أمن الخليج من منظور جيوسياسي

يتعذر تحقيق الأمن الإقليمي في منطقة الخليج من خلال توازن قوى محلي، حيث ثبت فشله سابقا ودخلت المنطقة في حربين، أما الاعتماد على الوجود الأميركي فلن يدوم طويلا لأن أميركا تقول أن وجودها لن يكون دائما في المنطقة، والحل هو "بالأمن المنسق".








 

عبد الجليل المرهون


يشير المنظور الجيوسياسي لأمن الخليج -على نحو مبدئي- إلى مقاربة تفاعلاته بما هو أمن إقليمي، يُعنى بمجموعة من الدولالمتجاورة جغرافيًا. ويمكن أن يتسع هذا المنظور ليشير إلى الأثر الذي تتركه سياسات إقليمية ودولية أوسع مدى.

هناك ثماني دول تشاطي الخليج العربي، هي أقطار مجلس التعاون لدول الخليج العربي والعراق وإيران، إلا أن تقسيم الخليج ظل يميل -على نحو تقليدي- إلى كونه تقسيمًا ثلاثيًا، بين شمال يُمثله العراق، وشرق تُمثله إيران، وغرب يتجسد في الأقطار الستة المشكّلة لمجلس التعاون لدول الخليج العربي، كما يشار إلى هذه الأقطار أيضًا بدول الداخل الخليجي.

ولقد تشكلت دول الإقليم الثماني في مراحل تاريخية متفاوتة، وشهد مطلع العقد السابع من القرن العشرين اكتمال عملية استقلال هذه الدول. ومنذ أن بدأ الحديث عن وجود نظام إقليمي خليجي، لم تشهد التفاعلات البينية داخل هذا النظام تفوقًا لمضمونها التعاوني، بل ظل البعد الصراعي مهيمنًا عليها، كما شهد الإقليم ثلاثة حروب في الفترة بين عامي 1980 – 2003، أما اليوم فيعيش ما يمكن وصفه بمرحلة "الحرب الوشيكة".

وعرف النظام الإقليمي الخليجي في بعض مراحل تطوّره شكلاً غير مستقر من توازن القوى المحلي، كان يبدو فيه العراق موازنًا لإيران، أما اليوم فإن هذا النظام يفتقر لوجود أي نظام محلي مشترك للأمن يمكن التعويل عليه في حل النزاعات القائمة أو السيطرة عليها، وبالتالي الحؤول دون  تحولها إلى صراعات عسكرية سافرة. فالمنطقة تحتاج إلى صناعة بيئة أمنية آمنة تشكل بديلا للواقع القائم، وهو ما ستقترحه هذه الورقة ولكن بعد التعرف على البيئة الأمنية القائمة أو تلك التي يبدو أنها آخذة في التشكل.

معالم البيئة الأمنية الراهنة
نموذج التوازن المحلي للقوى
نموذج الموازِن الخارجي
ما البديل الممكن خليجيًا؟


أولاً: معالم البيئة الأمنية الراهنة


 هناك سبعة معالم رئيسية للبيئة الراهنة لأمن الخليج:



  1. يتجسد أولها في غياب توازن القوى المحلي (أو التوازن الإستراتيجي)، الذي طبعها على نحو نسبي، في العقدين السابع والثامن من القرن العشرين. وانتهى بعد حرب الخليج الثانية، حيث تلاشت القوة العراقية، التي كان يُنظر إليها باعتبارها ثقلاً موازنًا للقوة الإيرانية.
  2. المعلم الثاني لبيئة الأمن الإقليمي في الخليج، يتمثل في عدد من النزاعات التاريخية، التي لا تزال حاضرة، حول المياه والحدود، والمناطق والآبار النفطية، بل وحتى الحقول والبساتين. وهناك على وجه التحديد، نزاعات بشأن السيادة، بين إيران والعراق، وبين إيران وبين عدد من أقطار مجلس التعاون لدول الخليج العربي، وكذلك بين العراق والكويت، رغم ترسيم الحدود بينهما. كما انتقلت بعض دول الإقليم إلى سياسة الحدود المسيّجة فيما بينها، الأمر الذي يشير إلى نمط جديد من التحديات التي تواجهها المنطقة.
  3. ثالث معالم بيئة الأمن في الخليج، يتمثل في سباق التسلّح غير المُعلَن، بين إيران وبعض أقطار مجلس التعاون لدول الخليج العربي، وقد بدأ العراق في الدخول على خط هذا السباق، في العامين الأخيرين.
  4. رابع معالم هذه البيئة الأمنية، يجسده الحضور العسكري الأميركي، المتقدم كمًا ونوعًا، والذي يُراد له موازنة القوة الإيرانية، واحتواء نفوذها.
  5. أما خامس معالم البيئة، فيتمثل في ظاهرة العنف العابر للحدود، والذي تجسده في المرحلة الراهنة جماعات تصنَّف بما يعرف بالإسلام السياسي. ويعاني من هذه الظاهرة -بصفة أساسية- العراق، الذي اقترب في لحظة ما من الانجرار إلى حرب أهلية شاملة، كما هناك دول أخرى في الإقليم تعاني من الظاهرة ذاتها بدرجات متفاوتة، وخاصة المملكة العربية السعودية وإيران.
  6. سادس معالم بيئة الأمن الإقليمي في الخليج، يتمثل في غياب أي نظام أو ترتيب أمني مشترك -على مستوى الدول الثماني- لمشكلة للإقليم. الأمر الذي يعني غياب التفاهمات والآليات القادرة على حل الخلافات القائمة، أو محاصرتها ومنع تطورها باتجاه يقود إلى مزيد من التقاطب السياسي، أو النزاع المسلح.
  7. سابع معالم بيئة الأمن في الخليج، يتجسد في الاحتمال الدائم بوقوع الحرب، و خاصة في ظل تفاقم التوترات بين إيران من جهة، وكل من إسرائيل والغرب من جهة أخرى، على خلفية الملف النووي الإيراني، ويمكن القول أن بيئة الأمن في الخليج انتقلت من حالة "اللاحرب واللاسلم"، إلى حالة "الحرب الوشيكة".

ومع صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم (1929)، في التاسع من يونيو/حزيران2010، تزايدت احتمالات الحرب في الخليج، وربما تكون الحرب القادمة على مسافة أشهر من هذا اليوم، لا سنوات. وقد تجد هذه الحرب شرارتها في اشتباك يدور في عرض البحر، على خلفية تفتيش إحدى السفن الإيرانية، استنادًا للمادة الخامسة عشرة من القرار (1929).






ثانيًا: نموذج التوازن المحلي للقوى





لقد شهد النظام الإقليمي الخليجي، ما يُمكن تعريفه بحذر بأنه شكل من أشكال توازن القوى المحلي، وذلك خلال العقدين السابع والثامن من القرن العشرين، وخاصة اعتبارًا من العام 1975. وقد مثلت إيران الطرف الأول في معادلة التوازن هذه، فيما مثّل العراق طرفها الثاني. وقد انهار التوازن الإقليمي المحلي بضرب القوة العراقية في العام 1991

لقد شهد النظام الإقليمي الخليجي، ما يُمكن تعريفه بحذر بأنه شكل من أشكال توازن القوى المحلي، وذلك خلال العقدين السابع والثامن من القرن العشرين، وخاصة اعتبارًا من العام 1975. وقد مثلت إيران الطرف الأول في معادلة التوازن هذه، فيما مثّل العراق طرفها الثاني. وقد انهار التوازن الإقليمي المحلي بضرب القوة العراقية في العام 1991، وتم بهذا تحييدها إستراتيجيًا.

وقد شابت هذه التجربة ثغرات عدة، حيث أسفرت في مجملها عن إخفاق توازن القوى المحلي في إدامة الاستقرار الهش. وانتهت المنطقة مع هذا الترتيب إلى حربين كبيرتين، في غضون عقد من الزمن، هما: الحرب العراقية الإيرانية، بين عامي 1980 – 1988، وحرب الخليج الثانية عامي 1990 – 1991.

لقد تجلت أهم ثغرة في هذا الترتيب، في غياب عامل الردع المستقر أو المتبادل، الذي من المفترض أن يمنع أي طرف من المبادرة بشن الحرب تعويلا على إدراكه لفداحة الثمن الذي سوف يدفعه. هذا العامل لم يكن واضحًا أو فاعلا بالنسبة لكافة الأطراف المعنية، ومن هنا فشل هذا النظام في تجربته الإقليمية الخليجية وأنتج حروبا ودمارا.

واليوم، ثمة سباق تسلّح محموم يشهده الإقليم، تبدو فيه أطرافه وكأنها متجهة مرة أخرى نحو إعادة تنظيم الإقليم على أساس من توازن القوى المحلية، ويسير هذا السباق في اتجاهات مختلفة وليست متماثلة، ومن المشكوك فيه أن يوفر عامل "الردع" المطلوب، لمنع الأطراف المعنية من الانزلاق نحو الأزمات والحروب.

من مظاهر سباق التسلح
تركز دول مجلس التعاون على تطوير -تسير بخطى وئيدة- السلاح الجوي، وجاوزت فاتورتها خلال الأعوام الخمسة الأخيرة حاجز المائة مليار دولار، كما تخطط دولتان من دول مجلس التعاون لإنفاق حوالي 100 مليار دولار على معدات الدفاع، في السنوات الثلاث أو الأربع القادمة؛ وذلك استنادًا إلى صحيفة "فاينانشيال تايمز"

أما في العراق، فهناك عسكرة كبيرة للبلاد تحت مسميات مختلفة، وقد أضحى عدد القوات المسلحة العراقية النظامية وشبه النظامية، يفوق المليون عسكري.وهذه إحدى أعلى نسب العسكرة عالميًا، قياسًا بعدد السكان.

والبعد الأكثر مركزية في مشاريع التسليح العراقي هو ذلك المرتبط بتجهيز القوات البرية، لجعلها ركيزة القوة العسكرية للعراق.ووفقًا لمجلة (Defense News)، تعتزم  بغداد في السنوات القليلة القادمة شراء نحو أربعة آلاف قطعة من المدرعات، بما فيها دبابات قتال أميركية وسوفيتية (روسية) الصنع. ويُراد للعراق أن يتفوق بذلك على إيران وسائر دول الخليج بحيث يغدو هو القوة البرية الرئيسية في المنطقة.

وفي مقابل التعزيز للسلاح الجوي في أقطار مجلس التعاون لدول الخليج العربي، والعودة العراقية إلى تفعيل سلاح البر ليغدو قوة ضاربة، كانت إيران قد سارت منذ العام 1992 باتجاه بناء قوة ردع صاروخي بالاستناد إلى الاستيراد الرسمي وعبر السوق السوداء، ثم عبر التصنيع المحلي، وأضحى لديها اليوم إحدى أكبر الترسانات الصاروخية بالمعيارين الإقليمي والدولي.

وهذا النسق المتفاوت من سباق التسلّح في إقليم الخليج، يُعقّد على نحو كبير مبدأ الاستناد إلى توازن قوى محلي بهدف حفظ الأمن أو إدامة لاستقرار الهش. بل إن واقعًا على هذا النحو يتداخل فيه الإقليمي بالدولي، يجعل مبدأ الردع المتبادل المحلي غبر فعال، وهنا تكمن خطورة المنحى الراهن. وبوجه عام، لا يبدو خيار توازن القوى، كترتيب أمني، مغريًا على صعيد النظام الإقليمي الخليجي، وذلك بسبب الاختلال الكبير في التوزيع النسبي للقوة المادية والمعنوية بين دول الإقليم، وهو الأمر الذي يُفضي بالضرورة إلى توازن غير حقيقي أو غير مستقر.






ثالثًا: نموذج الموازِن الخارجي


من جهة أخرى، تشهد بيئة الأمن الإقليمي للخليج، في وقتنا الراهن، ما يمكن وصفه  بحذر بأنه توازن للقوى، يستند إلى موازن خارجي (Foreign Balancer). وفي هذا الترتيب أو النظام، تمثل القوة العسكرية الأميركية في الخليج، الثقل الموازن للقوة الإيرانية.

وهناك صوَر مختلفة من الحضور العسكري الأميركي في الخليج، الذي يعود تاريخيًا إلى العام 1949، وقد حدث التطوّر الأهم فيه اعتبارًا من العام 1980 مع إعلان "مبدأ كارتر"، الذي أقر سياسة التدخل العسكري المباشر، للدفاع عن مصالح الولايات المتحدة في الخليج العربي. وقد شهد الوجود الأميركي في المنطقة قفزة نوعية بعد حرب الخليج الثانية، بلغت ذروتها في العام 1995 مع تشكيل الأسطول الخامس، الذي يُعد أول أسطول تشكله الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية.

وعلى صعيد المقاربات الراهنة، تتمثل إحدى القضايا الرئيسية المطروحة أميركيًا: في كيفية العمل على تحييد القوة الصاروخية الإيرانية، إن في السياق الإقليمي، أو فيما هو أبعد من ذلك. وحسب التصوّرات التي يجرى تداولها اليوم، تتجه الولايات المتحدة لنصب رادار حديث، من طراز(AN/TPY-2)، في أحد أقطار مجلس التعاون لدول الخليج العربي. وهذا الرادار قادر على اكتشاف الصواريخ قبل ألفي كيلومتر من وصولها إلى الهدف، الأمر الذي يمنح منظومات الدفاع ما بين 60 إلى 70 ثانية إضافية، للتصدي للصاروخ المهاجم.

وإضافة إلى نصب الرادار، تقضي المقاربة الأميركية، بنصب نوعين من الصواريخ الاعتراضية، وربطهما بأنظمة معالجة المعلومات وإدارة النيران، من طراز "إيجس"( Aegis Weapon System)،  المنصوبة على متن البوارج الحربية الأميركية، في الخليج وبحر العرب، وصولاً إلى البحر الأبيض المتوسط.

وسوف يجري الاعتماد على صواريخ باتريوت (PAC-3) للارتفاعات المنخفضة والمتوسطة، حيث تقرر نصب ثمانية منها، كحد أدنى، في أربع دول خليجية، بمعدل صاروخين في كل دولة. وتقرَّر -من جهة ثانية- نصب عدد غير محدد (حتى الآن) من صواريخ (THAAD) للارتفاعات العالية، في دول مختلفة في الخليج.

وعلى الرغم مما تقدم ذكره، فإن الولايات المتحدة لم تطرح نفسها كبديل عن ترتيبات محلية للأمن الإقليمي في الخليج، وهي لا زالت تشير إلى أن وجودها في المنطقة لن يكون أبديًا، أو على الأقل لن يبقى بهذا الزخم الذي هو عليه اليوم، بفاتورته المالية والسياسية الكبيرة.

ومن هنا، تتبدى الضرورة للبحث عن نظام محلي للأمن الإقليمي، قادر على حل المشكلات القائمة أو محاصرتها، ومنعها من التطوّر باتجاه نزاع عسكري سافر.






رابعًا: ما البديل الممكن خليجيًا؟





عند مقاربة الخيارات الممكنة لنظام الأمن الإقليمي في الخليج، لا بد من القول بداية: إنه يصعب اللجوء إلى نماذج طموحة من التعاون الأمني في هذا الإقليم، وذلك لغياب الأرضية السياسية الصلبة المطلوبة لهذا الغرض. وكذلك بسبب كثرة المشكلات المثارة، واستفحال العديد منها واستقراره في الإقليم

هذه الورقة تقترح نظامًا أمنيًا للخليج، عبارة عن شكل خاص مما يُعرَف "بالأمن المنسق"، جرت صياغته في "حدود دنيا"، كي يكون قادرًا على الانسجام مع الواقع المعقد للنظام الإقليمي الخليجي، سياسيًا وأمنيًا، وليحقق "الممكن" على أرض الواقع القائم فحسب. كما تم وضع هذا الترتيب في إطار جيوسياسي، يمتد ليشمل -إضافة للدول الخليجية الثماني- ثلاث دول مجاورة في بحر العرب، هي اليمن والهند وباكستان.


عند مقاربة الخيارات الممكنة لنظام الأمن الإقليمي في الخليج، لا بد من القول بداية: إنه يصعب اللجوء إلى نماذج طموحة من التعاون الأمني في هذا الإقليم، وذلك لغياب الأرضية السياسية الصلبة المطلوبة لهذا الغرض.

وكذلك بسبب كثرة المشكلات المثارة، واستفحال العديد منها واستقراره في الإقليم. هذا فضلاً عن العوامل المرتبطة ببيئة النظام الدولي، وخاصة لجهة النزاع القائم بين إيران والغرب، والذي يحد -على صعيد الأمر الواقع- من فرص التحرك الإقليمي المشترك لمقاربة قضايا الأمن.

وعلى الرغم من هذا الواقع، فإن ما يمكن أن نصطلح عليه "بالممكن الخليجي" من أنظمة الأمن الإقليمي يبقى ضروريًا، بل لا غنى عنه لمواجهة الأزمات القائمة.

ويُمكن تعريف نظام الأمن الإقليمي -على نحو مجمل- بأنه مجموعة من المبادئ التي يتم الاتفاق عليها، بين عدد من الدول المتجاورة، بهدف إدارة قضايا الأمن المشترك. وهذا النظام لا يعني بالضرورة حل النزاعات القائمة، بل يُشير إلى بلورة تفاهمات وآليات للتعاون، تحول دون خروج هذه النزاعات أو الخلافات عن نطاق السيطرة.

هذا البحث، يدعو إلى تعاون أمني في الخليج، يستند جزئيًا إلى ما يُعرف "بالأمن المنسق" (Coordinated Security).ويلحظ -على نحو وثيق- الخصوصيات السياسية والتاريخية للإقليم. وطبيعة التحديات التي تعترض فرص التعاون فيه.

من الأطراف الداخلة في النظام الأمني المقترح؟
وقبل الحديث عن ماهية نظام الأمن المنسق وتطبيقاته الممكن اعتمادها، من المهم الإشارة إلى أنه يجب اعتماد هذا النظام ضمن إطار جيوسياسي، يمتد خارج إقليم الخليج العربي، ليشمل كذلك ثلاث دول مجاورة في بحر العرب، هي اليمن والهند وباكستان. أي أن عدد الأطراف المقتَرَح دخولها فيه يصل إلى 11 دولة: 6 (أقطار مجلس التعاون لدول الخليج العربي) + 2 (العراق وإيران) + 3 ( اليمن والهند وباكستان).

لماذا إضافة دول بحر العرب الثلاث؟
تبرر هذه الدراسة إضافة الدول الثلاث، الواقعة خارج إقليم الخليج العربي، إلى نظام الأمن المنسَّق المقترح، على النحو التالي:


فيما يتعلق باليمن، هناك مبررات سياسية، وأخرى إستراتيجية وأمنية، تفرض إدخاله في أية ترتيبات إقليمية للأمن في الخليج.


سياسيًا، يقود تجاهل اليمن من ترتيبات كهذه إلى شعوره بالاستبعاد، وهو شعور يُضاف -في حال حصوله- إلى الشعور القائم أصلاً منذ العام 1981، يوم لم يُدْعَ للانضمام لمجلس التعاون لدول الخليج العربي، وحيث كانت صنعاء حينها الحليف الإقليمي الأول لبغداد.

أما على الصعيد الإستراتيجي، فتتبدى أهمية وجود اليمن في أي نظام أو ترتيب للأمن في الخليج نتيجة للتداخل الوثيق بين مضيقي هرمز وباب المندب، فهذا الأخير يُمثل الحلقة الثانية في طريق الناقلات المحملة بنفط الخليج باتجاه أوروبا.

وعلى صعيد الأمن الداخلي، يمكن القول إن أي اضطراب للأوضاع في اليمن، يُفضي بالضرورة إلى امتداد تداعياته باتجاه أقطار مجلس التعاون لدول الخليج العربي، وذلك بحكم الجوار الجغرافي، والتداخل الاجتماعي الكثيف، والترابط القائم بين بعض المجموعات والفئات  السياسية والثقافية.





قبل الحديث عن ماهية نظام الأمن المنسق وتطبيقاته الممكن اعتمادها، من المهم الإشارة إلى أنه يجب اعتماد هذا النظام ضمن إطار جيوسياسي، يمتد خارج إقليم الخليج العربي، ليشمل كذلك ثلاث دول مجاورة في بحر العرب، هي اليمن والهند وباكستان. أي أن عدد الأطراف المقتَرَح دخولها فيه يصل إلى 11 دولة: 6 (أقطار مجلس التعاون لدول الخليج العربي) + 2 (العراق وإيران) + 3 ( اليمن والهند وباكستان).

فيما يتعلق بالهند وباكستان، يتبدى مبرر وجودهما في نظام تنسيقي للأمن في الخليج العربي، من اعتبارات الترابط الجيوسياسي بين الخليج وجنوب آسيا، وهو ترابط يزداد اليوم حساسية وخطورة.

يُعتبر جنوب آسيا منطقة ملاصقة للخليج العربي، وهما يشكلان معًا الذراع الشمالي للمحيط الهندي. ويترابطان على نحو وثيق على صعيد الممرات البحرية. وتُعد منطقة جنوب آسيا نقطة التقاء بين الخليج وكل من شرق آسيا وأستراليا، وصولاً إلى الموانئ الغربية للولايات المتحدة الأميركية. وتمر عبر هذه المنطقة  ناقلات النفط، والكثير من السلع والخامات.

كما أن أي اضطراب لحبل الأمن في المناطق البحرية للهند أو باكستان، يُفضي بالضرورة إلى تدهور الأمن الملاحي، في المسافة الممتدة بين مضيقي هرمز وملقا، إلى الشرق من جزيرة سومطرة الإندونيسية.

على صعيد آخر، تتداخل تفاعلات الأمن بين الخليج وجنوب آسيا بسبب احتضان الدول الخليجية العربية لكتلة ديموغرافية كبيرة منتمية لبلدان شبه القارة الهندية، وبالأخص الهند وباكستان وبنغلاديش. هذه الكتلة التي يمثلها عدة ملايين من العمالة الوافدة، والتي فاق حجمها في بعض دول المنطقة حجم المواطنين.

بيد أن الأمر الأكثر تجليًا بالمعايير الإستراتيجية، هو أن بيئة الأمن النووي في جنوب  آسيا تضع أمن الخليج أمام تحدٍ كبير؛ فهذه البيئة لا تعكس نفسها فقط على الأمن الخليجي، بل إن صياغة هذا الأمن تستوجب بالضرورة مقاربة حالة الأمن النووي هناك.

وفي أحد مدلولاته، فإن دخول الهند وباكستان في نظام للأمن في الخليج، يمثل إسهامًا خليجيًا في تليين مناخ العلاقات الهندية الباكستانية، التي يعني استقرارها حماية لأمن الخليج ذاته.

وإضافة لما سبق ذكره، لا بد من الإشارة أيضًا إلى أن العنف الداخلي، الدائر حاليًا في باكستان، فهو يُمثل تهديدًا لعدد من دول النظام الإقليمي الخليجي، سواءً بسبب التداخل القائم بين بعض المجموعات المسلحة، أو بسبب خطر انتقال التوترات، خاصة تلك المستندة إلى التقسيمات الاجتماعية الرأسية.

من جهة أخرى، فإنه إضافة لأهمية إدخال الدول الثلاث، سابقة الذكر، في نظام الأمن الإقليمي المنسق، الذي تقترحه هذه الدراسة على الصعيد الخليجي، تتبدى في السياق ذاته، ضرورة إقامة آليات تنسيق ثنائية ومتعددة مع الولايات المتحدة، باعتبارها صاحبة الثقل الأمني والإستراتيجي الرئيسي في إقليم الخليج العربي.

ولا يقلل من صوابية هذا القول كونُ أحد أطراف النظام الإقليمي الخليجي، وهو إيران، داخلاً في عداء سافر مع الولايات المتحدة. بل إن هذه الحقيقة تمثل سببًا إضافيًا للتنسيق مع الولايات المتحدة، منعًا لتفاقم التوترات باتجاه نزاع مسلح، فالأمن المنسق المقترح هنا -كما سيأتي تفصيله- ليس حلفًا دفاعيًا، ولا هو معاهدة تعاون عسكري، ولا صلة له بالتوازنات الإستراتيجية في المنطقة.


ما خصائص النظام الأمني المقترح؟



إن الحد الأدنى من التعاون والتنسيق هو البديل عن حالة الفراغ، الذي تملأه التوترات والنزاعات السافرة. وهذه هي الحكمة التي استندت إليها كافة مفاهيم الأمن الإقليمي ومناهجه
إن نظام الأمن المنسق يتسع لمروحة واسعة من الخيارات، يشير حدها الأدنى إلى تنسيق دول الإقليم لسياساتها الخاصة بالتعامل مع عدد من الأخطار والتهديدات المشتركة، بدءًا من الجريمة المنظمة وأمن الحدود، وصولاً إلى الأزمات المستوطنة، التي قد تفجر نزاعات مسلحة. وهذا الحد الأدنى هو الممكن الخليجي من هذا النظام الأمني.

إن هذا النظام الأمني -في حده الأدنى- يمكن إنجازه مبدئيًا عبر أربع مراحل، على النحو التالي:

في المرحلة الأولى: تُجرَى عملية تشخيص النزاعات والأزمات والتهديدات الأكثر تأثيرًا على الأمن الإقليمي، ويتم بعد ذلك وضع معايير لقياس درجة خطورة كل منها.

في المرحلة الثانية: يجري العمل على بلورة خيارات للتعامل برؤية موحدة مع الأخطار المشتركة، ذات الطبيعة غير السياسية أو العسكرية، مثل الجريمة المنظمة والتهريب، وأمن الحدود. ويمكن أن يكون التعامل مع هذه التحديات بصورة أحادية أو ثنائية أو متعددة.

في المرحلة الثالثة: يجري الانتقال لبحث قضايا الأمن الملاحي، والممرات البحرية الإستراتيجية والخروج بتصورات مشتركة حول سبل التعامل معها، أحاديًا أو ثنائيًا أو على نحو تعددي.

في المرحلة الرابعة: يجري العمل على بلورة مقترحات لحل، أو تجميد النزاعات والأزمات ذات المنشأ التاريخي ووضع رؤية مشتركة بشأنها. وفي حال تعذر ذلك، يجري تشكيل فرق متابعة، تكون مهمتها الاستمرار في البحث عن مزيد من التصورات، وتقريب وجهات النظر المختلفة، ووضع مقاربات سياسية وقانونية دافعة بهذا الاتجاه. وفي غضون ذلك أو لنقل بداية، يجري التأكيد على الالتزام بمبادئ حسن الجوار، والقانون الدولي.وعدم اللجوء للقوة، أو التحريض عليها.

إن فلسفة نظام الأمن المنسق في حده الأدنى، الذي جرى التطرق إليه، لا ترتبط بالخيارات الدفاعية والأمنية المعتَمَدة على الصُّعد الوطنية من قِبَل الدول الداخلة في هذا النظام. كما أن هذه الفلسفة ليست ذات صلة بنمط الخيارات والتحالفات الخارجية للدول المعنية. وهي لا تشير إلى قيام هياكل ومؤسسات أمنية، إقليمية النطاق.

إن هذا التصوّر لنظام الأمن الإقليمي، يمثل الحد الأدنى الممكن، قياسًا بظروف هذه المنطقة. بيد أنه حد ضروري وحيوي، لا غنى عنه، لإبعاد شبح النزاعات المسلحة، والهواجس المتبادلة، والتجاذبات السياسية الضارة بفرص الوئام الإقليمي.

إن الحد الأدنى من التعاون والتنسيق هو البديل عن حالة الفراغ، الذي تملأه التوترات والنزاعات السافرة. وهذه هي الحكمة التي استندت إليها كافة مفاهيم الأمن الإقليمي ومناهجه.
_______________
باحث خليجي متخصص في الشؤون الاستراتيجية والدفاعية