعله يتلاءم مع متطلبات العصر".


وغنى عن البيان الإشارة إلى أن المقصود بـ"متطلبات العصر" هو متطلبات التقارب مع الأوربيين والاستقواء بهم في وقت بالغ الحساسية بالنسبة لتركيا، فقد كان إينونو مدفوعا في موقفه الجريء هذا برغبة جادة في استجداء الرضا الغربي على نظامه وبلاده توطئة لنيل ثقة دول الحلفاء المنتصرة في الحرب العالمية الثانية بما يتيح له الحصول على دعمها لبلاده وحمايتها في مواجهة الأطماع السوفيتية المتنامية عقب الحرب لانتزاع الوصاية على مينائي البوسفور والدردنيل كما بعض المناطق الجيوإستراتيجية الحيوية والقواعد العسكرية التركية.


تأثير الحلم الأوربي





نظر الأمريكيون للمسيرة الإصلاحية التركية على أنها نموذج فريد للإسلام العلماني الحداثي الليبرالي المعتدل يمكن لسائر الدول العربية والإسلامية أن تحذو حذوه وتقتدي به، وهو الأمر الذي من شأنه أن يخدم المصالح الإستراتيجية الأمريكية ومشاريع واشنطن المستقبلية في المنطقة كما يسد الطريق أمام تنامي الأصولية الإسلامية وانتشار التطرف أو الإرهاب ذي الجذور والمرجعيات الإسلامية
ومع تبلور تطلعات تركيا للانضمام إلى النادي الأوربي مطلع ستينيات القرن الماضي، بدأت مسيرة الإصلاحات التركية تكتسي مسحة من الشرعية وتحظى بتأييد محلى ودولي واسع النطاق. وما إن تسنى لحزب العدالة والتنمية الوصول إلى سدة السلطة في العام 2002 ونجاحه بعد ذلك في تثبيت أقدامه في مفاصلها وتمديد بقائه فيها من خلال الانتخابات البلدية والبرلمانية والاقتراع الرئاسي في البرلمان، حتى باتت السبل ممهدة أمامه لتسريع وتيرة المسيرة الإصلاحية وتوسيع نطاقها لتشمل مختلف جوانب الحياة التركية بما فيها الدستور المثير للجدل الذي وضعه قادة الانقلاب العسكري الأخير في العام 1980، مستندا على دعم أمريكي وأوربي، لا يقبل التشكيك، لتلك المسيرة، التي ارتأى فيها الأوربيون فرصة ملائمة لتقليص التداعيات السلبية التي تطال بلدانهم جراء فجوة التطور السياسي المتعاظمة بينهم وبين الأتراك، فضلا عن تأمين حدودهم الشرقية والجنوبية ضد غزو الأزمات والمشكلات الشرق أوسطية المعقدة والمزمنة والمتفاقمة التي تدهم القارة العجوز من البوابة التركية، علاوة على تفعيل عملية التأهيل التدريجي والممتد لتركيا من أجل الالتحاق بالنادي الأوربي في مدى زمني مفتوح.

في حين التمس الأمريكيون من جانبهم بتلك المسيرة الإصلاحية في تركيا بلورة نموذج فريد للإسلام العلماني الحداثي الليبرالي المعتدل يمكن لسائر الدول العربية والإسلامية أن تحذو حذوه وتقتدي به، وهو الأمر الذي من شأنه أن يخدم المصالح الإستراتيجية الأمريكية كونه يهيئ المناخ الشرق أوسطي لتقبل مشاريع واشنطن المستقبلية في المنطقة كما يسد الطريق أمام تنامي الأصولية الإسلامية وانتشار التطرف أو الإرهاب ذي الجذور والمرجعيات الإسلامية.


وبدوره، اغتنم حزب العدالة والتنمية هذه الفرصة النادرة، فلم يتورع عن تعلية سقف إصلاحاته السياسية وتعديلاته الدستورية، سواء فيما يخص تقليص الدور السياسي للجيش التركي ووقف تدخله السافر في السياسة، أو إعادة النظر في صلاحيات القضاء وأسس تعيين القضاة، وكذا تخفيف حدة القيود المفروضة على ممارسة الشعائر والطقوس الدينية بما فيها ارتداء الحجاب، وهو ما يصب في مسعى تحرير العلمانية التركية من أصوليتها الكمالية المتطرفة، التي شوهت التجربة الإحداثية التركية إلى الحد الذي أضطر الإتحاد الأوربي إلى إدانة "الكمالية" في بيان له قبل نيف وعقد من الزمن معتبرا إياها أيديولوجية جامدة وحركة متطرفة يباعد التمسك بها بين تركيا وحلمها في الانضمام للاتحاد الأوربي.


وفى مسعى منه لدغدغة مشاعر مؤيديه وراغبي الولوج للفردوس الأوربي من جهة علاوة على كبح جماح معارضيه ومناوئيه من جهة أخرى، عمدت حكومة حزب العدالة والتنمية خلال الأزمة المحتدمة حاليا بينها من جانب وكل من الجيش والقضاء من جانب آخر منذ شروع الأولى في تمرير إصلاحاتها المقترحة، عمدت إلى إبراز الدعم الغربي لمسيرتها الإصلاحية، التي لا رجعة عنها، إذ لم يتورع كبار المسؤولين في حكومة أردوغان عن التأكيد على أن تلك الإصلاحات وإن لم يتم الاتفاق عليها والتنسيق بشأنها مسبقا مع الأوربيين على حد زعمهم، إلا أنها تأتى توخيا للوفاء بمتطلبات الانضمام للإتحاد الأوربي وتماشيا مع "معايير البندقية "، التي تقصر الأسانيد التي ترتكز عليها قرارات وأحكام حظر الأحزاب السياسية في حالات محددة ومحدودة تتمثل فقط في لجوء أي من هذه الأحزاب إلى استخدام العنف أو الإرهاب.
_______________
خبير الشؤون التركية بالأهرام

نبذة عن الكاتب